أصول الفقه - ج ٢

آية الله الشيخ محمد علي الأراكي

أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ محمد علي الأراكي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٥٢
الجزء ١ الجزء ٢

الجزم وجب عقلا ترشّح الجزم إلى كلّ من هذه القيود ، ولا يمكن خلاف ذلك إلّا بإخراج القيد عن حيّز الجزم ، فإذا كان المجزوم به ومتعلّق التصديق هو وجود النهار المقيّد بكونه مترتّبا على الطلوع لزم عقلا تعلّق الجزم بكلّ من القيود الثلاثة لهذا الموضع المجزوم به أعني الطلوع ووجود النهار والترتّب ، وحلّ هذه العويصة أيضا بمثل ما قلناه في القضايا التعليقيّة التي يكون المعلّق فيها هو الحكم ، وهو أن يقال : إنّ الجزم متعلّق بوجود النهار ، لكن بعد فرض طلوع الشمس فالمتكلّم يفرض طلوع الشمس محقّقا في الخارج ، وينظر إليه بالنظر الفراغي ، ففي هذا الفرض يصير جازما بنفس وجود النهار ، فكما لو كان نفس الطلوع محقّقا في الخارج كان جازما بوجود النّهار كذلك إذا أخذ فرضه في الذهن ونظر إليه بالنظر الفراغي كان أيضا جازما بوجود النهار.

ومن هنا يظهر الكلام في القضيّة التعليقيّة التي يكون المعلّق فيها هو الموضوع التعبّدي أي المتعبّد به مثل ما إذا قال في مورد الشكّ فى شيء إذا جاءك زيد فالطواف بالبيت صلاة، حيث إنّ المعلّق عليه خارج عن حيّز التعبّد والمنزلة ، وإنّما هما ثابتان لنفس الطواف في فرض حصول المعلّق عليه ، فليس المتعبّد به وموضوع المنزلة إلّا نفس الطواف في هذا الفرض ، ولازمه أنّه إذا لم يتحقّق المعلّق عليه لم يظهر أثر لهذا التعبّد ، فإذا تحقّق صار منشئا للآثار.

وعلى هذا فيرفع غائلة الإشكال في الاستصحاب التعليقي في ما نحن فيه ، فإنّه يقال: إنّ الشارع يفرض وجود الصلاة حاصلا ومفروغا عنه ، فيتعبّد في هذا الفرض بعدم الوقوع في جزء غير المأكول ، فما لم يتحقّق وجود الصلاة في الخارج لم يكن لهذا التعبّد أثر ، فإذا تحقّق صار منشئا للآثار.

وحينئذ نقول في دفع الإشكال المتقدّم على الاستصحاب التعليقي : إنّك إذا تيقّنت في الزمان السابق بأنّ الصلاة إذا وجدت كانت موصوفة بوصف كذا ثمّ شككت في اللاحق في أنّها إذا وجدت تكون موصوفة بهذا الوصف أو لا ، فالشارع أوجد لك في هذا المورد قضية مطابقة مع القضيّة المتيقّنة ، فكما كنت في السابق متيقّنا

٢٠١

بأنّ الصلاة إذا وجدت كانت موصوفة بوصف كذا ، فالشارع يتعبّدك في حال الشكّ أيضا بأنّ الصلاة إذا وجدت تكون موصوفة بهذا الوصف ، فالتعبّد في القضيّة الثانية يقوم مقام تصديقك في القضيّة الاولى ، فكما أنّ الشرط في الاولى راجع إلى التصديق ففي الثانية راجع إلى التعبّد ، وكما أنّ التصديق في الاولى متعلّق بالمحمول المفروض كونه متقيّدا بالشرط فعلا ، كذلك التعبّد أيضا متعلّق بالموضوع المتعبد به المفروض كونه متقيّدا بالشرط فعلا ، وكما أنّ الحكم الظاهري الشرعي في القضيّة التعليقيّة التي يكون المعلّق فيها هو الحكم يصير محقّقا عند فعليّة المعلّق عليه ، كذلك هذا التعبّد أيضا يصير محقّقا عند فعليّة المعلّق عليه ، وكما أنّ هذه الفعليّة كانت هناك أثرا عقلا لنفس الحكم يكون هنا أيضا أثرا عقليّا لنفس التعبّد ، فيرتفع الإشكال بحذافيره.

وعلى هذا فيكون الاستصحاب التعليقي في مسألة الكريّة أيضا جاريا ، ولكنّه مشكل ؛ لأنّهم ملتزمون فيها باستصحاب القلّة ، وكذلك يلزم على هذا الحكم بقلّة الماء في ما إذا علم كون الماء بحيث لو نقص عنه منّان ـ مثلا ـ لصار قليلا ، فشكّ في اللاحق في بقائه كذلك لاحتمال الزيادة ، فنقص عنه المنّان ، مع أنّهم ملتزمون في مثله باستصحاب الكريّة ، إلى غير ذلك من الموارد التي لا يمكن الالتزام بها.

والحقّ أن يقال : إنّ اليقين منصرف عن التقديري ، ألا ترى أنّ الشاكّ بين النقيضين أو الضدّين الذين لا ثالث لهما لا يصدق عليه المتيقّن؟ مع أنّه على فرض انتفاء كلّ من الطرفين قاطع بالطرف الآخر ، وعلى هذا فاليقين السابق المعتبر في الاستصحاب لقولهعليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشّك» لا بدّ أن يكون فعليّا ، فيكون المقام خارجا عن مورد الاستصحاب ، لكون اليقين فيه تقديريّا.

فإن قلت : ما الفرق بين الاستصحاب التعليقي فى الأحكام وبينه في الموضوعات؟

قلت : اليقين في الاستصحاب التعليقي في الأحكام فعليّ ، فإنّ التقدير إنّما هو لجعل الشارع وإنشائه ، لا ليقين المكلّف بصدور هذا الجعل والإنشاء من الشارع ،

٢٠٢

ففرق بين قضيّة : «العصير إذا غلى يحرم» وبين قضيّة : «إذا كانت الشمس طالعة فالنهار موجود» ، ففي الاولى تكون هذه القضيّة واردة من الشارع ، ونحن أيضا نقطع بورودها من الشرع من دون حاجة في حصول هذا القطع إلى تقدير شيء وأمّا القضيّة الثانية فلا يحصل اليقين فيها إلّا بعد فرض طلوع الشمس ، ووجه الفرق خلوّها عن جعل الشرع.

