أصول الفقه - ج ٢

آية الله الشيخ محمد علي الأراكي

أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ محمد علي الأراكي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٥٢
الجزء ١ الجزء ٢

المكلّف إليه تقصيره عن الفحص عنه ، والحجّة التي المانع عن وصولها إلى المكلّف تقصيره في الفحص يكون حجّة على المكلّف قبل الفحص أيضا ، وإذن فكان حصول العلم الإجمالي في الزمان المتقدّم مقارنا لوجود الحجّة في أحد الأطراف ، فكان أصالة البراءة في هذا الزمان أيضا ساقطة من هذا الطرف في علم الله لمكان الحجّة ، غاية الأمر لم يعلم بذلك المكلّف ، فكان أصالة البراءة في الطرف الآخر جارية لعدم المعارضة بالمثل ، وقد كان الحكم بالاحتياط في الأطراف لأجل سقوط الأصل عنها بالمعارضة ، فحيث لا معارضة فلا احتياط ـ ولكنّه لا يستقيم في الشبهة الموضوعيّة في صورة تأخّر قيام الحجّة عن حصول العلم الإجمالي.

كما لو علم إجمالا بوجود موطوء واحد في قطيع غنم ثمّ شهدت البيّنة بعد يوم أو يومين مثلا بموطوئيّة المعيّن من هذا القطيع ، لا بمعنى حصول علم المكلّف بوجود البيّنة في الزمان المتأخّر مع وجودها في ما تقدّم ، بل بمعنى كون أصل حدوث الشهادة في الزمان المتأخّر ، فإنّه حينئذ وإن كان هذه الحجّة حاكية عن كون هذا المعين موطوء من الزمان المتقدّم الشامل لزمان حصول العلم أيضا ، ولكنّها لا تفيد القطع بهذا المعنى ، وإنّما الثابت هو مجرّد الحجيّة ، وليس من أثرها أيضا إسراء الحجيّة إلى الزمان السابق المقارن لزمان العلم ؛ إذ لا يعقل تأثيرها في ما قبل.

وإذن ففي زمان حصول العلم كان العلم ولم يكن حجّة معه في شيء من الأطراف بحسب الواقع وفي علم الله تعالى ، ومن المعلوم أنّ مثل هذا العلم يكون مؤثّرا للتنجيز ، فبعد ذلك إذا قام الطريق المعتبر فما الموجب لرفع اليد عن التنجيز السابق في غير مورد الطريق من سائر الأطراف؟ وهل هذا إلّا من قبيل ما لو خرج أحد الأطراف بعد حصول العلم عن محلّ الابتلاء مع كون الجميع داخلا فيه في حال حصوله ، حيث أفتى الاصوليون بأنّ التنجيز السابق بالنسبة إلى غير الخارج عن محلّ الابتلاء باق بحاله ، ولا يعود الأصل الساقط في هذا الغير بسبب معارضة الأصل الجاري في الطرف الخارج قبل خروجه ، فبعد خروجه وموت أصله

٤١

لا يعود أصل الغير ولا يصير حيّا لموت معارضه ، بل الساقط في زمان يكون ساقطا إلى يوم القيامة.

وكذلك لو طرأ الاضطرار إلى أحد الأطراف بعد حصول العلم مع عدم كون واحد منها مضطرّا إليه حال حصوله ، فقد حكموا بأن التنجيز السابق باق بحاله بالنسبة إلى الطرف الغير المضطرّ إليه ، فهذا إشكال يرد بناء على هذا الوجه على نفس الاصوليين في هذه الصورة من الشبهة الموضوعيّة ، حيث إنّ مقتضى فتاواهم عدم الانحلال في هذه الصورة ووجوب الاحتياط ، ومقتضى هذا الوجه هو الانحلال وعدم وجوب الاحتياط بعد الفراغ عن جواب الأخباريين به في الشبهة الحكميّة ، فلا بدّ إمّا من اختيار جواب ثالث يصحّح به عدم وجوب الاحتياط في سائر الأطراف في هذه الصورة أيضا ، وإمّا من البقاء على هذا الوجه الثاني مع الالتزام بوجوب الاحتياط في هذه الصورة.

وهذا الإشكال غير وارد على الوجه الأوّل ، فإنّ همّ العبد عليه لا يتوجّه إلى الانحلال، بل إلى جواب المولى ، وهو هنا ممكن ؛ إذ له أن يقول في جواب المولى : إنّ الواجب عليّ كان هو الاجتناب عن الغنم الموطوءة من قبل ، وهذه الغنم التي تركت أكلها أيضا موطوءة من قبل بحكم شهادة البيّنة.

وحاصل الوجه الأخير أن يقال : إنّ العلم الإجمالي وإن كان متعلّقا بالأحكام الواقعيّة من الإيجابات والتحريمات الواقعيّة المتعلّقة بالوقائع المشتبهة ، ولكن ملاك حكم العقل في باب الإطاعة ووجوب الامتثال إنّما هو العلم بنفس حكم الله تعالى ، وقيد كونه مجعولا في الرتبة الاولى ملغى وكالحجر ، وحاله حال خصوصيّة إناء الزيد في المثال المتقدّم ، فإذا قام طريق حجّة شرعا على أنّ هذا وهذا وهذا واجب ، وهذا وهذا وهذا حرام وهكذا إلى أن يبلغ عدد المعلوم بالإجمال ، فحينئذ وإن كان لا يحصل العلم بالوجوب والحرمة الواقعيّتين في تلك الموارد ، ولكن نعلم بالوجوب والحرمة الظاهريتين ، فمطلق حكم الله معلوم في تلك الموارد مفصّلا ، ومشكوك في سائر الموارد.

٤٢

فإن قلت : هذا في ما إذا كان العلم التفصيلي الحاصل من قيام الطريق بمطلق حكم الله حاصلا قبل العلم الإجمالي أو مقارنا له ، حسن تام ؛ فإنّ الإجمال والترديد لا ينعقد في النفس في متعلّق العلم الإجمالي من زمان حصول العلم مع الالتفات إلى هذا العلم التفصيلى، فلا يتحقّق سبب التنجيز في الأطراف الخالية عن الطريق من زمان حصول العلم ، ففي صورة قيام البيّنة على نجاسة المعيّن من الإنائين سابقا على العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما أو مقارنا لا يحصل في النفس العلم بأنّ مطلق النجس أعمّ من الظاهري والواقعي إمّا موجود في هذا أو في ذاك ، بل الموجود في النفس هو أنّ هذا المعيّن نجس مفصّلا ، وذاك مشكوك الحال وأمّا لو كان العلم التفصيلي المذكور حاصلا بعد العلم الإجمالي ، فالعلم الإجمالي قد جاء وأثّر أثره الذي هو التنجيز في جميع الأطراف ، فما الذي جاء بعده ورفع هذا التنجيز الجائي من السابق عن الطرف الخالي عن الطريق ، فإنّ هذا من قبيل ما لو طرأ الاضطرار أو الخروج عن محلّ الابتلاء على أحد الأطراف بعد العلم الإجمالي ، فإنّ هذا أيضا موجب لزوال صورة الإجمال والترديد عن النفس ، ومع ذلك لا يرتفع التنجيز عن الطرف الآخر.

