أدوار علم الفقه وأطواره

الشيخ علي كاشف الغطاء

أدوار علم الفقه وأطواره

المؤلف:

الشيخ علي كاشف الغطاء


الموضوع : الفقه
الناشر: دار الزهراء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٦

علي ولذا كان الشيعة في هذا الدور يرجعون لأمير المؤمنين علي عليه‌السلام وأولاده الإمام الحسن عليه‌السلام والإمام الحسين عليه‌السلام وأمهم فاطمة الزهراء عليها‌السلام والصحابة العدول الثقات كسلمان والمقداد وأبي ذر ونحوهم في معرفة أحكامهم الشرعية لاعتقادهم بعصمته عليه‌السلام وعصمة أولاده الأحد عشر وانهم عندهم علم ما كان ويكون حتى ارش الخدش ولحصول الوثوق بالصحابة العدول.

شروط قبول الخبر الواحد عند الخلفاء

وينقل ان أبا بكر لم يقبل الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا إذا جاء بشاهد على صدقه وأن عمر كان يطلب البينة ممن روى له الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأن علياً عليه‌السلام يحلف الراوي على انه سمع الحديث من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

رجوع الشيعة للأئمة هو رجوع للسنة النبوية

هذا ولا يخفى أن الرجوع للأئمة عليهم‌السلام عند الشيعة من الرجوع للسنة النبوية لقول الصادق عليه‌السلام كما في الشافي وفي أصول الكافي في كتاب فضل العلم ص ١٠٣ ان حديثي حديث أبي وحديث أبي حديث جدي وحديث جدي حديث الحسين وحديث الحسين حديث الحسن وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله وحديث

٤١

رسول الله قول الله وقد ذكرنا في كتابنا باب مدينة الفقه في مبحث واضع الفقه ان عند الإمام علي عليه‌السلام الجامعة سبعون ذراعاً كلها من املاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبخط الإمام علي عليه‌السلام وفيها حتى ارش الخدش وقد ذكرناه أيضاً في مبحث إيداع الرسول لبيان بعض الأحكام للأئمة الأطهار عليهم‌السلام ويرشدك إلى أن الرجوع إليهم عليهم‌السلام رجوع للسنة النبوية ، ان فقهاء الشيعة عند ما تجيء الرواية عن الأئمة عليهم‌السلام إذ قال فيها الإمام عليه‌السلام (وأنا اصنع كذا) لم يتبعوه في عمله وإنما يحملون ذلك على الاستحباب والأولوية كما انهم يعملون بالإخبار النبوية وان كانت مروية من غير طرق أصحابهم إذا كان رواتها موثوقين أو حصل لهم الثقة بصدورها من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكتب الشيعة مشحونة بذلك.

وفي الدور الثاني وقع الاختلاف بين الصحابة في عدة أشياء.

الاختلاف في تدوين الحديث

منها الاختلاف في تدوين السنة فكان علي وابنه الحسن عليهما‌السلام مما يرى كتابتها كما نص على ذلك السيوطي في تدريب الراوي ، وعن ابن شهرآشوب انه قال : أول من صنف في الإسلام علي عليه‌السلام ثمّ سلمان الفارسي ثمّ أبو ذر ،

٤٢

ونقل الكثير من الفريقين ان عليَّ ابن أبي طالب عليه‌السلام كتب الجامعة من املاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكانت تبلغ سبعين ذراعاً وكتب العهد لمالك الاشتر والوصية لابنه محمد بن الحنفية. وهذا أبو رافع المولى لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والذي اهداه له العباس بن عبد المطلب وسماه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إبراهيم وكان ملازماً للإمام علي عليه‌السلام وخرج معه إلى الجمل وهو ابن خمس وثمانين سنة وقيم الإمام علي عليه‌السلام على بيت ماله في الكوفة وكان يقول بايعت البيعتين وصليت القبلتين وهاجرت الهجر الثلاث فقيل وما الهجر الثلاث فقال الأولى إلى الحبشة والثانية المدينة وهذه الثالثة الكوفة مع أمير المؤمنين ، قد كتب السنن والأحكام والقضايا وكان ولداه عبيد الله وعلي كاتبي أمير المؤمنين علي عليه‌السلام وقد كتب الأول منهما كتاباً في الوضوء والصلاة وسائر الأبواب وكتب الثاني منهما كتاباً في فنون الفقه والوضوء والصلاة وسائر الأبواب وكان أهل البيت يعظمون كتاب علي بن أبي رافع ويطلبون من شيعتهم الرجوع إليه ، وكان لسلمان مدونة في الحديث ، وألف الأصبغ بن نباتة كتابين : مقتل الحسين وعجائب أحكام أمير المؤمنين علي عليه‌السلام وألف قيس بن سليم كتابه في الإمامة وألف ميثم صاحب أمير المؤمنين كتاباً في الحديث يروي عنه الكثير من المحدثين وغيرهم من المؤلفين وكان عمر بن الخطاب ممن يمنع من

