العقيدة الإسلاميّة على ضوء مدرسة أهل البيت عليهم السلام

الشيخ جعفر السبحاني

العقيدة الإسلاميّة على ضوء مدرسة أهل البيت عليهم السلام

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المترجم: الشيخ جعفر الهادي
الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٨

معروفون بانقطاعهم إليه والقول بإمامته (١).

وقال أبو الحسن الأَشعري : وإنّما قيل لهم (شيعة) لأنّهم شايعوا عليّاً ، ويقدّمونه على سائر أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢).

وقال الشهرستاني : الشيعة هم الذين شايَعوا علِيّاً على الخصوص ، وقالوا بإمامته وخلافتِهِ نصّاً ووصيّة. (٣)

وعلى هذا الأساس فليس للشيعة تاريخ غير تاريخ الإسلام وليس له مبدأُ ظهور غير مبدأ ظهور الإسلام نفسه ، وفي الحقيقة إنّ الإسلام والتشيّع وَجْهان لعملةٍ واحدةٍ أو وَجهان لحقيقةٍ واحدةٍ ، وتوأمان وُلدا في زَمَنٍ واحدٍ.

وقد ذكر المحدّثون والمؤرّخون أنّ النبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا في السّنَوات الأُولى من دعوته بني هاشم ، وجمعهم في بيته وأعلن فيهم عن خلافة عليّ ووصايته (في ما يسمّى بحديث بَدء الدعوة أو يوم الدار) (٤) وأعلن عن ذلك للناس فيما بعد مكرّراً ، وفي مناسبات مختلفة ومواقف متعدّدة ، وبخاصة في يوم الغدير ، الّذي طرح فيه خلافة عليّ بصُورةٍ رسميّة ، وأخذَ البيعة من النّاس له وسيوافيك تفصيله.

إنّ التشيُّع ليس وليدَ حوادث السقيفة ولا فتنة مصرع عثمان وغيرها

__________________

(١). فِرَق الشيعة ، ص ١٧.

(٢). مقالات الإسلاميين : ١ / ٦٥.

(٣). الملل والنحل : ١ / ١٣١.

(٤). راجع تاريخ الطبري : ٢ / ٦٢ ـ ٦٤.

١٨١

من الأساطير ، بل انّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الذي بذر بذرة التشيع لأَوّل مرة وغرس غرستها في قلوب الصحابة بتعاليمه السماوية المكرّرة.

ونمت تلك الغرسة فيما بعد شيئاً فشيئاً ، وعُرِف صحابةٌ كبارٌ كأبي ذرّ ، وسلمان ، والمقداد ، باسم الشيعة.

وقد ذكر المفسرون في تفسير قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) (١).

قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «هُمْ عَلِيٌّ وَشِيْعَتُهُ» (٢).

على أنّه لا تَسَعُ هذه الرسالةُ المختصرةُ لذكر أسماء الشيعة الأوائل من الصَّحابة ، والتابعين الذين اعتَقَدُوا بخلافَتِهِ للنبِيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصورةٍ مباشرةٍ وبلا فصل.

إنّ التشيُّعَ بالمفهوم المذكور هو الوجه المشترك بين جميع الشيعة في العالم ، والذين يشكّلون قِسماً عظيماً مِن مُسْلِمِي العالم.

ولقد كانَ للشيعة جنباً إلى جنب مع سائر المذاهب الإسلامية وعلى مدى التاريخ الإسلامي إسهامٌ عظيمٌ في نشر الإسلام ، وقَدَّمُوا شخصياتٍ عِلميّة وأَدَبيّة وسياسيّة جدّ عظيمة إلى المجتمع البشري ولهم حضور فاعل في أكثر نقاط العالم الراهِن أيضاً.

__________________

(١). البينة / ٧.

(٢). الدر المنثور ، سورة البيّنة.

١٨٢

الأصلُ الرابعُ والثمانون : الإمامة مسألة إلهية

إنّ مسألةَ «الإمامة» ـ كما سنثبِتُ ذلك من خلال الأُصول القادمة ـ كانت مسألة إلهيّة ، وسماويّة ، ولهذا كان من اللازم أن يتم تعيينُ خليفة النبي كذلك عبر الوحي الإِلهيّ إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويقوم النبيُّ بإبلاغه إلى الناس.

وقبل أن نعمدَ إلى استعراض وبيان الأدلّةِ النقليّة والشرعيّة في هذا المجال ، نستعرض حُكم العقلِ في هذه الحالة ، آخذين بنظر الاعتبار ظروف تلك الفترة (أي فترة ما قبل وما بعد رحيل النبيّ) ، وملابساتها.

إنَّ العقلَ البديهيَّ يحكم بأنّ أي إنسانٍ مصلحٍ إذا استطاع من خلال جهودٍ مُضنيةٍ دامت سَنَواتٍ عديدةٍ ، من تنفيذ أُطروحةٍ اجتماعيّة خاصة له ، وابتكر طريقة جديدة للمجتمع البشريّ فإنّه لا بدّ من أن يفكِّر في وسيلةٍ مؤثِّرة للإبقاء على تلك الأُطروحة ، وضمان استمرارها ، بل رُشدها ، ونموّها أيضاً ، وليس من الحكمة أن يؤسّسَ شخصٌ ما بناءً عظيماً ، متحمّلاً في ذلك السبيل متاعبَ كثيرة ، ولكن لا يفكِّر فيما يقيه من الأخطار ، ولا ينصب أحداً لصيانته والعناية به ، من بعده.

