أدوار علم الفقه وأطواره

الشيخ علي كاشف الغطاء

أدوار علم الفقه وأطواره

المؤلف:

الشيخ علي كاشف الغطاء


الموضوع : الفقه
الناشر: دار الزهراء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٦

كتابة الأحكام في هذا الدور

وكتبت في هذا الدور الأحكام الشرعية ويسمى ما كتب فيه بالصحائف منها صحيفة أمير المؤمنين علي عليه‌السلام الصحيفة التي ذكرتها كتب الفريقين ومنها ما أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد هجرته للمدينة بكتابته كأحكام الزكاة وما توجب فيه ومقادير ذلك وقد كتبت في صحيفتين. ومنها ما اعطاه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى عمر بن حزم لما ولى اليمن أحكاماً مكتوبة من الفرائض والصدقات والديات وغير ذلك. ومنها ما اعطاه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعبد الله ابن حكيم من الكتاب الذي فيه أحكام الحيوانات الميتة. ومنها ما أمر به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من كتابة خطبته يوم فتح مكة لرجل من اليمن حين سأله ذلك. ومنها ما دفعه إلى وائل بن حجر عند ما أراد الرجوع إلى بلاده حضرموت من الكتاب الذي فيه أحكام الصلاة والصوم والربا والخمر وغيرها.

ومما كتب من الصحائف في زمن الرسول :

ومما كتب من الصحائف في هذا الدور صحيفة عبد الله بن عمرو بن العاص وذكروا ان فيها ما يكفي كاتبها في معرفة الشريعة كلها في جميع أبواب الفقه وان كنا لا نؤمن بهذه المبالغة لأن عبد الله بن عمرو بن العاص وأباه قد أسلما قبل وفاة رسول

٢١

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسنتين وكان له من العمر حين إسلامه خمس عشرة سنة ولم يكن له من الصلة والمعاشرة مع الرسول ما يؤهله لذلك. وقد طعن فيها الحافظ ابن كثير في المجلد الأول من تاريخه المسمى بالبداية والنهاية. ومنها صحيفة سعد بن عبادة الأنصاري وصحيفة عبد الله بن أبي أوفى. وصحيفة جابر بن عبد الله وصحف عبد الله بن عباس. وصحيفة سمرة بن جندب.

أمر الرسول زيد بن ثابت بتعلم كتابة اليهود

وحكي عن أهل التاريخ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في السنة الرابعة من الهجرة أمر زيد بن ثابت أن يتعلم كتابة اليهود ليكتب لهم ويقرأ ما يكتبونه له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي مختصر جامع بيان العلم ص ٣٧ عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انه قال قيدوا العلم بالكتابة. إلا أن الكتابة للأحكام الشرعية لم تكن معروفة لدى الصحابة في هذا الدور وكان نوع الصحابة يحفظون الأخبار والآثار على صدورهم مستغنين بذلك عن كتابتها وجمعها.

ما يمتاز به هذا الدور

ومما يمتاز به هذا الدور انه لم يكن فيه مجال للخلاف في الأحكام الشرعية لوجود الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما بينهم وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو فصل الخطاب.

٢٢

زمن انتهاء الدور الأول وزمن انقراض الصحابة

وقد انتهى هذا الدور بوفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمدينة يوم الاثنين سنة ١٠ ه‍ كما انقرض عصر الصحابة في سنة ١٠٠ ه‍ حيث كان آخر واحد منهم أبو الطفيل الكناني مات سنة ١٠٠ ه‍ وقيل كان آخر واحد منهم هو سهل بن سهل الساعدي توفي بالمدينة وهو ابن مائة سنة ٩١ ه‍.

المراد بالصحابي

والصحابي من لقي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسلماً ومات على ذلك وقد قبض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن مائة وأربعة عشر ألف صحابي. والتابعي من لقي الصحابي مسلماً ومات على ذلك. وأما من اسلم في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يلقه ولكنه لقي صحابياً فهو معدود من التابعين.

