العقيدة الإسلاميّة على ضوء مدرسة أهل البيت عليهم السلام

الشيخ جعفر السبحاني

العقيدة الإسلاميّة على ضوء مدرسة أهل البيت عليهم السلام

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المترجم: الشيخ جعفر الهادي
الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٨

طُرُق معرفةِ الأَنبياءِ

الأصلُ السادِسُ والخَمْسُون

إنّ فطرةَ البَشر تقضي بأن لا يَقْبَلَ الإنسانُ أيّ ادّعاءٍ من غير دليل ، ومن قَبِل شيئاً أو زعماً من دون دليل ، فإنّه يكون قد خالف فطرته الإنسانية.

إنّ ادّعاءَ النبوّة أعظمُ ادّعاءٍ يمكن أن يطرحه فردٌ من أفراد البشر ، ومن البديهي أن زعماً وادعاءً في مثل هذه العظمة يجب أن يستند إلى برهان قاطع ، ويُقرَنَ بالدلِيل الساطع.

ويمكن أن تكون الأدِلّة في هذا المجال أحد أُمورٍ ثلاثة :

ألف : أن يصرّح النبيُ السابقُ الذي ثبتت نبوّتُه بالأدلّة القاطعة ، على نبوة النبي اللاحِق كما صَرّح السيدُ المسيح عليه‌السلام بنبوة النبي محمد خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبشّر بمجيئه.

ب : أنْ تشهَد القرائنُ والشواهد المختلفة على صِدقِ دعواه.

وهذه الشواهد والقرائن يمكن تحصيلُها من سيرته في حياته ، وفي محتوى دعوته ، ومن الشخصيات التي آمنت به ، وانضوت تحت لوائه ، وكذا في طريقة دعوته ، وأُسلوبه في العمل لنشر مبادئه ، وتبليغها.

١٢١

وهذه الطريقة هي التي يُستفاد منها في المحاكم في العالمِ اليوم لتمييز الحق عن الباطل ، والبريء عن المجرم.

وقد استفاد كثيرون مِن هذه الطريقة ذاتها للتأكّد من صِدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وصحّة دعواه النبوة في صدر الإسلام.

ج : الإتيان بالمعجزة ، يعني أن يُقرِنَ مدّعي النبوة دعواه ، بعملٍ خارقٍ للعادة ويتحدّى به الآخرين ، ويكونَ ذلك العمل للخارق مطابقاً لدعواه.

إنّ الطريقين الأَوّلين ليسا عامّين في حين يكون الطريق الثالث عامّاً ، وقد استفادت البشريةُ على طول التاريخ من هذا الطريق لمعرفة الأنبياء والإيمان بدعوتهم وكان الأنبياء بدورهم يُقرنون دعواهم للنبوة بذلك ، ويستفيدون من هذا الطريق (الثالث).

الأصلُ السابعُ والخمسون : العلاقة المنطقية بين دعوى النبوّة والمعجزة

إنّ بَينَ المعجزة وبين صدق دعوى النُبوّة علاقةً منطقيّةً ، لأنّه إذا كان الآتي بالمعجزة صادقاً في دعواه فإنّ من الطبيعيّ أنْ يُثْبِتَ مطلبَهُ.

وإذا كان كاذباً في دعواه النبوة ـ افتراضاً ـ لم يكن لائقاً بالله الحكيم الذي يَهتَمّ بهداية عبادهِ أن يُمكّنَ الكاذبَ في ادّعاء النبوّة من الإتيان بالمعجزة ، لأنّ الناس سَيُؤمنون به إذا رأوا قدرته على الإتيان بالعَمَل الخارق للعادة ، وسيَعملون بأقوالِهِ فيكونُ ذلِك إضلالاً للناس إذا كان المُدّعي للنبوّة كاذباً ، ولا شكّ أنّ هذا يتنافى مع عَدلِ الله وحكمته.

وهذه من إحدى فروع قاعدة الحسن والقبح العَقليين التي تمّ بحثها سابقاً.

١٢٢

الأصلُ الثامنُ والخمسون : الفرق بين المعجزة والكرامة

إنّ الإتيان بالعَمَل الخارق للعادة الذي يقترن مع دعوى النبوة ، ويتّفق مع الادّعاء ، يسمى «معجزة».