قلت : إن بنينا في الجواب عن العلم الإجمالي على الوجه الأوّل فنحن في فسحة عن هذا الإشكال ، فإنّ المولى لا يطلب من العبد بعد العلم الإجمالي إلّا الاجتناب عن الحرام الواقعي الموجود في الأطراف من السابق والإتيان بالواجب الواقعي الموجود فيها من السابق ، وهذا الذي قام الطريق على حرمته أو وجوبه أيضا حرام موجود في الأطراف من السابق أو واجب كذلك ؛ فإنّ مفاد الطريق هو الحرمة من السابق والوجوب كذلك ، وكونه واقعيّا مقتضى لسان حجيّة هذا الطريق وإلغاء الخلاف عنه.

وإن بنينا على الوجه الثاني فلنا في التفصّي عن الإشكال في الشبهة الحكمية طريقان :

الأوّل : التمسّك في رفع التنجيز عن الطرف الخالي عن الطريق بالأصل

٤٣

الشرعي وهو البراءة الشرعيّة ، وبيانه أن يقال : إنّ الاطّلاع على الطريق وإن كان متأخّرا إلّا أنّه كان حجّة على المكلّف من السابق ، فإنّه كان خبرا صحيحا مثلا مدوّنا في الكتب ، وكان سبب عدم اطّلاع المكلّف عنه تقصيره في الفحص ، فكان الطرف الذي قام عليه الطريق غير محلّ للبراءة من زمان حصول العلم ، بل وقبله ، فكان عدله محلا لها ؛ فإنّ وجه عدم الأخذ بالبراءة الشرعيّة في أطراف العلم الإجمالي مع الجهل بحكم كلّ واحد منها شخصا هو لزوم المخالفة القطعيّة من الأخذ بها في الجميع ، ولزوم الترجيح بلا مرجّح من الأخذ بها في واحد دون واحد ، وأمّا إذا لم يكن البراءة في أحد الأطراف جارية لوجود الحجّة فيه فلا مانع من الأخذ بها في الطرف الآخر ، لسلامته من المحذورين.

والثاني : هو التمسّك في رفع التنجيز عن الطرف الآخر بالبراءة العقليّة ، وبيانه أن يقال : لا يشترط في بقاء التنجيز الذي هو أثر العلم الإجمالي في الأزمنة المتأخّرة بقاء الإجمال والترديد في النفس في كلّ واحد واحد من الأزمنة المتأخّرة ، فلو وقع قطرة دم على معيّن من الإنائين الذين علم بنجاسة أحدهما فحينئذ وإن كان صورة الإجمال زائلة عن النفس بالفعل بمعنى أنّه لا يجد الإنسان في نفسه في هذا الحال العلم بأنّ النجس إمّا هذا وإمّا ذاك ، بل يجد فيها العلم بنجاسة المعيّن مفصّلا والشكّ في الآخر ، إلّا أنّ التنجيز بمجرّد ذلك لا يرتفع عن الإناء الآخر ، بل يشترط في بقاء التنجيز في الأزمنة المتأخّرة أنّ المكلّف في كلّ واحد واحد من الأزمنة المتأخّرة كان بحيث لو لاحظ الزمان السابق وجد في نفسه الإجمال والترديد فعلا بلحاظ الزمان السابق ، كما في مثال وقوع القطرة ، فإنّ صورة الإجمال بالنسبة إلى ما قبل وقوعها محفوظة في النفس ، بمعنى أنّ المكلّف لو لاحظ ما قبل وقوع القطرة وجد فعلا في نفسه العلم بأنّ النجس كان في ذاك الزمان إمّا هذا وإمّا هذا.

فلو حدث للمكلّف حالة انهدم بسببها بنيان الإجمال من أوّل زمان حصوله بأن يسري الشكّ والتفصيل من الزمان المتأخّر إلى الزمان المتقدّم ارتفع التنجيز عن

٤٤

الطرف الآخر في الزمان المتأخّر ، فلو كان العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإنائين حاصلا في يوم السبت ، وكان العلم التفصيلي بنجاسة المعيّن منهما في هذا اليوم حاصلا في يوم الأحد فالمكلّف في يوم الأحد لا يجد في نفسه إذا لاحظ يوم السبت العلم بأنّ النجس إمّا هذا وإمّا هذا ، بل يجد في يوم الأحد بالنسبة إلى يوم السبت في نفسه أنّ هذا كان نجسا وذاك مشكوك الحال ، فلا يجب الاجتناب عن الإناء الآخر في يوم الأحد وما بعده.

فنقول : ما نحن فيه من هذا القبيل ، بمعنى أنّ الشكّ والتفصيل يسريان من الزمان المتأخّر وهو ما بعد قيام الطريق إلى الزمان المتقدّم وهو زمان حصول العلم ، وذلك لأنّ مفاد الطريق هو الحرمة في جميع الأزمان ، والوجوب كذلك ، والمفروض أنّ الطريق حجّة على المكلّف في جميع الأزمان ، فلهذا لو لاحظ المكلّف بعد قيام الطريق زمان حصول العلم لا يجد فعلا في نفسه العلم بأنّه إمّا هذا واجب وإمّا هذا ، وإمّا هذا حرام وإمّا هذا ، بل الموجود فعلا بلحاظ ذاك الزمان أنّ هذا واجب مفصّلا وذاك مشكوك الحال ، وبذلك يرتفع التنجيز عن الأطراف الخالية عن الطريق بعد قيام الطريق ، لانتفاء شرط التنجيز فيها.

هذا كلّه هو الكلام في الشبهة الحكميّة ، وأمّا الشبهة الموضوعيّة فلا محيص عن الإشكال فيها إن بنينا على الوجه الثاني ، لأنّ المفروض أنّ موضوع الحجّة كالبيّنة القائمة على نجاسة المعيّن من الإنائين بعد العلم إجمالا بنجاسة أحدهما متأخّر عن العلم ، ولا يكون مؤثّرا في الحجيّة من السابق أيضا ، فالحجّة متأخّرة عن العلم موضوعا وحكما ، فلم يبق وجه لانحلال العلم الإجمالي إذا لوحظ بعد قيام البيّنة زمان حصول العلم إلّا لسان حجيّة البيّنة ، وهو أيضا قاصر عن إفادة ذلك ، فإنّ غاية ما يلزم منه هو التعبّد والالتزام بآثار النجاسة السابقة لو كان لها آثار في اللاحق ، والتعبّد على النجاسة السابقة بحسب العمل الخارجي لا ربط له بعالم الوجدان ، ولا يزول بسببه صورة الإجمال عن النفس ، فإذا لوحظ الزمان المتقدّم على قيام البيّنة يوجد في النفس أنّ مطلق النجس إمّا كان في هذا ، وإمّا في ذاك و

٤٥

إن كنّا ملتزمين بحسب لسان الحجيّة في مقام ترتيب الآثار على نجاسة هذا المعيّن من السابق.

