العقيدة الإسلاميّة على ضوء مدرسة أهل البيت عليهم السلام

الشيخ جعفر السبحاني

العقيدة الإسلاميّة على ضوء مدرسة أهل البيت عليهم السلام

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


المترجم: الشيخ جعفر الهادي
الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٨

القضاء والقَدَر

الأصلُ الثامنُ والأربعون : القضاء والقدر في الكتاب والسنّة

القضاءُ والقدرُ من العقائد الإسلامية المسلَّمة الّتي وَرَدَت في الكتاب والسُّنة ، وأيَّدَتْها الأدلةُ والبراهينُ العقليّةُ القاطعةُ.

إنّ الآيات التي تَتَحدَّثُ عن «القضاء والقدر» كثيرة جداً ونحن نأتي بنماذج منها هنا :

يقول القرآن حول القدر : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (١).

ويقول أيضاً : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (٢).

كما يقول حول القضاء : (وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٣).

ويقول أيضاً : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً) (٤).

__________________

(١). القمر / ٤٩.

(٢). الحجر / ٢١.

(٣). البقرة / ١١٧.

(٤). الأنعام / ٢.

١٠١

وَبالنَظَر إلى هذه الآيات والروايات العديدة في هذا الصعيد لا يُمكنُ لمسلم أن يُنكر «القضاءَ والقدرَ» وإنْ لَم يجب الإلمامُ بتفاصِيل هذه المسألة ومعرفةُ جزئياتِها.

وأساساً لا يَصْلُح الخَوضُ في هذه المسائل الدقيقة لمن لم يمتلك القابلية الذهنيّة والفكرية اللازمة لمثل هذه الحقائق الدقيقة ، إذ طالما يمكن أن يتورّط مثل هذا في شكٍّ أو تردّد في عقيدته ، ويقعَ في الضلال في نهاية المطاف.

ولهذا قال الإمام علي عليه‌السلام مخاطباً هذا الفريق من الناس :

«طَريقٌ مُظْلمٌ فَلا تَسْلكوهُ ، وبَحرٌ عَميق فَلا تَلِجُوهُ ، وسِرُّ الله فلا تَتكَلَّفوه» (١).

نعم تحذير الإمام عليه‌السلام هذا مُوَجّه إلى مَن لا يمكنه فهمُ هذه المعارف الدقيقة ، وهضمها واستيعابها ، بل وربّما يُؤدّي به الدخول فيها إلى الضلال والانحراف.

ويشهد بهذا الموضوع أنّه عليه‌السلام طالَما عَمَد ـ في موارد ومواضع أُخرى ـ إلى شرح وبَيان مسألة القضاء والقدر (٢).

ولهذا فإنّنا نشرح هذه المسألة في حدود معرفتنا مستعينين بالآيات والروايات والعقل.

__________________

(١). نهج البلاغة ، الكلمات القصار / ٢٨٧.

(٢). أُصول الكافي ج ١ ، ص ١٥٨.

١٠٢

الأصلُ التاسعُ والأربعون : معنى القدر والقضاء

«القَدَر» في اللُّغة يعني المقدار ، والقضاء يعني الحَتم والجَزم.

يقول الإمامُ الرّضا عليه‌السلام في تفسيره للقدر والقضاء : «القَدَرُ هي الهَنْدَسَة ، وَوَضْعُ الحُدود من البقاء ، والفَناء.

والقضاء هو الإبرامُ ، وإقامة العَيْن» (١).

والآن وَبعد أن اتَّضَحَ معنى الْقَدر والقضاء من حيث اللُّغة ، نَعْمَدُ إلى بيان معناهما حسب المصطلَح الديني.

ألف : القَدَر

إنَّ لِوُجود كلّ مخلوقٍ من المخلوقات بحكم كونه من الموجودات الممكنة (أي موصوفاً بصفة الإمكان) حَدّاً معيناً ، ومقداراً خاصّاً.