خلاصة تاريخ حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

وتتلخص حياته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن بدايتها يوم ولادته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ٢٠ نيسان عام الفيل سنة ٥٧٠ م وهو العام الذي جاء فيه أبرهة من ملوك الحبشة لهدم الكعبة صباح الاثنين في مكة المكرمة ١٧ ربيع الأول أو ١٢ منه وبعدها بأربعين سنة بعث

٢٣

رسولاً من رب العالمين من غار حراء في ضواحي مكة المكرمة الذي كان محل عبادته وفيه هبط عليه الوحي الأمين ، فقال له (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) الاثنين ٢٧ رجب عند الامامية و ١٧ رمضان عند السنة المصادف سنة ٦١٠ م فكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعجوبة من عجائب الزمن في مواقفه الرائعة وآياته الباهرة ، وجهاده العظيم يعجز عن حصرها القلم وعن وصف واقعها المفرد العلم وبعد عشر سنين من بعثته توفي كافله أبو طالب وزوجته خديجة أم المؤمنين فهاجر للطائف يدعو بني ثقيف لنصرته على قريش فقابلوه بالأذى ورجع بعد شهر لمكة المكرمة ثمّ هاجر إلى المدينة المنورة في أول ربيع الأول في السنة الثالثة عشرة من بعثته الموافقة لسنة ٦٢٣ م أو سنة ٦٢٢ م وبقي فيها عشر سنين يرشد الناس للأحكام الشرعية ثمّ ذهب بعدها لجوار ربه مسموماً ٢٨ صفر سنة ١٠ ه‍ وقيل ١٢ ربيع الأول فيكون عمره الشريف ٦٣ سنة وعند جماعة ان يوم ولادته وهجرته ووفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم الاثنين في الثاني عشر من ربيع الأول.

وعن ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولد يوم الاثنين وأوحي إليه يوم الاثنين ورفع الحجر الأسود يوم الاثنين وخرج

٢٤

من مكة إلى المدينة يوم الاثنين وقدم المدينة يوم الاثنين وقبض يوم الاثنين.

ما يجعل الأفكار صرعى في هذا الدور الأول

ومما يدهش الفكر والنظر في هذا الدور أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند مرضه الذي التحق به إلى الرفيق الأعلى أراد أن يكتب كتاباً لا يضل بعده ابداً فمنعه عمر عن ذلك وقال ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد غلبه الوجع وهو يهجر وعندكم القرآن وحسبنا كتاب الله وأوجب ذلك اختلاف الحاضرين عنده فمنهم من أراد الكتابة ومنهم من أبى ذلك مكتفياً بكتاب الله تعالى فلما رأى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خصومتهم قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوموا. وما فتئ ابن عباس بعدها يرى انهم أضاعوا شيئاً كثيراً حيث لم يسرعوا إلى كتابة ما أراد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إملاءه.

النبي في مرضه يهجر وأبو بكر لم يهجر

مع ان أبا بكر عند مرضه أيضاً أراد ذلك ولم يمنع منه مانع ولم يقل قائل عندنا القرآن وحسبنا كتاب الله فاستحضر عمر عثمان بن عفان واستكتبه استخلاف عمر على المسلمين.

٢٥

كتبة الخلفاء الأربع

وقد كان أبو بكر قد اتخذ عثمان كاتباً له كما اتخذ عمر زيد بن ثابت كاتباً له كما اتخذ عثمان مروان بن الحكم كاتباً له واتخذ علي عليه‌السلام عبد الله بن أبي رافع مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كاتباً له.

٢٦

الدّور الثاني

٢٧
٢٨

مبدأ الدور الثاني ومنتهاه

ان الدور الثاني للفقه يبدأ من وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سنة ١٠ ه‍ وينتهي بخروج معاوية عن طاعة خليفة المسلمين علي عليه‌السلام سنة ٣٦ ه‍.

كتابة القرآن المجيد

وقد اتجه فيه المسلمون وخلفاؤهم إلى كتابة أول مصدر للفقه الإسلامي وهو القرآن الشريف واستنساخه وجمعه حفظاً له من الضياع ومن اختلاط آياته بالأحاديث النبوية.

