أصول الفقه - ج ٢

آية الله الشيخ محمد علي الأراكي

أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ محمد علي الأراكي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٥٢
الجزء ١ الجزء ٢

جزءا من المقتضي ، فيكون الشكّ حينئذ راجعا إلى المقتضي ، فلا يجرى الاستصحاب حينئذ ، فيكون كلامه قدس‌سره راجعا إلى التفصيل في جريان الاستصحاب بين الشكّ في المانع والشكّ في المقتضي.

وجوابه يظهر ممّا تقدّم سابقا من اختيار جريانه في كلا القسمين ، مضافا إلى انتقاضه باستصحاب عدم النسخ في أحكام هذه الشريعة ، هذا كلّه هو الكلام في صورة إحراز حقيّة الشريعة اللاحقة والشكّ في مخالفتها مع السابقة في حكم فرعي.

ويمكن فرض المورد لاستصحاب عدم النسخ أيضا مع الشكّ في حقيّة الشريعة اللاحقة والعلم بمخالفتها مع السابقة في الفرعيّات ، وهو ما إذا فحص المكلّف وعجز عن إثبات صدق النبيّ اللاحق وكذبه ، فتردّد أمره بين أن يكون باقيا على عمله السابق ، وبين أن يرجع إلى الشريعة اللاحقة وكان حكم «لا تنقض» من أحكام كلتا الشريعتين ، فإنّ هذا المكلّف يعمل بمقتضى استصحاب عدم النسخ عمله السابق ويكون معذورا عند الله تعالى على كلّ حال.

ويشارك هذا في النتيجة وإن كان يخالفه في العمل بالاستصحاب ما إذا كان حكم «لا تنقض» من أحكام الشريعة اللاحقة فقط ، فإنّ البقاء على العمل السابق حينئذ أيضا معذور فيه ، غاية الأمر أنّه على فرض كذب النبيّ اللاحق حكم واقعي ، وعلى فرض صدقه حكم استصحابي ، فهو يأتي بالعمل لا بقصد كونه عملا بالاستصحاب ، ولا بعنوان كونه حكما واقعيّا.

وحيث انجرّ الكلام إلى هنا فلا بأس بالإشارة إلى مناظرة بعض أهل الكتاب مع بعض فضلاء السادة حيث تمسّك الكتابي على حقيّة دينه بأنّ المسلمين اعترفوا بنبوّة نبيّنا ، فنحن وهم معتقدون بحقيّته ونبوته ، فمقتضى الاستصحاب بقائها ، فعلى المسلمين إثبات الشريعة الناسخة.

فأجاب بعض السادة بما حكي عن مولانا الرضا صلوات الله عليه في جواب

٣٤١

الجاثليق حيث قال : ما تقول في نبوّة عيسى وكتابه ، هل تنكر منهما شيئا؟ قال عليه‌السلام أنا مقرّ بنبوّة عيسى وكتابه وما يبشّر به امّته واقرت به الحواريّون ، وكافر بنبوّة كلّ عيسى لم يقرّ بنبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وكتابه ولم يبشّر به امّته.

فذكر بعض السادة على حسب ذلك بأنّا نؤمن ونقرّ بنبوّة موسى أو عيسى الذي أقرّ بنبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا نقرّ بنبوّة كلّ موسى أو عيسى لم يقرّ بذلك.

فاعترضه الكتابي بأنّ موسى أو عيسى ليس كليّا قابلا للتقسيم ، بل هو جزئي حقيقي ، وحاله معهود وشخصه معروف ، ونحن وأنتم معترفون بنبوّته ، ولا يفرق الحال في نبوّة هذا الشخص المعيّن بين إقراره بنبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وعدم إقراره ، فمقتضى الاستصحاب بقاء نبوّته إلى أن يثبت بطلان دينه ونسخ شريعته ، فعند ذلك أفحم بعض السادة.

أقول : الحقّ في جواب الكتابي أن يقال : إنّ حال هذا الكتابي لا يخلو من قسمين ، لأنّه إمّا أن يتمسّك بهذا الاستصحاب في مقام عمل نفسه فيما بينه وبين الله تعالى ، وإمّا أن يتمسّك به في مقام إسكات المسلمين وإلزامهم.

فيتوجّه عليه على الأوّل أنّ النبوّة المستصحبة ملزومة لأمرين ، الأوّل الاعتقاد الجناني بها ، والثاني العمل الأركاني بأحكام الشريعة السابقة ، فلا يمكن إثبات لازمها الأوّل بالاستصحاب ؛ لأنّ الاستصحاب حكم في حال الشكّ ، ولا يمكن أن يجتمع الاعتقاد مع الشكّ ، فلا يصحّ أن يقال : أيّها الشاكّ في الأمر الفلاني تيقّن به مع كونك شاكّا به ، نعم يمكن إذا كان المقصود مجرّد عقد القلب بوجود المشكوك أو إزالة الشكّ وتبديله باليقين ، لا تحصيل اليقين مع حفظ الشكّ كما هو المقصود في المقام ، وهل هو إلّا أمرا بالجمع بين النقيضين؟

وأمّا إثبات اللازم الثاني بالاستصحاب فقد تقدّم الكلام فيه وأنّه لا إشكال في جريان الاستصحاب مع أحد الشرطين المتقدّمين ، لكن يرد على الكتابي أنّ

٣٤٢

الرجوع إلى الأصل في الشبهات الحكميّة إنّما هو بعد الفحص عن الدليل واليأس عنه ، والأمر في هذا المقام ليس بهذا المنوال ؛ لأنّ الأدلّة الموجودة في هذا المقام تكون بحيث لو راجعها الكتابي وجانب العناد لما يشكّ في تعيّن العمل بأحكام الشريعة اللاحقة.