إنَّ النبيَّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو من أكبر الشخصيّات العالميّة في تاريخ البشريّة ، قد أوجَد ـ بما أتى من شريعة ـ أرضيّةً مساعدةً لتحوّلٍ الهيٍّ عالمي كبيرٍ ، ومَهَّدَ لقيام حضارةٍ جدُّ حديثةٍ ، وفريدةٍ.

إنّ هذه الشخصيّة العظيمة ، التي طَرَحَت على البشريّة شريعةً

١٨٣

خالدةً ، وقادت المجتمع البشريّ في عصرِهِ وأيام حياته ، من المسلَّم أنّه فَكَّر لحفظ شريعته من الأخطار والآفات المحتملة التي تهدِّدها في المستقبل ، وكذا لهداية أُمّته الخالدة ، وإدارتها ، وبيّن صيغة القيادة من بعده ، وذلك لأنّه من غير المعقول أن يؤسّس هذا النبيُ الحكيمُ قواعدَ شريعةٍ خالدةٍ أبديّةٍ ، دون أنْ يطرح صيغة قويّة لقيادتها من بعده ، يضمن بها بقاء تلك الشريعة.

إنَّ النبيَّ الَّذي لم يألُ جُهداً في بيان أَصغر ما تحتاج إليه سعادةُ البشرية ، كيفَ يُعقَل أنْ يسكتَ في مجال قيادة المجتمع الإسلامي وصيغتها ، وكيفيتها ، والحال أنها من المسائل الجوهريّة ، والمصيريّة ، في حياة الأُمّة ، بل وفي حياة البشريّة ، وفي الحقيقة يترك المجتمع الإسلاميَّ حيارى مهمَلين ، لا يَعرِفون واجبهم في هذا الصعيد؟!

وعلى هذا الأساس لا يمكن مطلقاً القبولُ بالزَّعم القائل بأنَّ النبيّ الأكرم أغمض عينيه عن الحياة دون ان ينبس ببنت شفة في مجال قيادة الأُمّة.

الأصلُ الخامسُ والثمانون : الإمامة والخطر الثلاثي المشئوم : الروم والفرس والمنافقون

إنّ مراجعةَ التاريخ ، وأخذِ الظروف التي كانت تحيط بالمنطقة ، وبالعالم في زمان رحيل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقُبَيل وفاتهِ بالذات بنظر الاعتبار تثبت ـ بِوُضوح بداهة وضرورةَ «تنْصيصيَّة» منصب الامامة وذلك لأنّ أخطاراً ثلاثة كانت تهدّد الدينَ والكيانَ الإسلاميَّ ، وتحيط به على شكلِ

١٨٤

مُثَلّثٍ مَشئُومٍ.

الضِّلعُ الأوَّل مِن هذا المثلَّث الخَطِر كان يتمثَّل في الإمبراطورية الروميّة.

والضلع الثانِي كانَ يَتمثّل في الإمبراطوريّة الفارسيّة.

والضلعُ الثالث كان يَتَمثَّل في فريق المنافقين الداخِلِيّين.

وبالنسبة لخَطَر الضلعِ الأوّل ، وأهميّته القُصْوى يكفي أن نعلمَ أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يزل يفكر فيه حتى آخر لحظة من حياته ، ولهذا جهّزَ ـ قُبَيل أيّام بل ساعاتٍ من وفاته ـ جيشاً عظيماً بقيادة «أُسامة بن زيد» وبَعَثَه لمواجهة الروم ، كما ولَعَنَ مَن تَخلَّفَ عنه أيضاً.

وبالنسبة لخطَر الضِّلعِ الثاني يكفي أن نعرفَ أنّه كان عَدُوّاً شرساً أيضاً أقدمَ على تمزيقِ رسالةِ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكتب إلى حاكم اليمن بأنْ يقبضَ على رسولِ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويبعث به إليه ، أو يرسلَ إليه برأسه.

وبالتالي بالنسبة إلى الخَطَر الثالث يجب أن نعلمَ أنّ هذا الفريق (أي المنافقين) كان يقوم في المدينة بمزاحمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باستمرار وكان المنافقون هؤلاء يؤذونه بالمؤامرات المتنوعة ، ويعرقلون حركته ، وقد تحدّث القرآنُ الكريمُ عنهم وعن خصالهم ، ونفاقهم ، وأَذاهم ، ومحاولاتهم الخبيثة في سوره المختلفة إلى درجة انّه سمّيت سورة كاملة باسمهم ، وهي تتحدّث عنهم وعن نواياهم وأعمالِهم الشريرةِ.

والآن نطرحُ هذا السؤالَ وهو : هل مع وجودِ هذا المثلَّث الخَطِر كانَ

١٨٥

من الصحيحِ أنْ يترك النبيُ الأكرمُ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأُمّة الإسلاميةَ ، والدينَ الإسلاميَ اللّذَين كانا محاطَين بالأخطار من كلّ جانب ، وكان الأعداءُ لهما بالمرصاد من كلّ ناحية ، من دونِ قائدٍ معيّنٍ؟!!