أول من تصدى لجمع القرآن الإمام علي عليه‌السلام وشهادة العلماء بذلك

وأول من تصدى لذلك هو أمير المؤمنين علي عليه‌السلام فقد روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انه قال لما قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (أقسمت أو حلفت أن لا أضع ردائي على ظهري حتى أجمع بين اللوحين

٢٩

فما وضعت ردائي حتى جمعت القرآن) كما جاء ذلك في الإمامة والسياسة لابن قتيبة ص ١٢ طبع المكتبة التجارية. وعن السيوطي عن ابن الغرس من حديث محمد بن سيرين عن عكرمة قال لما كان بدء خلافة أبي بكر قعد علي بن أبي طالب في بيته فقيل لأبي بكر قد كره بيعتك فأرسل إليه فقال (أكرهت بيعتي) فقال خشيت كتاب الله يزداد فيه فحدثت نفسي أن لا ألبس ردائي إلا للصلاة حتى أجمعه قال له أبو بكر : فانك نعم ما رأيت.

واخرج ابن سعد وابن عبد البر في الاستيعاب عن محمد بن سيرين قال نبئت أن علياً أبطأ عن بيعة أبي بكر فقال أكرهت إمارتي فقال : آليت بيميني أن لا ارتدي برداء إلا للصلاة حتى أجمع القرآن الحديث.

وفي الإتقان ج ١ ص ٥٩ أن علياً عليه‌السلام قال آليت على نفسي أن لا آخذ عليّ ردائي إلا لصلاة الجمعة حتى اجمع القران فجمعته.

وفي إرشاد الساري ج ٧ ص ٤٥٩ وفتح الباري ج ٩ ص ٤٣ وعمدة القارئ ج ٩ ص ٣٠٤ ما يدل على جمع علي عليه‌السلام للقرآن.

وعن الدرر عن تفسير علي بن إبراهيم بإسناده عن أبي بكر الحضرمي عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعلي عليه‌السلام يا علي القرآن خلف فراشي في الصحف والقراطيس

٣٠

فخذوه واجمعوه ولا تضيعوه كما ضيع اليهود التوراة فانطلق علي عليه‌السلام فجمعه في ثوب اصفر ثمّ ختم عليه في بيته وقال لا ارتدي حتى اجمعه وانه كان الرجل يأتيه فيخرج إليه بغير رداء حتى جمعه. ويقول المؤلف لهذا السفر اني قد شاهدت قطعة منه في خزانة الأمير عليه‌السلام وشاهدت قطعة من قران علي عليه‌السلام في خزانة ضريح رأس الحسين عليه‌السلام في مصر وفي رحلة ابن بطوطة ج ١ ص ٢٥ عدد من الآثار الموجودة في الرباط المبني على ضفاف النيل مصحف أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب عليه‌السلام بخط يده ، وذكر ابن النديم في الفهرست ص ٤١ ان عند أبي يعلى حمزة الحسيني مصحفاً بخط علي يتوارثه بنو الحسن وإذا لاحظنا هذا الخبر وهذا الأثر مع ما ثبت من جمع القرآن من الرقاع عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما يرشد إلى ذلك ما هو المحكي عن مستدرك الحاكم ج ٢ ص ٦١١ ومسند الطيالسي ص ٢٧٠ والمحبر لابن حبيب ص ٢٨٦ وتاريخ الشام ج ٧ ص ٢١٠ وفتح الباري ج ٩ ص ٤٤٠ ثمّ أضفنا إلى ذلك كله ما في صحيح البخاري في كتاب العلم باب (٣٩) وفي باب كتاب الجهاد والسير باب (١٧١) وفي كتاب الجزية باب (١٠) وغير ذلك من الأخبار المتظافرة الدالة على أن الكتاب المجيد كان عند أمير المؤمنين علي عليه‌السلام فانا نستفيد من المجموع أن القرآن

