العقيدة الإسلاميّة على ضوء مدرسة أهل البيت عليهم السلام

الشيخ جعفر السبحاني

العقيدة الإسلاميّة على ضوء مدرسة أهل البيت عليهم السلام

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المترجم: الشيخ جعفر الهادي
الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٨

يَومِ الدِّين (١).

ألا يَستَطيع هذا الإلهُ الخالقُ القادر أن يُطيلَ عُمُرَ حُجَّته البالِغَة ، وخَلِيفَتِهِ الحقّ بِلُطْفِهِ وعِنايَتِهِ؟

الجوابُ هو : نعم.

الأصلُ الثاني بعد المائة : علائم ظهور الإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف

لا يعرف أحدٌ بوَقت ظهور الإمام المهدي قط ، فهذه الحقيقة من الأسرارِ الإلهيّة ، مثل مَوعد يومِ القيامة ، الذي لا يَعرفُ بِهِ أحدٌ إلّا الله وحده.

ولهذا يجب أن لا يُصدَّقُ زعمُ من يَدّعي أنّه يَعْلَمُ بوقتِ ظهورِ الإمام المهديّ ، أو يعيّنَ وَقتاً ، ويضرب أجلاً معيّناً لذلك ، (كَذبَ الوقّاتُون) (٢).

ولو أنّنا تجاوَزْنا مَسألة توقيت ظهور الإمام المهديّ عليه‌السلام ، وَجَبَ أنْ نقولَ : إنّ الروايات ذَكَرَتْ علائمَ كُليَّةً لِظهورِ الإمامِ المهديّ وهي تَنْقَسِمُ إلى نَوعين :

١. العلائم الحَتمية القَطعيّة.

٢. العلائم غير الحتمية.

ويُطلب التفصيل ممّا كتب حول الإمام المهدي من الموسوعات.

__________________

(١). لاحظ سورة الصافات / ١٤٣ ـ ١٤٤.

(٢). الاحتجاج للطبرسي ، احتجاجات الإمام المهدي عليه‌السلام.

٢٢١
٢٢٢

كليات في العقيدة

٧

الفصل الثامن

عالم ما بعد الموت

٢٢٣
٢٢٤

الأصلُ الثالثُ بعد المائة : يوم القيامة

تَتّفِقُ جميعُ الشرائعُ السَّماويّة في لزوم الإيمان بالآخرة ووجوب الاعتقاد بالقيامة ، فقد تحدّث الأنبياءُ جميعاً ـ إلى جانب التوحيد ـ عن المَعاد ، وعالم ما بعد الموت أَيضاً. وجَعَلُوا الإيمانَ باليوم الآخر في طليعة ما دَعَوا إليه.

وعلى هذا الأساس يكونُ الاعتقاد بالقيامة من أركانِ الإيمان في الإسلام.

إنّ مسألةَ المعاد وإن طُرحَت في كتاب العهدين (التوراة والإنجيل معاً) إلّا أنّها طُرحت في العَهد الجديدِ بشكلٍ أوضح ، ولكنّ القرآنَ الكريمَ اهتمّ بهذه المسألة أكثر من جميع الكتب السماوية الأُخرى ، حتى أنَّهُ اختص قسمٌ عظيمٌ من الآيات القرآنية بهذا الموضوع.

وقد أُطلق على المعاد في القرآن الكريم أسماءٌ كثيرة مثل : يومِ القيامة ، يوم الحِساب ، اليوم الآخر ، يوم البعث وغير ذلك.

وعلّة كلّ هذا الاهتمام والعِناية بمسألة القيامة هي أن الإيمان والتديّن من دون الاعتقاد بيوم القيامة غير مثمر.

٢٢٥

الأصل الرابعُ بعد المائة : ضرورة المعاد

لقد أقام الحكماء والمتكلّمون المُسلمون أدلّة عديدة ومتنوعة على ضرورة المعاد ، وحياة ما بعد الموت ، وفي الحقيقة كان القرآن الكريم هو مصدر الإلْهام في جميع هذه الأدلَّة.