وأمّا إذا صدر العملُ الخارقُ للعادة من عبدٍ للهِ صالحٍ لم يَدَّعِ النبوّةَ سُمي «كرامة».

وممّا يشهد بأنّ عباد الله الصالحين من غير الأنبياء قادرون أيضاً على الإتيان بالأعمال الخارقة للعادة ، نزول مائدة سماويّة على السيدة مريم أُم النبي السيد المسيح عليه‌السلام وانتقال عرش بلقيس ملكة سبأ في سرعة خاطفة من اليمن إلى فلسطين على يد فردٍ بارزٍ من أنصار النبي سليمان (آصف بن برخيا) وقد أخبرَ القرآنُ الكريم بكلا الحَدَثين إذ قال في شأن مريم : (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً) (١).

وقال حول حادثة عرش بلقيس أيضاً : و (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) (٢).

الأصلُ التاسعُ والخمسون : الفرق بين المعجزة والسحر

إن الفَرق بين المعجزة وبين غيرها من الأعمال الخارقة يتلخّص في الأُمور التالية :

__________________

(١). آل عمران / ٣٧.

(٢). النمل / ٤٠.

١٢٣

ألف : عَدَمُ التعلّم في المعجزة : فإنّ الآتي بالمعجزة يقوم بالإتيان بالمعجزة من دون سَبْق تعلّمٍ ، في حين يتم الإتيان بالأعمال الخارقة الأُخرى نتيجة سلسلة من التعليمات والتمرينات.

فالنبيّ موسى عليه‌السلام بعد أن انقضت فترةُ شبابه ذَهَب إلى مصر ، وفي أثناء الطريق خوطب أن يا موسى ألقِ عصاك فإذا العَصا تتحول إلى ثعبان عظيم ، بحيث استوحَشَ موسى لذلك. (١)

وخُوطب أن أدخِل يَدَك في جَيبك ، ولمّا أخرجها فإذا هي تضيئ إضاءةً قويةً ، تخلب الأبصار (٢).

ب : عدم إمكان معارضةِ المعجزة : فإنّ المعجزة لكونها تنبُع من قدرة الله المطلقة لا يمكن معارضتها والإِتيان بمثلها قط ، على حين يمكن معارضة السّحر والشعوذة ، وما شابههما ممّا يفعلُه المرتاضون بمثلها لكونها تنشأ من قدرة البشر المحدودة المتناهية.

ج : التحدّي : إنّ الآتي بالمعجزة يتحدّى الآخرين بمعجزته أي يدعوهم إلى معارضته ومقابلته بمثله ، في حين لا يفعل السّحَرة والمرتاضون ذلك ، لإِمكانِ معارضتهم ، ومقابلتهم بمثل ما يأتون به.

د : عدم المحدودية : فإنّ معاجزَ الأَنبياء ليْست محدودة بنوعٍ أو نوعين بل هي متنوّعة بحيث لا يمكن الإشارة إلى جامع مشتَرك بينها.

__________________

(١). لاحظ القصص / ٣١.

(٢). لاحظ القصص / ٣٢.

١٢٤

فمثلاً أينَ إلقاء العصا وانقلابُهُ إلى حَيّةٍ ، وإدخال اليد في الجَيب وإِخراجها بيضاءَ تنير؟

وكذا أين هاتَين المعجزتين وأين إنباعُ الماء ، واستخراجه من صخرة بضربةٍ من عصا لا غير؟

كما وأين هذه المعاجز الثلاث وأين تجفيف البحر ، وفتح ممراتٍ يابسةٍ عظيمةٍ في قاعِهِ بضربةٍ من عصا على الحجر أيضاً؟

إنّنا نقرأ : انّ عيسى عليه‌السلام صنع من الطين كهيئة الطير ، ثمّ نَفَخَ فيها الروح فصارت طيوراً حيَّة بإِذنِ الله.

كما نقرأ انّه عليه‌السلام كان بالمسح بيده على وجوه العميان وأجساد المصابين بالبرص يمنحهم الشفاء ، بل ويُحيي الموتى ، وينبئ عَمّا ادَّخره الناسُ في بيوتهم إلى غير ذلك من المعاجز العديدة.

ه : وأساساً إنّ الذين يأتون بالمعجزة والكرامة يمتازون عن السّحَرة الذين يأتون بالخوارق من الأعمال من حيث الهَدَف وكذا من حيث النّفْسِيّات.