٣١

الذي جمعه هو القرآن الذي كان عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الموجود في الرقاع التي كانت في بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكانت منتشرة فجمعها علي عليه‌السلام وكتبها في كتاب خاص ولم يجمع عليه‌السلام القرآن كما جمعه الغير من صدور حفظة القرآن ولا مما في أيدي المسلمين من العسب (جمع عسيب) وهو جريد النخل حيث كانوا يكشفون الخوص ويكتبون في الطرف العريض ولا من (الأكتاف) (جمع كتف) وهو عظم البعير أو الشاة يكتبون عليه بعد أن يجف ولا من (الأقتاب) (جمع قتب) وهو الخشب الذي يوضع على ظهر البعير ليركب عليه ولا من (قطع الأديم) وهو الجلد ، فعلي عليه‌السلام لم يجمع القرآن من هذه الأشياء وإنما جمعه وكتبه مما هو موجود عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الرقاع.

جمع الإمام علي عليه‌السلام للقرآن حسب التنزيل

وأما ما في إرشاد الساري ج ٧ ص ٤٥٩ وما حكي عن عمدة القاري للعيني ج ٩ ص ٣٠٤ وعن فتح الباري ج ٩ ص ٤٣ من جمع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام لكتاب الله على حسب النزول لعل المراد به هو جمع القرآن مع التعليق على آياته الكريمة وبيان وقت نزولها وفيمن نزلت وإلا فعلي لا يعقل أن يغير كيفية الجمع التي صنعها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٣٢

جمع أبي بكر للقرآن

ثمّ انه بعد ذلك تصدى أبو بكر إلى جمع القرآن بعد سنتين من خلافته فيكون جمعه للقرآن بعد جمع الإمام علي له لأن الراوية المتقدمة قد دلت على جمع الإمام علي عليه‌السلام له بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلا فصل والرواية التي دلت على جمع أبي بكر له قد دلت على أن أبا بكر قد جمعه بعد واقعة اليمامة بين المسلمين وبين أهل الردة من أتباع مسيلمة الكذاب التي استشهد فيها من حفظة القرآن سبعون من الصحابة سنة اثنتي عشرة للهجرة ففي صحيح البخاري ما حاصله أن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال : ارسل عليّ أبو بكر عند مقتل أهل اليمامة فإذا عمر بن الخطاب عنده قال أبو بكر ان عمر أتاني فقال : ان القتل قد استحر (أي اشتد) يوم اليمامة بقراء القرآن ، وإني أخشى أن يستمر القتل بالقراء بالمواطن الأخرى فيذهب كثير من القرآن وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن قلت لعمر : كيف تفعل ما لم يفعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال عمر : هو والله خير فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ورأيت في ذلك الذي هو رأي عمر. قال زيد : قال أبو بكر : انك رجل شاب عاقل لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتتبع القرآن فتجمعه. قال زيد فوالله لو كلفوني نقل جبل من

٣٣

الجبال ما كان أثقل عليّ مما أمرني به من جمع القرآن. قلت كيف تفعلون شيئاً لم يفعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : هو والله خير قال زيد : فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) حتى خاتمة البراءة. فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله ، ثمّ عند عمر مدة حياته ثمّ عند حفصة بنت عمر. وعلى هذه الرواية فيكون قد تم جمع القرآن كله خلال سنة واحدة لأن بين واقعة اليمامة المذكورة وبين وفاة أبي بكر سنة واحدة مع أن الجمع قد كان من العسب واللخاف وصدور الرجال.

تسمية القرآن بالمصحف

وعن الإتقان أنه قد اخرج ابن أشتة في كتاب المصاحف من طريق موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال : لما جمعوا القرآن فكتبوه على الورق قال أبو بكر : التمسوا له اسماً فقال بعضهم : السفر قال : ذلك اسم تسميه اليهود فكرهوا ذلك وقال بعضهم : المصحف فان الحبشة يسمون مثله (المصحف) فاجتمع رايهم على أن يسموه المصحف.