فلوجود «الجماد» مثلاً حدّ خاص ، ومقدار معيّن ، ولوجود «النبات» و «الحيوان» مقدار وحَد آخر.

وحيث إنّ الوجود المقدَّر لكلّ شيء هو بدوره مخلوق لله تعالى ، لذا فإنّ من الطبيعي أن يكونَ التقديرُ والتحديدُ نفسه تقديراً إلهياً.

كما أنّ هذا التقديرَ من جهة كونه فِعلَ الله يسمّى «التقدير الفِعلي» ومن جهة كون الله يعلم به قبل خَلْقه يُسمّى «التقدير العِلميّ».

__________________

(١). أُصول الكافي ج ١ ، ص ١٥٨.

١٠٣

وفي الحقيقة إن الاعتقاد بالقَدَر ، اعتقادٌ بخالقية الله بلحاظ خصوصيات الأشياء.

وحيث إنّ هذا التقدير الفعليّ مُستندٌ إلى علم الله الأزليّ ، لهذا فإنَّ الاعتقاد بالقَدَر العِلميّ يكون في حقيقته اعتقاداً بعلمِ الله الأزلي.

ب : تفسير القضاء

إنّ «القضاء» كما أسلفنا يعني الحَتمَ والجَزمَ بوجود الشيء ، ومن المُسلَّم أنّ حتمية وجود أيّ شيء وتحقّقه على أساس العليّة والمعلولية رهن تحقّق علّته التامّة ، وحيث إنّ سلسلة العلل والمعلولات (وبالأحرى النظام العِلّي) تنتهي إلى الله تعالى ، لهذا فإنّ حتمية تحقّق أيّ شيءٍ يستند ـ في الحقيقة ـ إلى قدرةِ الله ومشيئته سبحانه.

وهذا هو قضاءُ الله في مقامِ الفعل والخَلق.

وعلمُ اللهِ الأزَليّ في مجال هذه الحتميّة يكون قضاءَ الله الذاتيّ.

كلُّ ما سَلَف يرتبط بقضاءِ الله وقَدَره التكوينيين ، فعليّاً كان أم ذاتياً ، وقد يكونُ «القضاء والقدر» مرتبطين بعالم التشريع ومجاله ، بمعنى أنّ أصلَ التشريع ، والتكليف الإلهيّ يكون قضاءَ الله ، وكذا تكون كيفيته وخصوصيّته كالوجوب ، والحرمة ، وغير ذلك تقديراً تشريعياً لله تعالى.

وقد ذكّر الإمامُ أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب عليه‌السلام في جواب من سَأَل عن حقيقة القضاء بهذه المرحلة من «القضاء والقدر» إذ قال :

١٠٤

«الأَمرُ بالطاعَة ، والنَّهْيُ عَنِ المعصِيَةِ ، والتَمْكِينُ مِن فِعْلِ الْحَسَنَةِ ، وتركُ المَعْصِيَة ، والمعُونَةُ على القُرْبةِ إلَيْه ، والخِذْلانُ لِمَنْ عصاهُ ، والوَعْدُ والوَعِيدُ ، والتَرْغِيْب والتَرْهِيْبُ كُلُّ ذلكَ قضاءُ الله في أفعالنا وقَدَرُهُ لأعمالنا» (١).

هذا ولعل اقتصار الإمامِ أمير المؤمنين عليه‌السلام ـ في الإجابةِ على سؤال السائل ـ على شرحِ «القضاء والقَدَر» التشريعيين ، كان رعايةً لحال السائل ، أو الحاضرين في ذلك المجلس ، لأنّه كان يُستنبطُ مِنَ القضاء والقدر التكوينيين وشمولهما لأفعال الإنسان في ذلك اليوم الجَبْرُ وسلبُ الاختيار.

ولهذا ختم الإمام عليه‌السلام كلامه المذكور بقوله : «أمّا غير ذلك فلا تَظُنَّهُ فَإِنَّ الظّنَّ لَهُ مُحْبِطٌ لِلأَعمال».