ويمكن رفع غائلة الإشكال عن الشبهة الموضوعيّة أيضا بالبناء في الجواب عن العلم الإجمالي على وجه ثالث ، وبيانه موقوف على تمهيد مقدّمتين :

الاولى : أنّ ملاك حكم العقل في باب الإطاعة ووجوب الامتثال لا يكون العلم بالحكم الواقعي بما هو علم وكشف تام مانع عن النقيض ، بل بما هو الجامع بين الكشف التامّ وبين الحجيّة المجعولة ، وهو عبارة عمّا يصحّ الاحتجاج به للمولى وبه للعبد ، وبعبارة اخرى عذر للمولى في ما أصاب وعذر للعبد في ما أخطأ ، فهذا مدار حكم العقل في باب الامتثال ، لا خصوص الكشف التام ، غاية الأمر أنّ الكشف التامّ فرد أكمل لهذا الجامع ، ولا يحتاج إلى الجعل ، والكشف الناقص فرد غير أكمل ويحتاج إلى الجعل ، ولكنّه بعد الجعل يصير فردا حقيقيّا لهذا المعنى الذي هو مدار حكم العقل.

وبالجملة ، المقدّمة الاولى إلغاء خصوصيّة الكشف التاميّة في موضوع حكم العقل ، ونظير ذلك ما قلنا في أوائل مبحث القطع من أخذ القطع في موضوع الشرع على وجه الطريقيّة لا الموضوعيّة ، ثمّ بعد إلغاء هذه الخصوصيّة عن العلم لا حاجة إلى إلغاء خصوصيّة الواقعيّة عن متعلّقه أعني الحكم ، بل يحصل المطلوب مع حفظها ، فنقول : مناط حكم العقل هو قيام الحجّة من المنجعلة أو المجعولة على الحكم الواقعي.

المقدّمة الثانية : أنّه كما ذكرنا آنفا في العلم الإجمالي أنّ شرط بقاء تنجيزه في الأزمنة المتأخّرة بقاء احتمال متعلّقه في كلّ من الأزمنة المتأخّرة متى لوحظ فيها الزمان المتقدّم ، كذلك نقول عين هذا الكلام بناء على هذا في الحجّة الإجماليّة ، فنقول : يشترط في بقاء التنجيز الذي هو الأثر للحجّة الإجماليّة في الأزمنة المتأخّرة بقاء الإجمال في متعلّقها في كلّ واحد واحد من الأزمنة المتأخّرة لو لوحظ فيها الحال بالنسبة إلى الزمان المتقدّم ، فلو سرى الشكّ والتفصيل في الزمان المتأخّر إلى الزمان المتقدّم ارتفع التنجيز عن الطرف الآخر.

٤٦

وحينئذ فنقول : هذا التقريب يتمّ في الشبهة الموضوعيّة أيضا وينحسم به مادّة الإشكال بالمرّة ، فإنّه حينئذ يقال : كما لو قام البيّنة على نجاسة المعيّن من الإنائين ثمّ حصل العلم بنجاسة أحدهما كان ذلك موجبا للانحلال بلا إشكال بالنسبة إلى أصل الحجّة الذي هو الجامع بين العلم والحجّة المجعولة ، إذ هذا الجامع كان قائما في هذا المعيّن مفصّلا ومشخّصا ومتحقّقا في ضمن هذا الخاصّ الذي هو البيّنة ، فإذا حصل العلم الذي هو فرد آخر له بنجاسة أحدهما إجمالا يمنع البيّنة المتقدّمة على التفصيل من حصول الإجمال في متعلّق هذا الجامع ، بل ينطبق الجامع في الإجماع على الجامع في التفصيل ، بمعنى أنّ قيام هذا المعنى الجامع في هذا الإناء المعيّن مشخّصا مانع من قيامه على هذا أو هذا.

فكذلك الكلام بعينه في صورة العكس أعني قيام البيّنة على نجاسة المعيّن من السابق بعد العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما ، فإنّه يقال حينئذ : قام الحجّة من الأوّل على هذا أو هذا ، وقام في الثاني على هذا مشخّصا من الأوّل ، ولم يقم على ذلك مشخّصا من الأوّل.

وبالجملة ، الحال في صورة العكس هو الحال بعينه في صورة العلم التفصيلي الحاصل بعد العلم الإجمالي ، كما لو علم إجمالا في يوم السبت على نجاسة هذا أو هذا ، ثمّ علم تفصيلا في يوم الأحد نجاسة هذا في يوم السبت وشكّ في حال الآخر ، فإنّ هذا يوجب بلا إشكال أنّه متى لوحظ الحال بالنسبة إلى السبت في يوم الأحد لم يوجد الإجمال في النفس ، فلا يمكن أن يقال : إنّي أعلم أنّ في السبت إمّا كان هذا نجسا وإمّا ذاك.

وفي ما نحن فيه أيضا لو علم في السبت بنجاسة هذا أو هذا ، ثمّ قام البيّنة في يوم الأحد على نجاسة هذا معيّنا من يوم السبت ، فالمكلّف إذا لاحظ يوم السبت لا يمكنه أن يقول : الحجّة قائمة على هذا أو هذا ، بل يقول : هي قائمة على هذا مشخّصا ، وليست بقائمة على ذاك مشخّصا ، فتأمّل في هذا المقام لعلّك تظفر بحقيقة المرام إن شاء الله الملك العلّام.

٤٧

فتحصّل من جميع ما ذكرنا ثلاثة أجوبة من التمسّك بالعلم الإجمالي بالواقعيّات دون خصوص ما بأيدينا :

أحدها : الانحلال التعبّدي بأن يكون العمل بما قام عليه الطريق قائما مقام العمل المعلوم بالإجمال ، وذكرنا أنّ هذا وإن كان جاريا في كلّ مقام ، لكن صحّته مبتنية على البناء على اقتضاء العلم الإجمالي للموافقة ، والمختار أنّ اقتضائه ترك المخالفة ، ومعه لا يتمّ هذا أصلا.

وثانيها : الانحلال الحقيقي بالغاء خصوصيّة الواقعيّة في الحكم في موضوع حكم العقل، وقد عرفت حصول الجواب به من تمسّك الأخباري بالعلم الإجمالي ، ولكن لا محيص عن الإشكال معه في الشبهة الموضوعيّة.