ويتوجّه عليه على الثاني ـ أي على تقدير إرادته إلزام المسلمين كما يشهد بذلك قوله: فعلى المسلمين كذا ـ أنّا (١) معاشر المسلمين إنّما نقرّ بنبوّة موسى أو عيسى من جهة الإقرار بنبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله والقرآن الناطق بنبوّتهما ، ولو لا الإقرار بنبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله لما كان للإقرار بنبوّتهما طريق أصلا ، لانحصار الطريق للإقرار بنبوّتهما في الإقرار بنبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا محالة يكون المقرّ به حينئذ نبوّتهما المغيّاة بمجيئي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأمّا النبوّة الباقية بعد مجيئهصلى‌الله‌عليه‌وآله فلسنا مقرّين بها من أوّل الأمر ، لعدم طريق إليها ، بل لوجود الطريق إلى عدمها ، وحينئذ فكيف تلزمنا أيّها الكتابي بهذا الاستصحاب والحال أنّا لسنا بقاطعين في فرض ، ولسنا بشاكّين في فرض آخر ؛ إذ مع حفظ الإقرار بنبوّة نبيّنا ليس لنا شكّ لاحق ، ومع رفع اليد عنها ليس لنا يقين سابق ، ولا يخفي أنّ ما ذكرنا هو مراد مولانا الرضا صلّى الله عليه بجوابه المتقدّم عن الجاثليق.

__________________

(١) فإنّ معرفة النبوّة الشخصيّة إنّما يحصل بمعرفة آثارها وهي صدور المعجزات من شخص المدّعي ، وطريق معرفة ذلك منحصر في النقل القطعي وهو في حقّ أمثالنا ممّن يبعد عصره من تلك الأعصار منحصر في التواتر ، وحينئذ فإن ادّعوا وجود التواتر في نبوّة موسى أو عيسى دون نبيّنا عليه وعلى آله وعليهما‌السلام نقول : علينا بإتيان فوق ما أتيتم به من الأخبار ، فإن أفاد القطع فليفد كلاهما ، وإن لم يفد فلا بدّ أن لا يفيد كلاهما ، ففي تقدير لا يقين سابق ، وفي آخر لا شكّ لا حق ، وهذا مما شاة معهم ، وإلّا فلا تواتر على ثبوتهما غير التواتر القائم على نبوّة نبيّنا عليه وآله وعليها‌السلام ، فإنّه بضميمة تصديقه صلى‌الله‌عليه‌وآله لنبوّتهما عليهما‌السلام مفيد لنبوّتهما ، وحينئذ فالنبوّة التي إثباتها طفيل لإثبات نبوّة اخرى كيف يرفعها بالاستصحاب.

٣٤٣

الأمر السابع : فى الاصل المثبت (١)

قد عرفت سابقا أنّ حجيّة الاستصحاب إنّما هو من باب الأخبار ، وعلى هذا فاعلم أنّ المراد بعدم نقض اليقين بالشكّ عدم نقضه وإبقائه عملا ، فإنّ هذا هو المفهوم عرفا بعد عدم إمكان إرادة المعنى الحقيقي ، فإنّ من يعمل حال الشكّ عمله حال اليقين فكأنّه أبقى يقينه ، فمن يعمل حال الشكّ في حياة والده عمله حال اليقين بها فكأنّه أبقى والده وهذا هو الجامع بين استصحاب الحكم واستصحاب الموضوع.

فلا يرد أنّ الاستصحاب في الحكم عبارة عن جعل حكم مماثل للحكم السابق ، وفي الموضوع عبارة عن جعل أثر المتيقّن السابق ، ولا جامع بين جعل نفس المتيقّن وجعل أثره ، فكيف يمكن إرادتهما معا من قاعدة لا تنقض.

وجه عدم الورود أنّ القاطع بوجوب الجمعة سابقا كان عمله الإتيان بها ، والقاطع بحياة زيد سابقا كان علمه التصرّف في أمواله والانفاق على عياله ، فالجامع للاستصحاب في الموردين هو ما ذكرنا من إبقاء اليقين السابق عملا ، غاية الأمر أنّ قول الشارع : اعمل علمك السابق ينطبق في الأوّل على إيجاب الجمعة ، وهو حكم مماثل للحكم السابق ، وفي الثاني على جعل إباحة التصرّف والإنفاق وهي أثر للمتيقّن السابق (٢) ، ومن هنا لا يقتصر في مورد الاستصحاب

__________________

(١) راجع ص ٥٤٥

(٢) ولا يذهب عليك أنّ الجامع ترتيب آثار المتيقّن ، فإنّ المتيقّن فيما إذا كان هو الحكم أثره وجوب الامتثال ، وحكم العقل لا يتعلّق به جعل الشارع ، فلا يمكن جعله بالاستصحاب ، وإنّما الممكن جعل حكم ظاهري بالاستصحاب ، حتّى يصير موضوعا لوجوب الامتثال ؛ لعدم الفرق في ـ

٣٤٤

على ما إذا كان المتيقّن السابق حكما أو موضوعا مستقلّا للحكم ، بل نقول بجريانه فيما اخذ قيدا للموضوع أو جزء ، فلو شكّ في دخالة الوضوء في الصلاة بعد اليقين بها سابقا يستصحب الدخالة ؛ لأنّ لنفس الدخالة عملا سابقا ، فالمعيار في مورد الاستصحاب كلّ ما كان له عمل سابق وكان من شأن الشارع الحكم بإبقائه عملا.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ هنا أقساما مختلفة ظهورا وخفاء في جريان الاستصحاب وعدمه.

منها : ما إذا لم يكن المتيقّن حكما شرعيّا ولا موضوعا له ، وكان منتهيا إلى الأثر الشرعي بأن كان علّة لما هو الموضوع للأثر الشرعي أو علّة لعلّته فصاعدا.

ومنها : ما إذا لم يكن حكما ولا موضوعا ولا منتهيا إلى الأثر الشرعي وكان لازما ومعلولا لما هو الموضوع للأثر الشرعي.

ومنها : ما إذا كان بينه وبين موضوع الأثر الشرعي مجرّد التلازم في الوجود بأن كانا معلولين لعلّة ثالثه ، وحينئذ قد يكون اللزوم بينهما اتّفاقيا كما في الإنائين المشتبهين ، حيث إنّ طهارة أحدهما ملازمة لنجاسة الآخر وبالعكس اتّفاقا ، وقد يكون عقليّا أو عاديّا.

ومنها : ما إذا كان شيئا له أثر شرعي بلا واسطة ، لكن كان ترتّب الأثر عليه بحكم العقل ، كما لو احرز المقتضي للوجوب وشكّ في المانع عنه ، فأصالة عدم المانع يترتّب عليه الوجوب وهو أثر شرعي ، لكنّ الحاكم بترتّبه على عدم المانع هو العقل.