فالفريقُ الأوَّل يهدفون إلى غايات سامية ، وأغراض قيّمة ، بينما يهدف الفريق الثاني إلى أهدافٍ دنيويّة.

ومن الطبيعي أن يختلف الفريقان على أساس ذلك في النفسيات.

١٢٥

الوحي والنبوة

الأصلُ الستّون : صلة النبي بعالم الغيب

في الأصل السابق أوْضَحنا طُرُقَ التعرّفِ على النبيّ الواقعيّ وتمييزه عن مدّعي النبوة كذِباً.

والآن يجب أنْ ندرسَ طريقَ اتصال النَّبِي بعالمِ الغيب ونعني «الوحي».

إنّ «الوحيَ» الذي هو أهَمُّ طريقٍ من طُرُق اتّصال الأنبياء بعالمِ الغيب ليس ناشئاً عن الغريزة أو العقل بل هو علم خاص يفيضُ به اللهُ تعالى على الأَنبياء خاصّة ، ليبَلّغُوا الرسالاتِ الإِلهيّة إلى البشر.

إنّ القرآنَ يصفُ الوحيَ قائلاً : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ) (١).

إنّ هذه الآية تفيد أنّ معرفةَ الأنبياء بالرّسالات الإلهيّة ليست نابعةً وناشئةً من استخدام أشياء كالحواسّ الظاهريّة وما شابه ذلك ، بل ينزل به مَلَك الوحيِ على قلب النبي.

__________________

(١). الشعراء / ١٩٣ ـ ١٩٤.

١٢٦

وعلى هذا الأساس لا يمكن تحليل حقيقة الوحي المعقّدة وتفسيرها بالمقاييس العادية.

وفي الحقيقة إنّ نزول الوَحْي هو أحدُ مظاهر الغيب الّتي يجبُ الإيمانُ بها وإنْ لم تتضح لنا حقيقةُ هذه الظاهرة كما يقول : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) (١).

الأصلُ الواحدُ والستّون : الوحي ليس وليد نبوغ الأنبياء وتفكّرهم الخاص

إنّ الّذين يريدونَ مقايسة كلّ شيء ، وتفسيرها بالمقاييس الماديّة والأدوات الحِسيّة ، ويريدون صَبَّ الحقائق الغيبيّة في قوالب حِسّية يفسرون ظاهرة «الوحي» بصور مختلفة ، جميعها باطلة في نظرنا ، وفيما يأتي نقدُ هذه التفسيرات والتحليلات في عدة نقاط :

ألف : ثمت فريق يعتبر الأنبياء من نوابغ البشر ، ويعتبرون الوحي حصيلة التفكير ، ونتيجةً لفعاليات حواسّهم الباطنية.

إنّ حقيقة «الروح الأمين» في تصور هذا الفريق هي روحُ هؤلاء النوابغ الزكية ، ونفوسُهم الصافية النقية ، وإنّ الكتب السماويّة كذلك ليست سوى أفكارهم السامية وتصوّراتهم الراقية.

إنّ هذا النوع من التفسير والتحليل لظاهرة الوحي ليس سوى الانبهار بالعِلم التجريبيّ الجديد الذي يعتمد الأساليب الحسيّة ـ لا غير ـ

__________________

(١). البقرة / ٢.

١٢٧

وسيلةً لتفسير كلِّ حقائقِ الوجودِ.

إنّ المشكلة الهامّة في هذه النَّظَريّة هي منافاتُها لما قاله الأنبياء والرسُلُ الإلهيّون.

فالأنبياء والرسُل يصرّحون ويعلنُون باستمرار بأنّ ما أتوا به إلى البشر ليس إلّا الوحي الإلهيّ.

وعلى هذا الأساس يكون التفسيرُ السالفُ للوحي مستلزماً لتكذيب الأنبياء ، وهذا ممّا لا يليقُ بمقامِ الأنبياء الرفيع ومنزلتهم المرموقة ، وصدقهم ، وصلاحهم الذي أخبر بها التاريخُ الثابتُ.

وبعبارةٍ أُخرى : إنّ المصلِحِين على نوعين :

مصلحون يَنسبون برامجَهم إلى الله ، ومصلحون آخرون يَنسبُون برامجهم إلى أنفسهم ، ويَطْرحونها على المجتمع على أنّها وليدةُ عقولِهِم ، وأفكارهم.