إنّ النبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا شكَّ كانَ يَعْلَم أن حياةَ العرب حياة قَبَليّة ، عشائرية وأنّ أفرادَ هذه القبائِل كانَتْ مُتَعَصِّبة لرؤساء تلك القبائل ، فهم كانوا يطيعون الرؤساء بشدّة ، ويخضَعُون لهمْ خضوعاً كبيراً ، ولهذا فإنَّ ترك مِثل هذا المجتمع مِن دون نصبِ قائدٍ معيّن سوف يؤدّي إلى التشتت والتنازع بين هذه القبائل ، وسيستفيد الأعداء من هذا التخاصُم والتَنازع ، والاختلاف.

وانطلاقاً من هذه الحقيقة قال الشيخ الرئيس أبو علي بن سينا : «الاستخلاف بالنصّ أصوب ، فإنّ ذلك لا يؤدي إلى التشعّب والتشاغب والاختلاف» (١).

الأصلُ السادسُ والثمانون : تعيين الإمام والخليفة في أحاديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

والآن وَبعدَ أنْ ثَبَتَ أنَّ حِكمةَ النبيّ وعلمهُ كانا يقتَضِيانِ بأن يتخذ موقفاً مناسِباً في مجالِ القيادة الإسلاميّة مِن بَعدِهِ ، فَلْنرَى ما ذا كانَ الموقف الذي اتخذه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا الصعيد؟

هُناكَ نظريَّتان في هذا المَجال نُدرِجُهُما هنا ، ونعمَدُ إلى مناقشتهما :

النظرية الأُولى : انّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اختار بأمرِ الله تعالى شخصاً مُمتازاً

__________________

(١). الشفاء ، الإلهيات ، المقالة العاشرة ، الفصل الخامس ، ٥٦٤.

١٨٦

صالِحاً لقيادةِ الأُمّة الإسلامِيّة ، ونَصَبَهُ لِخلافَتهِ وأخبرَ النّاسَ بذلك.

النظرية الثانية : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوكَلَ اختيار القائد والخليفة من بعده إلى النّاس ، انفسِهِم ، لينتَخِبوا ـ هم بأنفسِهِم ـ شخصاً لهذا المنصب.

والآن يجب أن نرى أيّة واحدة من النظريتين تُستفاد من الكِتابِ والسُّنة والتاريخِ؟

إنَّ الإمعانَ في حياة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مُنذ أن كُلّف بتبليغِ شرِيعتهِ إلى أقربائِهِ وعَشيرته ، ثمّ الإعلان عن دعوتهِ إلى النّاس كافّة ، يفيد أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سلك طريق «التنصيص» في مسألة القيادة ، والخلافة ، مراراً ، دون طريق «الانتخاب الشعبيّ» وهذا الموضوع نثبتهُ من خلال الأُمور التالية :

١. حديث يوم الدار

بعد أن مضت ثلاثُ سَنَوات على اليوم الذي بُعِثَ فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كَلّفهُ اللهُ تعالى بأن يبلّغَ رسالَتَه لأبناءِ قَبيلتِهِ ، وذلك عند ما نَزَل قولهُ عزوجل : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (١).

فَجَمَع النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رءوسَ بني هاشم وقال : «يا بني عبد المطّلب إنّي واللهِ ما أعلمُ شابّاً في العَرَبِ جاء قومَه بأفضل ممّا قد جئتكم به إنّي قد جئتكُم بخَيِر الدُّنيا والآخِرة وقد أمَرَنيَ اللهُ تعالى أنْ أدعوكم إليه فأيُّكم يؤازرني على هذا الأمر يكون أخي ووصيي ووزيري وخليفتي فيكم».

__________________

(١). الشعراء / ٢١٤.

١٨٧

ولقد كرّر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العبارة الأخيرة ثلاثَ مرّات ، ولم يقمْ في كلّ تلك المرّات إلّا الإمامُ علي عليه‌السلام ، الّذي أعلَنَ عن استعدادِهِ في كلّ مرّة لمؤازرةِ النَّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونُصْرته ، وفي المرّة الثالِثة قال النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنَّ هذا أخِي وَوَصيِّي وخَلِيفَتِي فِيكُمْ فَاسمَعوا لَه وأطيعُوا» (١).

٢. حَدِيثُ المَنْزِلَةِ

لَقد اعتبر النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منزلةَ «عليّ عليه‌السلام» منه على غرارِ منزلةِ هارون من موسى عليهما‌السلام ، ولم يستثنِ من منازِلِ ومراتبِ هارون من موسى إلّا النبوّة حيث قال : «يا عليّ أما ترضى أن تكونَ مِنّي بمنزلةِ هارونَ من مُوسى إلّا أنّه لا نبيَّ بعدي» (٢) وهذا النفي والسلب هو في الحقيقة من بابِ «السالبة بانتفاءِ الموضوعِ». اذ لم تكن بعد رسولِ الله الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نبوّةٌ حتى يكونَ عليٌ نبيّاً من بعده إذ بنُبُوّة رسولِ الإسلام خُتمت النبوّات ، وبِشريعتِهِ خُتِمت الشّرائِع.

ولقد كانَ لِهارون ـ بنَصّ القرآنِ الكريمِ ـ مقامُ «النبوّة» (٣) و «الخلافة» (٤)

__________________

(١). مسند أحمد : ١ / ١٥٩ ؛ تاريخ الطبري : ٢ / ٤٠٦ ؛ تفسير الطبري (جامع البيان) : ١٩ / ٧٤ ـ ٧٥ ، تفسير الشعراء ، الآية ٢١٤.

