أصول الفقه - ج ٢

آية الله الشيخ محمد علي الأراكي

أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ محمد علي الأراكي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٥٢
الجزء ١ الجزء ٢

مقيّد به بحسب اللبّ ؛ إذ ليس المراد إيجاب أصل الجلوس ولو كان في زمان آخر ، فيرجع الأمر بالأخرة إلى إيجاب المقيّد وسلب إيجابه.

ولكن أجاب (١) دام ظلّه عن هذا أيضا بأنّ إضافة الوجوب إلى المقيّد يمكن بطريقين، الأوّل بالجعل الابتدائي المتعلّق بنفس المقيّد ، بحيث يكون للقيد دخل في الجعل ، والثاني بالجعل في الطبيعة الذي لازمه السراية قهرا إلى أفرادها ، فيصير المقيّد أيضا محكوما بالوجوب، فيقال : زيد واجب الإكرام عند جعل الوجوب في طبيعة العالم بنحو الوجود الساري ، نعم خصوصيّة القيد لا دخل لها في الحكم ، لكنّ الحكم وارد على المقيّد بتبع المطلق.

وحينئذ فإذا شككنا في وجوب الجلوس المقيّد بما بعد الزوال ، فتارة يكون الشكّ في الجعل الابتدائى ، واخرى في الجعل بالسراية والتبع ، والأوّل في المقام مقطوع العدم ، وعلى فرض الشكّ فيه محكوم بالعدم بمقتضى الأصل ، ولا منافاة بينه وبين استصحاب الوجوب في أصل الجلوس ، فالكلام كلّه في القسم الثاني ، ولا إشكال في أنّ الشكّ في وجوب المقيّد بهذا النحو أعني بالجعل التبعي مسبّب وناش عن الشكّ في بقاء الوجوب في موضوع أصل الجلوس إلى هذا الحين الذي هو ما بعد الزوال ، فيكون الأصل الجاري فيه محكوما للأصل الجارى في السبب.

ونظير هذا ما إذا شككنا في بقاء حكم حرمة شرب الخمر أو ارتفاعه بالنسخ ، فلا إشكال أنّ مقتضى الاستصحاب هو البقاء ، مع أنّ مقتضى الاستصحاب بملاحظة تقييد شربها بهذا الزمان المقارن للشكّ هو عدم المحكوميّة بالحرمة بالعدم الأزلي الثابت قبل تشريع الشرع ايّاها ، مع ذلك لا يعامل معاملة المعارضة بينهما ، وسرّه ما ذكرنا من أنّ ارتفاع الشكّ في الكلّي رافع للشكّ في الأشخاص ، ومن أثر محكوميّة الكلّي محكوميّة الأفراد ، سواء ذلك في المحكوميّة بالحكم الظاهري أم الواقعي ، فليس هذا من الأصل المثبت الممنوع ، هذا.

ولكنّ الكلام الوارد في مسألة الاستصحاب التعليقي الآتي بعيد هذا إن شاء الله تعالى آت هنا حرفا بحرف.

__________________

(١) سيأتي نقض هذا الجواب بدعوى العينية بين الحكم الكلّي وحكم الفرد في الأصول المثبتة فراجع.

٥٤١

في ما يتعلّق بالاستصحاب التعليقي. (١)

اعلم أنّ المهمّ في هذه المسألة بيان حكومة هذا الاستصحاب على استصحاب الحكم الفعلي ، وحاصل الإشكال فيها أنّ المستصحب في جانب الحكم الفعلي هو الإباحة الثابتة قبل الغليان في مسألة العصير الزبيبي ، ورفعها ملازم للحرمة الفعليّة اللازمة للحرمة المعلّقة عند حصول الغليان ، وحيث إنّ الملازمة كاللزوم في فعليّة الحرمة ثابتة للأعمّ من الحكم الظاهري والواقعي فإشكال مثبتيّة الاستصحاب المقصود ترتيب رفع الإباحة عليه مرتفع.

وكذا لا شبهة أيضا في جريان ما هو ملاك الحكومة في البين ، ببيان أنّ استصحاب الحرمة المعلّقة موضوعه الشكّ في الحرمة المعلّقة ، والملازم للحرمة الفعليّة اللازمة للحرمة المعلّقة إنّما هو نفس رفع الإباحة ، لا رفعها في موضوع الشكّ في الإباحة ، فإنّ الحرمة سواء ظاهريّا أم واقعيّا ملازم مع ارتفاع الإباحة ، نعم في موضوع نفس الحرمة إن كان شكا وإن كان واقعا.

ولكنّ الإشكال كلّه أنّ الكلام بعينه وارد في العكس أيضا ، فيقال : استصحاب الإباحة أيضا موضوعه الشكّ فيها والمضادّة من الطرفين ، فلازم هذه الإباحة ولو في الظاهر عدم علّة ضدّها أعني الحرمة المعلّقة ، وهذه الحرمة المعلّقة التي يحكم بعدمها العقل ليس موضوعها الشكّ في نفسها ، نعم يحكم بعدمها في موضوع الشكّ في الإباحة ، وبالجملة ، عين تقريب الحكومة في جانب استصحاب الحرمة التعليقيّة جار في استصحاب الحليّة الفعليّة.

والحقّ عدم ورود هذا الإشكال ، وأنّ الإشكال من جهة اخرى ، توضيح الحال يحتاج إلى بسط المقال.

فنقول : وعلى الله الاتّكال : إن كان لنا حكم تعليقي كأكرم زيدا إن جاءك ، فطرأ حالة شككنا في بقاء هذا الحكم ، لا إشكال في تماميّة الأركان وأنّ الحكم التعليقي

__________________

(١) راجع ص ٣٣٥

٥٤٢

أيضا نوع من الحكم ، لا أنّه لا حكم قبل المعلّق عليه ، فمقتضى الاستصحاب هو الحكم الظاهري بأنّه إن جاءك زيد فأكرمه ، ثمّ كما في حال القطع عند حصول المجيء كان لازم ذلك الحكم التعليقي الواقعي هو الفعليّة عند الشكّ ، أيضا لازم هذا الحكم الظاهري التعليقي هو الفعليّة عند حصول المجيء ، وليس مثبتا من هذه الجهة ، لأنّ اللازم من لوازم نفس الحكم ، الأعمّ من الظاهري والواقعي.