وقد تكون كلتا الطائفتين مخلِصتين ، تتسمان بالإخلاص والخير.

وعلى هذا لا يمكن عد هذين الصنفين من رِجالِ الإصلاحِ صنفاً واحداً.

ب : ثمّت فريقٌ آخرٌ يعتبر الوحيَ ـ منطلقاً من نفسِ الدافعِ الذي ذكر في النظرية المتقدّمة ـ نتيجةَ تجَلّي الحالات الرُّوحِيّة في النبي.

إنّ النبيَّ ـ حسب زَعْم هذا الفريق بِسبَبِ إيمانه القويّ باللهِ ، وفي

١٢٨

ضوءِ عبادَتهِ الكثيرة للهِ يصل إلى درجة يجدُ في ذاتهِ طائفةً من الحقائق العالية ويتصوّر أنّ هذه الحقائق أُفيضت وأُلقيت إليه من عالم الغيب فيما لا يكون لِما توصل إليه من الحقائق المذكورة من منشأٍ سوى نفسه ذاته ليس إلّا.

إنّ أصحاب هذه النظرية يقولون : نحن لا نشُك مطلقاً في صدق الأنبياء بل نعتقد بأنّهم شاهدُوا حقائق عالية ، ولكنّ الكلامَ هو في منشأ هذه الحقائق العالية.

فالأنبياء يتصوّرون أنّ منشأ هذه الحقائق هو عالم الغيب ، الخارج عن هذا العالم المادي ، أي أنّ هذه الحقائق قد أُلقيتْ إليهِم من ذلك العالَم ، على حين يكون منشأ ذلك أنفسهم ، لا غير.

إنّ هذه النظرية ليست كلاماً جديداً بل هي في الحقيقة طرحٌ مجدَّدٌ لإحدى النظريّات التي كانت مطروحةً في العَهد الجاهليّ حول الوحي ولكن في لباسٍ جديدٍ.

وحاصلُ هذه النظرية هو أنّ الوحيَ ما هو الّا حصيلة تخيُّلات الأنبياءِ ، ورجوعهم إلى بواطنهم وتعمّقهم في نفوسهم ، وأنّهم بسبب كثرة التفكّر في الله ، وعبادته ، والتفكّر في إصلاح أُممهم ، وأقوامهم تمثّلت هذه الحقائق دفعة أمام عيونهم ، فَظَنُّوا أنّها أُلقِيَت إليهم مِن عالَم الغيب. (١)

وهذا هو ـ بشكلٍ من الأشكال وبنحو مّا ـ نفسُ تصوُّر الجاهليّين

__________________

(١). السيد محمد رشيد رضا ، الوحي المحمّدي ص ٦٦.

١٢٩

حول الوحي إذ قالوا : (أَضْغاثُ أَحْلامٍ) (١).

إنّ القُرآنَ الكريم ردَّ على هذه النظرية بشدّةٍ وأكَّدَ على أنّ النبيَّ صَدقَ في ادّعائهِ رؤيةَ مَلَكِ الوَحي ، فهو لم يخطأ لا في قلبهِ ولا في بصره إذ يقول : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) (٢).

ويقول : (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) (٣).

وهذا يعني أنّ النبي رأى حقاً (مَلَك الوحي) بعين الرأس وبعين القلب ، بعين الظاهِر وبعين الباطن.

__________________

(١). الأنبياء / ٥.

(٢). النجم / ١١.

(٣). النجم / ١٧.

١٣٠

عصمة الأنبياء

الأصلُ الثاني والستّون : مراتب عصمة الأنبياء

العِصمة تعني المصُونيّة ولها في باب النبوّة مراتب هي :

ألف : العصمة في مرحلة تلقّي الوحي وإبلاغه.

ب : العصمة عن المعصية والذنب.

ج : العصمة عن الخطأ في الأُمور الفردية والاجتماعية.

وعصمة الأَنبياء في المرحلة الأُولى موضعُ اتفاق الجميع ، لأنّ احتمالَ الخطأ والالتباس في هذه المرحلة يؤثر على وثوق الناس ، واطمئنانِهم ، ويوجب أن لا يعتمدَ الناسُ على إخبارات النبي وأقواله ، فينتقضُ هدفُ النبوّةِ في المآل.