والمقصود هو أنَّ قيمةَ الأعمال تنبُعُ من كونِ الإنسانِ مختاراً يأتي بأفعاله باختيارٍ وإرادةٍ منه ، ومع فَرضِ الجَبْرِ لا تبقى للأَفعالِ أيَّةُ قيمةٍ.

والحاصلُ أنّ «القَضاء والقدر» قَد يكونان في مجال التكوين ، وقد يكونان في مجال التشريع.

ولكلٍّ من القِسْمَيْن مرحلتان :

١ ـ الذاتي (/ العِلمي).

٢ ـ الفِعلي.

__________________

(١). بحار الأنوار : ٥ / ٩٦ ، الحديث ٢٠.

١٠٥

الأصل الخَمْسُون : لا تنافي بين القضاء والقدر والاختيار

إنّ «القَضاء والقَدَر» في مجال أفعال الإنسان لا ينافيان اختياره ، وما يوصف به من حرّية الإرادة قط ، لأنَّ التقديرَ الإلهيَّ في مجال الإنسان هو فاعليّتُهُ الخاصّة وهو كونه فاعلاً مختاراً مريداً ، وأن يكون فعلُهُ وتركُهُ لأيّ عَمَلٍ تحت اختياره وبإرادته.

إنّ القضاء الإلهي في مجال فعلِ الإنسان هو حتميَّتُهُ وتحقُّقهُ القطعيُّ بعد اختيار الإنسان له بإرادته.

وبعبارةٍ أُخرى ؛ إنّ خلْقَةَ الإنْسان مجبولةٌ على الاختيار ، ومزيجةٌ بحرّية الإرادة ومقدّرة بذلك ، وإنّ القضاءَ الإلهيَّ ليس إلّا هذا ، وهو أنَّ الإنسان متى ما أوْجَدَ أسباب وقوعِ فِعْلٍ ما تمَّ التنفيذ الإلهيّ من هذا الطريق.

إنّ بعض الأَشخاص يَعتَبر كونه عاصياً ، ظاهرة ناشئةً من التقدير الإلهيّ ، ويتصوَّر أنّه لا يقدر على اختيار طريق آخر غير ما يسلكهُ ، في حين يَرفُضُ العقلُ والوحيُ هذا التصوّرَ لأنّ العقلَ يقضي بأنَّ الإنسانَ هو الّذي يختار بنفسِهِ مصيرَه وهو كذلك في نظر الشرع أيضاً ، أي إنّه حَسْب نظرِ الوَحْيِ يقْدِر انْ يكون إنساناً شاكِراً صالحاً ، أو كافراً طالِحاً.

(إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) (١).

__________________

(١). الإنسان / ٣.

١٠٦

وفي عصر الرّسالة كان ثمّت فريق من الوثنيّين يتصوّرون أنّ ضلالَهم ناشئٌ من المَشيئة الإلهية. وكانوا يقولون : لَوْ لَمْ يُرِدِ اللهُ أن نكَون مشركين لما كنا مشركين.

إنّ القرآن الكريم يروي منطِقَهم وتصوُّرَهم هذا بقوله : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ) (١).

ثمّ يقول في معرض الردّ عليهم : (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا).

وفي الختام نُذَكّر بأنّ سُنَنَ الله الكليّة في عالم الخلق والتي تؤدّي إلى سعادةِ الإنسانِ تارةً ، وإلى شقائه وخُسرانهِ تارة أُخرى ، هي من مظاهر «القضاء والقَدَر» الإلهيّين ، وأنّ البشر هو الّذي يختار أحد هذين بنفسه.

وقد مرّت الإشارَةُ إلى أُمورٍ في هذا المجال في الأبحاث السابقة المتعلّقة بالإنسان وموقِعِهِ في نظرةِ الإسلام إلى الحياة.

__________________

(١). الأنعام / ١٤٨.