لكنّ الكلام في أنّ هنا استصحابا آخر مخالفا ، وهو أنّ الزيد قبل حصول المجيء ليس في حقّه حكم (أكرمه) مجعولا ، فقضيّة الاستصحاب عدم المجعوليّة ، فهل أحد هذين مقدّم على الآخر أولا؟ قال شيخنا المرتضى قدس‌سره : إنّ الاستصحاب التعليقي مقدّم على الفعلي ، للحكومة وهو محلّ إشكال.

وتوضيحه بعد تقديم مقدّمة ، وهي أنّ ملاك حكومة أصل على آخر أن يكون مفاد أحد الأصلين مولّدا لحكم في موضوع في غير حال الشكّ في ذلك الموضوع ، وكان مفاد الآخر إثبات نقيض ذلك الحكم في ذلك الموضوع في حال الشكّ ، فحينئذ لا محالة الأصل الأوّل يزيل الحكم الثاني ، مثلا الأصل أو الاستصحاب المفيد لطهارة الماء يتولّد منه حكم بأنّ الثوب المغسول بهذا الماء طاهر ، لا طاهر إذا شككت ، ومقتضى الاستصحاب في نفس الثوب أنّه إذا شككت فيه فابن على النجاسة ، ومن المعلوم حكومة ما مفاده هذا طاهر على ما مفاده هذا : إن شككت في طهارته ، فابن على نجاسته ، ووروده على ما مفاده هذا : إن ليس لك طريق فابن على نجاسته.

إذا تمهّدت هذه المقدّمة نقول : ليس هذا الملاك موجودا في المقام ، وذلك لأنّ حكم أكرمه في قولنا : إن جاءك زيد فأكرمه ليس قبل المجيء وبعده إلّا حكما واحدا ، غاية الأمر قبل المجيء لا فعليّة له ، وبعده يتّصف بها ، فإذا كان قضيّة الاستصحاب جعل هذا الخطاب التعليقي في موضوع الشكّ اعني : إذا شككت فابن على وجود خطاب : إن جاءك فأكرمه ، فليس هنا حكم آخر متولّدا من هذا الحكم.

نظير طهارة الثوب في المثال بأن يقال هنا أيضا : يترتّب عليه حكم آخر وهو خطاب «أكرمه» الفعلي بعد تحقّق المجيء ، وهو حكم في غير موضوع الشكّ ، فيقدّم

٥٤٣

على ذلك الاستصحاب المفيد ؛ لأنّ خطاب أكرمه الفعلي غير مجعول إذا شككت ، بل هنا حكم واحد في موضوع الشكّ ، فيرجع الأمر بالأخرة إلى أنّ هنا أصلين ، أحدهما يقول: هذا العصير المغلى مثلا حلال إذا شككت ، والآخر يقول : حرام إذا شككت ، فيكون مثل ما إذا كان من أثر طهارة الماء طهارة الثوب إذا شكّ في طهارته ؛ إذ لا شبهة في عدم الحكومة حينئذ ، لعدم الناظريّة لأحدهما على الآخر.

إن قلت : هذا بالنسبة إلى الحرمة متين ، وأمّا بالنسبة إلى رفع الحليّة فلا ، لأنّه من باب المضادّة ، وليس حكما في حال الشكّ.

قلت : لا يفرق الحال من هذه الجهة بين الحرمة وعدم الحليّة ؛ لأنّا نقول : مفاد القضيّة الاستصحابيّة التعليقيّة أنّه إذا شككت في أنّ الزبيب إذا غلى حرام أو حلال فاستصحب حكمه السابق ، وهو أنّه إذا غلى يحرم ولا يحلّ ، فكلّ من يحرم ولا يحلّ وارد في موضوع الشكّ فيه. فالحاصل بالأخرة أنّ مفاد أحد الأصلين أنّه يحلّ ولا يحرم إذا شككت ، ومفاد الآخر أنّه يحرم ولا يحلّ إذا شككت ، وليس بين هذين حكومة ، هذا.

والذي اختاره شيخنا الاستاد دام بقاه في دفع إشكال المعارضة هو اختيار طريقة اخرى غير الحكومة المصطلحة ، وهو أن يقال : الحكم وإن كان قبل الشرط وبعده واحدا ، فلهذا ليس هنا مناط الحكومة ، ولكن مع ذلك لا شكّ أنّه يحدث لنا شكّ آخر عند حدوث الغليان غير الشكّ الذي كان قبل تحقّقه ، فإنّه قبل تحقّقه كنّا نشكّ في ثبوت الحكم التعليقي فيه وارتفاعه ، ولكن لا نشكّ في الشرب الخارجي ، وأمّا بعده فمضافا إلى ذلك الشكّ نشكّ أيضا في أنّ هذا الشرب حرام فعلي أولا؟ والحرمة وإن كانت نفس الحرمة المشكوكة السابقة ، لكن صفة الفعليّة مشكوك حادث ، وكانت في السابق مقطوع العدم.

ومنشأ هذا الشكّ الثاني هو الشكّ الأوّل ؛ لأنّ الفعليّة من آثار وجود الحكم المعلّق ، فيندرج تحت قاعدة تقدّم الأصل الجاري في المنشأ على الجارى في الناشئ ، ولو لم يرجع إلى الحكومة المصطلحة ، ويأتي تفصيله إن شاء الله تعالى في محلّه.

٥٤٤

في ما يتعلّق بعدم حجيّة الأصل المثبت. (١)

اعلم أنّ النهي عن نقض اليقين لا بدّ بدلالة الاقتضاء من حمله على النهي عن النقض العملي ؛ إذ النقض الحقيقي غير قابل لورود النهي ، ومعنى النقض العملي هو عدم المعاملة في حال الشكّ المعاملة التي كانت لوصف اليقين بعنوان الطريقيّة ، والنهي عن النقض بهذا المعنى قد يكون موجبا لجعل حكم مماثل للسابق ، وقد يوجب جعل أثره ، وقد لا يوجب شيئا منهما.

مثلا المتيقّن بوجوب صلاة الجمعة سابقا الشاكّ فيه في اللاحق إذا قيل له : عامل مع الشكّ معاملتك التي كنت تعاملها سابقا لوصف اليقين بما هو طريق ، فمعنى ذلك إيجاب صلاة الجمعة ، وهو مماثل للمستصحب ، والمتيقّن بحياة زيد الشاك فيها إذا قيل له : عامل عمل اليقين ، فمعناه انفق على زوجته ، والمتيقّن بعدم التكليف في الأزل الشاك فيه إذا قيل له : اعمل عمل اليقين بعدم التكليف ، فمعناه جعل الإباحة ، وهو غير المستصحب وغير أثره ، وقد مرّ هذا في ما تقدّم أيضا.