(٢). صحيح البخاري : ٦ / ٣ طبع ١٣١٢ ه‍ ، باب غزوة تبوك ؛ صحيح مسلم : ٧ / ١٢٠ ، باب فضائل الإمام علي عليه‌السلام ؛ سنن ابن ماجة : ١ / ٥٥ باب فضائل أصحاب النبي ؛ مسند الامام أحمد : ١ / ١٧٣ ، ١٧٥ ، ١٧٧ ، ١٧٩ ، ١٨٢ ، ١٨٥ و ٢٣٠ ؛ والسيرة النبوية لابن هشام : ٤ / ١٦٣ (غزوة تبوك).

(٣). (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) (مريم / ٥٣).

(٤). (وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي) (الأعراف / ١٤٢).

١٨٨

و «الوزارة» (١) في زمانِ مُوسى ، وقد أثبتَ حديثُ «المنزلة» جميعَ هذه المناصب الثابتة لهارون للإمام عليّ عليه‌السلام ما عدا النُّبُوَّة ، على أنّه إذا لم يكن المقصودُ مِن هذا الحَديث هو إثباتُ جميعِ المناصبِ والمقاماتِ لعليّ إلّا النبوَّة ، لم يكنْ أيّة حاجة إلى استثناء النُبوّة.

٣. حَدِيثُ السَّفِينَةِ

لقد شَبَّه النبيُّ الأكرمُ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أهلَ بيته بِسَفينةِ نوح الّتي من رَكبها نجا ، ومن تخلّف عنها غرق في الطوفانِ كما قال : «ألا إنّ مَثَل أهلِ بيتي فِيكم مَثلُ سَفينة نُوح في قومه مَن رَكبها نَجا ، ومَن تَخلَّفَ عَنها غرِق» (٢).

ونحنُ نَعلمُ أنّ سَفينة «نوح» كانت هي الملجأ الوحيد لنجاة الناس من الطوفان في ذلك الوقت.

وعلى هذا الأساس فإنّ أهلَ البيت النبويّ ـ وفقاً لحديث سفينة نوح ـ يُعتَبرُون الملجأ الوَحيد للأُمّة للنجاة من الحوادث العصيبة والوقائع الخطيرة التي طالما تُؤدّى إلى انحراف البشرية وضلالها.

٤. حديث «أمان الأُمّة»

لقد وَصَفَ النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أهل بيته بكونهم سَبَباً لوحدة المسلمين ،

__________________

(١). (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي) (طه / ٢٩).

(٢). مستدرك الحاكم : ٣ / ٣٥١ ؛ الصواعق المحرقة ، ص ٩١ ؛ ميزان الاعتدال : ١ / ٢٢٤ ؛ تاريخ الخلفاء ، ص ٥٧٣ ؛ الخصائص الكبرى : ٢ / ٢٦٦ ؛ ينابيع المودة ، ص ٢٨ ؛ فتح القدير ، ص ١١٣ ؛ وكتب أُخرى.

١٨٩

وممّا يوجِبُ ابتعادهم عن الاختلاف والتَشتّت وأماناً من الغَرق في بحر الفِتنة ، إذ قال : «النجومُ أمانٌ لأهل الأرض من الغَرَق وأهلُ بَيتي أمانٌ من الاختلاف ، فإذا خالَفتها قبيلةٌ مِنَ العَرَب اختَلَفوا فصارُوا حزب إبليس» (١).

وبهذا شبّه النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أهل بيته الكرام بالنجوم التي يقول عنها اللهُ سبحانه : (وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) (٢).

٥. حَديثُ الثّقَلَين

إنّ حديثَ الثّقَلينِ مِنَ الأحاديث الإسلاميّة المتواترة ، الّتي نَقَلها وَرَواها علماءُ الفريقين في كتبهم الحديثية.

فقد خاطَبَ رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأُمّة الإسلامية قائلا : «إنّي تاركٌ فيكُم الثّقَلَيْن كتابَ الله وَعِتْرَتي أهلَ بَيْتي ما إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بهما لَنْ تَضلُّوا أبَداً وإنّهما لَنْ يَفْتَرِقا حَتى يَرِدا عَلَيَّ الحَوْضَ» (٣).

إنّ هذا الحديثَ ، يُثبتُ ـ بوضوح ـ المرجَعيّة العِلميّة لأهلِ البَيْت

__________________

(١). مستدرك الحاكم : ٣ / ١٤٩.

(٢). النحل / ١٦.

(٣). صحيح مسلم : ٧ / ١٢٢ ؛ سنن الترمذي : ٢ / ٣٠٧ ؛ سنن الدارمي : ٢ / ٤٣٢ ؛ مسند أحمد : ٣ / ١٤ ، ١٧ ، ٢٦ ، ٥٩ ، وج ٤ / ٥٩ ، ٣٦٦ و ٣٧١ ، وج ٥ / ١٨٢ و ١٨٩ ؛ الخصائص العلوية ، للنسائي ص ٢٠ ؛ مستدرك الحاكم : ٣ / ١٠٩ ، ١٤٨ ، و ٥٣٣ ، وغيرها.