وثالثها : الانحلال الحقيقي أيضا ، لكن بإلغاء خصوصيّة الكشف التام في موضوع حكم العقل وإن كانت خصوصيّة الواقعيّة في الحكم محفوظة ، وقد عرفت أنّه مع حصول الجواب عن الأخباري به ينحسم مادّة الإشكال بسببه في الشبهة الموضوعيّة أيضا.

هذا حاصل الكلام في الوجوه التي تمسّك بها الأخباريّون في قبال تمسّك الاصوليين بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وقد عرفت عدم نهوض شيء منها للورود على هذه القاعدة، وللبيانيّة.

٤٨

«في حجج الاصوليّين للبراءة»

وإذن فيكفى للاصوليين هذه القاعدة ، ولكنّهم مع ذلك تمسّكوا لإثبات مذهبهم من البراءة في الشبهات الحكميّة بوجوه متلقّاة من الشرع ، وأقواها سندا ودلالة حديث الرفع المشتمل على رفع تسعة أشياء من الامّة وعدّ منها الخطاء والنسيان ، وما لا يطيقون ، وما اضطرّوا إليه ، وما استكرهوا عليه ، وما لا يعلمون ، والموصول في قوله : «ما لا يعلمون» عامّ للشبهة الحكميّة والموضوعيّة كما هو ظاهره.

وقد خدش في هذا الحديث تارة من حيث صحّة الاستدلال به ، واخرى من حيث نفس معناه ، أمّا الخدشة المتعلّقة بصحّة الاستدلال فمن جهات ثلاث ، تعرّض لاثنين منها شيخنا المرتضى في الرسائل ، وللثالثة المولى الأجلّ الطوسي في حاشيته على الرسائل مع رجوعه عنه على ما حكي في مجلس الدرس.

أمّا الجهة الاولى : فهي أنّ المراد بالموصول في الأخوات الواقعة في رديف «ما لا يعلمون» هو العمل والموضوع الخارجي ، فإنّ ما لا يطاق هو العمل ، ومعنى أنّ هذا الحكم حكم لا يطاق ، لا يطاق العمل به ، وكذلك في الاضطرار والإكراه ؛ فإنّهما واقعان على العمل الخارجي دون الحكم ، وإذن فقضيّة اتّحاد السياق والعطف والوقوع في الرديف أن يكون المراد بالموصول في «ما لا يعلمون» أيضا هو العمل الخارجي ، فيختصّ بالشبهة الموضوعيّة ، كمن شرب الخمر وهو لا يعلم أنّه خمر ، بل يشكّ في كونه خمرا أو ماء.

والجهة الثانية : هو أن لا إشكال في أنّ المرفوع ليس نفس هذه الأشياء كما هو واضح ، بل هو أثرها ، وحينئذ فلا بدّ من تقدير أظهر الآثار وهو المؤاخذة ، والمراد من الموصول في «ما لا يعلمون» لو كان هو الشبهة الموضوعيّة كان المقدّر

٤٩

هو المؤاخذة عليه ، ولو كان هو الشبهة الحكميّة كان المقدّر هو المؤاخذة من جهته ولأجله ، وهذان معنيان لا جامع بينهما ، فلا بدّ من إرادة واحد منهما لئلّا يلزم الاستعمال في معنيين، وحينئذ يلزم الإجمال ، لعدم تعيّن أنّ المقدّر قبل كلمة «ما لا يعلمون» هو المؤاخذة عليه ، أو المؤاخذة من جهته ، هذا في حدّ ذاته.

أمّا بملاحظة سائر الأخوات فحيث إنّ المقدّر فيها هو المؤاخذة عليها يتعيّن فيه أيضا تقدير المؤاخذة عليه ، فيتعيّن في الشبهة الموضوعيّة ، وإلّا لزم اختلاف السياق في التقدير من حيث إنّه يلزم على تقدير إرادة الحكميّة أن يكون المقدّر في البقيّة المؤاخذة عليه ، وفيه المؤاخذة من جهته ، وظاهر السياق أن يكون المقدّر في الكلّ واحد.

والجهة الثالثة : وهي التي تعرّض لها في الحاشية أنّ نسبة الرفع إلى «ما لا يعلمون» على تقدير إرادة الموضوع نسبة إلى غير ما هو له ، لأنّ نسبة الرفع إلى الموضوع بملاحظة أنّ المرفوع حكمه لا نفسه ، وأمّا على تقدير إرادة الحكم فالنسبة إلى ما هو له ، فإنّ المرفوع نفس الحكم ، فلا يمكن الجمع بينهما في الإرادة ؛ لاستلزام ذلك الاستعمال في المعنيين ؛ إذ لا جامع بين النسبتين ، وحينئذ فحيث إنّ النسبة في الأخوات يكون باعتبار مرفوعيّة الحكم فهذا يصير قرينة على هذا الاعتبار في ما لا يعملون ، لاتّحاد السياق ، فيكون مختصّا بالشبهة الموضوعيّة.

والجواب ، أمّا عن الجهة الاولى : فهو أنّ قضيّة اتّحاد السياق هو إرادة العموم لا الخصوص ، فإنّ الموصول في كلّ واحدة من الأخوات مستعمل في العموم ، فكأنّه قيل : كلّ شيء لا يطيقونه ، وكلّ شيء اضطروا إليه ، وكلّ شيء استكرهوا عليه ، غاية الأمر أنّ دائرة الصلة في هذه الثلاثة ضيّقة ، ولا تسع لغير الموضوع الخارجي ، وعموم الموصول أيضا تابع لعموم صلته ، ومجرّد ذلك لا يوجب التخصيص بالموضوع في مثل «ما لا يعلمون» الذي يكون صلته شاملة للموضوع والحكم معا.

وبالجملة ، فهذا من قبيل قولنا : جئني بما يؤكل وما يرى ، فإنّ اختصاص

٥٠

الموصول في الأوّل بالمأكولات من باب عدم سعة صلته لغيرها لا يوجب اختصاص الموصول في الثاني بها أيضا وعدم شموله لمثل الإنسان ، مع كون صلته جارية في الجميع كما هو واضح، وبالجملة ، فرق بين التصرّف في عموم الموصول واستعماله في الخاص ، وبين كون الصلة ضيّقة الدائرة ، وقضيّة اتّحاد السياق في الأوّل الخصوص ، وفي الثاني العموم.