وعلى هذا فكلّ مورد كان لليقين السابق على تقدير بقائه عمل فهو مجرى الاستصحاب بلا كلام ، وأمّا ما لم يكن لليقين السابق عمل فهو على أقسام يختلف وضوحا وخفاء في عدم الاندراج تحت لا تنقض.

منها : أن ينتهي إلى ما له عمل وكان الانتهاء من الملزوم إلى اللازم العقلي أو العادي.

ومنها : أن ينتهي إلى ما له عمل ، ولكن كان الانتهاء من أحد المتلازمين في الوجود إمّا عقلا وإمّا اتّفاقا إلى الآخر.

__________________

(١) راجع ص ٣٤٤

٥٤٥

ومنها : أن لا ينتهي إلى العمل ، ولكن كان ملزومه أمرا له أثر.

ومنها : أن يكون له أثر شرعي ، ولكن لم يرتّبه الشرع ، بل رتّبه العقل ، مثل ترتيب الحكم الشرعي على وجود مقتضيه وفقد مانعة.

ومنها : أن يكون له عمل ، ولكن كان مجعولا بتبع منشأ انتزاعه ، كالجزئيّة والشرطيّة.

وعدم جريان الاستصحاب في بعض هذه الاقسام لا يحتاج إلى كثير مئونة ، وهو القسم الثاني والثالث ، مثلا المتيقّن بطهارة إحدى الإنائين الشاك فيها لا حقا مع العلم بأنّ إحداهما طاهر والآخر نجس ليس من جملة عمله الذي كان يعمله لأجل اليقين بطهارة هذا الإناء الاجتناب من ذلك الإناء الآخر ، بل إنّما كان هذا اليقين مورثا ليقين آخر بواسطة اليقين بالملازمة متعلّق بنجاسة ذلك الآخر ، وكان الاجتناب عملا له ، لا لهذا وإن كان نشأ اليقين المذكور من هذا اليقين.

والحاصل ، مجرّد انتهاء العمل ولو بالواسطة إلى اليقين لا يصحّح استناده إليه عرفا وإدخال كلمة اللام عليه ، ولهذا لو سئل عن المتيقّن المفروض لم تجتنب عن هذا الإناء؟ فقال : لأنّي متيقّن بطهارة ذلك ؛ أو لأنّ ذلك طاهر ، كان باردا.

من هنا يعلم الحال في النقض باللازم إذا قصد ترتيب عمل اليقين بالملزوم عليه ، فإنّ عمل اليقين بالملزوم لا يسند إلى اليقين باللازم.

وأمّا القسم الرابع أعني : ما إذا كان الأثر شرعيّا ، ولكن ترتيبه على شيء واقعا كان من وظيفة العقل ، فالحقّ فيه الجريان ، لأنّ حكم العقل إنّما هو في موضوع الواقع ، ولا حكم له في حال الشكّ في الموضوع ، والفرض أنّ المحمول شرعي قابل للجعل ، فلا مانع عن عموم الأدلّة ، هذا بحسب كبرى المسألة.

وأمّا بحسب ما عدّ لهذا مصداقا أعني : مسألة ترتّب الحكم الشرعي على عدم المانع مع وجود المقتضي كما هو مبنى شيخنا المرتضى قدس‌سره في كتاب طهارته ـ

٥٤٦

حيث أسّس الأصل في حال الشكّ في الانفعال وعدمه ، وجعله الانفعال بتقريب أنّا قد استفدنا من الأدلّة سببيّة الملاقاة للتنجّس وأنّ الكريّة مانعة ، فإذا شككنا في حدّ الكرّ وتردّد بين الزائد والناقص ، ولاقى الماء المحدود بالحدّ الناقص مع النجاسة ، فاستصحاب عدم وجود عنوان المانع ليرتّب عليه النجاسة لا مانع منه ؛ فإنّ الحكم بالنجاسة في موضوع عدم المانع. الواقعي وإن كان عقليّا ، لكن في موضوع العدم المشكوك لا حكم للعقل ، والمفروض أنّ نفس الحكم أعني النجاسة ممّا يقبل الجعل ، فلا مانع من جريان عموم الأدلّة ـ فالحقّ عدم الجريان ، لا لأنّ الأثر ممّا رتّبه العقل ، بل لأنّه ليس لهذا العنوان أثر أصلا حتّى بحكم العقل ، فإنّ المؤثّر إنّما هو ذات المانع لا هو بعنوان أنّه مانع وكذا في جانب العدم ، مثلا الذي هو المؤثّر ذات الكرّ أو عدمه ، لا هو بعنوان المانعيّة ، وإنّما هو وصف ينتزعه العقل من مرتبة تأثير الذات ، وهذا واضح.

وأمّا القسم الخامس ، أعني ما كان مجعولا شرعيّا ، ولكن لا استقلالا ، بل تبعا لجعل شيء آخر كالجزئيّة والشرطيّة ، فربّما يستشكل في الاستصحاب فيه بأنّه لا عمل لليقين في مثل ذلك ، فإنّ الجزئيّة مثلا بالفرض منتزع عن جعل الوجوب على المركّب فهو متقدّم رتبة عليها ، والإنسان حال يقينه إنّما يتحرّك نحو إتيان الجزء بسببيّة اليقين بالوجوب ، لا اليقين بمعلوله الذي هو الجزئيّة ولو كان للجزئيّة أيضا على فرض انفكاكها عن الوجوب محالا هذا التأثير والاقتضاء أيضا ، لكن حال اجتماعهما مع الوجوب يكون التأثير ، لا سبق العلّتين وهو الوجوب ، فينعزل الجزئيّة عن التأثير. فيندرج تحت القسم الثالث المتقدّم آنفا من ترتيب عمل الملزوم على اليقين باللازم ، وقد استشكلنا في دخوله تحت العموم ، لأنّ عمل الملزوم لا ربط له باليقين باللازم.