ويمكن مراجعةِ رسالَة «حديثِ الثّقَلين» من منشورات «دار التقريب بَين المذاهب الإسلامية» القاهرة ، مطبعة مخيمر ، في هذا المجال أيضاً.

١٩٠

النَّبَويّ جَنْباً إلى جنب مع القرآن الكريم ، وَيُلزِمُ المُسلمين بأن يتمسَّكُوا ـ في الأُمور الدينيّة ـ بأهل البيت إلى جانب القرآن الكريم ، ويلتمسوا رأيهم.

ولكنّ المؤسفَ جدّاً أن يَلتَمس فريقٌ من النّاس رأيَ كلّ أحد إلّا رأيَ أهلِ البيت ، ويطرقوا بابَ بَيْت كلّ أحد إلّا باب بيتِ أهل البيت عليهم‌السلام.

إنّ «حديث الثقلين» الذي يتفق على روايته الشيعةُ والسنةُ يمكنهُ أن يجمع جميع مسلمي العالم حول محور واحدٍ ، لأنّه إذا ما اختلفَ الفريقان في مَسألة تعيين الخليفة والقائد ، والزعيم السياسي للأُمّة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان لكلّ فريقٍ نظريّته وآلَ الاستنباطُ التاريخيّ في هذا الصعيد إلى انقسام المسلمين إلى فريقين ، فإنّه لا يوجَدُ هناك أيُّ دليلٍ للاختلاف في مرجَعيّة أهلِ البيت العلميّة ، ويجب أن يكونوا ـ طِبقاً لحديث الثقلين المتَّفَق عليه ـ متفقين على كلمةٍ واحدةٍ.

وأساساً كانت مرجعيَّة أهلِ البَيت العلميّة في عَصر الخُلَفاء لعليّ عليه‌السلام أيضاً ، فقد كانوا يرجعون إليه عند الاختلاف في المسائل الدينيّة وكانت المشكلة تحلُّ بواسطته.

وفي الحقيقة منذُ أن عُزل أهلُ بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ساحة المرجَعيّة العلميّة ظهرَ التفرُّقُ والتشرذُمُ ، وبرزت الفِرَقُ الكلامِيّةُ المتعدّدةُ الواحدةُ تلو الأُخرى.

١٩١

الأصلُ السابعُ والثمانون : حديث الغدير

كان رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كما يبدو في الأحاديث السالفةُ ـ يعرّف بخليفته ووصيه تارةً بصورةٍ كليّةٍ ، وأُخرى بصورةٍ معيّنةٍ ، أي بذكر اسم الخليفة والوصيّ بحيث يمثّلُ كلّ واحدٍ من تلك الأحاديث حجةً كاملةً وتامّةً لمن يطلبُ الحقيقة وهو شهيدٌ واعٍ. ولكن مع ذلك ولكي يُوصِلَ النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نداءَه إلى كلّ قاصٍ ودانٍ من المسلمين في ذلك اليوم ، ويرفعَ كلّ إبهام وغموضٍ ، ويدفع كلّ شك أو تشكيكٍ في هذا المجال ، توقّفَ عند قُفوله ومراجَعَته من حَجّة الوَداع في أرض تسمى بغدير خم ، وأخبر من مَعَه من الحجيج بأنّه كُلِّف مِن جانب الله تعالى بأن يُبلِّغ رسالة إليهم ، وهي رسالة تحكي عن القيام بأمرٍ جدّ عظيم ، بحيث إذا لم يُبلِّغها يكون كأنّه لم يُبَلّغ شيئاً من رسالته كما قال تعالى :

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) (١). (٢)

ثمّ رقى النبيُّ منبراً من أقتاب الإبل وحُدُوجها ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مخاطباً الناس : «يوشك أنْ ادعى فأجيب فما ذا أنتم قائلون؟»

قالوا : نَشهدُ أنّك قد بَلّغتَ ونَصحتَ وجَهَدتَ فجزاك اللهُ خيراً.

__________________

(١). المائدة / ٦٧.

(٢). أشار المحدّثون والمفسِّرون المُسلمون إلى نُزُول هذه الآية في حَجّة الوداع ، يومَ الغدير ، انظر : كتابَ «الدرّ المنثور» للسيوطي ٢ / ٢٩٨ ، و «فتح القدير» للشوكاني ٢ / ٥٧ ؛ وكشف الغمة للإربليّ ، ص ٩٤ ؛ «ينابيع المودّة» للقندوزي ، ص ١٢٠ ؛ المنار : ٦ / ٤٦٣ وغيرها.

١٩٢

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ألَسْتم تَشهَدون أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّداً عَبدُه ورسولهُ وان الساعة آتيةٌ لا ريبَ فيها؟»

قالوا : بَلى نَشْهدُ بذلك.

قالَ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فإنّي فَرَطٌ (أي أسبقكُم) على الحوض (أي الكوثر) ، فَانظُرُوا كيفَ تَخلِفُوني في الثّقَلَين؟»

فنادى مناد : وما الثّقَلان يا رَسولَ الله؟

قالَ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الثّقَلُ الأكبر كتابُ الله طَرَفٌ بيدِ اللهِ عزَّ وجَلَّ وطَرَفٌ بأيدِيكُمْ فتمَسَّكُوا به لا تَضِلُّوا ، والآخَر الأصغَر عترتي ، وإنّ اللطيفَ الخبيرَ نبّأني أَنَّهما لنْ يفترقا حتى يَردا عليَّ الحَوضَ ، فلا تقدمُوهُما فتَهلكوا ، ولا تقصِّروا عنْهما فَتَهْلِكُوا».