٣٤

جمع عثمان للمصحف

ثمّ أنه بعد انتهاء غزو أرمينية وآذربيجان توجه حذيفة اليماني القائد المشهور للمدينة محذراً عثمان من اختلاف القراء في قراءة القرآن ، فان أهل الكوفة يقرءون بقراءة ابن مسعود وأهل البصرة يقرءون بقراءة أبي موسى وأهل الشام ودمشق يقرءون بقراءة أبي بن كعب وأهل حمص يقرءون بقراءة المقداد بن الأسود. وطلب منه توحيد القراءة ، وبعد مشاورة عثمان لبعض أصحاب الرسول في ذلك عزم عثمان على تنفيذ فكرة حذيفة فأرسل عثمان إلى حفصة بنت عمر أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثمّ نردها إليك فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت المدني وثلاثةٌ من قريش عبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن يكتبوها من صحف حفصة التي جعلت لهم أصلاً ، وقال عثمان : إذا اختلفتم انتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فانه إنما نزل بلسان قريش ففعلوا حتى إذا تم نسخ الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق.

٣٥

الرد على السيوطي

ويمكن تحديد الوقت الذي حصل فيه ذلك بما بعد سنة ثلاثين هجرية لأن الغزو المذكور كان في سنة ثلاثين وعليه فلا وجه لما حكي عن إتقان السيوطي من انه حدده بسنة ست وعشرين وبعضهم حدده بسنة ٦٥٠ م هذا ولكن التاريخ لم يروِ لنا أن المصحف الذي جمعه علي عليه‌السلام قد أحرق فقد عدت المصاحف التي أحرقت ولم يذكر معها مصحف علي عليه‌السلام.

الأمر العجيب في جمع الخلفاء للمصحف

والأمر العجيب الملفت للنظر هو عدم تعرض الأخبار والمؤرخين إلى أن أبا بكر وعمر وعثمان راجعوا علياً في مصحف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ما تصدوا لجمع القرآن الكريم وهكذا لم يراجعوا المصحف الذي كتبه الإمام علي عليه‌السلام على مصحف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع أن الأخبار والتاريخ قد تضافرت على وجود مصحف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند الإمام علي عليه‌السلام وانه قد كتب الإمام علي عليه‌السلام المصحف عليه كما انه مما يلفت النظر عدم وجود كبار الصحابة في من جمع القرآن بأمر عثمان فليس فيهم عبد الله بن العباس ولا عبد الله بن عمر ولا الإمام علي عليه‌السلام ولا غيرهم.

٣٦

إرسال الحفاظ مع المصاحف المرسلة للأقطار

ثمّ ان المعروف ان عثمان أرسل مع المصحف الخاص بكل إقليم حافظاً يوافق قراءته. فكان زيد بن ثابت مقرئ المصحف المدني. وعبد الله بن السائب مقرئ المكي. والمغيرة بن شهاب مقرئ الشامي. وأبو عبد الله الرحمن السلمي مقرئ الكوفي. وعامر بن عبد القيس مقرئ البصري.

تشكيل أبي الأسود المصاحف وتنقيطها

ولما ظهر الألحان في قراءة البعض للقرآن توجهت العناية إلى أن يشكلوا المصاحف وينقطوها حذراً من الغلط في القراءة للقرآن والألحان فيها فانبرى إلى ذلك أبو الأسود الدؤلي فان المشهور انه أول من شكل القرآن ونقطه فكان يجعل علامة الفتحة نقطة على أول حرف والضمة نقطة على آخر الحرف والكسرة نقطة تحت أوله وبقي الأمر كذلك إلى زمن الخليل بن احمد فوضع الحركات على النحو الموجود لدينا.

خلاصة الكلام في شرح هذا الدور الثاني

وخلاصة الكلام أن في هذا الدور الثاني قد توجهت

٣٧

عناية المسلمين إلى المصدر الأول للتشريع وهو القرآن الشريف وإخراجه بصورة يستفيد من منهله العذب مسائل المسلمين. وكان الفقه الإسلامي هو المعمول به عند المسلمين في عباداتهم ومعاملاتهم الداخلية والخارجية والمرجع فيه هم الصحابة وقول الخليفة هو الفصل ، وفي الأقطار البعيدة إذا نزلت بهم الحادثة يرجعون لما عندهم من أمير ذلك البلد وهو بدوره إذا لم يعرف الحكم يرجع للصحابة الذين معه في البلد فان كان عندهم أثر من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حكموا به وإلا اجتهد أمير البلد فيها.