٥٤٧

ولا يخفي أنّه لا يندفع هذا الإشكال بفرض معارضة الاستصحاب في المنشأ أعني الوجوب وسقوطه بها ، فإنّ ذلك لا يصحّح جريان الاستصحاب في الجزئيّة بعد كون العمل في حال اليقين إنّما هو مضاف إلى يقين الوجوب دون يقين الجزئيّة ، كما لا يندفع أيضا بأنّ الاستصحاب المثبت أو النافي للجزئية يلزمه الإثبات أو النفي في المنشأ ؛ إذ لا يجتمع وجود الجزئيّة مع عدم الوجوب ولو في الظاهر ، ولا عدمها مع الوجوب كذلك ، فإن هذه النتيجة فرع عدم المانع عن أصل الجريان ، وما ذكرنا موجب لعدم انطباق مورد الأدلّة على الشكّ في الجزئيّة المسبوق باليقين.

واجيب عن الإشكال أوّلا : بأنّ حاله ليس بأدون من استصحاب الموضوع كحياة الزيد ، فإنّ العمل أوّلا وبالذات لحكم الشرع عليه بكذا وإسناده أوّلا إلى يقين الحكم ، وثانيا إلى يقين الموضوع ، فكما صحّ هناك هذه المسامحة ولم يوجب خروجه عن مورد الدليل ، فليكن الحال في المقام أيضا كذلك ؛ إذ ليس المسامحة في إسناد عمل الوجوب على العشرة من حيث إضافته إلى كلّ من الآحاد إلى جزئيّة كلّ واحد إلّا مثل تلك المسامحة ، فكما يصحّ أن يقال : إنّه يعمل العمل لأجل كونه متيقّنا بوجوبه الضمني ، كذلك يصحّ أن يقال لأجل جزئيّته للمأمور به.

وثانيا : نمنع عدم العمل للجزئيّة والشرطيّة ونحوهما ، فإنّ عنوان صحّة العمل وفساده لا يتحقّق بالجعل الأوّلي ، وإنّما ينتزع من الجزئيّة والشرطيّة ، فهما متأخّران في الانتزاع عن انتزاع الجزئيّة والشرطيّة ؛ فإنّ الصحّة عبارة عن كون العمل موافقا للمأمور به في الأجزاء والشرائط ، والفساد عبارة عن خلافه ، وهكذا نفس الصحّة والفساد ، فإنّ عنوان الإجزاء وعدمه مترتّبان عليهما.

وحينئذ نقول : لا شبهة أنّ هذه العناوين أعني الجزئيّة وشبهها قابلة للجعل ، غاية الأمر تبعا ، فكما أنّ جاعل الأربعة جاعل للزوجيّة ويصحّ أن يقال : جعل

٥٤٨

الزوجيّة تحت ولايته ، كذلك جاعل الوجوب في المركّب والمقيّد يكون جعل الزوجيّة والشرطيّة تحت ولايته ، ويكفي في عموم «لا تنقض» قابليّة المورد للجعل ولو بهذا النحو ، فيكون جعل الجزئيّة في الظاهر أيضا ملازما لجعل الوجوب في ذات الجزء ، وليس كنجاسة الثوب ، حيث يمكن التفكيك في الظاهر بينهما وبين نجاسة الماء بأن يحكم بنجاسته وطهارة الماء ، وكذلك الحال في جعل الصحّة في قاعدة الفراغ ، فإنّه ملازم حتّى في الظاهر لجعل المنشأ وهو تقبّل الناقص مكان الكامل.

وبالجملة ، لا يعتبر في المتيقّن سابقا المشكوك لا حقّا أن يكون بنفسه أو بأثره مجعولا بالاستقلال ، بل المعتبر قابليّته للأعمّ منه ومن الجعل بالتبع.

وإذن فالمعتبر في الاستصحاب أن يكون في البين عمل كان باقتضاء اليقين ، وكان العمل أيضا من وظيفة الشارع أن يتعبّدنا في حال الشكّ وكان في البين أثر شرعي قابل للجعل بأحد النحوين ، فمع اجتماع هذه القيود يصحّ الاستصحاب ، ومع فقد أحدها لا يصحّ.

فإن قلت : أيّ فرق بين استصحاب عدم عنوان المانع وبين استصحاب عنوان المانعيّة والشرطيّة للتكليف ، حيث منعت الأوّل وجوّزت الثاني.

قلت : المنع السابق من جهة توهّم الأثر لعنوان المانع حتّى يندرج استصحابه في استصحاب موضوع الأثر ، ولو اريد إثبات استصحاب المانعيّة للتكليف أيضا بهذا الوجه توجّه عليه المنع ، والمدّعي في المقام إثبات جوازها من طريق كون نفس المانعيّة من المجعولات من غير ملاحظة ثبوت أثر لها وعدمه ، ولو اريد إثبات استصحاب عدم عنوان المانع أيضا بهذا الوجه بأن يكن المصحّح هو التصرّف في المنشأ لم يكن به بأس.

بقي في المقام الفرق بين الاستصحاب حيث منعنا عن إثبات اللوازم

٥٤٩

الشرعيّة المترتّبة على المستصحب بتوسّط اللوازم أو الملازمات العقليّة أو العاديّة ، أو الملزومات مطلقا ، وبين الطرق والأمارات ، حيث لا يقتصر فيها على الآثار الشرعيّة المترتّبة على مؤدّياتها بلا واسطة ، فإنّ مفاد دليل الحجيّة أيضا معاملة الواقع مع مؤدّى الأمارة والطريق ، فيجري عين ما تقدّم في دليل الاستصحاب حرفا بحرف ، فإنّ ترتيب الآثار المترتّبة على لوازم المؤدّى أو ملازماته أو ملزوماته ليس عملا مضافا إلى المؤدّى ابتداء.

ومحصّل الفرق أنّه فرق بين لسان الدليل هنا ولسانه هناك ، فلسانه هنا التعبّد بعدم نقض اليقين بالشكّ ، لا جعل الكون السابق من حيث إفادته للظنّ النوعي بالبقاء حجّة ومعتبرا ، فلا محالة لا بدّ من الاقتصار على موارد صدق عنوان النقض.

ولسانه هناك جعل الأمارة أو الطريق من حيث كشفه وإفادته للظنّ النوعي بمطابقة الواقع حجّة ومعتبرة ، وبعبارة اخرى : إيجاب تصديقها وعدم الاعتناء باحتمال كذبها ، لا التعبّد وإيجاب العمل بمؤدّى قولها ، ومشابهته للمقام إنّما هي على هذا التقدير ، إذ المقول منصرف إلى المقول الابتدائي.