٤٣

كتابة الحديث وتدوينه وقد سبب ذلك ضياع اعظم ثروة علمية والتفريط بأعظم مرجع بعد القرآن الكريم ويا حبذا لو أمر بجمع الأحاديث مع التحفظ على صحتها كما صنع الخليفة الأول في جمع القرآن الكريم لما استطاع أهل الاغراض الافتراء والكذب والدس في السنة كما لم يستطيعوا ذلك في القرآن الكريم.

الاختلاف في خروج الفقهاء من المدينة

ومنها الاختلاف في خروج الفقهاء من المدينة فان عمر كان يمنع خروج الفقهاء لسائر الأمصار إلا ما أخرجه للقيام بالوظيفة كالولاية والقضاء وقيادة الجيوش بخلاف الإمام علي عليه‌السلام.

الاختلاف في الرجوع إلى الرأي

ومنها الاختلاف في الرجوع إلى الرأي فكان الإمام علي عليه‌السلام يمنع منه ويقول لو كان الدين بالرأي لكان اسفل القدم أولى بالمسح كما في المحلى لابن حزم وكان على ذلك طريقة الأئمة الأحد عشر من بعده حتى قال الإمام جعفر الصادق لا بأن بن تغلب المتوفي سنة ١٤١ ه‍ أخذتني بالقياس والسنة إذا قيست محق الدين وكان اكثر أهل الحجاز على هذه الطريقة

٤٤

ويؤكد صحتها قوله تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) فان الرجوع إلى الرأي في المسألة معناه أما الإهمال للدين فيها أو الالتزام بنقصان الدين وعدم كماله بالنسبة إليها ، وفي جامع بيان العلم ج ٢ ص ٧٦ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اعظم فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور بآرائهم فيحللون الحرام ويحرمون الحلال.

مدرسة أهل الحديث ومدرسة أهل الرأي

وكانت هذه الطريقة اعني المنع من الأخذ بالرأي هي التي اتبعتها مدرسة أهل الحديث وتسمى بمدرسة المدينة وبمدرسة الحجاز وكان ممن أخذ بهذه الطريقة سعيد بن المسيب المتوفي سنة ٩٣ ه‍ وتلقى منه هذه الطريقة الكثير من فقهاء الحجاز وغيرهم.

من أخذ هذه الطريقة وحرم الإفتاء بالرأي

وممن أخذ بهذه النزعة سالم بن عمر فانه كان يرفض الإفتاء بالرأي فإذا سئل عن حكم واقعة لم يسمع فيها شيئاً قال لا ادري لعلي إذا افتيت لك برأي ثمّ تذهب فأرى بعد ذلك رأياً غيره فلا أجدك فما ذا يكون مصيري ، وممن اتبع هذه المدرسة زيد بن ثابت ، ولم تكن مدرسة الحديث اعني