ومنها : ما إذا لم يكن المتيقّن مجعولا ولا موضوعا للأثر الشرعي ، ولكن كان منتزعا عمّا هو بيد الشرع كالصحّة والفساد ، حيث إنّهما أمران عقليّان منتزعان عن

__________________

ـ موضوعه بين الحكم الواقعي والظاهري ، وأمّا العمل الخارجي فهو أثر لنفس اليقين الطريقى ، فعدم نقضه بمعنى بقاء هذا العمل حكم ظاهري موضوع لوجوب الامتثال فيما إذا كان المتيقّن السابق هو الحكم. منه عفي عنه.

٣٤٥

المطابقة للمأمور به وعدم المطابقة له ، لكن منشأ انتزاعهما بجعل الشرع ، إذ للشارع أن يرفع قيديّة القيد في مرحلة الظاهر حتّى ينتزع الصحّة عن العمل الخالي عنه.

ولا بدّ من التكلّم في الخفيّ من هذه الأقسام وهو القسم الأوّل ، ويتّضح منه الحال في غيره.

فنقول : إذا كان المتيقّن السابق المشكوك اللاحق موضوعا غير مجعول وكان له لازم عقلي أو عادي ، وكان لازمه ملزوما للازم عقلي أو عادي ، وهذا اللازم أيضا ملزوما للازم آخر وهكذا إلى أن ينتهى إلى ما هو ملزوم لحكم شرعي ، فقد يقال بأنّه لا مانع من إحراز الاستصحاب في الشيء الأوّل الذي تحقّق فيه اليقين السابق والشكّ اللاحق باعتبار ذاك الحكم الشرعي المترتّب عليه بوسائط ، لأنّ ترتيب هذا الحكم إبقاء عملي لذاك الشيء ، فيشمله عموم «لا تنقض اليقين بالشكّ» بناء على ما مرّ من تفسيره بالإبقاء العملي.

وبالجملة ، فالإبقاء العملي كما يصدق فيما إذا كان الحكم الشرعي مترتّبا على نفس المتيقّن بلا واسطة ، كذلك يصدق فيما إذا كان مترتّبا عليه بوسائط ، فإنّه أيضا ينتهي إليه بالأخرة ؛ لأنّ أثر الأثر أثر.

والحقّ خلاف ذلك ، لأنّ المتبادر من حرمة نقض المتيقّن السابق ووجوب إبقائه في اللاحق ترتيب أحكام نفس المتيقّن بلا واسطة ، لا ما ينتهي إليه معها ، فإذا شكّ في وجود زيد بعد القطع به سابقا وكان لازم وجوده إلى زمان الشكّ عادة طول لحيته وكان لوجوده آثار ولطول لحيته أيضا آثار فقيل : لا تنقض اليقين بوجود زيد وعامل معاملة بقائه ، كان هذا منصرفا إلى الآثار الاول دون الثانية ؛ لعدم انطباق عنوان معاملة بقاء زيد من حيث إنّه بقاء زيد إلّا على الاولى.

وأمّا الثانية فإنّما ينطبق عليها عنوان معاملة بقاء زيد من حيث إنّه ملزوم لما ينتهي إلى ملزوم هذه الآثار ، والحاصل أنّ تنزيل وجود زيد في حال الشكّ منزلة

٣٤٦

وجوده المحقّق ينصرف إلى أقرب آثاره دون أبعدها ، وحينئذ فحيث إنّ الوسائط أيضا امور عقليّة أو عادية ، وهي غير قابلة للجعل ، فلا محيص عن خروج تلك الأحكام التي تكون بوساطتها عن مدلول دليل الاستصحاب.

فإن قلت : ما الفرق بين الاصول والأمارات حيث لا يفرق في الثانية بين الحكم المترتّب بلا واسطة والمترتّب معها ، فإذا قامت البيّنة على وجود زيد فكما يرتّب آثار وجوده يرتّب آثار طول لحيته ، والحال أنّ مفاد دليل الأمارة تنزيل المؤدّى ، كما أنّ مفاد دليل الأصل تنزيل مورده ، وعدم قابليّة الأثر العقلي أو العادي للجعل مشترك بين المقامين ، فإن قيل في الأمارة بأنّ تنزيل المؤدّى يكون تنزيلا للازمه وهو تنزيلا للازم اللازم وهو للازم لازم اللازم إلى أن ينتهي إلى الحكم الشرعي ، فلا بدّ أن يقال بمثل ذلك في الاصول ، وإن قيل في الأمارة بأنّ تنزيل المؤدّى يكون من أوّل الأمر بلحاظ ذاك الحكم من دون حاجة إلى التنزيل في الوسائط فلا بدّ أن يقال بمثله في الاصول ، فلا وجه للفرق.

قلت : وجه الفرق أنّ مفاد دليل الأمارة تصديق الأمارة في جميع ما يحكي عنه ، لا في خصوص المدلول المطابقي ؛ لأنّ ذلك قضيّة التعبّد بالأمارة من حيث كونها طريقا كما هو المفروض المفروغ عنه ، فكما أنّ العرف والعقلاء في طرقهم المتعارفة بينهم لا يقفون على المدلول المطابقي ويعاملون معها معاملة العلم في ترتيب جميع الآثار والملزومات والملازمات ، فكذلك لو أمرنا الشارع بمتابعة طريق يجب المعاملة معه معاملة العلم.

وسرّ ذلك أنّ الشارع أراد إلغاء كذب الأمارة ، فكلّ شيء يناط صدق الأمارة بوجوده وكذبها بعدمه فالشارع تعبّدنا بوجوده وإن لم يكن بينه وبين مدلول الأمارة ارتباط أصلا إلّا في مجرّد الملازمة الاتفاقيّة ، فضلا عمّا إذا كان في سلسلة اللوازم أو في سلك الملزومات.

٣٤٧

مثلا إذا أخبر البيّنة بنجاسة أحد الإنائين الذين علم بنجاسة أحدهما وطهارة الآخر ، واشتبه النجس بينهما بالطاهر ، فنجاسة الإناء الآخر مستلزمة لكذب البيّنة ، ويناط صدقها بطهارته ، فالشارع تعبّدنا بطهارته ، فهذا وجه التعدّي في الأمارات إلى اللوازم والملزومات والملازمات.