وأمّا على التقدير الأوّل فاللازم التعدّي من المقول إلى ما يترتّب عليه بواسطة ملزوماته أو ملازماته أو لوازمه إذا كنّا قاطعين من الخارج بأصل الملازمة وعدم انفكاك وجود الواسطة عن وجود المقول واقعا ؛ إذ حينئذ عدم تحقّق ذلك الأمر الشرعي المترتّب ولو بألف واسطة ينحصر في أحد أمرين ، إمّا كذب الأمارة ، وإمّا سهوها ، إذ بطلان الملازمة غير محتمل حسب الفرض ، وإذا كان باب سهوها أيضا مسدودا بالأصل العقلائي ينحصر الأمر في كذب الأمارة ، وقد فرضنا أنّ الشارع ألغى احتمال كذبها ، فلم يبق إلّا الحكم بترتيب ذلك الأمر.

وبعبارة اخرى : إذا جعل الشارع المرتبة الخاصّة من الظنّ النوعي أعني

٥٥٠

الحاصل من قيام الأمارة حجّة ، والمفروض أنّ عين تلك المرتبة حاصلة في ذلك الأمر المترتّب بألف واسطة كما في مقول قولها ، كما هو المشاهد لو كان مكان الظنّ النوعي الظنّ الشخصي ، وقد حصلت من الأمارة ، فتكون مشمولة لدليل الاعتبار بلا واسطة ، فإنّ المفروض عمومه لكلّ كشف نوعي حاصل من قولها مرتبط بأمر شرعي ، فلا حاجة إلى إجراء دليل الاعتبار في كلّ واحد واحد من الوسائط على الترتيب حتى يقال ليست هي قابلة لأن يعتبر فيها الأمارة.

ثمّ لا بأس بالإشارة إلى بعض الموارد التي توهّم كونها من موارد الاصول المثبتة وليس منها.

أحدها : ما إذا نذر التصدّق بدرهم عند حياة الولد ، فيتوهّم أنّ استصحاب الحياة في زمان شكّ فيها مثبت ؛ لأنّه محتاج إلى وساطة أنّ التصدّق وفاء بالنذر حتى يترتّب الوجوب ، وإلّا فنفس التصدّق من حيث هو غير موضوع للوجوب ، لكن لازم حياة الولد عقلا كونه ملتزما به ومنذورا ، فيترتّب عليه الوجوب بتوسّط هذا العنوان الملازم العقلي.

ومن هذا القبيل استصحاب حياة زيد لترتّب وجوب الانفاق على زوجته ، فإنّه أيضا بتوسّط عنوان الزوج ، ومثله استصحاب حياة زيد الموقوف عليه لإثبات الاستحقاق من الوقف ، فإنّه بتوسّط عنوان الموقوف عليه ، وهكذا.

وأجاب المحقّق الخراساني قدس‌سره بما هذا لفظه : والتحقيق في دفع هذه الغائلة أن يقال : إنّ مثل الولد في المثال وإن لم يكن يترتّب على حياته أثر في خصوص خطاب ، إلّا أنّ وجوب التصدّق قد رتّب عليه ، لعموم الخطاب الدالّ على وجوب الوفاء بالنذر ، فإنّه يدلّ على وجوب ما التزم به الناذر بعنوانه الخاص على ما التزم به من قيوده وخصوصيّاته ، فإنّه لا يكون وفاء لنذره إلّا ذلك.

٥٥١

وبالجملة ، إنّما يجب بهذا الخطاب ما يصدق عليه الوفاء بالحمل الشائع ، وما يصدق عليه الوفاء بهذا الحمل ليس إلّا ما التزم به بعنوانه بخصوصيّاته ، فيكون وجوب التصدّق بالدرهم ما دام الولد حيّا في المثال مدلولا عليه بالخطاب لأجل كون التصدّق به كذلك وفاء لنذره ، فاستصحاب الحياة لإثبات وجوب التصدّق به غير مثبت.

ووجه ذلك أي سراية الحكم من عنوان الوفاء بالوعد أو العقد أو النذر وشبهه من الحلف والعهد إلى تلك العناوين الخاصّة المتعلّقة بها أحد هذه الامور حقيقة هو أنّ الوفاء ليس إلّا منتزعا عنها ، وتحقّقه يكون بتحقّقها ، وإنّما اخذ في موضوع الخطاب مع ذلك دونها لأنّه جامع لها مع شتاتها وعدم انضباطها ، بحيث لا يكاد أن يندرج تحت ميزان ، أو يحكي عنها بعنوان غيره كان جامعا مانعا كما لا يخفي.

وهذا حال كلّ عنوان منتزع عن العناوين المختلفة المتّفقة في الملاك للحكم عليها المصحّح لانتزاعه عنها ، كالمقدّميّة والضديّة ونحوهما ، ولأجل ذلك يكون النهي المتعلّق بالضدّ بناء على اقتضاء الأمر بالشيء له من باب النهي في المعاملة أو العبادة ، لا من باب اجتماع الأمر والنهي.

لا يقال : إنّ الغصب مثلا له عنوان منتزع ، فكيف إذا اجتمع مع الصلاة يكون من باب الاجتماع ، لا النهي في العبادات والمعاملات.

لأنّا نقول : إنّ الغصب وإن كان منتزعا ، إلّا أنّه ليس بمنتزع عن الأفعال بما هي صلاة ، بل بما هي حركات وسكنات ، كما ينتزع عنها عنوان الصلاة أيضا ، وهذا بخلاف عنوان الضدّ ؛ فإنّه منتزع عن الصلاة بما هي صلاة في ما إذا زاحمت هي كذلك واجبا مضيّقا ، فإذا اقتضى الأمر به النهي عن ضدّه يكون النهي متعلّقا بالصلاة ، فاحفظ ذلك ؛ فإنّه ينفعك في غير مقام.

قال شيخنا الاستاد دام أيّام إفاداته الشريفة : أمّا ما يستفاد من ظاهر كلامه من

٥٥٢

أنّ المناط كون العنوان المأخوذ في موضوع الحكم على نحو الجهة التعليليّة أو على نحو التقييديّة ، فعلي الأوّل يجرى الاستصحاب لإجراء الحكم في المصاديق ، وعلى الثاني لا يجري، فهو حقّ لا محيص عنه.

وذلك لما هو واضح من أنّ الموضوع بالحقيقة على الأوّل نفس المصاديق بما هي هي ، والعنوان بمنزلة المصالح والمفاسد التي هي ملاك الأحكام.