المصدر لمعرفة الأحكام الشرعية في هذا الدور الثاني

والمصدر لمعرفة الأحكام الفقهية الإسلامية عندهم خمسة الأول الكتاب ، الثاني السنة ، الثالث الإجماع ، الرابع استشارة الصحابة وأهل البصيرة في الحكم ، الخامس الرأي بأن يستنبط الحكم الشرعي بفكره وتأمله فيما تقتضيه المصلحة ودفع المفسدة أو بالقياس والمقارنة.

والحاصل انهم إذا نزلت بهم حادثة أو وقعت واقعة رجعوا إلى كتاب الله في معرفة حكمها بحسب فهمهم فان لم يجدوا حكمها فيه رجعوا للسنة وسألوا من الصحابة عمن يحفظ في هذه الحادثة حديثاً عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فان لم يجدوا ذلك

٣٨

استشاروا فان أجمعوا على حكمها بما تستوحيه عقولهم أخذوا به وان اختلفوا اجتهد خليفة المسلمين فعمل بالقياس وبما تقتضيه المصلحة ، ففي كتاب عمر إلى شريح ، إذا حضرك أمر لا بد منه فانظر في كتاب الله فاقض به فان لم يكن ففيما قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فان لم يكن ففيما قضى به الصالحون وأئمة العدل فان لم يكن فان شئت ان تجتهد برأيك فاجتهد وإن شئت أن تؤامرني ولا أرى مؤامرتك إياي إلا خيراً لك. وفي كتاب أعلام الموقعين ج ١ ص ٢٤٣ أن أبا عبيدة ذكر في كتاب القضاء قال : حدثنا كثير بن هاشم عن جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران قال : كان أبو بكر إذا ورد عليه حكم نظر في كتاب الله فان وجد فيه ما يقضي به قضى به وان لم يجد في كتاب الله نظر في سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فان وجد فيها ما يقضي به قضى به فان أعياه ذلك سأل الناس : هل علمتم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قضى فيه بقضاء فربما قام إليه القوم فيقولون : قضى بكذا وكذا ، فان لم يجد سنة سنها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جمع رؤساء الناس فاستشارهم فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به ، وكان عمر يفعل ذلك فإذا أعياه أن يجد ذلك في الكتاب والسنة سأل : هل كان أبو بكر قد قضى فيه بقضاء فان كان لأبي بكر فيه قضاء قضى به وإلا جمع علماء الناس

٣٩

واستشارهم ، فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به. وروي عن ميمون بن مهران أن أبا بكر وعمر إذا لم يجدا في كتاب الله ولا في سنة رسوله حكماً للواقعة يجمعان الناس للاستشارة في استنباط حكمها بالاجتهاد والرأي فان اتفق المستشارون في الرأي اخذوا به. وروي أن عمر أمر شريحاً أن يعمل في الكوفة كذلك ويبني على ذلك قضاءه ، وكان بعضهم يحترم اجتهاد صاحبه فقد روي أن عمر بن الخطاب لقي رجلاً له قضية نظرها الإمام علي عليه‌السلام فعرضها الرجل على عمر حين لقيه في الطريق فقال : لو كنت أنا لقضيت بكذا فقال الرجل فما يمنعك والأمر إليك فقال عمر : لو كنت أدرك إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لفعلت ولكن أدرك إلى رأي والرأي مشترك ولست ادري أي الرأيين أحق ، وفي هذا الدور عمل بالقياس وكان أول من بذر ذلك وأمر بالعمل به هو عمر بن الخطاب ففي كتابه لأبي موسى الاشعري (أعرف الأشياء والأمثال قس الأمور عند ذلك على نظائرها) ، وفي هذا الدور نشأ الخلاف بين الشيعة والسنة في الخلافة فالأولون يقولون بخلافة الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنص من الله تعالى والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعده أولاده ، وأما أهل السنة فيقولون بأن الخليفة بعد الرسول هو أبو بكر ثمّ عمر ثمّ عثمان ثمّ

٤٠