١٠٧

الإنسانُ والاختيار

الأصلُ الواحدُ والخمسون : الاختيار حقيقة مسلّمة

إنّ اختيار الإنسان ، وحريّة إرادته ، حقيقة مسلّمةٌ وواضحةٌ ، وفي مقدور كلّ أحَدٍ أن يُدركَه ، ويقف عليه من طُرُقٍ مختلِفةٍ نشير إليها فيما يأتي :

ألف : إنّ وجدان كُلّ شخص يشهَد بأنّه قادرٌ ـ في قراراته ـ على أن يختارَ أحدَ الطرفين : الفعلَ أو التركَ ، ولو أنّ أحداً تردّد في هذا الإدراك البديهي وجب أن لا يقبل أيَّة حقيقةٍ بديهيةٍ أيضاً.

ب : إنَّ المدحَ والقدحَ للأشخاص المختلفين في كلّ المجتمعات البشرية الدينيّة وغير الدينيّة ، علامةٌ على أَن المادحَ أو القادحَ اعتبر الممدوح ، أو المقدوحَ فيه ، مختاراً في فعلهِ ، وإلّا لَما كانَ المدحُ والقدح منطقياً ، ولا مُبرَّراً.

ج : إذا تَجاهَلنا اختيارَ الإنسان وحرّية إرادته ، كان التشريعُ أمْراً لَغواً وغيرَ مفيد أيضاً ، لأنّ الإنسانَ إذا كان مضطراً على سلوك دون اختياره ، بحيث لا يمكنه تجاوزه ، والخروجَ عنه ، لم يكن للأمرِ والنهي والوَعد

١٠٨

والوعيد ، ولا الثواب والعقاب أيُّ مَعنى.

د : نَحنُ نرى طوالَ التاريخ البشري أشخاصاً أقدَموا على إصلاح الفردِ ، أو المجتمع البشري وبذَلوا جهوداً في هذا السبيل فَحَصَلُوا على نتائجها وثمارها.

إنّ مِنَ البَدِيهي أنّ تحقّق هذه النتائج لا يتناسب مع كون الإنسان مجبوراً ، لأنّه مع هذا الفَرض تكونُ كلّ تلك الجهود لاغيةً وغيرَ منتجة.

إنَّ هذه الشواهدَ الأربعةَ تؤكّدُ مبدأَ الاختيار ، وحرية الإرادة ، وتجعله حقيقة لا تقبل الشك والترديد.

على أنّنا يجب أن لا نستنتج من مبدأ حرية الإنسان وكونه مختاراً أن الإنسان متروكٌ لحالهِ ، وأن إرادته مطلقةُ العنان ، وأنّه ليس لله أيّ تأثيرٍ في فعله ، لأنّ مثل هذه العقيدة التي تعني التفويض تنافي أصل احتياج الإنسان الدائم إلى الله ، كما أنّ ذلك يحدّد دائرةَ القُدرة والخالقية الإلهيّتين ، ويقيّدهما ، بل حقيقة الأمر هي على النحو الذي سيأتي بيانهُ في الأصل التالي.

الأصلُ الثاني والخَمسون : لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين

بعد وَفاة النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طُرحَت مسائل خاصّة في المجتمع الإسلامي منها مسألة كيفية صدورِ الفِعل من الإنسان.

فقد ذَهَبَ فريق إلى اختيار عقيدةِ الجبر ، وقالوا بأنَّ الإنسان فاعلٌ مجبور ، مسيَّر.

١٠٩

وفي المقابل ذَهَبَ فريقٌ آخر إلى اختيار نظرية مخالفة ، وقالوا إنّ الإنسانَ كائن متروكٌ لحاله ، مفوّضٌ إليه ، وأنّ أفعاله لا تستند إلى الله مطلقاً.

إنّ كلا الفريقين تصوّرا ـ في الحقيقة ـ أنّ الفِعل إمّا أنّه يجب أن يستند إلى الإنسان ، أو يستند إلى الله ، أي إمّا أن تكون القدرة البشرية لوحدها هي المؤثرة ، وإمّا أن تكون القدرةُ الإلهيّة هي المؤثّرةُ ، ليس إلّا.