وأمّا على الثاني فالموضوع نفس العنوان بما هو هو وفي عالم تجريده عن الخصوصيّات ، فاستصحاب الزيد لإثبات أثر نفس الإنسان بهذا المعني يكون مثبتا ، كما تقدّم الإشارة إليه في مبحث استصحاب الكلّي.

ولكنّ الكلام كلّه في ما ذكره قدس‌سره معيارا للجهة التعليليّة وأنّه إذا كان العنوان أمرا منتزعا عن الامور الخارجة عن الذات ولم يكن بحذائها شيء في الخارج مثل الملكيّة والغصبيّة وغير ذلك ، فالجهة تعليليّة وإن كان منتزعا عن الامور المتأصّلة الخارجة عن مرتبة الذات مثل الضارب والعالم ، وغير ذلك ، فالجهة تقييديّة. فإنّا لا نعقل الفرق بين المقامين.

إلّا أنّ الأوّل شيء ينتزعه العقل ولا يضاف إليه الوجود في الخارج ، وبعبارة اخرى : ليس بحذائه شيء في الخارج ، فإنّ الموجود هو الزيد مثلا وليس الملك موجودا آخر وفي مقامنا الموجود هو الولد والتصدّق والدرهم ، وليس مطابقة التصدّق للمنذور التي هي عبارة عن الوفاء موجودا آخرا.

والثاني أيضا شيء ينتزعه العقل ، ولكن يضاف إليه الوجود في الخارج ، وبعبارة اخرى: يكون بحذائه شيء في الخارج ، فالزيد موجود ، والضرب أو العلم موجود آخر ، ولكنّهما في الحمل على المصاديق على نحو واحد وكيفيّة واحدة وإن كان أهل المعقول يسمّون كلّا باسم خاصّ به ، فيسمّون الأوّل بالخارج المحمول ، والثاني

٥٥٣

بالمحمول بالضميمة ، وبالجملة ، لا يتصوّر مدخليّة في هذا الفرق في صيرورة أحدهما جهة تعليليّة ، والآخر تقييديّة.

والذي يمكن أن يقال في ملاك الجهتين : إنّه متى وقع العنوان باعتبار الوجود الساري تحت الحكم من غير فرق بين الانتزاعي والأصالي فهو جهة تعليلية ، والحكم يعبر عنه إلى المصاديق.

والشاهد صحّة تشكيل القياس ، فيقال مثلا : هذا عالم ، وكلّ عالم يجب إكرامه ، ينتج : هذا يجب إكرامه ، وكذلك يقال : هذا إنسان ، وكلّ إنسان ضاحك ، ينتج : هذا ضاحك ، فإنّه بعد وضوح أنّ المشار إليه بهذا ليس إلّا الذات لا هي معنونة بالعنوان ، لا محيص عن القول بكون الجهة تعليليّة ، وإلّا كان اللازم عدم صحّة الانتساب إلى الذات إلّا مع تقييدها بالعنوان.

والسرّ في أنّ معنى تعلّق الحكم بالطبيعة بهذا الاعتبار جعلها مع أيّ وجود اتّحدت ذات أثر كذا ، بحث اضيف الأثر إلى ذلك الموجود المتّحد معها ، كما هو الحال في حرارة النار ، فإنّها تسري بسراية النار ، فكما أنّ نفس النار متّحدة مع هذه النار الشخصيّة المدوّرة مثلا ، مع أنّ المدوّرية خارجة عن حقيقة النار ، كذلك حرارتها أيضا قائمة في الخارج بهذه النار الشخصيّة المدوّرة ، ولا يخفي أنّ هذا مقتضى طبع الطبيعة ، وخلاف ذلك أعني التجريد عن الخصوصيّات مع حفظ السريان هو المحتاج إلى المئونة.

وعلى هذا فالجهة التقييديّة إنّما يتحقّق بملاحظة التقييد في الموضوع الخاص ، كأن تعلّق الحكم على الزيد المقيّد بالصداقة أو العلم.

وحاصل ما ذكرنا أنّ الحكم المتعلّق بالطبيعة بلحاظ الوجود السرياني ـ نحو أكرم العالم ـ يكون متعلّقا بعين الأشخاص الخاصّة من الزيد والعمرو والبكر و

٥٥٤

غير ذلك ، غاية الفرق أنّ هذه عناوين تفصيليّة ، والملحوظ بمرآتيّة العالم نفس تلك الذوات بطريق الإجمال.

والشاهد على هذا المدّعى صحّة تشكيل القياس ، حيث إنّه من المعتبر في إنتاج الشكل الأوّل كون الكبرى محصورة حتّى يكون الأصغر محكوما عليه فيها بالعنوان الإجمالي ، فيكون الفرق بينها وبين النتيجة في صرف كون الحكم فيها بالعنوان التفصيلي ، دون الكبرى.

وبالجملة ، فحال العنوان حال «هؤلاء» و «من في الصحن» في كونه غير مقصود بالأصالة ، وإنّما جيء به للإحاطة بتمام الجزئيّات المشتّتة حتّى لا يشذّ عنها شيء ، فشأنه السورية والإحاطة.

ولكنّ الفرق بينه وبين «هؤلاء» وشبهه أنّ فيه مضافا إلى هذه الفائدة فائدة اخرى ليست في «هؤلاء» وشبهه ، وهي الإشارة إلى علّة الحكم وأنّه وجود هذا العنوان ، فالحكم أوّلا على الفرد ، والعلّة تحقّق الطبيعة في ضمنه ، لا أنّ الحكم على الطبيعة وهو علّة لثبوته على الفرد حتّى يقال : لا سببيّة ولا مسببيّة بين الكلّي والفرد ، لا في ذاتهما ولا في عرضهما.

والحاصل أنّه تارة يقال : الحكم على العالم بالوجود السريانى سبب للحكم على الزيد والعمرو والبكر ، وهذا مخدوش بما عرفت ، واخرى يقال : الحكم على الزيد والعمرو والبكر ، والعلّة وجود العلم فيهم ، وهذا يستفاد من مناسبة الحكم والموضوع.

