أدوار علم الفقه وأطواره

الشيخ علي كاشف الغطاء

أدوار علم الفقه وأطواره

المؤلف:

الشيخ علي كاشف الغطاء


الموضوع : الفقه
الناشر: دار الزهراء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٦

الحنبلية

١٦١
١٦٢

والخامس من المذاهب : مذهب الحنبلية وهم أتباع احمد بن حنبل بن هلال الشيباني المروزي ولد ببغداد سنة ١٦٤ ه‍. وتوفي ببغداد سنة ٢٤١ ه‍. وهو الذي يقول في حقه الشافعي خرجت من بغداد وما خلفت رجلا افضل ولا افقه من احمد بن حنبل صنف المسند الذي يحتوي على نيف وأربعين ألف حديث ورتبه بحسب السند لا بحسب أبواب الفقه فجمع لكل راوٍ أحاديثه وقد توفي قبل أن ينقحه ويهذبه وقد رواه عنه ابنه عبد الله بعد أن نقحه وهذبه واتهم بأنه قد أضاف للمسند بعض الأخبار الموضوعة كما أن بعضهم ذكر أن ابنه احمد بن عبد الله بن احمد بن حنبل وأبو بكر القطيفي أضافا له بعض الزيادات وله في الأصول كتاب طاعة الرسول وكتاب الناسخ والمنسوخ وكتاب العلل. وهو الذي امتنع من القول بخلق القرآن رغم إصرار المأمون على خلقه وإجابة العلماء له وبقي مصراً على ذلك من سنة ٢١٨ هـ

١٦٣

وهي السنة التي دعا فيها المأمون العلماء للقول بخلق القرآن إلى سنة ٢٣٣ ه‍ السنة التي أبطل المتوكل فيها تلك الدعوة وترك للناس حرية الرأي في خلق القرآن وعدمه. ودرس الحديث على هيثم بن بشير وعلى الإمام الشافعي ولم يكتب في الفقه إلا ما أجاب به عن بعض المسائل والمنقول عنه أنه حرم على تلاميذه كتابة الفقه إلا أنهم لم يستجيبوا له فقد كتب تلميذه عبد الملك بن مهران وغيره الفقه عنه وجمعوا فتاويه وأقواله الفقهية وجعلوها أساساً لمذهبه الذي نسبوه إليه.

طريقة احمد بن حنبل في استنباط الأحكام الشرعية

وطريقته في الاستنباط أن يأخذ بالنص كتاباً أو سنة حتى المرسل والضعيف منها ويقدم الكتاب على السنة عند التعارض في الظاهر ثمّ ان لم يجد النص أخذ بما يفتي به الصحابة ولم يختلفوا فيه. وعند الاختلاف بين الصحابة في المسألة رجح قول من كان اقرب للكتاب أو السنة فان لم يظهر له ما هو الأقرب حكى الخلاف. وينقل عنه انه يأخذ بالحديث المرسل ويقدمه على القياس والرأي إذا لم يكن ما يعارضه شيء من الكتاب أو السنة أو قول صحابي أو اتفاق على خلافه وإلا استعمل القياس والاستصحاب والذرائع والمصالح المرسلة وكانت القاعدة عنده في العقود والشرائط هو قاعدة الإباحة إلا إذا قام الدليل على المنع.

١٦٤

أشهر أصحاب احمد

ومن أشهر أصحابه احمد بن هاني الأثرم. الذي روى عنه الفقه والحديث. وعبد الملك الذي كتب الفقه عنه وولداه صالح الذي ورث الفقه عن أبيه وولي القضاء على خلاف سنة أبيه. وعبد الله الذي ورث الحديث عن أبيه وروى مسند أبيه واتهمه بعضهم بأنه قد أضاف لمسند أبيه بعض الأخبار الموضوعة.

ويحكى أن محمداً بن جرير الطبري صاحب التفسير والتاريخ ألف كتاباً ذكر فيه اختلاف الفقهاء ولم يذكر احمد بن حنبل فقيل له في ذلك فقال لم يكن فقيهاً وإنما كان محدثاً.

وقد انتشر هذا المذهب في بعض بلاد العراق. وما وراء النهرين. وظهر في مصر متأخراً وكان أول من ولي قضاء الحنابلة بدمشق الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن احمد بن قدامة المقدسي ثمّ الصالحي المتوفي سنة ٦٨٢ ه‍. والذي هو شيخ احمد بن تيمية.

وقد قام ابن تيمية وابن القيم بنشر هذا المذهب وناضلا عنه وحرضا الناس على تعليمه وأخذت به نجد في أول عهد الوهابيين ثمّ ساد جميع بلاد الحجاز في هذا العصر.