والحاصل أنّ القضيّة الاولى يكون فرضها من الشارع ، والإنشاء في حيّز هذا الفرض أيضا منه ، والمكلّف قاطع بصدور هذا العمل من الشارع ، وأمّا القضيّة الثانية فأصلها من المكلّف وفرضها منه ، واليقين في حيّز هذا الفرض أيضا منه ، فتدبّر.

هذا تمام الكلام في الشبهة الماهوتيّة بحسب الأصل العقلي والاستصحاب ، وأمّا بحسب النقلي غير الاستصحاب فيمكن التمسّك لصحّة الصلاة في اللباس المشكوك بأدلّة حلّ الأشياء مثل قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء حلال حتى تعلم أنّه حرام» وقوله عليه‌السلام : «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه» وإن قلنا بأنّ هذه الأدلّة غير شاملة للشبهات الحكميّة ومختصّة بالموضوعيّة ؛ فإن هذه الشبهة أيضا موضوعيّة.

غاية ما يقال : إنّ هذه الأدلّة مختصّة بما إذا كان الشبهة في الحليّة والحرمة النفسيّتين ، مثل اللحم المردّد بين المذكّى والميتة ، حيث يشكّ في أنّ أكله حرام نفسا أو حلال كذلك ، فهي أجنبيّة عن مثل المقام الذي تكون الشبهة في حليّة الصلاة في المشكوك وحرمتها بمعنى الصحّة والبطلان.

وهذا غير وارد ، لأنّ استعمال الجواز وعدمه والحليّة وعدمه في الصحّة والبطلان شائع في الأخبار ، كما يظهر من مراجعة الوسائل في بابي الصلاء في ما لا يتمّ فيه الصلاة وفي جزء غير المأكول ، والفرق بين الحرمة وعدم الجواز كما ترى ، فكما تكون هذه الأدلّة شاملة للشبهة الموضوعيّة من حيث الحرمة والحليّة التكليفيتين تكون شاملة للشبهة الموضوعيّة من حيث الصحّة والبطلان.

٢٠٣

فإن قلت : يلزم استعمال اللفظ الواحد في معنيين.

قلت : بل هو مستعمل في الأعمّ وهو كون الشيء خاليا عن التوقّف وكونه مع التوقّف ، وهما المعبّر عنهما في الفارسيّة (گيرندارى وگذرائى) و (گيردارى وناگذرائى) فكلّ من الحليّة التكليفيّة والصحّة الوضعيّة بمعنى عدم التوقّف في الفعل ، وكلّ من الحرمة التكليفيّة والفساد الوضعى بمعنى التوقّف فيه ، وحينئذ فنقول في المقام : إنّ هذا المشكوك لا يعلم أنّ الصلاة فيه مع التوقّف لكونه من وبر الأرنب مثلا ، أو بلا توقّف لكونه من وبر الغنم ، فتكون الصلاة في هذا المشكوك خاليا عن التوقّف.

ويمكن التمسّك للصحّة بحديث الرفع ، بل التمسّك به في المقام الذي يكون من الشبهة الموضوعيّة يكون أسهل منه في الشبهات الحكميّة ، بيان ذلك أنّ المانعيّة الواقعيّة مثلا لا يمكن أن يكون مرفوعة عند الشكّ فيها بأن تكون المانعيّة الواقعيّة مقيّدة بحال العلم ، فإنّه نظير أن يكون الخمريّة مقيّدة بحال العلم بالخمريّة ، فالشكّ فى الشيء حكما كان أم موضوعا لا يمكن أن يصير سببا لرفعه ، لأنّه يلزم تقييد الشيء بحال العلم به وكون العلم بوجوده سببا لحدوثه ، وهو محال ، وأمّا الموضوع المشكوك فيمكن رفع الحكم عنه ، مثلا المائع المشكوك أنّه خمر يصحّ أن يقال : إنّه حلال ، والوبر المشكوك كونه من الأرنب يصحّ أن يقال : ليس بمانع للصلاة.

والحاصل أنّ الشكّ في شيء أنّه من أفراد الموضوع لحكم أو لا؟ يصحّ أن يصير سببا لرفع حكم هذا الموضوع ، وعلى هذا فيكون حديث الرفع حاكما على الأدلّة الواقعيّة ، فإنّ قوله عليه‌السلام : «الصلاة في وبر الأرنب باطل» مثلا مفاده أنّ وبر الأرنب الواقعي مانع للصلاة ومفاد حديث الرفع كما عرفت أنّ الوبر المشكوك كونه من الأرنب ليس له هذا الحكم ، فكأنّه شارح للدليل المذكور ، وأنّ المراد من وبر الأرنب فيه هو الأفراد المعلومة ، وأمّا المشكوكة فليس لها المانعيّة (١) واقعا و

__________________

(١) قد استشكل الاستاد دام ظلّه في مجلس الدرس بعد تسليم إمكان إرادة ذلك من أدلّة الشكوك حتى تكون متكفّلة للحكم الظاهري والواقعي معا في استظهاره من تلك الأدلّة ، بل استظهر الخلاف وقد ذكرته في تعليقتي على رسالة الاستاد في مبحث الإجزاء فليراجع ثمّة. منه ـ

٢٠٤

كذلك الكلام فى سائر أدلّة الأحكام مثل لا تشرب الخمر ونحوه ، وعلى هذا يترتّب في المقام ثمرة اخرى لا يلتزمون به وهو إجزاء الصلاة المذكورة واقعا ، حتّى لو انكشف وقوعها في وبر الأرنب لا يجب الإعادة ، لوقوعها في ما ليس بمانع واقعا. هذا تمام الكلام في الشبهة الموضوعيّة من الجزء والشرط والمانع.

الأمر الثالث

لو شكّ في الجزئيّة من حيث عمومها لحال العمد وغيره ، واختصاصها بحال العمد حتى تظهر الثمرة في وجوب الإعادة مع الترك سهوا وعدم الوجوب مع عدم إطلاق في دليل الجزئيّة ، فبيان الحال في هذه الشبهة يحصل بالتكلّم في أنّ حكم ترك أحد أجزاء المركّب المأمور به سهوا مع قطع النظر عن التنصيص الشرعي هل هو لزوم إعادة هذا المركّب أو البراءة من الإعادة ، والتكلّم في ذلك تارة بحسب القاعدة العقليّة ، واخرى بحسب القاعدة الشرعيّة.