وحينئذ نقول : إنّ إخبار البيّنة مثلا بشيء يفيد لنا حكايات عديدة طوليّة بالوجدان على حسب لوازمه وملزوماته وملازماته ، فلو لم يكن للمحكّي بالحكايات التي في الرتبة الاولى أثر شرعي وكان الأثر الشرعي للمحكّي بواحد من الحكايات التي في الرتبة الأخيرة فنقول : إنّ هذا المحكيّ شيء يناط بوجوده صدق البيّنة ويلزم من عدمه كذبها ، فالشارع تعبّدنا بوجوده ، فدليل حجيّة البيّنة بمحض قيامها على المدلول المطابقي يشمل ابتداء هذا المحكيّ من دون حاجة إلى التنزيل في الوسائط حتى يقال : إنّه إن اريد بالتنزيل فيها جعل نفسها فهو غير ممكن ، وإن اريد جعل أثرها فالمفروض أنّه لا أثر لها.

وهذا بخلاف الحال في الاصول ، فإنّ المفروض أنّه ليس في البين فيها سوى دليل التنزيل ، وهو بمقتضى الجمود على مفاده لا يشمل إلّا آثار نفس المورد ، فإنّ قضيّته التعبّد بمورد الأصل ، والقدر المتيقّن آثار نفس المورد ، فلا يشمل آثار الآثار ، فضلا عن الملزومات والملازمات ، مثلا قاعدة «لا تنقض» إنّما يفيد تعبّد بنجاسة أحد الإنائين المشتبهين ، ومن المعلوم أنّ عدم نقض اليقين بالنجاسة ومعاملة بقائها في هذا الإناء المخصوص لا ربط له بطهارة الإناء الآخر ، وهكذا الكلام في استصحاب نجاسة الثوب المغسول بالماء المشكوك الحال ، حيث إنّ التعبّد بنجاسة الثوب لا ربط له بحال الماء.

بقي الكلام فيما إذا لم يكن المتيقّن السابق مجعولا ولا موضوعا للأثر الشرعي بلا واسطة ، ولكن كان منتزعا عمّا هو المجعول كما هو القسم الأخير من

٣٤٨

الأقسام السابقة مثل المانعيّة والشرطيّة والجزئيّة.

والحقّ جريان الاستصحاب فيه ، ووجهه أنّه لا دلالة في خطاب «لا تنقض» على اعتبار المجعوليّة أو الموضوعيّة للأثر في المتيقّن ، بل المعيار فيه كلّ أمر تناله يد الشرع ويقبل تصرّفه ، فكلّ شيء تحقّق فيه اليقين السابق والشكّ اللاحق وكان بالوصف المذكور فلا مانع عن شمول الخطاب له ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، فلو شكّ في شرطيّة شيء أو مانعيّته للمأمور به بعد اليقين بها سابقا فهذا الشكّ راجع إلى الشكّ في أنّ المطلوب في الزمان الثاني هل هو مقيّد بوجود هذا الشيء أو بعدمه ، أو ليس مقيّدا بذلك ، ومن المعلوم أنّ هذا شيء يكون أمره بيد الشرع ، فلا مانع من عموم خطاب «لا تنقض» إيّاه.

نعم لا ينبغي الإشكال في عدم جريان الاستصحاب في عنوان الشرط وعنوان المانع مع عدم الشكّ في المصداق كما هو القسم الرابع من الأقسام ، فلو احرز وجود المقتضي للتنجيس وهو ملاقاة النجاسة في الماء ، وشكّ في وجود المانع وهو الكريّة من جهة الشكّ في مفهوم الكريّة مع عدم الشكّ في المصداق من جهة معلوميّة كمّ الماء في السابق وفي اللاحق ، فأصالة عدم عنوان المانع في الماء الثابت قبل وجود الماء وإن كان يترتّب عليها الأثر الشرعي بلا واسطة وهو النجاسة كما في سائر الاستصحابات الموضوعيّة ، ولا مجال للإشكال فيه أيضا بأنّ ترتيب النجاسة على عنوان عدم المانع حكم العقل ؛ لأنّ ذلك إنّما هو فيما إذا تحقّق وجود المقتضي وعدم المانع بالوجدان لا فيما إذا شكّ في أحد الجزءين ، فللشارع أن يتعبّدنا في حال الشكّ بالبناء على عدم المانع ، ولكنّه مع ذلك محلّ إشكال من حيث إنّ هذه العناوين ليس لها أثر أصلا ولو عقلا ، وإنّما الأثر لذواتها.

مثلا ذات النار مؤثّر في الحرارة والإحراق ويعرضها عنوان العليّة في الرتبة المتأخّرة عن هذا التأثير ، فلا يعقل مع ذلك أن يكون لهذا العنوان دخل في هذا التأثير ، وهكذا الكلام في عنوان وجود المانع وعنوان عدم المانع وأشباههما.

٣٤٩

تنبيه :

إذا كان متعلّق اليقين السابق موضوعا ملزوما لموضوع ذي حكم ، وكان الموضوع الثاني الذي هو الواسطة بين الموضوع الأوّل والحكم خفيّا لا يراه العرف ، بحيث يعدّ الحكم حكما للموضوع الأوّل بلا واسطة ، فلا مانع من إجراء دليل الاستصحاب.

مثلا لو كان في أحد المتلاقيين الذين أحدهما نجس رطوبة مسرية قبل الملاقاة فشكّ في بقائها حال الملاقاة فلا مانع من استصحابها ، فإنّه وإن لم تكن النجاسة أثرا لوجود الرطوبة المسرية في أحد المتلاقيين ، بل لسرايتها منه إلى الآخر ، ولكن هذه الواسطة لخفائها لا يراها العرف فيعدّ النجاسة أثرا لنفس وجود الرطوبة المسرية ، وبعد عدّ الحكم حكما لنفس الموضوع الأوّل بلا واسطة بنظر العرف يشمله دليل حرمة نقض اليقين بالموضوع السابق ووجوب إبقائه بمعنى إبقاء آثاره المترتّبة بلا واسطة ، ولا وجه لانصرافه عن هذا الأثر كما كان منصرفا عن سائر الآثار المترتّبة مع الواسطة ، فإنّ المتّبع في ذلك نظر العرف.

فإن قلت : إنّما يكون المتّبع نظر العرف فيما إذا كان خطائه في أصل المفهوم ، فلو كان بين العرف والعقل اختلاف في مفهوم من المفاهيم فكان عند العقل أوسع منه عند العرف ورتّب الشرع على هذا المفهوم أثرا ، يجب أن يراعى نظر العرف لئلّا يلزم نقض الغرض ، لا بمعنى أن يقيّد المفهوم بكونه عرفيّا حتى يكون تقييدا باردا ، بل بمعنى أن يجعل نظره نظرا عرفيّا ، فيقع حكمه حينئذ على المصاديق العرفيّة حقيقة ويكون الموضوع الحقيقي الدقيقي لحكمه هو المصاديق العرفيّة و

٣٥٠

إن لم يكن مصداقا بنظر العقل ، وما هو مصداق بنظر العقل دون العرف يخرج عن الموضوع حقيقة.