وأمّا عن الجهة الثانية : فهو أنّ أمثال هذه التراكيب ممّا اشتمل على نسبة الفعل أو الوصف إلى غير ما يكون هذا الفعل أو الوصف له ، ومنها قولنا : جرى الميزاب محتملة لثلاثة وجوه :

الأوّل : أن لا يكون هناك مجاز لا في النسبة ولا في الكلمة ، بل قدّر في الكلام ما يناسب هذه النسبة ، فيقدّر في التركيب المذكور «الماء» ويصير التقدير : جرى الماء في الميزاب ، وفي الحديث رفع الأثر الذي رتّب على فلان وفلان.

والوجه الثاني : أن لا يكون هناك تقدير أصلا ، بل كان النسبة إلى نفس المذكور في الكلام وهذا على ضربين :

الأوّل : أن يتصرّف في النسبة ، بأن يجعل طرفها غير الشيء الذي حقّها أن يجعل هو طرف النسبة ، لكمال المشابهة والمناسبة والاتّصال في ما بين هذا الغير وهذا الشيء ، كما في التركيب ، حيث نسب الجريان الذي حقّه أن ينسب إلى الماء إلى الميزاب ، لكمال العلاقة بينه وبين الماء ، وكما في الحديث ، حيث إنّه نسب الرفع الذي حقّه أن ينسب إلى الآثار إلى نفس هذه الأشياء لكمال الربط في ما بينها وبين الآثار.

والثاني : أن يتصرّف في الأمر العقلي ، وذلك بأن يدّعى في النفس أوّلا أنّ الميزاب نفس الماء لكمال الربط والاتّصال بينهما ، وبعد هذا الادّعاء نسب الجريان إليه ، فيكون النسبة إلى ما هو له ، وكذلك يدّعى في النفس أنّ الأشياء المذكورة نفس آثارها ، ثمّ نسب الرفع إليها ، فيكون قد فرضتها معدومة بعد تنزيلها منزلة نفس الآثار المعدومة ، وأمّا المجاز في الكلمة فهو غير جار في الحديث بأن

٥١

اريد من الموصول الآثار مجازا وإن كان جاريا في قولنا : زيد أسد.

فهذه ثلاثة أوجه جارية في الحديث وأشباهه من التراكيب ، ولا يخفى أنّ الحمل على الوجه الأوّل الذي هو مبنى إشكال شيخنا العلّامة يخرج الكلام عن الملاحة والفصاحة ، وبعد الحمل على أحد الأخيرين لا يلزم الإشكال ، وذلك لأنّه عليها يكون نسبة الرفع إلى نفس أفراد العام الذي هو الموصول من دون تقدير في الكلام أصلا ، غاية الأمر أنّ هذه النسبة يحتاج إلى مصحّح وهو مختلف حسب اختلاف الأفراد ، وهذا ممّا لا ضير فيه.

فإمّا أن يقال : إنّه نسب الرفع إلى نفس الموضوعات والأحكام الغير المعلومة ، والمصحّح كمال مناسبة الموضوعات مع المؤاخذة عليها من جهة الحكم وكمال مناسبة الأحكام مع المؤاخذة من جهتها على الموضوعات ، وإمّا أن يقال : نسب الرفع إلى نفس الموضوعات والأحكام الغير المعلومة ، والمصحّح في الأوّل ملاحظتها وادّعائها عين المؤاخذة عليها من جهة الحكم ، وفي الثاني ملاحظتها وادّعائها نفس المؤاخذة من جهتها على الموضوع ، والحاصل وجه ملاحظة الموضوع كالعدم عدم ترتّب المؤاخذة عليه ، ووجه ملاحظة الحكم كالعدم عدم ترتّب المؤاخذة من جهته عليه ، ثمّ نسب الرفع إلى هذين الشيئين الذين كلّ منهما لوحظ كالعدم لوجه خاص به.

ومثله لو قيل : ليس شيء من هذا الأسد والطيلسان والبخاري شيئا ، والمصحّح في الأوّل عدم الشجاعة وفي الأخيرين عدم الحرارة على اختلاف صنفها فيهما ، هذا مضافا إلى إمكان تسليم التقدير ، ولا يرد ما ذكره من اختلاف السياق ، وذلك لأنّ اختيار التقدير بيدنا ، فنحن نقدّر شيئا لا يلزم منه اختلاف السياق ، بأن نقول : إنّ المقدّر في الكلّ المؤاخذة من جهته لا عليه ، فإنّه كما أنّ للحكم منشئيّة المؤاخذة ، كذلك للموضوع كما هو واضح.

وأمّا الخدشة الثالثة ففيها

أوّلا : أنّا إن بنينا على عدم المراتب للأحكام الواقعيّة وأنّ حالها بالنسبة إلى

٥٢

حال علم المكلّف وجهله على السواء ولا يزداد لها بالعلم رتبة ، بل هي فعليّة في كلّ حال ، غاية الأمر اختلاف الحالتين في التنجيز وعدمه والعذر وعدمه ، فحينئذ يكون نسبة الرفع إلى ما جهل من الموضوع وما جهل من الحكم على السواء في كون كليهما إلى غير ما هو له ، أمّا الموضوع فواضح ، وأمّا الحكم فلأنّ موضوع الرفع إذا كان «ما لا يعلم» فلا يعقل أن يكون المرفوع نفسه ، فالحكم إذا كان بواقعه الذي ليس إلّا واحدا غير معلوم بمعنى محتمل الوجود والعدم فهو مع هذا الوصف لا يمكن أن يصير مرفوعا ؛ إذ حينئذ يكون مقطوع العدم ويخرج عن كونه محتمل الوجود (١) ، وظاهر الخبر أنّ نفس الشيء الذي يكون موردا لقولنا : «لا يعلم» يكون مرفوعا.

فعلم أنّه لا يكون هنا اختلاف في النسبة ، بل هي على أيّ حال يكون إلى غير ما هو له ، سواء كان ما لا يعلم عبارة عن الموضوع أم عن الحكم ، مضافا إلى أنّه يلزم على هذا ـ من كون نفس الحكم مرفوعا ـ تقييد الحكم بالعلم كما قاله العلّامة قدس‌سره ، فيرد عليه الإشكال المشهور الذي هو الدور.

وإن بنينا على ثبوت المراتب للحكم كما هو مذهب المعترض قدس‌سره فنقول : لا بدّ من أن يؤخذ الرتبة الاولى محلا للعلم والجهل ، وحينئذ فيتعيّن الرتبة

__________________

(١) فإنّ الحكم المعلّق على عنوان تارة يكون مزيلا لذلك العنوان مثل : ارفع هذا الجالس ، واخرى يكون ملائما معه وباقيا ببقائه مثل : أكرم الجالس ، وما نحن فيه من قبيل الثاني ، فلا بدّ أن يكون الوصف العنواني أعني كونه ما لا يعلم باقيا حين الرفع ، فلا بدّ أن لا يتعلّق الرفع بنفسه ، وإلّا لا نقلب إلى المعلوم العدم وهو خلاف الفرض وإن كان متصوّرا ، فإنّ ما لا يتصوّر أن يكون الحكم بحدوثه رافعا لحدوث الموضوع ، لا بحدوثه لبقائه ، كما أنّ إشكال الدور أيضا أجنبيّ عن المقام ، فإنّ الدور إنّما يلزم لو كان الحكم الواقعي بحدوثه موقوفا على العلم أو عدم الجهل ، وأمّا إذا كان في حدوثه مطلقا وفي بقائه مشروطا بالعلم بالحدوث أو عدم الجهل به فلا دور كما هو واضح ، نعم يلزم التصويب الباطل بالإجماع ، ومن هنا يظهر وجه آخر لما قلنا في الحديث. منه قدس‌سره الشريف.