أمّا الكلام بحسب القاعدة العقليّة فهو أنّه قد ذهب شيخنا المرتضى في الرسائل إلى أن مقتضاها الاحتياط ولزوم الإعادة ، وحاصل تقريبه أنّا لا نحتمل اختصاص الجزئيّة بحال الذكر ، فنقطع بأنّ المكلّف بالسورة مثلا لو غفل عنها في الأثناء لا يتفاوت تكليفه في حال الغفلة ، ووجه ذلك أنّه لو كان الخطاب بالمركّب المشتمل على الجزء المنسي مخصوصا بالعامد لزم أن يكون الناسي والساهي مخصوصين بالخطاب بالخالي عنه ، وتخصيصهما بالخطاب غير ممكن ؛ لأنّ تخصيص عنوان بالخطاب ينحصر فائدته في أنّه إذا دخل المكلّف تحت هذا العنوان والتفت إلى ذلك صار هذا الخطاب داعيا له إلى العمل ، مثلا تخصيص المسافر بالأمر فائدته أن يصير داعيا للمكلّف إذا صار مسافرا والتفت إلى ذلك وإلى حكمه.

وأمّا الناسي والساهي ففي حال السهو والنسيان لا يمكن التفاتهما إلى السهو والنسيان ؛ لأنّهما إذا التفتا لم يكونا ساهيا وناسيا ، فما دام السهو والنسيان

__________________

ـ قدس‌سره الشريف.

٢٠٥

لا يكونان ملتفتين ، وإذا التفتا خرجا عن كونهما ساهيا وناسيا ، فلا محالة يكون تخصيص الخطاب بهما لغوا ؛ لأنّه لا يصلح للداعويّة بحال ، وإذن فلا يتفاوت الخطاب بالمركّب التام بحسب الاقتضاء في حال الذكر والنسيان ، فالمكلّف إذا أتى بتمام الأجزاء فهو وإن ترك بعضها نسيانا يجب عليه التدارك في الوقت والقضاء في خارجه في ما يشرع فيه القضاء كالصلاة ، لأن المفروض أنّ عمله ناقص.

ويمكن الخدشة في هذا التقريب بوجهين مأخوذ أصلهما من مجلس بحث سيّدنا الميرزا الشيرازي قدّس الله تربته الزكيّة.

الأوّل : أنّه كما قلتم : إنّ عدم اشتراك التكليف الاقتضائي بالتام بين العامد والناسي واختصاصه بالأوّل يلزم منه تخصيص الثاني بالخطاب الفعلي بالناقص ، فنحن نقول : لا يلزم منه ذلك ، بل أمر الناسي مردّد بين هذا وبين أن لا يكون له خطاب فعلي أصلا لا بالناقص ولا بالكامل ، ولا إشكال في أنّه لا يمكن خطابه الفعلي بالكامل ؛ لأنّ المفروض عزوب ذهنه عن أحد أجزائه ، فتكليفه تكليف الغافل وهو قبيح ، وحينئذ فإن لم يكن الأمر الثاني وهو عدم الخطاب الفعلي رأسا لزم تخصيص الناسي بالخطاب ، وقد عرفت المحذور فيه، وعلى هذا فالتكليف الفعلي بأي وجه كان لا بدّ من رفع اليد عنه في حقّ الناسي والجزم بعدم ثبوته له مطلقا.

وحينئذ نقول : عدم الإرادة في حقّ الناسي رأسا وكونه كالبهائم مقطوع العدم جزما ، بل الإرادة الذاتيّة الالهيّة والتكليف الاقتضائي في حقّه ثابت محفوظ ، وهذه الإرادة الذاتية أمرها مردّد بين التعلّق بالناقص وبين التعلّق بالكامل ، ونسبتها إلى كلّ منهما على السويّة ، ولا يأبى عنه العقل في شيء منهما ، فيكون الأمر في حقّ الناسي من حيث هذه الإرادة الذّاتية مردّدا بين الأقلّ والأكثر ، فيكون المكلّف بعد التذكّر والفراغ عن العمل شاكّا في تعلّق الارادة الذاتيّة بالأقلّ أو بالأكثر ، غاية الأمر أنّه على فرض تعلّقها بالأقلّ يكون ما أتى به امتثالا له ، فأصالة البراءة عن التعلّق بالأكثر جارية فلا يجب عليه الاحتياط والإعادة.

فإن قلت : الإجماع القائم على اشتراك المكلّفين في التكليف وعدم تغيّر

٢٠٦

الحكم باختلاف عناوين السهو والعمد والذكر والنسيان يوجب تعلّق الارادة في حقّ الناسي بالأكثر ، فيتعيّن عليه الاحتياط.

قلت : هذا إنّما هو في الغفلة عن نفس الحكم ، بمعنى أنّه لو كان في الواقع حكم وغفل عنه المكلّف فلا يوجب هذه الغفلة تغيير ذاك الحكم ، للزوم التصويب الباطل ، بعض أقسامه بالعقل وبعضها بالإجماع ، وأمّا كون الغفلة في الموضوع موجبة لتغيير حكم هذا الموضوع كما هو المراد في المقام فليس على خلافه إجماع ، فيمكن أن تكون الجزئيّة للسورة الملتفت إليها دون المغفول عنها ، وهذا نظير ما استقربناه من حديث الرفع من اختصاص الحرمة بالخمر المعلوم الخمريّة دون مشكوكها.

الثاني : أنّ تخصيص الناسي بالخطاب ممكن ، فيمكن أن ينوّع الشارع ويصنّف المكلّفين في الحكم إلى العامد والساهي ، قولكم : يلزم اللغوية ، قلنا : لا يلزم ، لأن الالتفات إلى السهو والنسيان إنّما لا يحصل في حال حصولهما ، وأمّا العمل التدريجي الحصول كالصلاة فيحتمل المكلّف عند الشروع فيه أن يكون عند الجزء الفلاني المتأخّر كالسورة غافلا عن هذا الجزء وتاركا له ، وأن يكون ملتفتا إليه وآتيا به ، فيظهر داعويّة الأمر المذكور في حقّ هذا الشخص ؛ لأنّه يأتي بالعمل حينئذ بقصد الأمر الواقعي بأيّ شيء تعلّق ، وهكذا يتحرّك بتحريك هذا الأمر إلى آخر العمل ، فإذا فرغ عن العمل وكان ساهيا عن الجزء كان المحرّك له الأمر بالناقص ، وإن كان ملتفتا إليه كان محرّكه الأمر بالكامل ، بل ويمكن داعويّة هذا الأمر في حقّ القاطع بكونه ملتفتا إلى آخر العمل مع كونه في الواقع ساهيا ، فإنّه وإن كان يقصد حينئذ الأمر بالكامل ، إلّا أنّه من باب الخطاء في التطبيق ، فيكون داعيه أيضا هو الأمر بالناقص.