من هنا فإننا نذكر بعضَ الدلائل القرآنية على هذه المسألة :

ألف : إنّ الله تعالى حقّ مطلقٌ ، وفعلُهُ كذلك حقّ ، منزَّهٌ عن أي باطلٍ ولغوٍ. وخَلق الإنسانِ من دونِ وجودِ حياةٍ خالدةٍ سيكون لغواً وعبثاً كما قال :

(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) (١).

ب : إنّ العدلَ الإلهيَّ يوجبُ أن لا يعامَل المحسنون والمسيئون في مقام الجزاءِ على شكلٍ واحدٍ.

ومن جانِبِ آخر انّه لا يمكن تحقّق العدالةِ الكاملةِ بالنسبة إلى الثَّوابِ والعِقاب في الحياة الدنيوية ، لأنّ مصيرَ كلا الفريقين في هذا العالم متداخِلَين وغير قابلَين للتفكِيك والفَصل.

ومن جهة ثالثة فإنّ لِبعض الأعمال الصالِحة ، والطالحة جزاءً لا يسع له نطاقُ هذا العالم.

فَمَثَلاً هناك من ضَحّى بنفسِه في سَبِيل الحق ، وهناك من خضّب

__________________

(١). المؤمنون / ١١٥.

٢٢٦

الأرض بدماء المؤمنين.

ولهذا لا بُدَّ مِن وجود عالمٍ آخر يتحقَّق فيه العدلُ الإلهيّ الكاملُ في ضوءِ الإمكانات غير المتناهية. كما قال : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) (١).

ويقولُ أيضاً : (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) (٢).

ج : إن خلقَ البشَر بَدَأَ في هذا العالم من ذَرّةٍ حقيرةٍ ثمّ ترقّى في مدارج الكمال الجسمي شيئاً فشَيئاً ، حتى بَلغَ مرحلةً نُفِخَت فيها الرُّوح في جسمه.

وَقدْ وَصَفَ القرآنُ الكريمُ ، خالقَ الكون بكونه «أحسنَ الخالقين» نظراً إلى تكميل خلقِ هذا الموجودِ المتميّز.

ثمّ إنّه ينتَقل بالمَوْت من مَنْزله الدنيويّ إلى عالمٍ آخر ، يُعتَبَر كمالاً للمرحلة المتقدّمة وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى إذ قال : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ* ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ* ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) (٣).

__________________

(١). ص / ٢٨.

(٢). يونس / ٤.

(٣). المؤمنون / ١٤ ـ ١٦.

٢٢٧

الأصلُ الخامسُ بعد المائة : جواب الشبهات المثارة حول المعاد

لقد طَرَحَ مُنكروا القيامة والمعاد في عصر نزول القرآن ، شُبُهاتٍ ردّ عليها القرآن ، ضمن توضيحه لأدلّة وجود المعاد.

وفيما يلي بعضُ هذه الموارد :

ألف : تارةً يؤكّدُ القرآنُ الكريم على قدرة اللهِ المطلقة فيقول :

(إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١).

ب : وتارةً يُذكّر بأنّ الذي يقدرُ على خَلق الإنسان ابتداءً قادرٌ على إعادته ، ولملمة رفاته ، وإرجاع الروح إليه ثانية.

فهو مَثَلاً ينتقدُ قولَ المنكرين للمعاد قائلاً : («فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا»؟)

ثمّ يقول : (قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) (٢).

ج : وفي بَعضِ الموارد يُشَبِّهُ إحْياءَ الإنسان بعدَ مَوْته بإعادةِ الحَياة إلى الأرض في فَصْل الرَّبيع بعد رقدةٍ شتائيّة من جديدٍ وولوج الحياة في الطبيعة وعلى هذا يقيسُ المعادَ وعودةَ الرُّوح إلى الموتى قال تعالى : (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ* ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (٣).

__________________

(١). هود / ٤.

(٢). الإسراء / ٥١.

(٣). الحج / ٥ ـ ٧.

٢٢٨

د : في الإجابة على هذه الشُّبهة التي تقول «من يُحيي العِظام» وقد أصبحت رميماً ، وَكَيف يَجمعُها وقد ضاعَت في الأرض ويخلق منها جَسَداً كالجسد الأول؟ يقولُ سبحانه : (... بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) (١).