٤٥

من اتخذ هذه الطريقة هم خصوص فقهاء الحجاز بل الكثير منهم من أقطار أخرى كعامر الشعبي التابعي فانه من فقهاء الكوفة ، وسفيان الثوري من تابع التابعين أحد أعلام الكوفة في الفقه ، ويزيد بن حبيب المعري ، والاوزاعي الشامي ، وكانوا في طرق استنباطهم للأحكام الشرعية لا يعتمدون إلا على العلم أو العلمي بمعنى ان الحكم الشرعي أما ان يقوم عليه الدليل العقلي الذي يوجب العلم والقطع به كالدليل العقلي على حسن رد الأمانة فان الدليل العقلي المفيد للقطع حجة بنفسه وليست الأحكام الشرعية الفرعية اعظم شأناً من الأحكام الشرعية الاعتقادية والدليل العقلي المفيد للقطع حجة فيها فبالطريق الأولى في الأحكام الشرعية الفرعية ، وأما ان يقوم على الحكم الشرعي الفرعي الدليل الذي قام الدليل القطعي على حجيته كالخبر الصحيح الذي عمل به المشهور فان الدليل المفيد للقطع قام على حجيته وهكذا ظواهر القرآن ولذا لم يعتبروا القياس والاستحسان لكونها أدلة لا تفيد القطع بالحكم ولم يقم دليل يفيد القطع بحجيتها ، وينسب لبعضهم بأن مدرسة الحديث لم يكتب لها البقاء حيث اختفت بوفاة الإمام الظاهري سنة ٢٧٠ ه‍ ولعله أراد عند بعض طوائف الإسلام وإلا فمدرسة الحديث لا تزال باقية ما بقي الإسلام ، وقد خالف عمر بن الخطاب في ذلك حيث استعمل

٤٦

الرأي بصورة واضحة في استخراج الأحكام الشرعية وهو أول من أمر بالعمل بالقياس وبذر بذرته ففي كتابه لأبي موسى الاشعري (اعرف الأشياء والأمثال وقس الأمور في ذلك على نظائرها) وكانت طريقته هي التي اتبعتها مدرسة أهل الرأي في العراق وتسمى بمدرسة الكوفة حيث قد تأثر اكثر أهل العراق بفقه ابن مسعود في الكوفة ، وابن مسعود يسير على طريقة عمر ، فكانوا لا يحجمون عن الفتوى برأيهم فيما لم يجدوا نصاً بل يتبعون في فتواهم العلل التي يستخرجونها من النصوص وان خالفت ظواهر النصوص ويبنون الأحكام على العلل وان خالفت ظواهر الأدلة فمدرسة الرأي تعتمد على الأدلة التي تفيد الظن وان لم يقم الدليل القطعي على حجيتها فاعتمدوا على مثل القياس والاستحسانات مع انه لم يقم الدليل القطعي على حجيتها ، ولم تكن مدرسة الرأي اعني من اتخذ هذه الطريقة هم خصوص فقهاء أهل الكوفة بل الكثير منهم من أقطار أخرى ، فان في المدينة نفسها كان ربيعة بن عبد الرحمن المتوفي سنة ١٣٦ أحد كبار التابعين من أهل هذه المدرسة ولذا سمي بربيعة الرأي.

نواة مدرسة الرأي ومدرسة الحديث

والحاصل ان هذا الاختلاف في معرفة الحكم الشرعي

٤٧

كان نواة وبذرة لوجود مدرستين للفقهاء عرفتا فيما بعد باسم مدرسة الحديث ومدرسة الرأي ، وكان اكثر المذاهب عملاً بالقياس الحنفية ولذا صار عندهم دليلا مستقلا في مقابل الرأي وخصوا اسم الرأي بحكم العقل من غير طريق القياس.

انتشار الفقهاء في أوائل خلافة عثمان

وفي هذا الدور عند أوائل خلافة عثمان انتشر الفقهاء في الأمصار الإسلامية واخذ أهل كل قطر يأخذون ممن نزل عليه من الصحابة الفتوى والرواية والعلم والمعرفة بعد أن كان عمر بن الخطاب لا يمكنهم من الخروج من المدينة المنورة إلا للقيام بالاعمال التي تخص الخلافة ، فخرج عبد الله بن عباس لمكة المكرمة وتوفي بالطائف سنة ٦٨ ه‍. وخرج للكوفة علقمة بن قيس النخعي المتوفي سنة ٦٢ ه‍ وسعيد بن جبير الذي قتله الحجاج سنة ٩٥ ه‍ وإبراهيم ابن يزيد النخعي المتوفي سنة ٩٦ ه‍ وخرج لمصر عبد الله بن عمر بن العاص الذي كان يلوم أباه على القيام في الفتنة. وخرج انس بن مالك للبصرة المتوفي سنة ٩٣ ه‍. وبقي في المدينة المنورة جماعة منهم الإمام علي عليه‌السلام وزيد بن ثابت الذي كان عثمانياً ولم يشهد مع الإمام علي عليه‌السلام حروبه والمتوفي سنة ٤٥ ه‍ وعبد الله بن عمر بن الخطاب الذي ندم على تركه القتال

٤٨

لخصوم علي عليه‌السلام ولحروبه والمتوفي سنة ٧٣ ه‍ وسعيد بن المسيب التابعي المتوفي سنة ٩٤ ه‍ ولقد كان بين سعيد وبين عكرمة مولى ابن عباس منافرة فكان يكذب عكرمة ، وعكرمة يخطئه في فتواه.