٥٣

الثانية لان يكون محلّا للرفع ، ولا يجوز جعل الرتبة الثانية محلّا للرفع وعدم العلم معا ، لعين ما تقدّم في المبنى المتقدّم حرفا بحرف ، فيكون الحكم برتبته الاولى لا يعلم وبرتبته الثانية مرفوعا ، فيكون أيضا المرفوع غير نفس ما لا يعلم ، فلا يلزم أيضا اختلاف النسبة ، فلا بدّ إذن من التجوّز إمّا في النسبة وإمّا في طرفها ادّعاء.

وثانيا : سلّمنا اختلاف النسبة بمعنى كونها إلى الحكم المجهول إلى ما هو له ، وإلى الموضوع المجهول إلى غير ما هو له وأنّه لا جامع بينهما ، ولكن نقول : إمّا يخصّص الموصول حينئذ بالحكم فيكون مناسبا لمطلب الاصولي ومخالفا للسياق ، فإنّ النسبة في الأخوات يكون إلى غير ما هو له ، وإمّا يخصّص بالموضوع ، فلا يناسب بمطلب الاصولي ويكون موافقا للسياق ، وإذا دار الأمر بين هذين فالمقدّم هو ما يقتضيه ظاهر النسبة ، وهو كونه إلى ما هو له وإن كان فيه مخالفة السياق وفي خلافه موافقته ، فإنّ اتّحاد السياق ليس ظهورا حتى يصلح لمعارضة الظهور ، وإنّما هو من المؤيّدات.

وثالثا : سلّمنا أيضا اختلاف النسبة ، ولكن نقول : يمكن الجمع والإتيان بكليهما في نسبة واحدة ، فإنّ غاية ما يقال أنّ أفراد ما لا يعلمون بين طائفتين ، فطائفة تكون مرفوعة واقعا وهي الأحكام ، واخرى تكون مرفوعة أثرا وهي الموضوعات ، ولكن لنا أن نقول : يمكن فرض الثانية أيضا من المرفوع الواقعي ادّعاء ثمّ ينسب الرفع إليها وإلى الطائفة الاولى بنسبة واحدة ، فتكون النسبة إلى جميع الأفراد إلى ما هو له والمرفوع الواقعي ، غاية الأمر بعضها مرفوع واقعي جدّا ، وبعضها كذلك ادّعاء.

فهذا نظير ما لو رأيت عدّة من الرجل الشجاع وعدّة من الحيوان المفترس ثمّ قلت : رأيت اسودا ، ونظير ما نحن فيه واقع في القرآن وهو الآية الشريفة : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ) إلى قوله : «وأن تجمعوا بين الاختين» حيث إنّ نسبة «حرّمت» إلى «أن تجمعوا» يكون إلى ما هو له ، لأنّه من الأفعال ، وإلى ما تقدّمه إلى غير ما هو له ؛ لكونها من الأعيان ، وطريق التصحيح هو ما ذكرنا من

٥٤

فرض غير الأهل أهلا إدّعاء ثمّ نسبة الفعل إليه وإلى الأهل الحقيقي ، فالنسوة المذكورة فرضت كأنّها ليست إلّا نفس العمل الذي يطلب من النساء وهو الوطي ، ثمّ نسب التحريم إليها وإلى الجميع.

وإذن فقد تحصّل أنّ الموصول في «ما لا يعلمون» شامل للموضوع والحكم ، والخدشات الثلاث مندفعة ، فنحتاج حينئذ إلى مصحّح لنسبة الرفع إلى نفس هذه الأشياء ، فنقول : المصحّح يحتمل فيه ثلاثة أوجه :

الأوّل : أن يكون بلحاظ أظهر الآثار ، ولا خفاء في أنّ أظهر الآثار في هذا المقام هو أثر المؤاخذة ؛ إذ هو الذي يبتلي به المكلّف ويكون الامتنان علّة في رفعه عنه ، وغير هذا الأثر أيضا وإن كان قد يكون كذلك ، لكنّ المنصرف من الرواية لو كنّا نحن وهي لا إشكال أنّه خصوص المؤاخذة والعقاب ؛ لكونه محلا للاهتمام كثيرا في حقّ العباد.

والثاني : أن يكون بلحاظ جميع الآثار أعمّ من المؤاخذة وغيرها من الآثار الوضعيّة ، ولكن خصوص ما كان رفعه مناسبا للمنّة.

والثالث : أن يكون بلحاظ الأثر المناسب بالمقام ، وعلى هذا فلا بدّ في كلّ مقام من تخصيص الرفع بالأثر المناسب بهذا المقام ، فإنّ المقامات مختلفة ، ففي ما إذا لم يكن فيه إلّا أثر تكليفي فالمناسب هو المؤاخذة ، وفي ما لم يكن إلّا أثر وضعي فالمناسب هذا الأثر ، وفي ما كان الأثر التكليفي والوضعي معا فالمناسب هو خصوص المؤاخذة ، ويعتبر على هذا الوجه أيضا المناسبة للمنّة علاوة على المناسبة للمقام. هذا بحسب مقام الثبوت.

وأمّا بحسب مقام الإثبات فقد عرفت أنّه لو لم يكن بأيدينا سوى نفس حديث الرفع لكان المتعيّن حمله على خصوص المؤاخذة ، ولكن هنا رواية اخرى مانعة عن هذا الحمل وهي صحيحة المحاسن عن صفوان والبزنطي جميعا «عن أبي الحسن عليه‌السلام في الرجل يستحلف على اليمين فحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك ، أيلزمه ذلك؟ فقال : لا ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

٥٥

رفع عن امّتي ما اكرهوا عليه وما لا يطيقون وما أخطئوا» الخبر.

واليمين المذكور وإن كان لا أثر له في مذهبنا مطلقا ولو في غير حال الإكراه ، إلّا أنّ الإمام راعى التقيّة من هذه الجهة ولم يحكم ببطلانه من هذه الجهة ، بل من جهة الإكراه ، فتكون هذه الصحيحة دليلا على أنّ المراد بالرفع في حديث الرفع ليس خصوص رفع المؤاخذة ، وإلّا لما استشهد الإمام به ، فإنّ الأثر المطلوب في هذا اليمين هو انقطاع العلقة الزوجيّة أو الرقيّة أو الملكيّة لا المؤاخذة ، وأيضا فالراوي أيضا ما اعترض على استشهاد الإمام مع كونه من أهل اللسان ، فيعلم من ذلك أنّ الرفع أعمّ من المؤاخذة.