وفي موضع آخَر يُخبرُ عَن ذلك العلم الواسع قائلاً : (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) (٢).

ه : ربّما يتصوّر أنّ الإنسان يتألف من أجزاء جسمانية ، وأعضاء مادّية تنحل بموته وتستحيل إلى تراب. فكيف يكون الإنسان يوم القيامة هو عينه في الحياة الدنيا ، وبعبارة أُخرى ما هي الصلة بين البدن الدنيوي والأُخروي كي يحكم بوحدتهما؟

والقرآن ينقل تلك الشبهة عن لسان الكافرين ويقول : (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) (٣).

ثُمّ يعود ويجيب عليها بقوله : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (٤).

ويكمن حاصل الجواب في الوقوف على معنى «التوفّي» المأخوذ في الآية. الذي هو «الأَخذ» ، وهو يعرب انّ للإنسان وراء البدن الذي يبلى حين موته شيئاً آخر يأخذه ملك الموت وهي الروح ، فحينها تتضح إجابة القرآن عن الشبهة.

__________________

(١). يس / ٨١.

(٢). ق / ٤.

(٣). السجدة / ١٠.

(٤). السجدة / ١١.

٢٢٩

وهي انّ ملاك وحدة البدنين والحكم بأنّ البدن الأُخروي هو عين البدن الدنيوي ـ مضافاً إلى وحدة الأجزاء ـ هي الروح المأخوذة من قبل ملك الموت ، فإذا ولجت نفس الأجزاء يكون المعاد عين المبتدأ.

فيستفاد من هذه الآية ونظائرها انّ الإنسان المحشور يوم البعث هو عينه الموجود في نشأة الدنيا ، قال سبحانه : (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (١).

الأصلُ السادس بعد المائة : معاد الإنسان هو جسماني وروحاني

صرّحت الآيات القرآنية والأحاديث على أنّ معاد الإنسان : جسماني وروحاني ، ويراد من الأوّل هو حشر الإنسان ببدنه في النشأة الأُخرى ، وأنّ النفس الإنسانية تتعلّق بذلك البدن في تلك النشأة فيثاب أو يعاقب بأُمور لا غنى في تحقّقها عن البدن والقوى الحسية.

ويراد من الثاني أنّ للإنسان وراء الثواب والعقاب الحسيّين لذّات وآلام روحيّة ينالها الإنسان دون حاجة إلى البدن ، وقد أُشير إلى هذا النوع من الجزاء في قوله سبحانه : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٢) ، وقال سبحانه : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٣).

فرضوانه سبحانه من أكبر اللذائذ للصالحين ، كما أنّ الحسرة من أكبر الآلام للمجرمين.

__________________

(١). يس / ٧٩.

(٢). التوبة / ٧٢.

(٣). مريم / ٣٩.

٢٣٠

الأصلُ السابع بعد المائة : البرزخ

ليس الموت نهاية للحياة وانعدامها ، بل انتقال من نشأة إلى أُخرى ، وفي الحقيقة إلى حياة خالدة نعبّر عنها بالقيامة ، بيد أنّ بين النشأتين نشأة ثالثة متوسطة تدعى بالبرزخ ، والإنسان بموته ينتقل إلى تلك النشأة حتى قيام الساعة ، إلّا أنّنا لا نعلم عن حقيقتها شيئاً ، سوى ما جاء في القرآن والأحاديث ، ولنذكر طائفة من الآيات القرآنية بغية التعرّف على ملامح تلك النشأة.

ألف : انّ المحتضر إذا وقف على سوء مصيره يتمنّى عوده إلى الدنيا ليتدارك ما فات منه ، يقول سبحانه : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) (١).

ولكن يخيب سعيه ، ويُردُّ طلبه ، ويقال له : (كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (٢).

والآية تحكي عن وجود حياة برزَخية مخفية للمشركين.

ب : ويصف حياة المجرمين ، لا سيما آل فرعون ، بقوله : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) (٣).

__________________

(١). المؤمنون / ٩٩ ـ ١٠٠.