وهذا الوجه كما ترى مع إمكانه في حدّ ذاته له إمكان الوقوع في الشرع أيضا ، فهو أولى من تصوير آخر ذكر لذلك ردّا على شيخنا العلّامة ، فإنّه ممكن ، وليس له إمكان الوقوع في الشرع.

وحاصله أنّ الالتفات في حال السهو والنسيان إنّما لا يمكن إلى هذين العنوانين ، وأمّا إلى عنوان آخر ملازم لهما فبمكان من الإمكان ، فلو فرض أنّ عنوان بلغميّ المزاج مثلا ملازم وجودا وعدما مع عنوان الناسي ، فالناسي يمكن أن يلتفت إلى

٢٠٧

هذا العنوان فى حال النسيان وإن كان لا يمكن أن يلتفت إلى كونه ناسيا ، فيمكن تعليق الخطاب بهذا العنوان الملازم ، وهذا الوجه يبتني وقوعه في الأوامر النوعيّة العامّة كالأوامر الشرعيّة على وجود عنوان ملازم وجودا وعدما مع عنوان الناسي ، ومن الواضح عدمه.

نعم يمكن وقوعه في الأوامر الشخصيّة فيمكن أن يشار إلى شخص معيّن ناس بعنوان آخر موجود فيه كعنوان الطويل ونحوه ، وكيف كان فبناء على الوجه الأوّل الذي قد عرفت إمكان وقوعه في الشرع يرجع أمر الناسي إلى الشكّ في تعلّق الخطاب الفعلي في حقّه بالأقلّ أو بالأكثر ، وقد عرفت أنّ الأصل في هذا الشكّ البراءة.

ثمّ إنّه قد يستدلّ للاحتياط هنا بنظير الاستصحاب الذي ذكره مع جوابه شيخنا المرتضى في أصل مسألة الشبهة بين الأقلّ والأكثر ، فيقال : إنّ اشتغال الذمّة بالأمر في حال الصلاة متيقّن ، وبعد الفراغ نشكّ في بقائه ، فنستصحب ، فيجب الاحتياط.

والجواب عنه بوجهين :

الأوّل : ما أشار إليه شيخنا المرتضى في نظيره ، وهو أنّ المتيقّن السابق كان بحسب الفرض هو الاشتغال بالأمر المردّد بين الأقلّ والأكثر ، فالاستصحاب إنّما يثبت هذا الاشتغال في اللاحق ، وهذا الاشتغال بوجوده اليقيني لم يوجب الاحتياط ، فكيف يوجبه بوجوده الاستصحابي.

الثاني : أنّ المتصوّر من الاستصحاب هنا أربعة ، استصحاب الجامع ، واستصحاب الفرد المردّد ، واستصحاب الفرد الواقعي ، والثاني أيضا إمّا راجع إلى التخيير وإمّا غير راجع إليه ، امّا الأوّل وإمّا فغير معقول ، لأنّ الجامع هنا حكم شرعي ، واستصحابه جعله ، وجعل الجامع لا يمكن ذهنا كان أم خارجا إلّا في ضمن فرده ، نعم لو كان للجامع أثر أمكن جعله بلحاظ أثره ، فيكون نظير استصحاب الكلّي في الموضوع ، وأمّا الثاني فغير مقصود في المقام مع أنّه مقطوع العدم سابقا ، وأمّا الثالث فهو أيضا غير معقول ، لعدم إمكان إبهام الحكم في نظر جاعله ، وأمّا الرابع فغير نافع كما مرّ في الجواب الأوّل.

٢٠٨

هذا حال النقص في المركّب المأمور به ، ولو زاد فيه عمدا أو سهوا أو نسيانا فهل يضرّ به أو لا؟ فاعلم أوّلا أنّ الزيادة مع وصف كونها زيادة لا يعقل أن تكون مضرّة ؛ لأنّ معنى الزيادة أن يكون المأمور به مأتيّا به بتمامه مع العلاوة ، ولا يعقل عدم الإجزاء مع ذلك، فلو اريد إضرارها فلا بدّ من إرجاعها إلى النقيصة ، وذلك إمّا بأن يعتبر عدمها في نفس المركّب ، وإمّا بأن يعتبر في أحد أجزائه ، فالأوّل مثل أن يكون المأمور به مركّبا من تسعة أشياء وعدم شيء آخر ، فيكون مركّبا من عشرة اجزاء ، تسعة منها وجودي وواحد عدمي ، والثاني مثل أن يعتبر في أحد أجزائه الوجوديّة كونه واحدا لا اثنين فصاعدا ، والفرق بين الوجهين يظهر في ما لو زاد في المأمور به ، فعلى الأوّل يكون النقص في الجزء العدمي دون شيء من الأجزاء الوجوديّة ، وعلى الثاني يكون في واحد من الأجزاء الوجوديّة حيث إنّه كان مقيّدا بالوحدة ولم يحصل القيد ، وعلى التقديرين يحصل النقص في المأمور به.

إذا عرفت ذلك فمحلّ الكلام في الزيادة أنّه لو دلّ دليل على إبطالها للمأمور به كما في باب الصلاة حيث دلّ الدليل على بطلانها بالزيادة فيكشف عن اعتبار عدمها في المأمور به بأحد الوجهين ، وحينئذ فإن كان لهذا الدليل إطلاق بالنسبة إلى حال العمد والسهو والنسيان فهو ، فنحكم بأنّ المأمور به في حقّ الناسي أيضا مقيّد بعدم الزيادة ، وإن لم يكن له إطلاق وكان مجملا من هذا الحيث والمتيقّن منه حال العمد فيرجع الشكّ بالنسبة إلى الناسي إلى الشكّ في أنّ المأمور به بالنسبة إليه هل يعتبر فيه هذا العدم شطرا أو شرطا ، أو لا يعتبر فيه ذلك؟ فيكون راجعا إمّا إلى الشكّ في المطلق والمقيّد وإمّا إلى الشكّ في الأقلّ والأكثر ، مع كون الزائد جزءا عدميّا.