هذا مضافاً إلى أنّ القرآن الكريم يصرّح بأنّ الله يحفظُ نبيَّه ، ويصونهُ صيانةً كاملةً حتى يبلّغ الوحيَ الإلهيَّ بصورةٍ صحيحةٍ كما قال : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً* إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً* لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما

١٣١

لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) (١).

ففي هذه الآية ذكَرَ القرآن الكريم نوعين من الحَفَظَة لصيانة الوحي :

ألف : الملائكة الذين يحيطون بالنبيّ من كلّ ناحيةٍ وجانبٍ.

ب : انّ الله تعالى نفسه يحيط بالملائكة والنبيّ.

وهذه النظارة الشديدة والمراقَبَة الكاملة انّما هي لتحقيق غرض النبوّة ، وهو إيصال الوحي الإلهيّ إلى البشر.

الأصلُ الثالثُ والستُّون : عصمة الأنبياء من كل معصية وذنب

إنّ أنبياء الله ورُسُلَه معصومون من الذنب والزلل ، في مجال العمل بأحكامِ الشريعةِ ، عصمةً مطلقةً.

لأنّ الهدف من بعثة الأنبياء إنّما يتحقّق أساساً إذا تمتّع الأنبياء والرسُل بمثل هذه العصمة ، لأنّهم إذا لم يلتزموا بالأَحكام الإلهيّة التي كُلّفُوا بإِبلاغها إلى الناس ، انتفى الوثوق بكلامهم ، فلم يتحقّق الغرضُ المنشودُ من بعثِهم ، وإرسالهم.

ولقد أشارَ المحققُ الطوسيُّ إلى هذا البرهان بعبارةٍ موجَزَة حيث قال : «ويجب في النبيّ العصمةُ ليحصلَ الوثوقُ فيحصل الغرضُ» (٢).

__________________

(١). الجن / ٢٦ ـ ٢٨.

(٢). كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد ٢١٧.

١٣٢

إنّ عصمة الأنبياء عن المعصية أمر قد أكّده القرآنُ الكريمُ في آيات مختلفة نورد هنا بعضها :

ألف : إنّ القرآن الكريم يعتبر الأنبياءَ أشخاصاً مهدِيّين ومختارين من قِبل الله تعالى إذ قال : (وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١).

ب : إنَّ القرآنَ الكريمَ يذكِّر بأنّ الذي يهديه الله لا يقدر أحد على إضلاله إذ يقول : (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ) (٢).

ج : يعتبر المعصية ضَلالاً إذ يقول : (وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً) (٣).

فيستفاد من مجموعة هذه الآيات أنّ الأنبياء معصومون من كلّ أنواع الضلال ، ومصونون من كل ألوان المعصية.

إنّ البُرهانَ العَقليّ الذي أقمناه فيما سبق على عِصمة الأنبياء يدلّ على عصمتهم قبل البعثة أيضاً ، لأنّ الإنسان الذي صَرَفَ رَدْحاً من عمره في الذنب والمعصية ، ثمّ حَمَلَ لواءَ الهداية والإرشاد لم يتمكّن من الحصول على ثقة النّاس به ، وسكونهم إلى أقواله ، بخلاف من عاش قَبلَ بعثته نقيَّ الجيب ، طاهِرَ الذيل ، فإنّه قادرٌ على جَلب ثقة الناس ، وكسب تأييدهم له.

هذا مضافاً إلى أنّ في مقدور معارضي الرسالة ، أن يغتالوا بسهولة

__________________

(١). الأنعام / ٨٧.

(٢). الزمر / ٣٧.

(٣). يس / ٦٢.

١٣٣

شخصيّة الرسول ، ويطعنوا فيه بالتلويح بسوابقه قبلَ النبوة ، ويحطُّوا ـ بذلك ـ من شأنه ، وشأن رسالته.

إنّ الذي استطاع ـ بفضل ـ العيش بطهر ونقاء ، في بيئةٍ فاسدةٍ أن يكتسب لقب «محمد الأمين» هو الشخص الوحيد الذي يستطيع بشخصيّتهِ الساطعة النقيّة ، أن يُبدّد حُجُب الدعايات المضادة ، ويفنّد مزاعم أعدائه ، ومعارضي رسالته ، ويضيء باستقامته العجيبة ، البيئةَ الجاهليةَ المظلمة تدريجاً.