(٢). المؤمنون / ١٠٠.

(٣). غافر / ٤٦.

٢٣١

فالآية تحكي عن أنّ آل فرعون يعرضون على النار صباحاً ومساءً ، قبل القيامة. وأمّا بعدها فيقحمون في النار.

ج : ويصف سبحانه حياة الشهداء في تلك النشأة ، بقوله : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) (١).

ويصف في آية أُخرى حياة الشهداء بقوله : (فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٢).

الأصلُ الثامن بعد المائة : السؤال في القبر

تبتدأ الحياة البرزَخية بقبض الروح عن البدن ، وعند ما يودع بدن الإنسان في القبر ، يأتي إليه ملائكة الربّ فيسألونه عن التوحيد والنبوة وأُمور عقائدية أُخرى ، ومن الواضح أنّ إجابة المؤمن ستختلف عن إجابة الكافر وبالتالي يكون عالم البرزخ مظهراً من مظاهر الرحمة للمؤمن ، أو مصدراً من مصادر النقمة والعذاب للكافر.

إنّ السؤال في القبر وما يستتبع من الرحمة أو العذاب من الأُمور المسلّمة عند أئمة أهل البيت ، وفي الحقيقة أنّ القبر يُعدّ أُولى المراحل للحياة البرزخية التي تدوم إلى أنْ تقوم الساعة.

__________________

(١). البقرة / ١٥٤.

(٢). آل عمران / ١٧٠.

٢٣٢

ولقد صَرَّحَ علماءُ الإماميّة في كتُب العقائد التي ألّفُوها بما قُلناه.

فقد قال الشيخُ الصدوق رحمه‌الله : اعتقادُنا في المساءلةِ في القَبرِ ، انَّه حقّ لا بدَّ منها ، فمن أجابَ بالصواب فازَ برَوحٍ ورَيحانٍ في قَبرهِ ، وبِجَنّةِ النعيمِ في الآخرة ، ومَن لم يُجِبْ بِالصَّوابِ فَلهُ نُزُلٌ من حميمٍ في قبره ، وتَصْلِيةُ جَحيم في الآخرةِ. (١)

وقال الشيخُ المفيد في كتابه «تصحيحُ الاعتقاد» : جاءَت الآثارُ الصحيحة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ الملائكة تنزل على المقبُورين فتسألُهم عن أدْيانهم ، وألفاظُ الأخبارِ بذلك متقاربة فمِنها أنّ مَلكَينِ لله تعالى يُقالُ لهما ناكر ونكير ينزلان على الميّتِ فَيَسألانِهِ عن ربِّهِ ونبيِّهِ ودينِهِ وإمامِهِ ، فإنْ أجابَ بالحق سَلَّموهُ إلى ملائكةِ النَّعيم ، وإن ارتجَّ عليه سَلَّموهُ إلى ملائكةِ العَذاب (٢).

وقال المحقّق نصيرُ الدين الطوسي في كتابه : «تجريد الاعتقاد» أيضاً : وعذابُ القبر واقعٌ لإمكانِهِ ، وتواتُرِ السّمعِ بِوقوعِهِ. (٣)

ومن راجَعَ كتب العقائد لدى سائر المذاهب الإسلامية اتّضح له أنّ هذه العقيدة هي موضع اتفاقٍ بين جميع المسلمين ، ولم يُنسَب إنكار عذابِ القبر إلّا إلى شخص واحِدٍ هو «ضرار بن عمرو» (٤).

__________________

(١). اعتقادات الصدوق ، الباب ١٧ ، ص ٣٧.

(٢). تصحيح الاعتقاد للمفيد : ص ٤٥ ـ ٤٦.

(٣). كشف المراد : المقصد ٦ ، المسألة ١٤.

(٤). راجع كتاب «السنة» لأحمد بن حنبل ؛ و «الإبانة» لأبي الحسن الأشعري ؛ وشرح الأُصول الخمسة للقاضي عبد الجبار المعتزلي.