وهذا بخلاف الحال في التطبيقات ، فلو كان هناك مفهوم واتّفق العقل والعرف في أصله واختلفا في تطبيقه على المصاديق ورتّب عليه الشارع أثرا ، كان المتّبع نظر العقل دون العرف ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، لوضوح أنّ مفهوم عدم نقض اليقين بالموضوع السابق وإبقائه عملا متّحد عند العرف والعقل ، فيتمحّض الاختلاف في مقام التطبيق.

قلت : كما أنّ نظر العرف متّبع في أصل المفاهيم ، كذلك يكون متّبعا في مقام التطبيق بعد احراز المفهوم ؛ لعين ما ذكر في الأوّل من لزوم نقض الغرض ، فإنّ الشارع لو ألقى حكمه إلى العرف وكان نوع أهل العرف نظرهم خطاء في مقام التطبيق ، فلا شبهة أنّ العرف يأخذ هذا الحكم ويعمل به على حسب تطبيقات نفسه ، من دون أن يرجع إلى أهل العلم في أنّ هذا التطبيق خطاء أو لا ، فلو لم يأمره الشارع بهذا الرجوع وكان مراده مع ذلك متعلّقا بالمصاديق الواقعيّة كان هذا نقضا لغرضه.

والعجب من بعض الأساتيد قدس‌سره حيث إنّه لمّا فرض عدم الاعتناء بالمسامحات العرفيّة في مقام التطبيق مفروغا عنه ، التجأ إلى جعل المقام من باب الخطاء في أصل المفهوم ، مع أنّك تعرف أنّ مفهوم عدم النقض والإبقاء عملا واحد لا اختلاف فيه بين العرف والعقل أصلا ، وأنّ الحال في المقام هو الحال بعينه في اختلاف صحيح العين والأحول في روية الشيء الواحد اثنين ، حيث إنّه لا اختلاف بينهما في مفهوم الاثنين قطعا.

ثمّ إنّه قد ألحق بعض الأساتيد قدس‌سره بخفاء الواسطة جلائها ووضوحها بحيث كان التلازم بينها وبين ذي الواسطة بمثابة يورث التلازم بينهما في مقام التعبّد والتنزيل ، بأن كان التنزيل في أحدهما عين التنزيل في الآخر عرفا ، مثلا

٣٥١

تنزيل أبوة زيد لعمرو ملازم لتنزيل بنوّة عمرو لزيد ، ولا ينفكّ أحد هذين التنزيلين عن الآخر عرفا.

ولا بأس بالإشارة إلى بعض المقامات التي توهّم كونها من موارد الاصول المثبتة وليس منها :

فمنها ما إذا احرز بالاستصحاب وجود موضوع خارجي لإثبات حكم مترتّب على عنوان كلّي يكون لهذا الموضوع دخل في تحقّقه ، مثاله ما لو نذر التصدّق بدرهم ما دام ولده حيّا ، فاستصحاب حياة الولد في يوم شكّ فيها لإثبات وجوب التصدّق أصل مثبت ، لأنّ حياة الولد لم يرتّب عليها الحكم في خطاب من الخطابات ، وإنّما تعلّق النذر بالتصدّق بدرهم ما دام الولد حيّا فصار عنوان الوفاء بالنذر منطبقا على هذا الفعل الخاص في فرض كون الولد حيّا ، فمتى تحقّق حياة الولد يتحقّق الوجوب بتوسّط هذا العنوان الذي هو الوفاء بالنذر.

ومن هذا الباب أيضا استصحاب وجود زيد لإثبات وجوب نفقة زوجته من ماله ، فإنّ هذا الأثر إنّما يترتّب على وجود زيد بواسطة ما يلزمه عقلا من انطباق عنوان الزوج عليه، وعنوان الزوجة على الامرأة الخاصّة ، وتفصّى بعض الأساتيد قدس‌سره عن هذا بما حاصله أنّ حياة الولد وإن لم يرتّب عليها الحكم في خطاب خاص ، ولكنّه رتّب عليه وجوب التصدّق لعموم خطاب وجوب الوفاء بالنذر.

بيان ذلك أنّ عنوان الوفاء أمر انتزاعي منتزع عن العناوين الخاصّة المختلفة حسب اختلاف الموارد ، والمتعلّق للوجوب ذوات هذه العناوين الخاصّة بخصوصياتها وقيودها ، فإذا وقع عنوان التصدّق بدرهم ما دام الولد حيّا موردا للنذر ، كان الوجوب متعلّقا بنفس هذا العنوان الخاص ، غاية الأمر أنّه لمّا لم يكن لهذه العناوين ضابط كلّي تندرج تحته وكان جامعا ومانعا ، انتزع منها عنوان الوفاء وجعل متعلّقا للأمر بحسب الصورة ، وإلّا فالمتعلّق له حقيقة نفس تلك العناوين

٣٥٢

المتشتّتة بخصوصياتها ، دون هذا الأمر الاعتباري الانتزاعي الذي هو وفاء الناذر والتزامه بما ألزم به نفسه ، فقول الشارع : التزم بما ألزمت به نفسك يرجع حقيقة في مسألتنا إلى قوله : تصدّق بدرهم ما دام الولد حيّا.

وهذا هو الحال في كلّ عنوان منتزع عن العناوين الخاصّة المختلفة ذاتا المتّفقة في ملاك حكم مثل المقدّميّة والضديّة ونحوهما ، ولأجل هذا يكون النهي المتعلّق بالضدّ بناء على اقتضاء الأمر للنهي عن الضدّ من باب النهي في العبادة ، لا من باب اجتماع الأمر والنهي، مثلا الصلاة المزاحمة لواجب مضيّق كالإزالة إنّما يكون تركها واجبا بعنوان كونه ترك الصلاة ، لا بعنوان المقدّميّة ، فالنهي يتعلّق بعنوان الصلاة.

فإن قلت : الغصب أيضا أمر انتزاعي ، فكيف يكون عند اجتماعه مع الصلاة من باب الاجتماع وليس من باب النهي في العبادة.