١٦٥

وحكى عن ابن حنبل انه قال (انظروا في أمر دينكم فان التقليد لغير معصوم مذموم) واستفحل المذهب الحنبلي في بغداد في القرن الرابع حتى إذا مر بهم شافعي أغروا به العميان فضربوه بعصيهم حتى يكاد يموت. وعن طبقات السبكي أن اكثر فضلاء متقدمي الحنابلة أشاعرة.

١٦٦

المذاهب المنقرضة

١٦٧
١٦٨

إن المذاهب الإسلامية التي قدر لها البقاء حتى الآن بمعنى أنها لا يزال لها أتباع يسيرون عليها حتى هذا الوقت واتسع أفقها وكثر أتباعها هي المذاهب المتقدمة الخمسة وهناك مذاهب أخرى وجدت في هذا الدور وحصل لها اتباع يسيرون عليها ولكنها انقرضت وزالت.

مذهب الأوزاعي

اشهرها مذهب الأوزاعيين أتباع عبد الرحمن الأوزاعي ولد ببعلبك سنة ٨٨ ه‍ وتوفي في بيروت سنة ١٥٧ ه‍ ودفن في محلة منها تعرف باسمه وكان يميل لبني أمية وقد عمل بمذهبه أهل الشام ثمّ انتقل مذهبه إلى الأندلس مع الداخلين إليها من نسل بني أمية ثمّ اضمحل مذهبه في الشام وحل محله مذهب

١٦٩

الشافعي وانقرض في الأندلس وحل محله مذهب المالكي وذلك في منتصف القرن الثالث. وكان ممن يكره القياس.

مذهب الظاهري والداودي

ومن المذاهب المنقرضة ، مذهب الظاهريين والداوديين وهو مذهب داود بن علي بن خلف الاصفهاني المعروف بالظاهري ولد بالكوفة سنة ٢٠٢ ه‍ ونال رئاسة العلم في بغداد مذ كان شافعياً وانتقل سنة ٢٢٣ ه‍ إلى نيسابور ثمّ جاء لبغداد ومات فيها سنة ٢٧٠ ه‍. واتخذ لنفسه مذهباً خاصاً وهو العمل بظاهر الكتاب والسنة ما لم يقم دليل على خلافهما وعدم البحث عن علل الأحكام فان لم يجد نصاً عمل بالإجماع إذا صدر عن الصحابة أو عن جميع العلماء ورفض القياس والاستحسان والتقليد والرأي رفضاً باتاً وقال : إن في عموم النصوص من الكتاب والسنة ما يفي بكل جواب.

عدم تحقق الإجماع

بل يحكى عنه عدم إمكان تحقق الإجماع بعد عصر الخلفاء الأربعة لتفرق الصحابة وانقسامهم بسبب السياسة والحكم قال ابن حزم (التابعون لم يحصهم أحد ولا يعرف الكثير مما قالوا فمن ادعى إجماع هؤلاء فهو كاذب) وعنده ان الآية الكريمة (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) هي جامعة لكل ما تكلم الناس فيه من أولهم إلى آخرهم.

١٧٠

وللظاهري عدة مؤلفات ينسب له القول بجواز أن يكون القاضي امرأة. وقد استمر مذهبه متخذاً إلى منتصف القرن الخامس ثمّ أخذ بالاضمحلال والأفول ، ويحكى عن ابن حزم الأندلسي المتوفي سنة ٤٥٦ ه‍ انه قام بنشر هذا المذهب في القرن الخامس ببلاد الأندلس والذود عنه. وألف ابن حزم كتاب الأحكام لأصول الأحكام الذي هو احسن ما ألف في أصول المذهب الظاهري وكتاب المحلى الذي هو احسن ما ألف من الكتب المتداولة في الفقه على مذهب الظاهرية وكان ابن حزم كثير الوقوع في العلماء المتقدمين لا يكاد يسلم أحد من لسانه حتى قيل في حقه كان لسان ابن حزم وسيف الحجاج الثقفي شقيقين وخاصمه علماء وقته فردوا قوله واجمعوا على تضليله وشنعوا عليه ونهوا عوامهم عن الدنو منه وهو القائل إن مذهبين انتشروا في بدئ أمرهما بالرئاسة والسلطان الحنفي بالمشرق والمالكي بالمغرب والمحكي عن ابن فرحون في الديباج الخامس انه قد عد المذهب الظاهري من المذاهب المعمول بها في زمنه أي في القرن الثامن ، والظاهر انه قد دُرس في أواخر القرن الخامس أو كان في حكم المندرس كما يظهر من جملة من العلماء.