هذا مضافاً إلى أنّ من البديهي أنّ الإنسان الذي كان معصوماً من بداية حياته ، أفضلُ من الذي تحلّى بصفة العصمة منذ أن صار نَبيّاً ، كما أنّ تأثيرَه ، ودوره الإرشاديّ لا ريب يكون أقوى ، والحكمة الإلهيّة تقتضي اختيار الفَردِ الأحسن الأكمل.

الأصلُ الرابعُ والستُّون : عصمة الأنبياء عن الخطأ والزلل

إنَّ الأنبياء ـ مضافاً إلى كونهم معصومين من الذَّنْب ـ معصومون كذلك في الأُمور التالية :

ألف : في القضاء في المنازعات والفصل في الخصومات.

والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنْ كان مأموراً بالقضاء على وفق البيّنة واليمين ، لكنّه في صورة خطأ البيّنة أو كذب الحالف واقف على الحق المرّ ، وإنْ لم يكن مأموراً بالقضاء على طبقه.

١٣٤

ب : في تشخيص موضوعات الأحكام الشرعية (مثل انّ المائع الفلانيّ هل هو خمرٌ أم لا؟).

ج : في القضايا اليوميّة العاديّة.

إنّ لزوم وصف النبيّ بالعصمة في الموارد المذكورة نابعٌ من أنّ الخطأ في مثل هذه المجالات ملازمٌ للخطأ في مجال الأحكام الدينيّة ، وبالتالي فإنّ الخطأ في هذه الأُمور والمجالات يَضُرُّ بثقةِ النّاس بشخص النبيّ ، ويُوجب في المآل تَعَرُّضَ الغَرَض المنشُود للخَطَر ، وان كان لُزوم العصمة في الصورتين الأُولَيَين ، أوضح من العصمة في الصورة الأخيرة.

الأصلُ الخامسُ والستُّون : الأنبياء مبرَّءون عن الأمراض المنفّرة

إنّ من مراتب العصمة هي أن لا تكون في وجود الأنبياء أُمور توجب تنفّر الناس وابتعادهم عنهم.

فكلُّنا يعلم بأنّ بعضَ الأمراض والعاهات الجسمية ، أو بعض الخصال الروحيّة ، التي تنم عن دناءة الطبع ، وخِسّة النفس توجب تنفّرَ النّاسِ وابتعادهم عنه.

ولهذا فإنّ على الأنبياء أنّ يكونوا مُنَزَّهين عن العيوب الجسمية والروحيّة ، لأنّ تَنَفّرَ الناس من النبي ، واجتنابَهم عنه ينافي الهدف من بعثهم ، وهو إبلاغ الرسالات الإلهيّة بواسطة الأنبياء إلى الناس.

كما أنّنا نُذَكِّرُ بأنَّ المراد من حكمِ العقل في هذا المجال هو الكشف

١٣٥

عن حقيقة ، هي أنّ على الله ـ لكونه حكيماً ـ أنّ يختارَ للنبوّة من يكون عارياً ومنزَّهاً عن مِثل هذه العيوب. (١)

الأصلُ السادسُ والستُّون : دراسة الآيات الدالة على عدم العصمة

لقد عرفنا بِحُكمِ العقل القطعيّ ، وقضاء القرآنِ الصَّريح عصمة الأنبياء ، ولكن ثمّة في هذا الصعيد بضع آيات تحكي ـ في بدو النظر ـ عن صُدُور الذنب والمعصية عنهم (مثل الآيات الواردة حول النبي آدم وغيره) فما هو الحلّ في هذه الآيات؟

في البداية يجب أنّ نقول : إنّ من المُسَلَّم أنّه حيث لا تناقض في القرآن الكريم أبداً ، وجب أنْ نهتدي في ضوءِ القرائن الموجودة في نفس الآيات إلى المراد الحقيقي فيها.

__________________

(١). إنّ حكمَ العقل في هذا المجال حكمٌ قَطعيٌّ ، ولهذا فإنّ بعضَ الروايات التي وَرَدت حول النبي أيوب وهي تحكي عن ابتلائه بأمراض منفِّرة ، مضافاً إلى كونها مخالفةً للحكمِ القَطعيِّ للعقل تنافي الرواياتِ المعارضة التي وَرَدَت عن أهل البيت في هذا المجال.