٢٣٣

الأصل التاسع بعد المائة : تفسير المعاد بالتناسخ وردّه

لقَد اتّضحَ ممّا سبق أَنّ حقيقةَ المَعاد هي أنّ الرُّوح بعد مفارَقَتها للجَسَد تعودُ مرة أُخرى ـ وبإذن الله ومشيئته ـ إلى نفسِ البدنِ الذي عاشت به ليلقى الإنسانُ جزاءَ ما عَمِلَهُ في الدنيا ، في العالم الآخر ، إنْ خيراً فخيرٌ ، وإنْ شراً فشرّ.

ولكن ثمَّتَ من يُنكر «المعاد» الذي دَعَت الشرائعُ السماويةُ إلى الإيمان بهِ ، وإن أقرّوا بمسألةِ الثوابِ والعقابِ ، الذي يلحق أعمال البَشَر ، إلّا أنّهم فسروه عن طريقِ «التناسخ».

إنّهم ادّعَوا أنّ الرُّوح تعودُ مرّةً أُخرى إلى العالم الدنيوي عن طريق تعلّقِها بالجنين ، وعبْر طيّ مراحلِ الرّشد والنموّ ، ويطوي دورات الطفولة ، والشباب ، والشيخوخة ، غاية ما في الأمر ، يحظى أصحاب الأعمال الصالحة بحياة لذيذةٍ جميلةٍ ، بينما يعاني أصحاب الأعمال الفاسدة من حياةٍ مُرّةٍ وقاسيةٍ. فهي إذن ولادةٌ جديدةٌ ، تتبعُها حياةٌ سعيدةٌ أو تعيسةٌ.

ولقد كانَ لعقيدة التناسخ هذه على طول التاريخ البشريّ أنصار ومؤيّدون ، وتُعَدُّ إحدى أُصول الديانة الهندوسية.

ويجب أن نَنتبه إلى هذه النقطة ، وهي أنّ النفوسَ والأرواح البشرية إذا سَلكتْ طريقَ التناسخ بصورة دائميةٍ لم يبق مجالٌ للمعاد والقيامة ، والحال أنّ الاعتقاد بالمعاد أمرٌ ضروري وبديهيٌ في ضوءِ أدلّته وبراهينه

٢٣٤

العقلية والنقلية.

وفي الحقيقة لا بدّ أن يُقال : إنّ القائلين بالتناسخ حيث إنّهم لم يتمكّنوا مِن تصوّر «المعاد» بصورته الصحيحة أَحلُّوا «التناسخَ» محلَّه ، واعتقدوا به ، بَدَلَ الاعتقاد بالمعاد.

إنّ التناسخَ في المنطق الإسلاميّ يستلزم الكفرَ ، ولقد بُحِثَ في كتبنا الاعتقادية وأُثبِتَ بطلانه ، وعدم انسجامه مع العقائد الإسلاميّة بشكلٍ مفصَّلٍ ، ونحن نشير هنا إلى ذلك باختصار :

١. إنّ النَّفس والرّوحَ البشرية تكون قد بلغت عند الموت مرتبة من الكمال.

وعلى هذا الأساس فإنّ تعلُّق الروح المجدّد بالجنين بحكمِ لُزُوم التناسقِ والانسجامِ بين «النَّفْسِ» و «البَدَن» يستلزمُ تنزُّل النَّفْسِ من مرحلة الكمال إلى مرحلة النقص ، والفعليَّة إلى القُوّةِ ، وهو يتنافى مع السُنّة الحاكمة على عالم الخَلقِ (المتمثّلة في السّير التكامليّ للموجوداتِ من القوّة إلى الفعل).

٢. إذا قَبلنا بأن النفس تتعلّق بعد الانفصال من البَدَن ، ببدنِ حيٍّ آخر ، فإنَّ هذا يستلزمُ تعلّق نفسين ببدنٍ واحد ، ونتيجته هي الازدواجيّة في الشخصيّة ، ومثلُ هذا المطلبِ يتنافى مع الإدراك الوجداني للإنسان عن نفسه التي لا تمتلك إلّا شخصيّةً واحدةً لا شخصيّتين. (١)

__________________

(١). كشف المراد للعلامة الحلّي المقصد الثاني ، الفصل الرابع المسألة الثامنة ، والأسفار صدر المتألّهين : ٩ / ١٠.