ثمّ أخذ بيد «عليّ» فَرفَعها حتى رؤي بياضُ آباطهما فعرفَه القومُ أجمعون فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أيُّها الناسُ من أولى النّاس بالمؤْمِنين من أنفسِهِم؟»

قالوا : اللهُ ورسولهُ أعلمُ.

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله مولايَ ، وأنا مَولى المؤمِنِين ، وأنا أولى بِهِمْ مِن أنفسهِمْ ، فَمَن كنتُ مَولاه فَعَلِيٌ مولاهُ».

ثمّ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اللهُمَّ والِ مِن والاهُ ، وعادِ من عاداهُ ، وأحِبَّ من أحَبَّهُ ، وابْغَضْ مَن أبْغَضَهُ ، وانْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ ، واخْذُلْ من خَذَلهَ ، وأدِرِ الحقَّ معه حيث دارَ ، ألا فَلْيُبَلّغِ الشّاهِدُ الغائبَ».

١٩٣

الأَصلُ الثامِنُ والثمانُون : حديث الغدير من الأحاديث المتواترة

إنّ حديثَ الغَدِير من الأَحاديثِ المتَواتِرة ، وقد رَواهُ من الصَّحابة والتابعين وعُلماءِ الحديث في كلّ قرنٍ بصورَةٍ متواترةٍ.

فقد نقل حديثَ الغدير ورواه (١١٠) من الصحابة ، و (٨٩) من التابعين ، و (٣٥٠٠) من العلماء والمحدّثين ، وفي ضوء هذا التواتر لا يبقى أيُّ مجالٍ للشّكّ في أصالةِ ، وصحّة هذا الحديث.

كما أَنّ فريقاً من العُلَماء ألَّفوا كُتباً مستَقِلّةً حولَ حديث «الغدير» أشْمَلُها وأكثرُها اسْتِيعاباً لِطُرق وأسنادِ هذا الحديث كتابُ «الغدير» للعلّامة الشيخ عبد الحسين الأميني (١٣٢٠ ـ ١٣٩٠ ه‍).

والآن يجب أن نَرى ما هو المقصود من لفظة «المولى» وما ذا تَعني «مولويّة» عليّ عليه‌السلام؟

إنّ القرائن والشواهدَ الكثيرةَ والعديدةَ تشهد بأنَّ المقصودَ من هذه اللفظة ، والكلمة هو : الزعامة والقيادة ، وها نحن نشيرُ إلى بعض هذه الشّواهدِ والقرائن :

ألف : في واقعة الغدير ، أمَرَ رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنْ يحطَّ الحُجّاج الّذين كانوا يرجعون معه من الحج ، في أرض قاحِلةٍ لا ماء فيها ، ولا كلأ ، وفي وقتِ الزوال ، وتحت أشعّة الشَّمس الحارقة.

ولقد كانت حرارةُ الهَجير من الشّدّة في ذلك الوَقت بحيث أنّ الشخص من الحاضرين في ذلك المشهد كان يضع بعض عباءته تحت

١٩٤

رجليه وبعضها فوق رأسه تَوقِّياً من شدّة الرمضاء ، وحرارة الشّمس.

من الطبيعي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يريد في هذه الحالة الخاصّة ، أن يقول ماله دورٌ مصيريٌّ هامٌّ في هداية الأُمّة.

ترى أي شيء يمكنه أن يكون له دور مصيريٌّ وهامٌّ في حياة المسلمين أكثر من تعيين القيادة التي توجب وحدةَ كَلِمةِ المسلمين ، وتكونُ حافظة لدينهم.

ب : لقد تحدّث رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل ذكر مسألة ولاية الإمام علي عليه‌السلام عَن أُصول الدين الثلاثة : التوحيد ، والنبوّة ، والمعاد ، وأخَذَ من الناس الإقرارَ بها ، ثمّ طرَحَ مسألة ولاية الإمام علي عليه‌السلام بعد ذلك.

إنّ التقارن بين إبلاغ هذه الرسالة وأخذ الاعتراف والإقرار بالأُصول المذكورة يمكن أن يقودنا إلى معرفة أهميّة الرسالة التي أمَرَ النبيُّ بإبلاغِها إلى النّاس في «غدير خم» ، ويمكن معرفة أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما كانَ يقصُد مِن ذلك الاجتماع العظيم في تلك الظروفِ الاستثنائيّةِ والملابَسات الخاصّة التوصية فقط بمحبّة وموادّة شخصٍ معيّنٍ ..

ج : قبل إبلاغِ الرسالة الإلهيّة في شأنِ عليٍّ عليه‌السلام تحدَّثَ النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ولايَته ومولويَّتهِ وقال : اللهُ مولايَ وأنا مولى المؤمِنِين ، وأنا أولى بِهِمْ مِن أنْفسِهِمْ.

إنّ ذكر هذه المطالب دليلٌ على أنّ «مولويّةَ الإمام علي عليه‌السلام» كانت من نمط وسنخ مولوية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنّ النبي أثبت بأمر الله تعالى مَولويّته

١٩٥

وأولويّته بالأمر لعليّ أيضاً.

د : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال بعد إبلاغ هذه الرسالة الإلهيّة : فَلْيبلّغِ الشاهدُ الغائبَ.

الأصلُ التاسعُ والثمانون : كفاءة الخليفة المنتخب قطعت كيد الأعداء

إنّ تاريخَ الإسلام يشهدُ بأنّ أعداء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استَخْدَموا كلَّ وسيلةٍ مُمكنةٍ لإطفاءِ نور الرسالةِ المحمديّة ، وعَرْقَلَةِ مسير الدَّعوة الإسلاميّة بدءاً من اتّهام النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالسِّحر والشعوَذة وانتهاءً بمحاولة اغتياله في فراشه ، ولكنّهم بفضل العناية الإلهيّة ، فشِلوا في خُططهم جمعاء ، وحفظ اللهُ نبيّه من كيد المشركين والكافرين ، فلم يبقَ لهم من أمل إلّا أن يموتَ رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيطفئوا جَذوة دعوته ، ويُخمدوا نورَ رسالته (خاصّة أنّه لم يُخَلّف وَلَداً من الذكور).

وقد حكى اللهُ عن أمَلهم الشّرِير هذا بقوله :

(أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) (١).

ولقد كانت هذه النيّة الخبيثَة ، وهذه الفطرةُ الشّريرةُ تراوِدُ ذهنَ الكثيرِ من المشركين والمنافقين ، ولم يكن عددُهم بين أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بِقليلٍ.

ولكنّ النبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بِنَصبه خليفةً قوياً وجديراً بالخلافة يقودُ الأُمّة من

__________________

(١). الطور / ٣٠.

١٩٦

بَعده وقد تحلّى بسوابق جهاديّةٍ وإيمانيّةٍ مشرقةٍ ، وتمتّع بإيمانٍ ، وصدقٍ ، وثباتٍ في سبيل الإسلام ، فوّت الفرصة على المعارضين لرسالته وخيَّب آمالهم ، وأبدلها باليأس والقنوط ، وبهذا ضَمِنَ بقاء الدين ، ورسّخ قوائِمه وقواعده ، وأكملَ اللهُ بتعيين القائدِ والخليفةِ نعمة الإسلام ، ولهذا نزل قول الله تعالى ـ بعد نصبِ عليٍّ عليه‌السلام لخلافةِ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يومَ «غدير خم» ـ :

(الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) (١). (٢)

__________________

(١). المائدة / ٣

(٢). ولقد اعتبرَ فريقٌ من الصّحابة والتابعين الآية المذكورة مرتبطةً بواقعة «غدير خم» وذلك مثل : أبي سعيد الخدري ، وزيد بن الأرقم ، وجابر بن عبد الله الأنصاري ، وأبي هريرة ، ومجاهد المكي. وللوقوف على روايات الأشخاص المذكورين حول الواقعة المذكورة راجع : كتاب «الولاية» لأبي جعفر الطبري ، والحافظ ابن مردويه الاصفهاني برواية ابن كثير في ج ٢ ، من تفسيره ؛ والحافظ أبا نعيم في كتاب «ما نزل من القرآن في عليّ» والخطيب البغدادي في ج ٨ من تاريخه ، والحافظ أبا سعيد السجستاني في كتاب «الولاية» والحافظ أبا القاسم الحسكاني في «شواهد التنزيل» ، وابن عساكر الشافعي برواية السيوطي في «الدر المنثور» ٢ / ٢٩٥ ، والخطيب الخوارزمي في كتاب «المناقب». وعباراتهم موجودة في الغدير ١ / ٢٣ ـ ٢٣٦.

وقال الفخر الرازي في تفسيره (ج ٣ ص ٥٢٩) إنه لمّا نزلت هذه الآية على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يعَمِّر بعدَ نُزولها إلّا أحداً وثمانين يوماً أو اثنين وثمانين يوماً وَلَم يَحْصَل في الشريعةِ بَعدها زِيادة ولا نَسخٌ ، وَلا تبديلُ البتّةَ.

فعلى هذا الأساس لا بُدّ مِنَ القول أنَّ هذه الآية نَزَلت يوم غدير خم. أي اليوم الثامن عشر من ذي الحجة سنة حجة الوداع. وحيثُ إنّ النبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حسبَ رأي أهلِ السُّنّة توفي في الثاني عشر من ربيع الأوّل ، وكانت الأشهر الثلاثة (ذي الحجة ، ومحرّم وصفر) ٢٩ يوماً صح أنّه توفي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد نُزُول الآية المذكورة ب ٨١ يوماً (تفسير الفخر الرازي سورة المائدة ، الآية الثالثة).

١٩٧

ثمّ إنّ هناك ـ مضافاً إلى الرّوايات المتواترة المذكورة التي تُثبت أنّ مسألة خلافة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسألةٌ إلهيّةٌ ، وأنّه ليس للنّاس أيّ خيارٍ فيها ـ رواياتٍ تحكي عن أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان منذ الأيام الأُولى من دعوته في مكّة ، يوم لم تُشكَّلْ فيها حكومةٌ في المدينة بعدُ ، يرى أنّ مسألة خلافتهِ مسألةٌ إلهيّةٌ يعود أمر البتّ والتعيين فيها إلى الله وحده دون غيره.