من أعمال عمر في هذا الدور

وفي هذا الدور استقضى عمر بن الخطاب شريحاً المتوفي سنة ٣٧٨ على الكوفة وارسل للكوفة عبد الله بن مسعود الصحابي المتوفي سنة ٣٢ ه‍ معلماً ووزيراً وكان يأخذ أهل الكوفة منه الحديث إلى أن صار بينه وبين عثمان كدورة فاستقدمه للمدينة ومات فيها ، وبعث عبد الرحمن الاشعري لتفقيه الناس ، وهو الذي تفقه على يده التابعون بالشام سنة ٧٨ ه‍ وكان المرجع في كل بلد فتاوى من كان فيه من الصحابة والتابعين.

المرجع في الفتوى في هذا الدور الثاني

وكان المرجع في الفتوى في هذا الدور هم الصحابة والتابعون وكان المرجع في الفتوى عند التحير فيها من الجميع هو الإمام علي عليه‌السلام كما تشهد بذلك السير والتاريخ حتى قال فيه عمر

٤٩

(رض) لو لا علي لهلك عمر ، ولا يفتين أحدكم في المسجد وعلي حاضر.

الأسف على إهمال مثل البخاري لأكثر روايات علي عليه‌السلام

ويؤسفنا جداً أن يكون مثل الإمام علي عليه‌السلام الذي تربى في حجر النبوة وهو اكثر الصحابة مصاحبة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وباب مدينة علمه وفقهه ان تكون روايته وفقهه قليلة في كتب الروايات كالبخاري ومسلم بحيث لا تتناسب مع المدة التي قضاها مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعده.

ما يستوقف الفكر في هذا الدور الثاني

وكيفما كان فالذي يستوقف نظري في هذا المقام أمور :

الأول : اعراضهم عن القرآن الكريم الذي جمعه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فانه لا يعقل ان يكون الرسول قد ترك القرآن بلا جمع مبعثراً في الصدور والعظام واللخاف مع انه الدستور الشرعي لصلاح الأمة وهو خاتمة الأنظمة الإلهية مع ما في ذلك من تعريضه للتلف وللتحريف والتبديل الذي اعابه الله على اليهود والنصارى بالنسبة لتوراتهم وانجيلهم وقد دلت الروايات المتضافرة على انه كان مجموعاً عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في اضبارة

٥٠

خاصة كما في أحكام القران وفتح الباري ومستدرك الحاكم وتاريخ الشام والمحبر لابن حبيب ومسند الطيالسي وفي صحيح البخاري في فضائل القرآن عن أنس بن مالك ان أربعة من الصحابة جمعوا القرآن في زمن حياة رسول الله وهم معاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد واختلفت الرواية عنه في الرابع بين أبي الدرداء وأبي بن كعب وفي إرشاد الساري ما يدل على جمع ابن عمر له في عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليه فما وجه أعراض القوم عن هذا القرآن والتجائهم إلى جمعه من اللخاف والعسب وصدور الرجال.

الثاني : اعراضهم عن القرآن الذي كتبه الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام على نسخة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

الثالث : اعراضهم عن كبار الصحابة وحفظة القرآن في جمعهم للقرآن الكريم كالإمام علي بن أبي طالب. وعبد الله بن عباس. وعبد الله بن عمر. وابن مسعود وغيرهم من حفظة القرآن الكريم.