ويمكن أن يكون هذا وجها لعدّ الأصل الجاري في حكم العنوان والجاري في حكم الشخص من باب الأصل في السبب والأصل في المسبّب ، مثلا إذا شككنا في نسخ حكم أكرم العالم فهنا شكّان ، أحدهما في بقاء هذا الحكم ، والآخر في حكم الزيد الشخصي ، فتارة يقال : وجهه سببيّة حكم الكلّي لحكم الفرد ، وهذا

٥٥٥

منقوض ، واخرى يقال : وجهه كون الشكّ في بقاء حكم الزيد ناشئا عن نفاد عليّة العلم للوجوب أو بقائها ، فاستصحاب حكم الكلّي ـ حيث إنّه رافع للشكّ في بقاء العليّة ـ يكون مقدّما على استصحاب حكم الجزئي ، وبهذا يمكن تقريب تقدّم الاستصحاب التعليقي أيضا على الفعلي المخالف ، فإنّ الشكّ في بقاء حكم الحرمة مسبّب عن نفاد عليّة الغليان وعدمه ، فالاستصحاب التعليقي يرفع هذا الشكّ.

فإن قلت : تمام ما ذكرت إلى هنا مبني على أن يكون الأفراد الملحوظة هي الذوات المعرّاة عن وصف تلبّسها بالعنوان ؛ إذ هذا معنى التعليليّة ، ولو كان الوصف مأخوذا لكان العنوان جهة تقييديّة ، وكذلك يكون النتيجة في القياس أيضا وهو قولنا : العالم حادث مثلا هو ذات العالم ، لا العالم المتقيّد بوصف التغيّر ، ومسلميّة هذا في محلّ المنع ، لإمكان أن يقال : إنّ قولنا : زيد عالم ، يكون الملحوظ فيه عند قولنا : زيد ، هو المعنى الذي لا يقبل محمولا مقابلا للعالم ، وهكذا قولنا : زيد جاهل يكون ملحوظ المتكلّم عند قوله : زيد ، معنى غير قابل لحمل غير الجاهل ، وعلى هذا تكون الجهة تقييديّة لا تعليلية ، كما هو واضح.

قلت : نعم ما ذكرت أيضا ممكن ، لكنّ الأمر على هذا دائر بين ما ذكرنا ـ فلا إشكال ـ وبين ما ذكرت ، وحينئذ يمكن دعوى خفاء الواسطة ، فإنّ وجود هذا التقيّد في الموضوع على فرض ثبوته يكون بمثابة من الدقّة والخفاء ، بحيث يشتبه الأمر على العرف ويتوهّمون كونه نفس الذات.

والحاصل إمّا ندّعي أنّ ملحوظ القائل في جميع الموارد ليس إلّا معنى واحدا ، وهو مفاد زيد الذي هو لا بشرط عن العلم وغيره ، وعلى هذا فلا إشكال في الاستصحاب ، وإمّا ندّعي بأنّ الموضوع والملحوظ ولو بنحو تعدّد الدال والمدلول هو المقيّد ، لكنّ العرف لا يفهم التقييد ، وعلى هذا أيضا لا إشكال في الاستصحاب لخفاء الواسطة.

٥٥٦

ثانيها : الاستصحاب في الموضوعات الخارجيّة بتوهّم أنّه لا أثر لها شرعا إلّا بواسطة انطباق العناوين الكليّة عليها ، ضرورة أنّ الأحكام الشرعيّة يكون لها لا للموضوعات الخارجيّة الشخصيّة ، فيكون استصحابها بملاحظة تلك الأحكام مثبتا.

قال شيخنا الاستاد دام أيّام إفاداته الشريفة : يمكن توجيه الإشكال بثلاثة وجوه.

الأوّل : أن يكون المراد استصحاب وجود الموضوع بتوهّم أنّه محتاج إلى انطباق عنوان الكلّي عليه ، مثل استصحاب وجود الزيد ، فإنّه يحتاج إلى تطبيق «هذا زوج» عليه ، فإنّ الحكم مرتّب على الزوج لا الزيد ، وهذا إشكالا ودفعا مثل المورد المتقدّم حرفا بحرف.

الثاني : أن يكون المراد استصحاب اتّصاف الموجود الخارجي مع الفراغ عن وجوده بعنوان كذائي ، مثل استصحاب خمريّة هذا المائع الموجود إذا شكّ في انقلابها خلّا بتوهّم أنّ ما هو شأن الشارع هو الكبرى ، وهو أنّ الخمر حرام ، وأمّا الصغرى وهو أنّ هذا خمر ، ثمّ النتيجة وهو أنّه حرام ، فهو من فعل العقل ، فاستصحاب خمريّة المائع محتاج إلى تطبيق خطاب «لا تشرب الخمر» على هذا المائع وهو عقلي.

وجوابه أنّ التطبيق هنا بنفسه من فعل الشرع ، ومعنى تطبيق الخمر أيضا ترتيب حكمه ـ وهو الحرمة ـ على هذا المائع ، والحاصل أنّ العقل بالنسبة إلى الأفراد الواقعيّة للخمر يرتّب القياس ويدرك حكم الشرع في موضوعه ، فشأنه الإدراك فقط ، لا الحكم أو ترتيبه ، وأمّا الفرد التعبّدي فما كان يفعله العقل في الواقعي بنحو الإدراك يتصدّاه الشرع فيه بنحو الجعل والتنزيل ، ولا دخالة للعقل بوجه.

الثالث : أن يكون المراد استصحاب الاتّصاف في الموجود الخارجي أيضا ، لكن بتوهّم أنّ الحكم الشرعي لم يترتّب على نفس الموضوع الخارجى ، بل على فعل

٥٥٧

المكلّف متقيّدا بإضافته إلى الموضوع الخارجي ، مثلا لم يترتّب الحرمة على عين الخمر ، بل على الشرب المضاف بها ، فاستصحاب كون هذا المائع خمرا يحتاج إلى واسطة أنّ شربه شرب الخمر ، وعلى هذا يسري الإشكال إلى موارد كثيرة.

مثلا استصحاب القلّة في الماء يحتاج إلى إثبات أنّ ملاقاة هذا الماء ملاقاة القليل ، واستصحاب نجاسة اليد مثلا يحتاج إلى إثبات أنّ ملاقاتها ملاقاة النجس.

واستصحاب الطهارة في الماء مع حدوث الكريّة في اللاحق ، أو استصحاب الكريّة مع حدوث الإطلاق في اللاحق يحتاج إلى إثبات أنّ الكريّة المضافة إلى هذا الماء هي الكريّة المضافة إلى الطاهر ، أو أنّ الطهارة المضافة إلى هذا المائع هي الطهارة المضافة إلى الماء.