١٧١

مذهب محمد بن جرير

ومن المذاهب المنقرضة مذهب محمد بن جرير بن يزيد ولد سنة ٢٢٤ ه‍ بآمل طبرستان وتوفي في بغداد سنة ٣١٠ ه‍ صاحب التفسير المعروف والتاريخ المشهور كان شافعياً ثمّ اتخذ مذهباً له واستمر مذهبه متبعاً إلى منتصف القرن الخامس للهجرة ونسب إليه القول بجواز كون القاضي امرأة كما تقدم نسبة ذلك للظاهري خلافاً لباقي مذاهب السنة الأربعة المشهورة والموجودة حتى اليوم. هذه هي اشهر المذاهب المندثرة وهناك مذاهب لفقهاء لم ينتشر مذهبهم كالليث بن سعد إمام أهل مصر وصديق الإمام مالك والذي يقول فيه الشافعي انه أفقه من مالك ولكن لم يحصل له أصحاب ينشرون مذهبه.

١٧٢

القراءات السبعة

١٧٣
١٧٤

وفي هذا الدور الرابع كما اختلفت المذاهب في استنباط الأحكام الشرعية كذلك اختلفت القراءات للقرآن الكريم وتكثرت إلا أن الذي اشتهر منها في كل قطر في هذا الدور هي القراءات السبعة. فبالمدينة المنورة اشتهرت قراءة نافع بن أبي نعيم توفي سنة ١٦٧ ه‍. وبمكة قراءة عبد الله بن كثير توفي سنة ١٢٠ ه‍. وبالبصرة قراءة أبي عمير بن العلاء المازني توفي سنة ١٥٤ ه‍ وبدمشق قراءة عبد الله بن عامر توفي سنة ١١٨ ه‍ وبالكوفة أبو بكر عاصم بن أبي النجود توفي سنة ١٢٨ ه‍ وهو اليوم يقرأ القرآن بقراءته ، وبالكوفة أيضاً حمزة بن حبيب الزيات توفي سنة ١٤٥ ه‍. وبالكوفة أيضاً أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي من أولاد الفرس توفي سنة ١٧٩ ه‍ ويلي هذه القراءات في الشهرة ثلاث قراءات

١٧٥

أخرى. قراءة أبي جعفر يزيد القعقاع المدني توفي سنة ١٣٠ ه‍ وقراءة يعقوب بن إسحاق الحضرمي توفي سنة ٢٠٥ ه‍ وقراءة خلف بن هاشم البزاز وتسمى هذه القراءات مع السبعة المذكورة بالقراءات العشر. ويليها في الشهرة أربع قراءات أخرى قراءة أبي محيصن محمد بن عبد الرحمن المكي ويحيى بن المبارك اليزيدي. والحسن بن أبي الحسن البصري الفقيه. والأعمش سليمان بن مهران.

١٧٦

العُلوم العَقْلية

١٧٧
١٧٨

وفي هذا الدور الرابع انتشرت العلوم العقلية والفلسفية والكلامية واتسع أفق المعارف بواسطة ترجمة الكثير من الكتب الأجنبية وأدى ذلك إلى تعليل الأحكام الشرعية.

انشقاق الفقهاء إلى أهل الحديث وإلى أهل الرأي

فقوى الرأي في معرفة الأحكام الشرعية مما أدى إلى انقسام الفقهاء إلى طائفتين وتضخم كل من القسمين واتساع أفقهما مختلفين.

طائفة أهل الرأي

الطائفة الأولى : تسمى بأهل الرأي والتي كانت برئاسة عبد الله بن مسعود في الكوفة وهم من يجيلون النظر والفكر

١٧٩

في العلل الشرعية والأغراض من الأحكام الإلهية ليعرفوا حكم الواقعة الشرعية دون الوقوف على دلالة النص فهم يأخذون بالرأي والاجتهاد ويبحثون عن علل الأحكام لمعرفة حكم الوقائع النازلة بهم.

الطائفة الثانية أهل الحديث

الطائفة الثانية : وتسمى بأهل الحديث التي كانت برئاسة سعيد بن المسيب في الحجاز وهم يعتمدون في معرفة الأحكام الشرعية على دلالة النصوص وظواهر الألفاظ وينفرون من الأخذ بالرأي والاجتهاد وعدم التعمق في استخراج العلل للأحكام والاستحسانات بعكس الطائفة الأولى فانها لم تأخذ من الأحاديث إلا قليلها ولا من الآيات إلا نصوصها وكان رجوعهم في كثير من المسائل الفقهية إلى حكم العقل والرأي والاجتهاد بالقياس والاستحسان. وهذا ما أدى إلى انقسام مدرسة الفقه إلى مدرستين مدرسة الرأي ومدرسة الحديث.

١٨٠