فقد قال الإمامُ الصادق عليه‌السلام : «إنَّ أيوب مع جميع ما ابتُلي به لم تنتنْ له رائحةٌ ، ولا قَبُحَتْ له صورةٌ ، ولا خرجَتْ منه مِدّةٌ من دَمٍ ، ولا قيحٍ ، ولا استَقْذرَهُ أحَدٌ رآه ، ولا استوحش منه أحدٌ شاهدَه ولا دوّد شيءٌ من جَسَدهِ ، وهكذا يصنعُ الله عزوجل بجميع من يبتليه من أنبيائه ، وأوليائه المكرَّمين عليه ، وإنما اجتنَبَهُ الناسُ لِفَقره ، وضَعْفِهِ في ظاهِرِ أمرهِ ، لجَهْلهم بما لَهُ عند ربّه تعالى ذكْرُهُ ، من التأييد والفَرَج».

(الخصال ج ١ ، أبواب السبعة ، الحديث ١٠٧) ولهذا فإنّ الروايةَ المخالفةَ لهذا الموضوع ، لا أساس لها من الصحة فهي مرفوضة.

١٣٦

ففي هذه الموارد لا يمكن أن يكونَ الظهور الابتدائيّ هو الملاك للحكم المُتسَرِّع.

ومن حُسن الحَظّ أنَّ كبار مفَسّري الشيعة ومتكلّميهم قاموا بدراسة هذه الآيات القرآنية ، بل وأقدم بعضهم على تأليف كتب مستقلة في هذا المجال.

وحيث إنّ معالَجة هذه الآيات واحدة واحدةً لا تحتملُها هذه الرسالةُ فإنّنا نحيل القرّاء الكرام إلى الكتب المذكورة في الهامش (١).

الأصلُ السابعُ والستُّون : منشأ العصمة وسببها

يمكن انّ نلَخّص منشأ العصمة وسببها في أمرين :

ألف : إنّ الأنبياء حيث إنّهم يتمتعون بمعرفةٍ واسعةٍ بالله سبحانه ، لا يَستبدلون رضاه تعالى بشيءٍ مطلقاً.

وبِعبارةٍ أُخرى ؛ انّ إدراكهم العميق للعظمة الإلهيّة وللجمالِ والكمال الإلهيّين يمنعهم من التوجّه إلى أيّ شيءٍ غير الحقّ تعالى ، والتفكير في أيّ شيء غير الله سبحانه.

إنّ هذه المرتبَة والدَّرَجة من المعرفة هي التي قال عنها الإمامُ أميرُ المؤمنين عليُّ بن أبي طالب عليه‌السلام : «ما رَأَيتُ شَيئاً إلّا ورَأَيْتُ اللهَ قبْلَهُ ، وبَعْدَهُ

__________________

(١). تنزيه الأنبياء للسيد المرتضى ، وعصمة الأنبياء للفخر الرازي ، ومفاهيم القرآن لجعفر السبحاني ج ٥ فصل عصمة الأنبياء.

١٣٧

ومَعَهُ» (١).

وقال عنها الإمام الصادقُ عليه‌السلام : «وَلكنِّي أعْبُدُهُ حُبّاً لَهُ فتلكَ عِبادةُ الكِرامِ» (٢).

ب : إنّ اطّلاع الأنبياء الكامل على نتائج الطاعة وثمارها ، وعلى آثار المعصية وتبعاتها السّيئة ، هو سبب صيانتهم عن مخالفة الأمر الإلهيّ.

على أنّ العصمة المطلقة مختصّة بثلَّة خاصّة من أولياء الله ، إلّا أنّ في إمكان بعض المؤمنين الأتقياء أنْ يكونوا معصومين عن ارتكاب المعصية في قسم عظيمٍ من أفعالهم ، فالفَرد المتّقي مثلاً ، لا يُقدم على الانتحار ، أو قتل الأبرياء أبداً (٣).

بل وحتّى بعضُ الأشخاص العاديّين يتمتعون بالعصمة عن بعض الذنوب ، وللمثال لا يُقدمُ أيُّ شخص على لمس سلك كهربائي فعّال تجنباً من الصَعق بالتيار الكهربائي.