والكلام فيه ما مرّ بعينه في الشكّ في الأقلّ والأكثر ، مع كون الزائد جزءا وجوديا ، فمن قال هناك بلزوم الإعادة نظرا إلى عدم معقوليّة تخصيص الناسي بالخطاب يقول هنا أيضا بلزومها ، ومن قال هناك بالبراءة نظرا إلى كون الشبهة من أفراد الشكّ في الأقلّ والأكثر يقول هنا أيضا بالبراءة.

هذا محصّل الكلام في النقص والزيادة بحسب القاعدة العقليّة ، وأمّا بحسب القاعدة النقليّة فيهما فالكلام إمّا في النقل الخاص أو في النقل العام.

٢٠٩

قاعدة لا تعاد

أمّا الأوّل فنقول : النقل الخاص هو الرواية الصحيحة المعروفة في باب الصلاة وهي صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام أنّه قال عليه‌السلام «لا تعاد الصلاة إلّا من خمسة ، الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود ، ثم قال عليه‌السلام : القراءة سنّة والتشهّد سنّة ، ولا تنقض السنّة الفريضة»

وينبغي النظر أوّلا في تحقيق مضمونها وكيفيّة دلالتها ، فنقول : التكلّم في هذه الرواية الشريفة يكون في مواضع.

الأوّل : أنّ مفادها أنّ الصلاة تعاد من هذه الأشياء الخمسة ولا تعاد من سائر الأشياء من الأجزاء والشرائط المعتبرة فى الصلاة ، والحكم فى المستثنى منه أعني عدم الإعادة فى سائر الأشياء يشمل بعمومه ترك الجزء والشرط سهوا ونسيانا وجهلا ، ولا يشمل تركهما عمدا ، لأنّ عدم لزوم الإعادة حينئذ ينافى نفس الجزئيّة والشرطيّة ، لأنّ معنى الجزء والشرط ما يلزم من عدمه اختلال المركّب وبطلانه ، وإلّا لم يكن الجزء جزءا ولا الشرط شرطا.

وأمّا بعض المواضع التى دلّ الدليل على حصول العصيان بالترك العمدي مع عدم لزوم الإعادة كما فى بعض أفعال الحجّ وكما فى ترك الإخفات أو الجهر جهلا مع التقصير فنلتزم فيها بتعدّد المطلوب وأنّ هنا مطلوبا لزوميّا متعلّقا بالأكثر وهو أقصى المرام ، ومطلوبا لزوميّا آخر متعلّقا بالأقلّ وهو أدون من الأوّل ، والاقتصار على الثاني يوجب فوت محلّ الأوّل وسقوطه عن القابليّة ، وذلك مثل أن يكون المركّب من تسعة أجزاء مشتملا على مصلحة تامّة لزوميّة ، ومن عشرة مشتملا على مصلحة زائدة لزوميّة ، ويكون الاقتصار على التسعة موجبا لفوت تلك المصلحة الزائدة اللزوميّة ، وحينئذ فالمقتصر على هذه التسعة لا محالة يكون

٢١٠

عاصيا من جهة ترك الجزء العاشر عمدا ، ومع ذلك لا يجب عليه الإعادة لفوت المحلّ.

ولا يشكل فى صحّة الأقلّ حينئذ إذا كان عبادة بأنّه مفوّت للمصلحة اللزوميّة التامّة فكيف يكون صحيحا وعبادة ، مع أنّ تفويت المكلّف المصلحة اللزوميّة المطلقة عمدا واختيارا على نفسه حرام ؛ لأن جواب ذلك قد حقّق فى مبحث الضد بأنّ فعل أحد الضدّين لا يكون علّة لترك الآخر كالعكس ، بل كلّ منهما مستند إلى شيء آخر ، ففعل الضدّ مستند إلى إرادته ، وترك الآخر مستند إلى الصارف عنه ، هذا مضافا إلى أنّ التفويت المحرّم فى المقام يبتني على صحّة الأقلّ ، لوضوح أنّه مع بطلانه لا تفويت فى البين ، فلا يمكن أن يكون موجبا للبطلان ، وإلّا يلزم من وجود الشيء عدمه ، هذا.

ولكن لا يخفى أنّ الالتزام المذكور لا نصير إليه إلّا إذا وجب المصير إليه وحصل الإلجاء لورود دليل قطعي ، وأمّا إذا لم يكن فى البين دليل قطعي فالظاهر من الجزء والشرط لدى العرف هو ما يلزم من عدمه اختلال المركّب وبطلانه. وإذن فعموم المستثنى منه فى الرواية الشريفة منصرف عن ترك الجزء والشرط عمدا.

وحينئذ نقول : عموم الرواية يشمل ترك الجزء سهوا ونسيانا وجهلا ، سواء كان كلّ من السهو والنسيان والجهل فى الموضوع ، أعني نفس الجزء أم فى حكمه ، مثلا ترك السورة سهوا قد يكون لأجل السهو فى نفسها ، وقد يكون لأجل السهو فى حكمها ، وكذلك تركها نسيانا قد يكون لنسيان نفس السورة ، وقد يكون لنسيان حكمها ، وكذلك تركها جهلا قد يكون لأجل الجهل بنفسها ، وقد يكون لأجل الجهل بحكمها ، فهذه ستّة أقسام نحكم فيها بعدم لزوم الإعادة بمقتضى عموم الرواية ، ولكنّ العلماء رضوان الله عليهم لم يحكموا بذلك إلّا فى قسمين منها وهو السهو فى نفس الجزء والنسيان فيه أيضا دون بقيّة الأقسام ، ولم يعرف له وجه ، ولكنّه يوجب عدم جزم الفقيه وعدم جرأته على الإفتاء.

الثاني : هل الرواية تشمل زيادة الجزء حتّى لو كان فى البين دليل مطلق يدلّ

٢١١

على إبطال الزيادة من غير فرق بين حال العمد والسهو والنسيان والجهل ، تكون هذا الرواية مخصّصة له بحال العمد لحكومتها عليه ، كما تكون حاكمة على أدلّة بطلان الصّلاة بالنقيصة أو لا؟

قد عرفت فى ما تقدّم أنّ الزيادة لا بدّ من إرجاعها إلى النقيصة باعتبار عدمها فى المركّب ، فيكون محصّل معنى الرواية بناء على شمولها للزيادة أنّ الصلاة لا تبطل من الخلل من ناحية شيء إلّا من الخلل من ناحية الأشياء الخمسة ، والخلل فى كلّ من طرفي المستثنى منه والمستثنى أعمّ من ترك ما يعتبر وجوده أو فعل ما يعتبر عدمه ، والمراد بالشيء المقدّر فى طرف المستثنى منه وبالعناوين الخمسة فى طرف المستثنى أعمّ من الوجودي والعدمي ، فالخلل من ناحية الركوع مثلا أعمّ من ترك أصله المعتبر وجوده ومن فعل الركوع الزائد المعتبر عدمه.