قلت : نعم هو انتزاعي ، لكنّه ليس منتزعا عن الأفعال والحركات الصلاتية من حيث كونها كذلك ، بل منتزع من أصل الفعل وأصل الحركة الذي هو أعمّ من الصلاة ، هذا حاصل ما ذكره قدس‌سره.

والحق أنّ توهّم كون هذا الاستصحاب مثبتا فاسد حتّى على فرض كون الوجوب متعلّقا بنفس عنوان الوفاء بالنذر كما هو ظاهر الأدلّة ، ووجهه ما تقدّم في بعض المباحث السابقة من أنّ وقوع العنوان الكلّي موضوعا للحكم يتصوّر على نحوين :

الأوّل : أن يكون بعنوان صرف الوجود ، والثاني : أن يكون بعنوان الوجود الساري ، والأصل المثبت في المقام مبنيّ على الأوّل دون الثاني ؛ لأنّه إذا وقع بعنوان الوجود الساري موضوعا للحكم ينتشر حكمه في الوجودات الخاصّة ويصير كلّ منها موضوعا له ، فإذا قال الشارع اوف بالنذر وكان الملحوظ وجوده الساري يتعلّق الوجوب بالوجودات الخاصّة لعنوان الوفاء ، ومن جملتها عنوان

٣٥٣

إعطاء الدرهم في فرض حياة الولد ، فيتعلّق الوجوب بهذا العنوان بوجوده الخاصّ في فرض حياة الولد ، غاية الأمر أنّ هذا الوجود الخاص أعني إعطاء الدرهم المفروض في فرض حياة الولد ليس معروضا للوجوب بعنوان نفسه ، بل بعنوان كونه مصداقا للوفاء ، وهذا لا دخل له بالواسطة بعد فرض أنّ الوجوب مضاف إلى نفس الوجود الخاص من دون وساطة شيء آخر ، فيكون إحراز حياة الولد في المقام بالاستصحاب من باب إحراز شرط الوجوب في الواجبات المشروطة بالاستصحاب.

ومن هنا يعلم الحال في استصحاب حياة الزيد لإثبات وجوب إخراج نفقة زوجته من ماله ، فإنّه وإن كان لحياة زيد مدخل فى اتّصافه بعنوان الزوج ، كما أنّ لحياة الولد في المثال المتقدّم مدخليّة في اتّصاف الإعطاء بعنوان الوفاء ، ولكن حكم وجوب الإنفاق مترتّب على نفس الزيد الحيّ ، لا على شيء آخر ، غاية الأمر بعنوان كونه زوجا ، فالمستصحب نفس موضوع الحكم لا ملزومه.

والحاصل أنّه لو اريد بالاستصحاب إحراز موضوع ثمّ ترتيب حكم عليه بتوسّط عنوان ملازم معه عقلا كان هذا من الأصل المثبت ، وأمّا لو رتّب الشارع حكما على موضوع بتوسّط عنوان وكان وظيفة الاستصحاب صرف إحراز هذا الموضوع فليس هذا من الأصل المثبت كما هو واضح ، وكلا المقامين من هذا القبيل.

ثمّ إنّه ربّما يتوهم كون استصحاب الخمريّة أيضا من الاصول المثبتة ، فإن كان وجه التوهّم أنّ إثبات الحرمة موقوف على تطبيق عنوان الخمر على المائع المشكوك فهذا واضح البطلان ؛ لأنّ هذا التطبيق بنفسه يكون مجرى للاستصحاب ، نعم لو كان مجراه مجرّد إحراز العنوان وكان تطبيقه على الموضوع الخارجي منّا كان أصلا مثبتا ، ولكنّه أجنبيّ عن المقام.

وإن كان وجهه أنّ إثبات الحرمة موقوف على تطبيق عنوان شرب الخمر على شرب هذا المائع وهو ملازم عقلى مع كونه خمرا ، وذلك لوضوح أنّ حرمة الخمر

٣٥٤

راجعة إلى شربه فموضوع الحرمة شربه لا نفسه ، كما هو الحال في سائر الأحكام المتعلّقة بالأعيان ، ففيه أنّ الاستصحاب جاعل للموضوع اللاحق بمنزلة الموضوع السابق ، فالحكم المترتّب على الموضوع السابق يكون بعد هذا التنزيل مترتّبا على نفس الموضوع اللاحق ، فإذا كان الموضوع الأوّل هو الخمر وكان الأثر حرمة الشرب فمفاد الاستصحاب إثبات هذا الأثر أعني حرمة الشرب لنفس الموضوع الثاني أعني المائع المشكوك ، فكما كان حرمة الشرب مترتّبا على نفس الخمر فصار الحرام شرب الخمر ، فكذلك يكون بعد الاستصحاب مترتّبا على نفس هذا المائع ، فيصير الحرام شرب هذا المائع ، فلا بدّ من طرح إضافة الأثر إلى الموضوع الأوّل وجعله مضافا إلى الموضوع الثاني ، لأنّ هذا معنى التنزيل.

فإن شئت قلت : إنّ هذا الاستصحاب يفيد التوسعة في موضوع خطاب حرمة شرب الخمر ، فيكون الخطاب شاملا للخمر الواقعي والمائع المستصحب الخمريّة في عرض واحد.

ومنها : استصحاب وجود ما يكون شرطا لموضوع الحكم الشرعي أو عدمه ، ووجود ما يكون مانعا للموضوع وعدمه ، مثل استصحاب الطهارة أو الحدث للصلاة حيث يتوهّم أنّ جواز الدخول في المشروط والممنوع عند وجود الشرط وفقد المانع حكم عقليّ لا شرعي.

وفيه أنّ المترتّب بالاستصحاب نفس الحكم الشرعي المنتزع عنه الشرطيّة أو المانعيّة ، ولا يعتبر في مورد الاستصحاب أزيد من دخله في موضوع الحكم الشرعي وإن لم يكن تمام الموضوع ، بل شرطه أو مانعة ، ووجه ذلك أنّه لا بدّ من الأخذ بعموم «لا تنقض» في كلّ مورد كان من وظيفة الشرع ، ومن شأنه الحكم بحرمة نقض اليقين السابق بالشكّ اللاحق ، وكما أنّ له هذا التصرّف في تمام الموضوع ، له ذلك أيضا في شرطه ومانعة ، فإذا شكّ في الطهارة والحدث وكانت

٣٥٥

الحالة السابقة هي الطهارة فللشارع تنزيل الطهارة المشكوكة منزلة الواقعيّة حتى يكون توسعة في موضوع حكمه بأنّ الصلاة مع الطهارة واجبة ، وإذا كانت الحالة السابقة هي الحدث فيجور له عدم الاعتناء بالطهارة المشكوكة ، فيكون ذلك تضييقا في موضوع ذاك الحكم.