٢٣٥

٣. الاعتقاد بالتناسُخ مع أنّه يتنافى مع السُنّة الحاكمة على نظام الخلق يعتبر بنفسه ذريعة للظالمين والنفعيّين الذين يرون أنَّ عزَّتَهم ورفاههم الفِعلِيّين نتيجةٌ لطهارة أعمالهم في حياتهم المتقدمة ، ويرونَ أن شقاء الأشقياء كذلك نتيجةٌ لِسوءِ أعمالهم في المرحلة السابقة ، وبهذا يبرِّر هؤلاء الظَّلَمة أعمالَهم القبيحة ، ووجود الظُّلم والجور في المجتمعات التي تخضع لسلطانِهِم.

الأصلُ العاشرُ بعد المائة : الفرق بين التناسخ والمسخ

في ختام البحث حول التناسخ من الضروريّ أن نجيبَ على سؤالين :

السؤال الأوّل : لقد صَرَّح القرآنُ الكريم بوقوع حالات من المَسخ في الأُمم السابقة ، حيث تحوّل البعضُ إلى قِردةٍ ، والبعض الآخر إلى خنازير كما يقول تعالى :

(وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ) (١).

فكيفَ تحقّق المسخُ إذا كان التناسخ باطلاً؟

الجواب : إنّ «المسخ» يختلف عن «التناسخ» الاصطلاحيّ ، لأنّ في التناسخ تتعلَّق الروحُ بعد انفصالها من بَدَنِها بجنينٍ أو ببدن آخر.

ولكن في المسخ لا تنفصلُ الروحُ عن البَدن بل يتغير شكلُ البدَن

__________________

(١). المائدة / ٦٠. لاحظ سورة الأعراف : الآية ١٦٦.

٢٣٦

وصورتُه ، ليرى العاصي والمجرم نفسَه في صورة القِرد والخنزير ، فيتألّم من ذلك.

وبعبارة أُخرى : إنّ نفسَ الإنسان لا تتنزّل من المقام الإنساني إلى المقام الحيواني ، لأنّه إذا كان كذلك لما كان أُولئك الذين مُسِخوا من البشر يُدرِكون العذاب ، ولما لَمَسوا عقاب عَمَلهم ، في حين يعتبر القرآنُ الكريمُ «المسخَ» «نكالاً» وعقوبة للعصاة (١).

يقول التفتازاني : إنّ النفوس بعد مفارقتها للأبدان تتعلّقُ في الدنيا بأبدان أُخرى للتصرّف والاكتساب ، لا أن تتبدّل صُوَرُ الأبدان كما في المسخ. (٢)

ويقول العلامة الطباطبائي : الممسوخ من الإنسان إنسانٌ ممسوخٌ لا أنّه ممسوخٌ فاقدٌ للإنسانية. (٣)

السؤالُ الثاني : يذهبُ بعض المؤلّفين إلى أنّ القول بالرجعة ناشئ من القول بالتناسخ. (٤)

فهل يستلزمُ الاعتقادُ بالرجعة القولَ بالتناسخ؟

الجواب : إنّ الرجعة ـ كما سنتحدّث عنها في محلّها ـ حسب اعتقاد أكثر علماء الشيعة الإمامية تعني أنّ طائفةً من أهلِ الإيمان ، وأهل الكفر

__________________

(١). (فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) (البقرة / ٦٦).

(٢). شرح المقاصد ، للتفتازاني : ٣ / ٣٣٧.

(٣). الميزان ، للطباطبائي ، ١ / ٢٠٩.

(٤). فجر الإسلام ، لأحمد أمين المصري ص ٣٧٧.

٢٣٧

سيعودُون إلى هذه الحياة (أي العالم الدنيويّ) في آخر الزمان مرةً أُخرى ، وتكون عودتهم إلى الحياة مثل إحياءِ الموتى على يد السيد المسيح ، ومثل عودة «عزير» للحياة بعد مائة سنة. (١)

وعلى هذا الأساس لا يكون للاعتقاد بالرجعة أيّ ارتباطٍ وعلاقة بمسألة التناسخ قط ، وسنعطي المزيد من التوضيحات في هذه المسألة في مبحث «الرجعة» مستقبلاً. (٢)

الأصلُ الحادي عشر بعد المائة : أشراط الساعة

لقد ورَدَت في كلمات العلماء تبعاً للقرآن مسألة باسم «أشراط الساعة» وتعني علامات القيامة.