لا يقال : ينافي إرادة الأعمّ عدم تمشّي الزيادة فى بعض من الخمسة كالطهور والوقت والقبلة ، لوضوح عدم تصوّر الزيادة فى هذه ، وإنّما المتصوّر فيها هو النقص.

لأنّا نقول : المراد مطلق الخلل وهو فى كلّ شيء بحسبه ، هذا ، ولكنّ الإنصاف أنّ هذا المعنى خلاف ظاهر الرواية فإنّ الظاهر من الشيء المقدّر ، ومن العناوين الخمسة هو الوجودي منها ، فالخلل من ناحيتها هو تركها ، وإذن فلا تعرّض في الرواية للزيادة.

الثالث : لو قلنا بشمول الرواية للزيادة وتنزّلنا عن الانصراف الذي ادّعيناه فالظاهر التفكيك فيها بين المستثنى منه والمستثنى بإرادة الأعمّ من الزيادة والنقص فى الأوّل ، وخصوص النقص فى الثاني ، وذلك لأنّا وإن سلّمنا عموم الشيء المقدّر فى المستثنى منه للوجودي والعدمي فالظاهر من العناوين الخمسة هو الوجودي ، فيكون محصّل المراد أنّ الصلاة لا تبطل من الخلل في شيء مطلقا ، سواء كان وجوديا أم عدميّا ، إلّا من الخلل فى هذه الوجوديات الخمسة ، وحينئذ فيكون زيادة هذه الأشياء التي يكون من قبيل الخلل فى العدمي داخلة تحت

٢١٢

المستثنى منه ومحكومة بعدم لزوم الإعادة.

ويحتمل بعيدا إرادة الأعمّ من المستثنى أيضا ، وذلك بأن يلاحظ العناوين الخمسة بدون اعتبار الوجود والعدم ، فيكون الخلل من ناحيتها أعمّ من تركها فى ما إذا اعتبر وجودها ، ومن فعلها فى ما إذا اعتبر عدمها.

فتحصّل ممّا ذكرنا فى هذا الأمر والأمر المتقدّم أنّ للرواية ثلاثة احتمالات مترتّبة فى الظهور : إرادة خصوص النقص فى كلّ من المستثنى منه والمستثنى ، وإرادة الأعمّ فى الأوّل وخصوص النقص فى الثاني ، وإرادة الأعمّ فى كلّ من الطرفين ، وقد عرفت أنّ الظاهر الأولى هو الأوّل ، وعليه فتكون الرواية قاعدة ثانويّة فى خصوص النقيصة الغير العمديّة ، مخالفة للقاعدة الأوّليّة فى الأشياء الخمسة ، وموافقة لها فى غيرها.

الرابع : إنّ ظاهر الرواية الشريفة بل صريحها الحكم على من التفت إلى نقص جزء من أجزاء الصلاء بإعادة وعدم إعادة مجموع الصلاة ، ولا إشكال أنّ الحكم بإعادة وعدم إعادة الشيء إنّما يصحّ إذا كان هذا الشيء حاصلا بتمام أجزائه ، وإلّا لم يكن محلّ لإرجاعه وإعادته ، فالجمود على ظاهر لفظ الإعادة المضاف إلى الصلاة يقتضي اختصاص مورد الرواية بنقص الجزء سهوا الذي لم يحصل الالتفات إليه إلّا بعد الفراغ من الصلاة ، وأمّا السهو عن الجزء الملتفت إليه فى أثناء الصلاة فهو خارج عن عمومها ؛ إذ لا معنى حينئذ لإعادة وعدم إعادة مجموع الصلاة بعد أنّ المفروض عدم تحقّق موضوع خارجي للمجموع وكون المكلّف فى أثنائه ، بل المتحقّق حينئذ هو القطع وعدمه.

إلّا أن يقال : إنّ إطلاق إعادة الصلاة على قطعها فى الأثناء شائع فى كلمات العلماء رضوان الله عليهم وفي الأخبار ، فيقولون عند حدوث أمر كذا فى الأثناء : «يعيد الصلاة» ومرادهم القطع والاستئناف ، ويوجد هذا المضمون فى الأخبار أيضا ، من أراد فليراجع.

٢١٣

هذا مضافا إلى ما فى الصحيح من تعليل عدم لزوم إعادة الصلاة بنسيان القراءة بكون القراءة سنّة ، أي مجعولة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله دون ما فرضه الله عزوجل فى القرآن ، فإنّه يعلم منه أنّ ضابط عدم لزوم الإعادة ولزومها كون المنسيّ سنّة وكونها فريضة ، لا كونها ملتفتا إليه فى الأثناء أو بعد الفراغ ، فيدلّ على أنّ الجزء المنسيّ إذا كان فريضة إلهيّة فحيث إنّ الاهتمام بشأنه كثير ، يجب إعادة الصلاة لأجله ، وأمّا إذا كان سنّة فحيث إنّ الاهتمام به ليس بتلك المثابة فيحكم بمضيّ ما مضى من الصلاة ولا يجب الإعادة ، وهذا كما ترى يعمّ صورة حصول الالتفات إلى النسيان فى الأثناء أيضا وإن قلنا بأنّ الصحيحة بمقتضى الجمود على لفظ الإعادة قاصرة عن شمولها.

فعلى هذا لو نسي جزءا من أجزاء الصلاة وتذكّر فى أثنائها لم يعد الصلاة لعموم الرواية ، نعم لا بدّ من أن يكون التذكّر بعد مضيّ محلّ الجزء المنسيّ حتى يصحّ الحكم بإعادة الصلاة أو عدم إعادتها.