وأمّا استصحاب وجود ما يكون شرطا لنفس التكليف أو مانعا أو عدمهما فقد منعه بعض الأساتيد قدس‌سره نظرا إلى أنّ ترتّب الحكم على المقتضي الواجد الشرط ، الفاقد المانع ترتّب عقلي من باب استحالة انفكاك المعلول عن علّته ، وإن كان نفس الحكم شرعيّا ، والشيء ما لم يكن واقعه بيد الشرع وبجعله لا يقبل تصرّفه في مرحلة الظاهر وعند الشكّ.

أقول : لا أفهم فرقا بين شرط الموضوع ومانعة ، وبين شرط نفس التكليف ومانعة ، فإنّ أمر الثاني أيضا بيد الشارع ، فللشارع إنشاء الإيجاب أو التحريم في تقدير وجود شيء أو عدمه ، فإذا شكّ في وجود هذا الشيء أو عدمه فله إلحاقه بالواقع مع سبق الوجود وعدم الاعتناء به مع سبق العدم ، هذا هو الكلام في الشكّ في وجود الشرط أو المانع وعدمهما مع الفراغ عن أصل الشرطيّة والمانعيّة.

وأمّا لو شكّ في بقاء شرطيّة شيء أو مانعيّته للموضوع أو لنفس التكليف وعدم بقائهما فهل يجرى استصحاب الشرطيّة أو المانعيّة أو لا؟ قد تقدّم الحكم بجريانه ، لكون الشرطية والمانعيّة مجعولتين بمنشإ انتزاعهما مثل الصحّة والفساد.

ومنها : ما نقل حكايته بعض الأساتيد قدس‌سره عن بعض معاصريه من الاستصحاب في الموضوعات الخارجيّة بتوهّم أنّ الحكم إنّما يترتّب على تلك الموضوعات المستصحبة بتوسّط ما ينطبق عليها من العناوين الكليّة ، مثلا المائع المستصحب الخمريّة إنّما يترتّب عليه الحرمة بتوسّط عنوان الخمر ، وفيه ما تقدّم ذكره آنفا.

٣٥٦

الأمر الثامن :

لا فرق في المستصحب بين أن يكون مشكوك البقاء في جميع الأزمنة المتأخّرة أو في قطعة خاصّة من الزمان ، فلو قطع بوجود زيد في يوم ومعلوم أنّه حادث ، ولكن شكّ في أنّه حدث في هذا اليوم أو في اليوم السابق ، وكان لعدمه المطلق أثر شرعي ، فلا مانع من استصحاب عدمه المفروض كونه مشكوك البقاء في اليوم الأوّل.

نعم لو كان لحدوث زيد في اليوم الثاني أثر شرعي فلا يجوز ترتيب هذا الأثر بهذا الاستصحاب وإن كان التعبير عن هذا الأصل بأصالة تأخّر الحادث موهما للحكم بتأخّر الحدوث ، لكن هذا إنّما هو على تقدير كون الحدوث أمرا بسيطا منتزعا عن العدم إلى زمان، والوجود من بعد هذا الزمان ، كما هو الظاهر عند العرف ، فإنّ العرف يفهم من لفظ «حادث» في العربيّة ، ومن لفظ «تازه» في الفارسيّة معنى بسيطا ، لا ما لم يكن ثمّ كان، نظير أنّه يفهم من لفظ «ضارب» في العربيّة ، ولفظ «زننده» في الفارسيّة معنى بسيطا لا ذاتا ثبت له الضرب.

وكذلك الحال لو قلنا بأنّ الحدوث عبارة عن المعنى المقيّد الذي هو الوجود المسبوق بالعدم بخصوصيّة كونه كذلك ، فإنّ استصحاب العدم لا يثبت التقيّد إلّا أن يقال بأنّ الواسطة خفيّة.

وأمّا إن قلنا بأنّه عبارة عن المعنى المركّب الذي هو نفس العدم إلى زمان ، والوجود من بعد هذا الزمان ، فلا إشكال في إحرازه باستصحاب العدم إلى زمان مع كون الوجود من بعد هذا الزمان محرزا بالوجدان ، كما هو واضح ، هذا كلّه فيما إذا لوحظ تأخّر الحادث بالقياس إلى الأجزاء السابقة من الزمان.

وأمّا لو لوحظ بالقياس إلى حادث آخر بأن كان هناك حادثان وشكّ في المتقدّم والمتأخّر منهما ، كما في الماء الذي لم يكن فيه الكريّة والنجاسة في

٣٥٧

الساعة الاولى من النهار ، ثمّ وجد فيه الكريّة والنجاسة في الساعة الثالثة ولم يعلم أنّ أيّهما حدث في الساعة الثانية وأيّهما في الثالثة ، فموارد الحاجة إلى الأصل ينحصر في ثلاث صور، الجهل بتاريخ كلا الحادثين ، والجهل بتاريخ هذا مع العلم بتاريخ ذاك ، والعكس.

وحاصل الكلام أنّه لا إشكال في شيء من هذه الصور فيما إذا كان الأثر الشرعي للوجود الخاص أعني وجود كلّ منهما في ما قبل الآخر أو في ما بعده بنحو مفاد كان التامّة ؛ فإنّ هذا الوجود الخاص لا إشكال في عدم إمكان إثباته بأصالة عدم كلّ منهما في زمان الآخر ، وأنّه يكون مسبوقا بالعدم مطلقا حتّى في معلوم التاريخ ، فإنّ العلم بأصل تحقّقه لا يمنع عن الشكّ في خصوصيّة وجوده ، كيف وأصل التحقّق في مجهول التاريخ أيضا معلوم ، فأصالة عدم هذا الوجود الخاص جارية في كلّ من الحادثين ، وتكون معارضة بأصالة عدمه في الحادث الآخر من غير فرق في ذلك بين جميع الصور الثلاثة.