ومن البَيّن أنّ العصمة في هذه الموارد ناشئ من العِلم القطعيّ بآثار عمله السيئة ، فإذا كان مثل هذا العِلم حاصلاً للشخص في مجال تبعات الذنوب الخطيرة جداً أيضاً ، كان ذلك موجباً حتماً لصيانة الشخص عن المعصية.

__________________

(١). بحار الأنوار ٧٠ / ٢٢.

(٢). المصدر السابق : ٧٠ / ١٨ ضمن الحديث ٩.

(٣). قالَ الإمامُ عليُّ بن أبي طالب عليه‌السلام عن هذا الفريق : «هُم والجَنّةُ كَمَنْ قَدْ رآها فَهُمْ فيها مُنَعَّمون ، وَهُمْ والنّارُ كَمَنْ قد رَآها فَهُمْ فيها مُعَذَّبُون» نهج البلاغة ، الخطبة رقم ١٩٣ الموجّهة إلى همّام.

١٣٨

الأصلُ الثامنُ والستُّون : لا تنافي بين العصمة والاختيار

نَظَراً لمَنشأ العصمة نُذَكّر بأنّ العصمة لا تنافي اختيار المعصوم ، وكونه حرّاً في إرادته ، بل إنّ الشخصَ المعصومَ مع مَعرفته الكاملة بالله ، وبآثار الطاعة والمعصية ونتائجهما ، يمكنه أنّ يرتكب المعصية وإنْ لم يستخدم هذه القدرة ، مثل الوالد الحنون الذي يقدر على قتل ابنه ، ولكنّه لا يفعل ذلك أبَداً.

وأوضحُ من ذلك هو عدمُ صدور القبيح من الله تعالى ، فإنَّ الله القادرَ المطلَق يمكنه أن يُدخلَ الصالحين المطيعين في جهنم ، أو يُدخِل العاصِين في الجنة ، إلّا أنّ عدلَه وحكمته يمنعان من القيام بمثل هذا العمل.

ومِن هذا البيان يتضح أَنَّ تركَ المعصية والتزام الطاعة ، والعبادة ، يُعتبران مفخرة كبرى للأنبياء ، لأنّهم مع كونهم قادرين على ترك الطاعة ، وفعل المعصية ، لا يفعلون ذلك اختياراً ، وبإرادةٍ منهم.

الأصلُ التاسعُ والستُّون : العصمة لا تلازم النبوّة

نحن مع اعتقادنا بعصمة جميع الأنبياء لا نرى أنّ العصمة تلازم النبوّة ، أي أنّنا لا نرى أنّ كل معصومٍ هو نبيٌّ بالضرورةِ ، وإنْ كان كلّ نبيٍّ معصوماً بالضرورة ، فربّ إنسان معصومٌ ولكنّه ليس بِنبيّ ، فها هو القرآنُ الكريم يقول حول السيدة مريم : («يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ

١٣٩

عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) (١).

إنّ استخدامَ القرآن الكريم للفظة «الاصطفاء» في شأن السيّدة مريم عليها‌السلام يَدلُّ على عِصمتها لأنّ نفسَ هذه اللَّفظة «الاصطفاء» استخدمت في شأن الأنبياء سلامُ الله عليهم أيضاً : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) (٢).

هذا مضافاً إلى أنّ الآية قد تحدَّثتْ حول طهارة السيدة مريم عليها‌السلام ، والمقصود هو طهارتها من أيّ نوع من أنواع الرجْس ، والمعصية ، وليست هذه الطهارة والبراءة هو براءتها من الذنب الذي رَمَتْها اليهودُ به في مجال ولادة عيسى منها من دون والدٍ ، لأنّ تبرئة مريم من هذه المعصية ثبتت في الأيّام الأُولى لولادة عيسى عليه‌السلام بتكلُّمه (٣) ، فلم تعُدْ حاجة إلى بيان ذلك مجدّداً.

أضف إلى ذلك أنّ الآية تتحدّث عن مريم قبل ان تحمل بالمسيح ، حيث جاء حديث حملها له عبر هذه الآية فلاحظ.

__________________

(١). آل عمران / ٤٢.

(٢). آل عمران / ٣٣.

(٣). (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ ...) مريم / ٢٩.

١٤٠