ولكن هنا دقيقة لا بدّ من التنبيه لها وهي أنّ الشرط يعتبر قيدا فى الصلاة التي هي عبارة عن الأفعال المخصوصة التي أوّلها التكبيرة وآخرها التسليمة ، وقد يعتبر فى المصلّي حال الصلاة ، فلو أخلّ بالطهارة الخبثيّة سهوا فتذكّر فى أثناء الصلاة فى حال عدم الاشتغال بشيء من أفعالها فأزال النجاسة كإلقاء الثوب المتنجّس ثمّ أتى ببقيّة الأفعال صحّت الصلاة على الأوّل ولا تصحّ على الثاني.

أمّا الصحّة على الأوّل : أمّا فى الأجزاء السابقة فلأنها وإن أتى بها مع فقد الشرط ، لكن كان الفقد سهويّا ، وقد تكفّل الرواية عدم ورود نقص في الصلاة من جهة الترك السهوي ، وأمّا الأجزاء اللاحقة فقد أتى بها مع الطهارة بالفرض ، وأمّا عدم الصحة على الثاني فلأنّ الطهارة قد اعتبرت في المكلّف ما لم يخرج عن الصلاة ، فهو فى جميع آنات الصلاة لا بدّ أن يكون خاليا عن الترك العلمي والحال أنّه حال الالتفات إلى النجاسة قد تحقّق فيه الترك العلمي ، ولو كان آناً ما كأن ألقى

٢١٤

الثوب المتنجّس بمجرّد الالتفات ؛ إذ هو كمن أحدث فى أثناء الصلاة فرفع الحدث دفعة.

نعم لو ألقى الثوب أوّلا ثمّ تبيّن له نجاسته صحّت الصلاة على الوجه الثاني أيضا ؛ لخلوّه عن الترك العلمي فى جميع الآنات ، والترك السهوي لا يضرّ ولكن هذا فرد نادر فلو كان مورد الرواية مقصورا على التذكّر فى الأثناء لاستكشفنا من باب ندرة هذا الفرد عن كون شرطيّة شروط الصلاة على الوجه الأوّل ، ولكن حيث إنّ المورد هو الإعادة وهي لا يتمّ إلّا فى صورة التذكّر بعد الفراغ. وإنّما تعدّينا إلى التذكّر فى الأثناء بتنقيح المناط ، فلا يتمّ هذا الاستكشاف ، فلا بدّ من إثبات كون الشرط على الوجه الأوّل بالدليل الخارجي ، فتدبّر.

نعم فى الجهر والإخفات وجهان يختلف محلّهما بحسبهما ، الأوّل : أن يكون الجزء المجعول للصلاة هو القراءة المقيّدة بالإخفات أو بالجهر حتى لا يكون فى البين إلّا مجعول واحد ، والثاني : أن يكون هنا مجعولان مستقلّان ، الأوّل مطلق القراءة ، والثاني الجهر والإخفات ، غاية الأمر أنّ الثاني كيفيّة في الأوّل ، والأوّل محلّ للثاني ، فتظهر الثمرة بين هذين الوجهين فى ما إذا أخفى فى القراءة فى موضع الجهر نسيانا أو عكس ، فتذكّر قبل الهويّ إلى الركوع ، فإن بنينا على الوجه الأول كان هذا التذكّر قبل مضيّ المحلّ ، لأنّ ما أتى به من القراءة لم يكن جزء للصلاة ، وما يكون جزء لها وهو القراءة المقيّدة لم يؤت بها ، والمفروض عدم دخوله فى الركن ، فلا محالة يكون المحلّ باقيا.

وإن بنينا على الوجه الثاني كان هذا التذكّر بعد مضيّ المحلّ ، لأنّ ما أتى به من القراءة جزء للصلاة على هذا الوجه ، فالمنسيّ إنّما هو نفس الكيفيّة ، وقد فرضنا أنّ محلّها هو القراءة ، فإذا مضت القراءة كما هو الفرض فقد مضى محلّها ؛ لأنّ القراءة إنّما صارت باعتبار صرف وجودها محلّا للكيفيّة ، ولا يمكن إعادة صرف الوجود ، وعلى هذا فمقتضى هذا الوجه أن يكون تذكّر الإخفات والجهر فى كلمة ـ إذا تبدّل أحدهما بالآخر نسيانا ـ تذكّرا بعد مضيّ المحلّ مطلقا ولو كان حاصلا

٢١٥

متّصلا بتلك الكلمة.

الخامس : إذا ترك جزءا من أجزاء الصلاة ثمّ التفت بعد الفراغ مثلا ، ولكن شكّ فى أنّه تركه عمدا أو سهوا ، فهل يمكن التمسّك فى هذا الحال بعموم «لا تعاد» أو لا يمكن ، لكونه تمسّكا فى الشبهة المصداقيّة ، بناء على خروج العمد عن تحت الرواية كما اخترناه ، فإنّه يشكّ فى كون المورد من مصاديقه أو مصاديق السهو الذي هو موضوع الرواية؟

الحق أن يقال : إنّا إن بنينا على أنّ الرواية فى حدّ ذاتها عامّة لحال العمد ولكن خصّصناها بغيره تخصيصا عقليّا من جهة استقلال العقل بمنافاة الجزئيّة والشرطيّة مع عدم إضرار النقص العمدي ، أمكن التمسّك بعموم المذكور لهذا المقام ؛ لأنّ المتيقّن من مورد استقلال العقل فى النقص العمدي إنّما هو حال العلم بالعمديّة ، فيكون حال الشكّ فيها صالحا ومحتملا عقلا لأن يحكم عليه بحكم «لا تعاد» والمفروض تماميّة العموم والإطلاق فى الرواية ، فلا مانع من الأخذ به.

وإن بنينا على أنّ الرواية لا تكون عامّة بالنسبة إلى حال العمد وأنّ لها الانصراف إلى غيره عرفا مع إمكان الشمول عقلا كما اخترناه كان المقام من باب التمسّك فى الشبهة المصداقيّة ، لأنّ الانصراف ثابت عن العمد الواقعي حال الترك ، سواء بقي الالتفات إلى عمديّته فى ما بعد أم عرض الاشتباه ، فالمنصرف إليه هو السهو الواقعي حال الترك فى مقابل العمد الواقعي حاله ، فلا محالة إذا شكّ فى مورد أنّه من أحد القسمين كان شبهة مصداقيّة لهذه الرواية وانحصر المرجع فيه فى القواعد الأخر.