في حين هناك طريق ثالث أرشدنا إليه الأئمة المعصومون.

يقول الإمامُ جعفر الصادق عليه‌السلام : «لا جَبْرَ ولا تفويضَ ، ولكن أمرٌ بَين الأمرين» (١).

يعني أنّ فعل الإنسان في حال كونه مستنداً إلى العبد ، مستند إلى الله أيضاً ، لأنّ الفعلَ صادرٌ مِن الفاعل ، وفي نفس الوقت يكون الفاعلُ وقدرتهُ مخلوقين لله ، فكيف يمكن أن ينقطع عن الله تعالى؟

إنّ طريقة أهل البيت عليهم‌السلام في بيان حقيقة الفعل البشريّ تتطابق تماماً مع ما جاء في القرآن الكريم.

فإنّ هذا الكتاب السماوي ربّما نَسَب فِعلاً ـ مع نِسبَتِه وإسناده إلى فاعله إلى الله تعالى أيضاً ، يعني أنه يقبل كِلا الإسنادين وكلتا النِّسبتين ، إذ يقول : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) (٢).

والمراد هو أنّ النبيَّ الأكرمَ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ما قام بفعل لم يفعَلْه بنفسه ، بل فَعَله بالقُدرةِ الإلهيّة ، وعلى هذا الأساس تصحّ كلتا النسبتين.

__________________

(١). التوحيد للصدوق : الباب ٥٩ الحديث ٨.

(٢). الانفال / ١٧.

١١٠

الأَصلُ الثالثُ والخمسون : لا تنافي بين علم الله الأزلي وحرية الإنسان

نحن مع اعتقادنا باختيار الإنسان ، وحريّة إرادته ، نعتقد انّ اللهَ كان عالماً بفعلنا من الأوّل ، ولا منافاة بين العقيدتين ، فإنّ على الذين لا يمكنُهم الجمعُ بين هذين الاعتقادين أنّ يعلموا بأنَّ عِلم الله الأزليّ تعلَّقَ بصُدُور الفِعلِ مِن الإنسانِ على نحو الاختيار ، ومِن الطبيعيّ أن لا يتَنافى مِثلُ هذا العلم مع حريّة الإنسان وكونهِ مختاراً.

وبعبارةٍ أُخرى ؛ إنّ العلم الإلهيّ كما تعلّق بأصلِ صُدُور الفِعل مِنَ الإنسان تعلّق كذلك بِكيفيّة صُدُور الفِعل عنه (وهو اختيار الإنسان وانتخابه بنفسه).

إنّ مثل هذا العِلم الأَزَليّ ليس فقط لا يتنافى مع اختيار الإنسانِ بل يُثبتُ ذلك ، ويؤكّدُهُ ، لأنّ الفعلَ إذا لم يصدُر من اختيار الإنسانِ لم يكن علمُ اللهِ آنذاك كاشفاً عن الواقع ، لأنّ كاشفيّة العلمِ إنّما تكون إذا تحقّقت على النحو الّذي تعلّق بالشيء. ومن الطبيعيّ انّ العلمَ الإلهيّ تعلّق بصدورِ الفِعل البشريِّ على النحو الاختياريّ ، يعني أن يقوم الإنسانُ بهذا العَمَل بصورةٍ حرّة وباختياره وإرادته ، ففي هذه الصورة يجب أن يقع الفعل ويتحقّق بهذه الخصوصية ، لا على نحو الجبر والاضطرار.

مِن هذا البَيان اتّضَحَ عدمُ تنافي إرادة اللهِ الأزليّة مع اختيار الإنسان ، وكونه حرّاً في إرادته.

١١١
١١٢

كليات في العقيدة

٤

الفصل الخامس

النبوة العامة

١١٣
١١٤

الأدِلَّة على ضرورةِ النُّبوّةِ

الأصلُ الرابعُ والخَمسون : بعث الرسل للهداية والإرشاد

لقد اختار اللهُ الحكيم رجالاً صالحين لهدايةِ البَشَرِ وإرشادِهم ، وحمّلهم رسالته إلى جميع أفراد النوع الإنساني ، وهؤلاء الرجال هُمُ الأنبياء والرسل الذين بواسطتهم جَرى فيضُ الهداية من جانب الحق تعالى إلى عباده.