الرابع : منع الخليفتين أبي بكر وعمر من كتابة السنة وإصرارهما على ذلك مع انه في ذلك حفظها من التحريف والتبديل ومعرفة القوانين الإسلامية على الوجه الأكمل ، ولم يكن سبيل للدس والافتراء من قبل أعداء الإسلام

٥١

وأصحاب الأهواء لقرب العهد بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والخوف من ولاة الأمور كما هو الشأن في القرآن الكريم مع ان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر بالكتابة لأبي شامة اليماني وأجاز لعبد الله بن عمر بن العاص ان يكتب عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحديث كما تقدم وكان عليهم ان يحفظوا السنة بالتدوين كما حفظوا القرآن بالتدوين مع ان في السنة أحكاماً اكثر وشرحاً للقرآن اجدر بل هي المكملة للأحكام التي لم تأت صريحة في القرآن العظيم والمبينة للقوانين التي أجمل بيانها التنزيل الكريم وفيها من الثروة الفقهية ما يعرف بها حتى ارش الخدش وقد دخل على المسلمين من ترك تدوينها بادئ بدء ضرر عظيم أوجب ان يشق عصا وحدتهم واختلاف كلمتهم وانقسام آرائهم ، والقول بأن تدوينها يوقع الخلط بينها وبين القرآن الكريم ناشئ من الجهل ببلاغة القرآن وإعجازها فإنها هي المميزة بين التعبير الإلهي النازل للاعجاز وبين الحديث النبوي الصادر لبيان الأحكام ثمّ ان ذلك لا يوجب المنع وإنما يوجب المحافظة من الاختلاط بينهما ولعل التدوين كان احسن شيء للتفرقة بينهما ولو خشي من الاختلاط.

الخامس : منع الخليفة عمر من خروج الصحابة والفقهاء من المدينة المنورة إلا بإذن خاص منه مع ان في ذلك نشر الأحكام الإسلامية وتفهيمها للمسلمين ، وإذا ضممنا

٥٢

هذين الأمرين الرابع والخامس إلى ما ذكرنا من منع عمر ان يكتب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حال مرضه كتاباً لن يضلوا بعده ابداً ترى انه قد ذهب من ايدينا ثروة علمية عملية كانت تزيل هذا الانشقاق بين صفوف المسلمين في الخلافة الإسلامية وتمنع من انفصام عرى وحدتها في الأحكام الشرعية.

وقت وفاة أبي بكر وعمر وعثمان

وفي هذا الدور توفي أبو بكر سنة ١٣ ه‍ وتوفي عمر ابن الخطاب سنة ٢٣ ه‍ وقتل عثمان بن عفان سنة ٣٥ ه‍.

موقف الإمام علي عليه‌السلام من قتل عثمان

وقد أرسل الإمام علي عليه‌السلام ولديه الإمام الحسن والإمام الحسين عليهما‌السلام لحمايته فكانا على باب داره يحفظانه حتى تسلق القوم على حائط قصره فنزلوا عليه وقتلوه.

٥٣
٥٤

الدور الثالث

٥٥
٥٦

مبدأ الدور الثالث ومنتهاه والعوامل التي أوجبت انشقاق المسلمين

ثمّ يبدأ الدور الثالث من حيث ينتهي الدور الثاني أي من سنة ٣٦ ه‍ إلى خلافة عمر بن عبد العزيز سنة ٩٩ فان في هذا الدور أعلن معاوية الخروج عن طاعة أمير المؤمنين وانشق المسلمون نصفين بعد أن كانوا في الدورين السابقين يداً واحدة يرجع بعضهم لبعض في تفهم المسائل الشرعية وكانت الشيعة متفقة مع السنة لا يجرأ أحدهم على مخالفة الآخر في الظاهر للمحافظة على وحدة الصف وجمع الكلمة والاخوة الدينية الإسلامية ، أما في هذا الدور فقد عصفت بهم ريح عاتية مزقتهم شر ممزق وفرقتهم أيدي سبا بالخروج على خليفة المسلمين الإمام علي أمير المؤمنين عليه‌السلام فأعلن معاوية العصيان وجمع جموعه على خليفة المسلمين وكان ذلك أول

٥٧

حدث في الإسلام شق عرى وحدتهم وفرق ما اجتمع من صفوفهم وأثارها فتنة شعواء ليوم المحشر تقذف علينا بحمم كأنها جمالة صفر غيرت الاتجاهات الروحية وبلبلت الأفكار الدينية وسببت التطاول على مركز الخلافة الإسلامية التي هي رمز الوحدة والاخوة في ذات الله.

وقعة الجمل

وما كانت وقعة الجمل إلا نتيجة لخروج معاوية وإعلانه العصيان ، فان مكة لم تتألب فتخرج على الإمام علي عليه‌السلام إلا بعد أن أعلن معاوية العصيان وتأهب الإمام علي عليه‌السلام للذهاب بجيشه لحرب معاوية.