فإن قيل : حيث إنّ اليمين بالعتاق والطلاق محرّم نفسي ، يمكن أن يكون نظر السائل في قوله : أيلزمه ذلك ، إلى أنّه هل يقع في إثمه أولا ، فيكون ذلك إشارة إلى الحلف المحرّم ، فكأنّه قال : لزمه هذا الحرام أو لا؟ فهو نظير قوله عليه‌السلام : من رضي بفعل لزمه ذلك ، وعلى هذا فاستشهاد الإمام عليه‌السلام لا يدّل على التعميم.

قلت : فيه أنّه خلاف ظاهر اللفظ ، حيث إنّ التعبير عن المعصية بمثل هذا بعيد ، وجعله إشارة إلى الحرام مع عدم ذكره أيضا بعيد ، فالظاهر من لزوم الحلف له انعقاد أثره في حقّه أو لزوم متعلّقه وهو نفس الانعتاق والانطلاق وصيرورة ما يملك صدقة ، بمعنى حصول ذلك وترتّبها على الحلف المذكور ، وأمّا قوله : من رضي الخ فلا شهادة فيه لإرادة العصيان، فإنّ المراد أنّ الفعل المرضيّ بنفسه يلزم الراضي ، يعني ينسب إليه ويلحق به مع عدم صدوره عن جوارحه.

لا يقال : يمكن إرادة خصوص المؤاخذة وليست في الصحيحة شهادة على التعميم ، وذلك بأن يقال : إنّ المؤاخذة المراد رفعها أعمّ ممّا كان بلا واسطة وما كان معها ، وفي اليمين المذكورة وإن كان لا تترتّب عليها مؤاخذة بلا واسطة ، ولكنّ المؤاخذة معها موجودة، والواسطة هو انقطاع الزوجيّة والرقيّة والملكيّة ، فالمراد برفع هذا اليمين الإكراهي رفع هذه المؤاخذة المترتّبة عليها بتوسّط هذا الأثر.

٥٦

لأنّا نقول : حال الرفع في هذا الحديث حال الوضع في حديث «لا تنقض» ، غاية الأمر أنّ الرفع ضدّ الوضع ، وقد تقرّر في عنوان الوضع في ما إذا كان للموضوع أثران طوليان أنّه إن أمكن شمول الوضع للأثر الأوّل كان الآثار الأخر مترتّبة من جهته وقهرا ، وأمّا إن لم يشمل الأثر الأوّل لعدم كونه أثرا شرعيّا ، فلا يمكن التعدّي منه إلى أثر هذا الأثر الذي كان شرعيّا ؛ إذ ليس وضع الموضوع بترتيب أثر أثره ، لأنّه ليس من أثر نفسه وأجنبيّ عنه ، فلا يكون ترتيبه وضعا للموضوع ، فكذلك نقول نحن مثل هذا الكلام في عنوان الرفع.

فنقول : إذا فرض أنّ رفع هذه العناوين عدم ترتيب خصوص أثر المؤاخذة ليس إلّا ، فلا جرم إنّما يشمل خصوص مورد كان أثر المؤاخذة أثرا لنفس هذه العناوين أوّلا وبالذات وبلا واسطة ، وأمّا إذا كان أثرا لأثرها مثل هذا الحلف المستكره عليه حيث إنّ أثر نفسه هو الانقطاع ، والمؤاخذة أثر لحرمة الوطي التي هي أثر للانقطاع ، فليس رفع المؤاخذة حينئذ رفعا لهذه العناوين ، كما لا يكون ترتيبها أيضا وضعا لها ، لكونها شيئا أجنبيّا غير مرتبط بهذه العناوين.

والحاصل أنّ هنا مطلبين ، الأوّل : أنّ مدلول الكلام رفع الأثر بلا واسطة ، والثاني : أنّ المؤاخذة أثر نفس الفعل المعنون بأحد هذه العناوين ، لكنّها غير قابلة للوضع والرفع ، فنقول : يكفي قبول منشأها ومناطها أعني إيجاب الاحتياط والتحفّظ لهما ، فنحن إذا قلنا بصحّة رفع المؤاخذة إذا كان ما يترتّب المؤاخذة عليه شرعيّا فلا يلزمنا أن نقول بارتفاعها وإن كانت بينها وبين الفعل المستكره عليه مثلا ألف واسطة شرعيّة.

وأمّا قولنا في «لا تنقض» بترتيب الأثر الشرعي المترتّب بواسطة أو وسائط كلّها شرعيّة فليس من جهة عقد القضيّة أوّلا في الأثر العاشر مثلا ، ثمّ يستكشف منه السوابق بطريق الإنّ ، بل يكون العقد أوّلا في الأثر بلا واسطة ، ثمّ يستطرق منه إلى أثر الأثر بطريق اللمّ ، وعلى هذا فمجرّد كون انقطاع الملكيّة والزوجيّة الذي هو الأثر بلا واسطة شرعيا ولازمها حرمة التصرّف والوطي ولازمها استحقاق

٥٧

العقوبة لا ينتج إلّا إمكان رفع الحلف المذكور برفع المؤاخذة المترتبة على لازم لازمه ، لا كونه مدلولا للحديث مفهوما عرفيّا منه بعد فرض أنّ الرفع والوضع كلاهما باعتبار الأثر بلا واسطة ، سواء قلنا بجميع الآثار أم بخصوص المؤاخذة.

وإذن فتعيّن أن يكون المقصود بالرفع في الحديث في محلّ الاستشهاد خصوص الأثر الوضعي ، لكن هذا إنّما يوجب رفع اليد عن الاحتمال الأوّل وهو كون موضوع الرفع خصوص المؤاخذة ، فيدور الأمر بين الاحتمالين الآخرين أعني جميع الآثار والأثر المناسب للمقام.

فنقول : لا إشكال في احتياج الثاني إلى مئونة زائدة لا يساعدها سوق الكلام وهو أن يكون الملحوظ في كلّ مقام ما يناسبه من الأثر ، فيحتاج إلى تعدّد اللحاظ بعدد اختلاف المقامات ؛ إذ ليس بين تلك المشتّتات جامع حتّى يقتصر على لحاظ هذا الجامع ، وأمّا عنوان المناسب للمقام فهو عنوان عرضيّ منتزع ثانوي ، وليس الملحوظ لدى المتكلّم إلّا أشخاص أفراد هذا العنوان العرضي ، فلا جرم نحتاج إلى تعدّد اللحاظ ، ولا يخفي أنّ الظاهر أنّ اللحاظ واحد في جميع العناوين في جميع المقامات ، وهذا لا يستقيم إلّا مع إرادة كلّ الآثار المناسبة مع الامتنان.