وهذا الفيضُ المبارك بدأ بالنزول من جانب الله منذ أن تهيّأ البشرُ للاستفادة منه وإلى عصر النبي الأكرمِ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ويجب أن نعلم بأنَّ دين كلّ نبيٍّ من الأنبياء يُعدّ بالنسبة إلى عصره وأُمّته أكملَ دين ، وأتَمَّ شريعة ، ولو أنّ هذا الفيض الرباني لم يستمرّ لما بلغ البشرُ إلى حدِّ الكمال.

وحيث إنّ خَلقَ الإنسان هو من فعل الله «الحكيم» فلا بدّ أن يكون له من هَدَف وغرض ، ونظراً إلى أن تركيب الكيان البشري ـ مضافاً إلى الغرائز التي هي مشتركة بينه وبين الحيوان ـ ينطوي على العَقل أيضاً ، لهذا لا بُدّ أنْ يكونَ لِخَلقه غرض عُقلائي ، وهَدَفٌ مَعْقولٌ.

١١٥

ومن جانب آخر ، فإنّ عَقل الإنسان ، وإنْ كان مؤثِّراً ومفيداً في سلوكه طريقَ الكمال ، إلا أنّه غيرُ كاف لذلك.

ولو اكتُفيَ في هداية الإنسان بالعقل وحده لما عَرفَ الإنسان طريقَ الكمال بشكل كامل قط ، ونذكر للمثال مسألة الوقوف على قضايا المبدأ والمعاد التي هي من أَهم مسائل الفكر البشري ، وقضاياه على مدار التاريخ.

فإنّ البشر يريد أن يَعْلَم من أين جاء؟ ولما ذا جاءَ؟ وإلى أين يذهب؟ ولكنّ العقلَ لا يقدر وحدَه على إعطاء الإجابات الصحيحة الكافية على كلّ هذه الأسئلة ، ويشهد بذلك أنّه رغم كل ما أحرزته البشرية المعاصرة من التقدّم والرقيّ في ميادين العلم لا يزالُ قِسمٌ عظيمٌ من البشريّة وثنيّين.

إنّ عجز العَقل والعلم البشريَّين ، وقصورهما لا ينحصر في مجال قضايا المبدأ والمعاد ، بل الإنسان لم يتمكّن من أن يختار الطريقَ الصحيحَ في كثير من مجالات الحياة أيضاً.

إنّ اختلاف الرؤى والنظريات البشريّة في قضايا الاقتصاد ، والأخلاق ، والعائلة ، وغير ذلك من مناحي الحياة ومجالاتها ، خير دليل على قصوره عن الإدراك الصحيح لهذه المسائل ، ولهذا ظهرت المدارس المتعارضة.

مع أخذ كلّ هذا بنظر الاعتبار يحكم العقلُ الصحيحُ بأنّه لا بدّ ـ بمقتضى الحكمة الإلهيّة ـ من بعث وإرسال قادة ربانيّين ، ومربّين إلهيّين ،

١١٦

لِيعلِّمِوا البَشريّة النهجَ الصحيحَ للحياة.

إنَّ الّذين يَتصوَّرون أنّ في مقدور «الهدايات العقليّة» أنّ تحلَّ محلّ «الهدايات الإلهيّة السّماويّة» يجب أن يدركوا أمرين :

١ ـ إنّ العَقل والعلم البشريّين قاصران عن المعرفة الكاملة بالإنسان ، وبمسيره في صعيد الماضي والمستقبل ، في حين يعلم خالقُ البشر ـ بحكم كون كلّ صانع عارفاً بمصنوعه ـ بالإنسان ، ومحيطٌ بأبعاده ، وأسرار وجوده ، إحاطةً كاملةً.