فعند ما أتى رئيس قبيلة «بني عامر» إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في موسم الحج مثَلاً ، وقال : أرأيتَ إنْ نَحنُ بايعناكَ على أمرِكَ ، ثمّ أظهرَكَ اللهُ على من خالَفَك ، أيكونُ لنا الأمرُ من بَعدك قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الأمرُ إلى اللهِ يَضَعُهُ حيثُ يَشاء (١).

إنّ من البديهيّ أنّ أمرَ مسألة القيادة والخلافَة إذا كانت متروكةً للنّاس ، وانتخابهم لكانَ على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقول : «الأمرُ إلى الأُمّة» أو «إلى أهلِ الحَلّ والعَقد» ولكن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالَ غير هذا. وبذلك طابَقَ كلامُ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في شأنِ الخلافة كلام الله تعالى في شأن الرسالةِ إذ قال :

(اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) (٢).

__________________

(١). سيرة ابن هشام : ٢ / ٤٢٢.

(٢). الأنعام / ١٢٤.

١٩٨

الأصلُ التسعون : تعيين الخليفة أصل متفق عليه

إنّ مَسألة تَنْصِيصيَّة مقام الخلافة ، وأنّه ليس للأُمّة أيُّ خيار ولا أيّ دورٍ في تعيين خليفةٍ لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان في ذِهن الصَّحابة أيضاً. نعم كان في نظرهم هو أن ينصَّ الخليفةُ السابقُ على الخليفة اللّاحِق بدل نَصّ اللهِ ونبيّه ، ولهذا نرى ـ كما هو من مسلّمات التاريخ الإسلاميّ ـ أنّ الخليفةَ الثاني تمّ تعيينهُ ونصبهُ في منصب الخلافةِ بِنصٍ من الخليفةِ الأوّل.

إنّ تصوّر أن تعيينَ الخَلِيفَة الثاني بواسطة أبي بكر لم يَكنْ قراراً قطعيّاً ، بل كان من بابِ «الاقتراح» ، يخالف ما ثبت من التاريخ ، فإنّ الخليفة الأوّل كان لا يزال على قيد الحياة عند ما اعترَض جماعةٌ من الصحابة على هذا التعيين والنصب ، وكان «الزبير بن العوام» أحد أُولئك المعترضين على أبي بكر في هذا التعيين ، والنصب. (١) وإنّ من البديهيّ أنّه لو كانَ تعيينُ أبي بكر لِعُمر بن الخطاب مِن باب مجرّد الاقتراح والترشيح حسب ، لما كان لاعتراض الصحابة عليه أيّ مجالٍ ولا مبرّر.

هذا مضافاً إلى أنّ الخليفة الثالث هو الآخر تمّ تعيينُهُ عن طريق شورى تألَّفَتْ من (٦) أشخاص عيَّنهُمُ الخليفةُ الثاني ، وكانَ هذا نوعاً مِن تعيين الخليفة الّذي مَنَع الآخرين من مراجعة الرأي العامّ.

على أنّ فكرةَ مراجَعة الرأي العامّ ، واختيار الخليفة بواسطة الناس لم يَدُرْ في خَلَدِ أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أساساً ، وما ذُكِرَ في هذا الصعيد فيما

__________________

(١). الإمامة والسياسة : ١ / ٢٤ ـ ٢٥.

١٩٩

بعد إنّما هو من تبريرات العُلماء والمفكرين ، وأمّا من يشار إليهم من الصحابة فقد كانوا يَعتقدون بأنّ الخليفة يجب أن يُعيَّن ويُنصَب من قِبَل الخليفةِ السابق لا غير.

وللمثال عند ما جُرح الخليفةُ الثاني ، بَعَثَتْ عائشةُ زوجةُ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رسالةً شفويّة إلى الخليفة الثاني بواسطة ابنه «عبدِ الله» إذ قالت له : يا بُنيّ أبلغ عمرَ سلامي وقل له : لا تَدَعْ أُمّة محمد بلا راعٍ ، استَخْلِفْ عَلَيْهم ، ولا تَدَعْهُمْ بَعدَك هَمَلاً ، فإنّي أخشى عَلَيْهمُ الفتْنَةَ. (١)

فأتى عبد الله أَباه وكان طريحَ الفراش فحثّه على تعيين الخليفة من بَعده قائلاً : إنّي سَمِعْت النّاسَ يقولون مقالةً فآليتُ أن أقولها لك وَزَعَمُوا أنّك غير مُسْتَخْلِفٍ وأنّه لو كان لك راعي إبِل ـ أو راعي غَنَم ـ ثمّ جاءَك وتَرَكَها لرأيَتَ أن قدْ ضَيَّعَ فَرِعايةُ النّاسِ أشدُّ. (٢)

الأصلُ الواحدُ والتسعون : ما هي وظائف الإمام بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

أشرنا في مطلعِ بحث الإمامة إلى أنّ خليفة النبي والإِمام إنّما هو في نظر المسلمين من يقوم بوظائف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (ما عدا تلقي الوحي والإِتيان بالشريعة) ونورد هنا أبرز هذه الوظائف لتتبيّن مكانة الإِمامة وأَهميتها بصورة أوضح.

__________________

(١). الإمامة والسياسة : ١ / ٢٨.

(٢). حُلية الأولياء : ١ / ٤٤.

٢٠٠