إنّما الكلام والإشكال في ما إذا كان الأثر لعدم كلّ منهما في ظرف الوجود المفروغ عنه للآخر على نحو مفاد كان الناقصة ، كما إذا كان الأثر لوجود الملاقاة إذا كان في زمان عدم الكريّة ، فإنّه يشكل حينئذ في الاستصحاب في جميع الصور بملاحظة أنّه لا بدّ من وجود الحالة السابقة للعدم في ظرف الوجود المفروغ عنه ، مثلا وجود الملاقاة المفروغ عنها لا بدّ من كونها في السابق في زمان عدم الكريّة حتّى يستصحب ذلك في اللاحق ، والحال أنّه لم يعلم في شيء من الأزمنة السابقة كون الملاقاة في زمان عدم الكريّة بل يحتمل كونها في زمان عدم الكرّية ، وكونها في زمان وجود الكريّة.

ولكن يمكن أن يقال : إنّه إنّما يلزم ذلك لو جعل مجرى الاستصحاب أنّ الملاقاة كانت في زمان عدم الكريّة الذي هو مفاد كان الناقصة ، ولكن لنا إجرائه في نفس العدم الذي هو مفاد ليس التامّة ، ثمّ جرّ هذا العدم إلى زمان وجود الملاقاة المفروغ عنه ، فيصير أحد الجزءين ـ وهو وجود الملاقاة في زمان خاص ـ محرزا بالوجدان ،

٣٥٨

ونفس العدم في هذا الزمان محرزا بالأصل.

فإن قلت : إنّ استصحاب العدم الأزلي إلى زمان وجود الملاقاة ، ثمّ حمله على الملاقاة الموجودة داخل في الأصل المثبت.

قلت : لا معنى لحمل عدم الكريّة على الملاقاة ، وإنّما المتصوّر حمل كلّ منهما على الماء ، نعم لا بدّ من اتّصال زمان الحملين واتّحاده ، وكلّ ذلك حاصل بلا محذور ، فإنّه يقال : إنّ هذا الماء لم يكن في السابق كرّا ، فالأصل بقائه على عدم الكريّة في الحال ، والمفروض أنّ الملاقاة فيما إذا علم تاريخها حاصلة في الحال أيضا ، فيتحصّل من ذلك أنّ هذا ماء لاقى نجسا وكان ملاقاته في حال عدم كونه كرّا.

ألا ترى عدم الإشكال في استصحاب عدم الكريّة في الماء الذي لاقاه النجس وكان مشكوك الكريّة والقلّة مع سبق الكريّة؟ ، وكذلك الحال في استصحاب حياة الوارث في ما إذا شكّ في حياته وموته في حال موت المورّث ، فيتحقّق بذلك أنّ موت المورّث يكون في حال حياة الوارث على نحو مفاد كان الناقصة.

نعم هنا إشكال آخر في خصوص صورة الجهل بالتاريخين ، وهو أنّه ذهب شيخنا المرتضى في هذه الصورة إلى أنّ أصالة العدم في ظرف الوجود المفروغ عنه جارية في كلّ من الطرفين ، فيتساقطان بالتعارض.

والحقّ أنّه لا مورد للاستصحاب حينئذ حتّى يفرض التعارض ، ووجهه أنّا إذا قطعنا بوجود الكريّة والملاقاة في زمان بحيث احتملنا حدوث كلّ منهما في هذا الزمان وفي ما قبله ، فاستصحاب عدم الكريّة مثلا وإن كان يمكن إجرائه إلى الجزء المتّصل بهذا الزمان ، لكن كون هذا الجزء زمان الملاقاة غير محرز ، والمفروض أنّ الموضوع هو عدم الكرّية في زمان الملاقاة ، وذلك لاحتمال حدوث الملاقاة في الزمان المتأخّر عن هذا الجزء الذي هو زمان القطع بوجود الملاقاة والكرّية.

وأمّا نفس زمان القطع فوجود الملاقاة وإن كان فيه محرزا ، ولكن لا يمكن

٣٥٩

إجراء استصحاب عدم الكرّية إلى هذا الزمان ؛ لأنّ نقض عدم الكرّية بوجودها في هذا الزمان يكون من باب نقض اليقين باليقين لا بالشكّ ، وهذا بخلاف الحال في ما إذا كان زمان الملاقاة معلوما ، فإنّ استصحاب عدم الكرّية إلى هذا الزمان لا مانع عنه ، لكون وجود الكرّية فيه مشكوكا.

والعجب من بعض الأساتيد قدس‌سره في حاشيته على الرسائل ، حيث إنّه لم يفرق بين الجهل بالتاريخين والعلم بأحدهما في شيء من الصورتين ، أمّا في صورة كون الموضوع هو الوجود الخاص فلما مرّ ، وأمّا في صورة كونه هو العدم في زمان الوجود المفروغ عنه ، فلعدم الحالة السابقة لهذا العدم في فرض الفراغ عن الوجود ، فلا يجرى الاستصحاب في شيء من الصور على هذا التقدير ، كما أنّه يجري ويسقط بالمعارضة في تمامها على التقدير الأوّل.

وما ذكره في الصورة الثانية مخدوش بما عرفت من أنّ إحراز العدم في زمان الوجود المفروغ عنه بالاستصحاب يمكن بنحوين ، الأوّل : أن يكون هذا بتمامه موردا للاستصحاب ، وهذا يتوقّف على وجود الحالة السابقة للعدم في فرض الفراغ عن الوجود ، والثاني : استصحاب نفس العدم وجرّه إلى زمان الوجود المفروغ عنه.

وقد عدل عن هذا في الكفاية إلى ما حاصله أنّه لا مورد للاستصحاب في صورة الجهل بالتاريخين ، ووجهه أنّا إذا قطعنا بوجود الملاقاة والكريّة في الساعة الاولي من النهار ، وعلمنا بحدوث أحدهما لا على التعيين في الساعة الثانية ، والآخر في الثالثة ، فاستصحاب عدم الكرّية مثلا إلى زمان الملاقاة الذي هو زمان الشكّ حسب ما فرض من مقايسة أحد الحادثين إلى زمان الحادث الآخر غير جار ؛ لعدم إحراز اتّصال زمان اليقين بزمان الشكّ ؛ لاحتمال كون زمان الملاقاة الذي هو زمان الشكّ هو الساعة الثالثة ، وهي منفصلة عن زمان اليقين الذي هو الساعة الاولي ، وهذا بخلاف ما إذا كان الملاقة معلوما ، فإنّ استصحاب عدم الكريّة إلى هذا الزمان جار ؛ لاتّصال زمان اليقين بزمان الشكّ.

٣٦٠