٢ ـ إنّ الإنسان بمقتضى غريزة حبّ الذات المودَعة في كيانه ، يحاول ـ عِلماً أو جهلاً ـ أن يُتابعَ منافِعَه الشخصيّة ويهتمّ بها ، فيعجز ـ في تخطيطه وبرمجته ـ عن الخروج من دائرة منافعه الفرديّة أو الجماعية بشكلٍ كاملٍ.

ولهذا من الطبيعي أن لا تتسم البرامج البشرية بالجامعيّة والشموليّة الكاملة ، ولكن برامج الأنبياء والمرسلين لكونها من جانب الله العالم ، المحيط ، الحق ، المنزّه ، مبرّأةٌ عن مِثل هذه النقيصة.

وبملاحظة هاتين النقطتين يمكن القولُ ـ على وَجه القطع واليقين ـ : بأنّ البشر ليس في غنىً قط عن الهدايات الإلهيّة ، وعن برامج الأنبياء ، لا في الماضي ، ولا في المستقبل إنما هو في حاجةٍ مستمرةٍ إليها.

١١٧

القرآنُ وأهداف النبوّة

الأصلُ الخامسُ والخمسون : الهدف من بعثة الأنبياء تقوية الأُسس التوحيدية

في الأصل السابق تعرّفنا على الأَدلّة الّتي تثبت من طريق العقل ضرورةَ النبوّة ، ووُجوب إرسال الرسل الإلهيّين.

والآن ندرس ضرورة إرسال الرسل في ضوء أهدافها المذكورة في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة وإن كانت النظرةُ القرآنيّة إلى هذه المسألة هي نوع من التحليل العقليّ في حقيقته.

إنّ القرآن يُلَخّص أهدافَ بعثة الأنبياء في الأُمور التالية :

١ ـ تقوية أُسُسِ التوحيد ومكافحة كلّ نوع من أنواع الانحراف في هذا الصعيد ، كما يقول القرآن : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (١).

يقول الإمام أمير المؤمنين عليٌ عليه‌السلام حول الهدف من بعث الأنبياء :

«ليعلم العبادُ ربّهم إذ جهلوه ، وليقرّوا به بعد إذ جحدوه ، وليثبتوه

__________________

(١). النحل / ٣٦.

١١٨

بعد إذ أنكروه» (١).

٢ ـ إيقاف الناس على المَعارف والرسالات الإلهيّة وعلى طريق التزكية والتهذيب كما يقول : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) (٢).

٣ ـ إقامة القِسط في المجتمعِ البشريّ ، كما يقول : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (٣).

ومن المُسلَّم أن إقامة القِسط رهنُ معرفة الناس للعدالة في جميع الأبعاد والمجالات ، كما ويتوقف على أن يقوموا بتحقيق ذلك من طريق الحكومة الإلهيّة.

٤ ـ الفَصل في الخُصُومات وحَلّ الخلافات ، كما يقول : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) (٤).

ومن البديهي أنّ اختلافات الناس لا تنحصر في مجال العقائد ، بل تشمل شتّى مجالات الحياة المتنوعة.

٥ ـ إتمام الحجّة على العباد كما يقول : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (٥).

__________________

(١). نهج البلاغة ، الخطبة ١٤٧.

(٢). الجمعة / ٢.

(٣). الحديد / ٢٥.

(٤). البقرة / ٢١٣.

(٥). النساء / ١٦٥.

١١٩

ومن المسلَّم أن لله تعالى في خلق الإنسان هدفاً وغرضاً ، وهذا الهدف إنّما يتحقّق عن طريق تنظيم برنامجٍ كامِلٍ لجميع شئون البشر.

وهذا البرنامج يجب أن يصل إلى البشرية ، بحيث تَتِمُّ حُجّةُ الله على الناس ولا يبقى عذرٌ لأَحدٍ ليقول : أنا لم أعرفِ البرنامجَ الصحيح للحياة.

١٢٠