وقعة النهروان

وحتى وقعة النهروان فإنها كانت نتيجة لإعلان معاوية الحرب للإمام علي عليه‌السلام واستعماله الخدعة في رفع المصاحف.

موقف الأمويين من العلويين والمنكرات التي ارتكبوها

وكان من جراء إعلان الأمويين الحرب على الإمام علي عليه‌السلام أن يوجهوا جهودهم لبسط سلطتهم وسطوتهم مهما كلفهم الأمر وبالغوا في تكوين دولتهم ونفوذ سلطانهم حتى بكشف العورات وإبداء السوءات كما فعل ذلك ابن العاص وبسر بن ارطأة. وسعوا وراء اشباع شهواتهم وتنفيذ أمانيهم ورغباتهم وان تجاوز ذلك الحد وخالف الشرع فسبوا خليفة

٥٨

المسلمين على منابرهم ثمانية وخمسين سنة وسفكوا الدماء الزكية الطاهرة من ذرية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وانتهكوا الحرمات الإلهية واسرفوا بالقتل والفتك في المسلمين والسلب والنهب لحجاج بيت الله المؤمنين فقتلوا عبد الله بن حنظلة وسبعمائة من المهاجرين والأنصار. واغاروا على المدينة المنورة واحرقوا دورها حتى دار أبي أيوب الأنصاري صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ بعد هذا أباحوها للجند ثلاثة أيام يقتلون فيها الناس ويسلبون الأموال ويسبون النساء. ورموا الكعبة بالمنجنيق بعد نصبه على جبل أبي قبيس فاحترق سقفها واستارها. كما رماها الحجاج مرة ثانية في أيامهم وبأمرهم. واتخذوا الخصيان ومنعوا حج بيت الله الحرام. واضطهدوا الفقهاء فجلدوا سعيد بن المسيب المسمى بفقيه الفقهاء وشهروا به في أسواق المدينة ومنعوا الناس من الاجتماع به. واغتالوا محمد بن أبي بكر الفقيه الصالح بالسم. ونكلوا بسعيد بن جبير المقرئ الفقيه المحدث الزاهد التابعي العالم بالتفسير وكان يلقب بجهبذ العلماء ولم يرعوا العبد الصالح حجر بن عدي بقتلهم إياه وهو من أبطال الفتح لنهاوند (وفي الكامل لابن الأثير إن الناس يقولون أول ذل دخل الكوفة موت الحسين بن علي وقتل حجر ودعوة زياد) أي دعوة معاوية لزياد بن سمية بأنه اخوه لأبيه أبي سفيان ، وقتلهم عمرو بن الحمق من أصحاب

٥٩

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان مقرباً عنده وكان رأسه أول رأس طيف به في الإسلام وصلبهم لرشيد الهجري وجويرة العبدي ، وقتلهم ميثم التمار قبل قدوم الحسين للكوفة بعشرة أيام وقتلهم قنبر مولى أمير المؤمنين ، وقتلهم العالم الورع كميل بن زياد. واستلحاق أولاد الزنا بهم كزياد بن أبيه حيث استلحقه معاوية بأبيه مقراً بأخوته له على حين أن الشريعة الإسلامية لا تبيح ذلك ولا ترضاه. قال الحسن البصري (ثلاث كن في معاوية ولو لم يكن إلا واحدة منهن لكانت موبقة انتزاؤه على هذه الأمة بالسفهاء واستلحاقه زياداً وقد قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الولد للفراش وللعاهر الحجر. وقتله لحجر بن عدي وأصحابه فيا ويله من حجر وأصحاب حجر) وبمثل هذا ينسب القول لسعيد بن المسيب حيث نقل عنه انه يقول : قاتل الله معاوية كان أول من غير قضاء الرسول وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الولد للفراش وللعاهر الحجر.

فصل الدولة عن الدين

وقد فصلوا الدولة عن الدين وأصبحت الخلافة أموية دنيوية إرثية لا إسلامية ولا أخروية ولا شوروية وجعلوا الفقه ينفصل عن الحياة العملية تدريجياً ويكون علمياً اكثر منه عملياً مما سبب انفصال الفقهاء عن السلطة وانصرافهم عن الدولة حتى قال (أسيد بن حضير الأنصاري) : لا أقضي

٦٠