إنّ علاماتِ يومِ القيامة على قسمين :

ألف : حوادث تقع قبل وقوع القيامة وانهدام النظام الكوني وعند وقوع ذلك يكونُ البشر لا يزالون يعيشون على وجه الأرض ، ولفظة «أشراط الساعة» تُطلَق في الأغلب على هذا النَّمَط من الحوادث والوقائع.

ب : الحوادث التي توجب تخلخل النظام الكونيّ ، وقد جاء أكثرها في سور : التكوير ، والانفطار ، والانشقاق والزلزال.

والعلائم من القسم الأوّل عبارة عن :

__________________

(١). لاحظ آل عمران / ٤٩ ، والبقرة / ٢٥٩.

(٢). لاحظ الأصل التاسع والعشرين بعد المائة ص ٢٨٦.

٢٣٨

١. بعثة النبي الخاتم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١).

٢. اندكاك السدّ وخروج يأجوج ومأجوج (٢).

٣. إتيان السماء بدخان مبين (٣).

٤. نزول السيد المسيح عليه‌السلام (٤).

٥. خروج دابّة من الأرض (٥).

ولا بُدَّ من مراجعة كتُبِ التفسير والحديث للحصول على تفاصيل هذه العلائم.

ولقد تحدّث القرآنُ الكريمُ بإسهاب حولَ العلائم والأشراط من النوع الثاني مثل : انهدام النظام الكونيّ وتلاشيه وتكوير الشمس والقمر ، وانكدار النجوم ، وتناثرها ، وتفجير البحار وتسجيرها ، وتسيير الجبال (٦) ، وغيرها من الحوادث التي ملخّصُها هو اندثار النظام السائد فعلاً ، وظهور نظام جديدٍ ، وهو في حقيقته تجلّ للقدرةِ الإلهيّةِ التامّة ، كما قال تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (٧).

__________________

(١). لا حظ محمد / ١٨.

(٢). لا حظ الكهف / ٩٨ ـ ٩٩.

(٣). لا حظ الدخان / ١٠ ـ ١٦.

(٤). لا حظ الزخرف / ٥٧ ـ ٦١.

(٥). لا حظ النمل / ٨٢.

(٦). لا حظ سور : التكوير ، والانفطار ، والانشقاق ، والقارعة.

(٧). إبراهيم / ٤٨.

٢٣٩

الأصلُ الثاني عشر بعد المائةِ : النَّفخُ في الصُّور

إنّ القرآنَ الكريم يتحدَّث عن حادثةٍ باسم «النَّفخُ في الصُّور» والذي يتم مرتين :

ألف ـ النَّفْخُ في الصُّور ، الذي يوجبُ موتَ كلّ الأحياء في السَّماوات والأرضين.

ب ـ النَّفخُ في الصُّور ، الذي يوجبُ إحياءَ الموتى كما يقول :

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) (١).

إنّ القرآنَ الكريم يتحدَّث عن خصوص حَشر البَشَر ونشْرهم يومَ القيامة قائلاً : (يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) (٢).

الأصلُ الثالثُ عشر بعد المائة : مراحل الحساب والقيامة

بعد عَودة الموتى إلى الحَياة ، وحَشْرِهمْ ونَشْرِهِمْ ، تتحقَّق عدةُ أُمور قبلَ دُخولِ الجنة أو النار ، أخبر بها القرآنُ الكريمُ ، والأحاديثُ الشريفة :

١. محاسَبة النّاس على أعْمالهم بشكلٍ خاصّ ، أو بصورٍ معيّنة إحداها إعطاءُ صحيفةِ عملِ كل أحد بيده. (٣)

__________________

(١). الزمر / ٨ ٦.

(٢). القمر / ٧.

(٣). لاحظ الإسراء / ١٣ ـ ١٤.

٢٤٠