واستصحاب الطهارة الحدثيّة في المصلّي يحتاج إلى إثبات أنّ صلاته صلاة شخص طاهر واقعي ، إلى غير ذلك من موارد كثيرة يجدها المتأمّل.

وحاصل الجواب عن الكلّ أنّ خطاب «لا تنقض» بحسب ما مرّ من البيان مخصوص بما إذا كان للمستصحب أثر مرتّب عليه بلا واسطة حتّى يكون الشارع جاعلا لهذا الأثر عليه بلسان «لا تنقض».

ونقول في المقام : إذا رتّب الشارع حكم الحرمة على شرب الخمر بنحو التقييد فالموضوع ينحلّ إلى شرب وخمر ، فما كان من هذا الحكم حصّة الخمر وأثرها بلا واسطة هو أنّ الشرب المتقيّد بها حرام ، فاستصحاب الخمريّة ناظر إلى هذا الأثر ، فمفاده أنّ الشرب المتقيّد بهذا المائع بمنزلة الشرب المتقيّد بالخمر.

وكذا إذا رتّب حكم العصمة على الماء الطاهر الكرّ بنحو التقييد ، فالموضوع منحلّ إلى أجزاء ، فما يصير حصّة الماء الطاهر هو أنّ الكم الخاصّ القائم به عاصم ، فاستصحاب الطهارة مع حدوث الكريّة ينزل الكمّ المضاف بهذا المشكوك منزلة الكمّ المضاف بالطاهر الواقعي.

٥٥٨

وكذا إذا رتّب حكم الوجوب على الصلاة الصادرة عن الشخص الطاهر بنحو التقييد، فما يكون حصّة للشخص أنّ الصلاة الصادرة منه واجبة ، فمعنى استصحاب الطهارة الحدثيّة أنّ الصلاة الصادرة من هذا الشخص صلاة صادرة من الطاهر الواقعي.

نعم هذا إنّما يستقيم إذا اعتبرت الطهارة وصفا في الفاعل ، كما هو الواقع ، وأمّا اذا اعتبرت وصفا في الصلاة فاستصحابها لا يثبت تقيّد الصلاة بها.

وحاصل الفرق بين المقامين أنّ تقيّد الصلاة في الأوّل بشخص هذا المصلّي محرز بالوجدان والاستصحاب أيضا يفيد تنزيل صدورها منه منزلة صدورها عن الطاهر الواقعي ، وأمّا في المقام الثاني فليس للصلاة تقيّد وجداني حتّى ينزّل منزلة الواقعي ، ولا يتكفّل الاستصحاب أيضا أزيد من الحكم بالطهارة مع كون الأمر بحسب الواقع مردّدا بين تقيّد الصلاة بالطهارة وعدمها.

والحاصل أنّ التقيّد ليس ممّا تكفّله الاستصحاب ، ولا هو وجداني حتّى يلحقه التنزيل ، ولا يتوهّم أنّ هنا أيضا تقيّدا بحالة المكلّف أيّا ما كانت ، فإنّ استصحاب الطهارة لا يفيد كون الحالة طهارة ، بل يفيد نفس الطهارة ، وبعبارة اخرى : مفاده أنّ الطهارة باق بنحو مفاد كان التامّة ، لا أنّ هذه الحالة طهارة بنحو مفاد كان الناقصة.

وضابط المقام أنّه كلّما اعتبر القيد في محلّ واعتبر إضافة المقيّد إلى ذلك المحلّ ، فاستصحاب القيد ينزل المقيّد بهذا المحلّ منزلة المقيّد بالمحل المتلبّس الواقعي ، فتلبّس المحلّ محرز بالأصل ، وتقيّد الذات بالمحلّ محرز بالوجدان ، فصار الموضوع محرزا بكلا جزئيّة ، وكلّما اعتبر القيد أوّلا في الذات فاستصحاب القيد غير مثمر ؛ لأنّ مفاده أنّ الذات المقيّدة به محكوم بكذا ، ولكن التقيّد غير محرز لا بالاصل ولا بالوجدان.

* * *

٥٥٩

في ما يتعلّق باستصحاب تأخّر الحادث. (١)

اعلم أنّه لا فرق في جريان الاستصحاب بين ما إذا كان المستصحب مشكوك الارتفاع من رأس ، وبين ما إذا كان أصل الارتفاع معلوما وكان المشكوك تقدّمه وتأخّره ، فكلا القسمان مشتركان في أنّه يجري الاستصحاب إلى آخر أزمنة الشكّ ، فلو علم انقلاب العدم بالوجود ولم يعلم متى انقلب فالعدم المحرز في الزمان السابق مجرور بالاستصحاب الى أن يتيقّن بالانقلاب.

نعم هذا مختصّ بما إذا كان الأثر ثابتا لذات العدم ، وأمّا الأثر المترتّب على عنوان الحدوث فلا يترتّب بهذا الاستصحاب ، لكونه مثبتا إلّا على تقدير كون الحدوث عبارة عن نفس العدم السابق والوجود اللاحق.

وهكذا الحال في جانب الوجود إذا احرز في زمان سابق وشكّ في أنّه في هذا الزمان انقلب أو في الزمان البعد مع مفروغيّة أصل الانقلاب ، فإنّه لا شبهة في الاستصحاب في الزمان المشكوك بالنسبة إلى أثر أصل الوجود ، هذا هو الكلام في ما لو اريد الاستصحاب بالقياس إلى ذات الأمر الحادث ، وأمّا بالقياس إلى حادث آخر كما اذا كان هنا حادثان فلو كان الأثر لتأخّر أحد الحادثين عن الآخر فلا إشكال في عدم إثبات عنوان التأخّر بالاستصحاب ، ولو كان لعدم كلّ منهما في زمان وجود الآخر ، فهذا يتصوّر له ثلاث حالات.

الاولى : أن يعلم تاريخ حدوث كليهما ، الثانية : أن يجهل تاريخ كليهما ، الثالثة : أن يعلم تاريخ أحد الحادثين ويجهل الآخر ، فالاولى لا كلام فيها ، لعدم الشكّ فيبقي الكلام في الاخريين.

أمّا صورة الجهل بالتاريخين فذهب شيخنا المرتضى قدس‌سره الشريف إلى أنّ أصالة العدم في كلّ منهما جارية ذاتا ، ولكنّهما يتساقطان بالمعارضة ، مثاله ما إذا

__________________

(١) راجع ص ٣٦٩

٥٦٠