فتلخّص أنّ معنى الرواية بعد ملاحظة الصحيحة وهذا الظهور في نفسها هو رفع جميع الآثار ، هذا ملخّص الكلام في الإشكال على صحّة الاستدلال.

إن قلت : ما الفرق بين جميع الآثار وبعضها ؛ إذ على التقديرين التغاير موجود ، فجميع آثار كلّ عنوان غير جميع آثار عنوان آخر ، فتعدّد اللحاظ اللازم على تقدير جعل المصحّح برفع البعض بعينه موجود مع جعله رفع الكلّ.

وبعبارة اخرى : كما أنّ جميع الآثار عنوان انتزاعي ، كذلك أظهر الآثار ، وكما أنّ النظر يسري في الثاني إلى أشخاص المعنونات ، كذلك يعبر عن الأوّل أيضا إليها ، فإن كان العبرة بوحدة الحاكي ففي المقامين موجود ، وإن كان بوحدة المعنونات ففي المقامين مفقود.

قلت : الفرق أنّ السقوط عن الأثر رأسا وعن قابليّة الانتفاع جمّا أمر ملحوظ

٥٨

في نفسه مصحّح لنسبة النفي إلى الموضوع ، وهذا المعنى الواحد باختلاف محقّقاته موجود في المتعدّدات ، فيصحّ نسبة النفي الواحد إلى جميعها ، فيقال مثلا : هذا الأسد وهذا الطيلسان وهذا البخاري لا شيء محض عند سقوطها عن جميع الآثار ، وأمّا إذا كانت الآثار موجودة وكان المقصود أثرا خاصا أظهر من غيره كالشجاعة في الأسد ، ودفع البرد في الطيلسان ، والحرارة في البخاري ، فجمعها في كلام واحد وإضافة النفي إليها يحتاج إلى ملاحظات عديدة تفصيليّة ، واللحاظ الإجمالي ... (١)

أيضا مسبوق بها ، وهو وإن كان ممكنا ، ولكنّه في خلاف الظهور بمكان حتّى يمكن كون استعماله مخصوصا بباب المطايبات.

وأمّا الاشكال في الرواية من حيث المعنى فمن وجوه :

الأوّل : أن الرفع يحتاج إلى المسبوقيّة بالثبوت ، فيكون هو رفعا للشيء الثابت ، كما أنّ الدفع عبارة عن الممانعة عن مقدمات الشيء الذي يكون فيه مقتضى الوجود والثبوت ، وإذن فالإشكال هو أنّ المؤاخذة متى كانت ثابتة على هذه الامّة حتى تكون مرفوعة عنهم في ما بعده من الأزمنة؟.

والجواب أنّ الرفع بحسب العرف يكون أعمّ من الدفع ، فيستعملون الرفع في مقام حصل المقتضي لوجود الشيء وإن لم يصر نفس الشيء موجودا فعلا ، فحال الرفع في الحديث يكون كالنسخ في كونه من العالم بالعواقب الغير المتصوّر في حقّه البداء دفعا في اللب وفي عالم الثبوت وإن كان رفعا للشيء الثابت في الصورة وفي عالم الإثبات ، ولكن يمكن أن يقال بناء على ما هو الحقّ من إمكان إنشاء الحكم جدّا لمصلحة في نفسه : إنّ الشارع الحكيم رأى الصلاح في نفس الحكم الشامل لما بعد طروّ العجز والخطاء والجهل بالموضوع لأجل تحقّق الرفع الحقيقى عند طروّ أحدها ، فالإرادة الجديّة تثبت في قطعة من الزمان ثمّ رفعت عنها ، هذا.

__________________

(١) هنا بياض في الأصل بمقدار سطر.

٥٩

والتحقيق عدم إمكان ذلك ، فإنّ الحال في ذلك حال الإرادة الفاعليّة ، ولا يتمشّى ممّن يعلم بأنّه يسافر بين العشرة أن ينوى مقام العشرة ، وبالجملة ، البناء على الأمر الاستقبالي في الحال مع العزم على نقض هذا البناء في موطنه لا يجتمعان.

والثانى : أنّ حال الرفع ضدّ حال الإبقاء في مسألة الاستصحاب ، وقد تقرّر هناك أنّ الإبقاء في الموضوعات إنّما يكون بترتيب آثارها التي تنالها يد التصرّف إثباتا ورفعا ، فيكون الرفع أيضا عبارة عن عدم ترتيب أثر تناله يد الجعل والتصرّف ، والمؤاخذة ليست من هذا القبيل.

والجواب : أنّه وإن لم تكن نفس المؤاخذة من هذا القبيل ، ولكن منشأها منه ، فإنّ للشارع إيجاب الاحتياط في «ما لا يعلمون» مثلا حتى تصحّ المؤاخذة عليها ، وبهذا الاعتبار يصحّ أن يقال : إنّ المؤاخذة أيضا تناله يد الجعل باعتبار أنّ منشأها كذلك ، كما أنّ هذا هو الحال في الجزئيّة والشرطيّة والمانعية ، فإنّها أيضا بنفسها غير قابلة للجعل ، ولكن يكفي في صدق المجعوليّة والشرعيّة عليها كون منشأها مجعولا ، حيث إنّ الآمر لو أنشأ الإيجاب على المركّب من عشرة أشياء ينتزع الجزئيّة بسبب هذا الإنشاء لكلّ واحد من هذه الأشياء ، والكليّة لمجموعها.

والثالث : أنّ المؤاخذة على ما لا يعلمون قبيح لكونها عقابا بلا بيان ، فكيف يكون في رفعها امتنان ، وإنّما يحصل إذا كان المؤاخذة صحيحة ، وكذا الكلام في الخطاء والنسيان وما لا يطيقون وما اضطرّوا إليه ، نعم لا يجرى في ما استكرهوا عليه ؛ إذ يصحّ التكليف في مورد الإكراه بتحمّل الضرر وعدم الإقدام ، من دون لزوم قبح كما وقع ذلك في بعض الموارد، ويمكن تقريب الإشكال بأنّه ما وجه اختصاص الرفع بهذه الامّة مع أنّ حكم العقل بقبح مؤاخذة الجاهل والخاطي والعاجز جار في جميع الأديان وجميع الأزمان.

وأمّا القول بأنّ المنّة إنّما هي بلحاظ مجموع التسعة فلا يخفي كونه شططا من الكلام كما ذكره شيخنا المرتضى قدس‌سره حيث إنّه يكون الكلام حينئذ من قبيل

٦٠