السادس : بناء على المختار من عدم شمول الرواية الشريفة للزيادة لو دلّ دليل على مبطليّة الزيادة للصلاة فلا إشكال ، بمعنى أنّه لا معارض لذاك الدليل من ناحية هذه الرواية، وأمّا بناء على شمول الرواية للزيادة ، فهذه الرواية تكون حاكمة على ذاك الدليل ، كما تكون حاكمة فى طرف النقص على دليل الجزئيّة و

٢١٦

الشرطيّة ، حيث إنّهما يدلّان على إضرار نقص الجزء والشرط عمدا كان أم سهوا.

ووجه الحكومة أنّ مفاد هذه الرواية عدم بطلان الصلاة من خلل فيها إلّا من الخلل فى الأشياء الخمسة ، فمفادها تسليم الخلليّة وأنّ مقتضاها البطلان لو خلّيت وطبعها ، فلا محالة تكون حاكمة على دليل إثبات أصل الخلليّة ، هذا.

وذكر شيخنا المرتضى قدس‌سره فى رسائله أنّه لو كان دليل الزيادة مصرّحا بالزيادة السهويّة كان أخصّ مطلق من هذه الرواية ، لشمول هذه الرواية للنقيصة السهويّة أيضا ، وذلك مثل قوله عليه‌السلام : «إذا استيقن أنّه زاد فى المكتوبة استقبل» حيث إنّ مقتضى تجدّد الاستيقان بعد المكتوبة وقوع الزيادة فى حال المكتوبة سهوا ، فيكون نصّا فى الزيادة السهويّة. (١)

أقول : ما ذكره قدس‌سره من كون النسبة عموما مطلقا يتمّ بناء على المعنى الثاني من المعاني الثلاثة التي ذكرناها للرواية ، وهو شمول المستثنى منه للزيادة دون المستثنى ؛ إذ مفاد الرواية على هذا عدم بطلان الصلاة بشيء من الزيادة والنقيصة فى شيء من الأجزاء والشرائط.

وأمّا بناء على المعنى الثالث وهو شمول المستثنى منه والمستثنى معا للزيادة فلا ، إذ النسبة على هذا عموم من وجه ؛ لأنّ مفاد الرواية عدم بطلان الصلاة بشيء من الزيادة والنقيصة فى غير الأشياء الخمسة ، ومفاد ذاك الدليل بطلانها بالزّيادة السهويّة في جميع الأجزاء والشرائط ، فيتحقّق لكلّ من الطرفين مادّة افتراق ويجتمعان فى الزيادة السهويّة فى غير الأشياء الخمسة.

فنقول : لو كان لأحد الدليلين لسان حكومة على الآخر فلا إشكال فى تقديمه و

__________________

(١) لا يخفى أنّ الرواية فى باب خلل الركوع من الوسائل ليس بهذه الصورة ، بل هي حسنة زرارة عن أبي جعفرعليه‌السلام قال : «إذا استيقن أنّه قد زاد فى الصلاة المكتوبة ركعة لم يعتدّ بها واستقبل الصلاة استقبالا إذا كان قد استيقن يقينا» إلّا أن يكون فى مقام آخر بتلك الصورة.

٢١٧

لو كان النسبة عموما من وجه كما هو الحال فى طرف النقص بين هذه الرواية وبين دليل الجزئيّة والشرطية ، حيث أنّهما يعمّان السهو والعمد فى الجزء الخاص والشرط الخاص ، والرواية شاملة للسهو وحده فى جميع الأجزاء والشرائط ، ولكنّ الأمر على خلاف ذلك فى هذا المقام فليس للرواية لسان حكومة على ذاك الدليل المتعرّض لخصوص الزيادة السهوية ، لأنّ مفاد هذه الرواية عدم بطلان الصلاة بالزيادة السهويّة ، ومفاد ذاك الدليل بطلانها بالزيادة السهوية ، وليس بين هذين المضمونين إلّا التعارض والتكاذب فى مورد اجتماعهما ، مضافا إلى أنّه مع تسليم الحكومة لا يمكن تقديم الرواية على ذاك الدليل ؛ إذ يلزم انحصار مورد ذاك الدليل فى الأشياء الخمسة ، وقد عرفت أنّ القابل منها للزيادة اثنان وهما الركوع والسجود ، فيلزم تخصيص ذاك العام إلى فردين ، وهو من البشاعة بمكان.

فتحقّق من جميع ما ذكرنا أنّ الرواية بجميع معانيها لا يمكن معارضتها مع ذاك الدليل، أمّا بناء على عدم شمولها للزيادة رأسا فواضح ، وأمّا بناء على شمول المستثنى منه فقط للزيادة فلكون ذاك الدليل أخصّ مطلقا من هذه الرواية ، وأمّا بناء على شمول المستثنى منه والمستثنى معا للزيادة فلما عرفت من عدم الحكومة أوّلا ، ولزوم التخصيص المستبشع على تقدير تقديم الرواية ثانيا.

وإذن فينحصر أمر ذاك الدليل فى ملاحظة التعارض بينه وبين سائر الأدلّة مثل مرسلة ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن سفيان بن السمط عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال عليه‌السلام : «تسجد سجدتي السهو فى كلّ زيادة تدخل عليك أو نقصان» حيث إنّه خاص بالزيادة السهوية ، ومضمونه عدم البطلان ، فيكون بينه وبين ذاك الدليل تباين كلّي ، وملاحظة المرجّحات بين طرفي هذا التعارض موكولة إلى الفقه ، هذا هو الكلام فى النقل الخاص.

وأمّا النقل العام فهو حديث الرفع ، وقد مرّ الكلام فى شموله للمقام وعدمه فى باب الشكّ فى أصل التكليف فليراجع.

٢١٨

الأمر الرابع

لو شكّ بعد ثبوت أصل الجزئيّة والشرطيّة فى ثبوتهما مطلقا حتّى فى حال العجز عن الجزء والشرط واختصاصهما بحال القدرة ولم يكن لدليل الجزئية والشرطيّة إطلاق لفظي حتّى يؤخذ به ويحكم بثبوتهما حال القدرة على الجزء والشرط وبسقوط المأمور به حال العجز عنهما ؛ لأنّ العجز عنهما عجز عن المركّب ، ولا كان لدليل المأمور به بعد إجمال دليل الجزئيّة والشرطيّة إطلاق حتى يؤخذ ويحكم بثبوت المأمور به حال العجز عن الجزء والشرط ، فهل القاعدة العقليّة حينئذ فى حقّ العاجز يقتضي ما ذا من الاحتياط بإتيان الناقص أو البراءة عنه؟

فنقول وبالله الاعتصام : إنّ العجز على قسمين ، الأوّل : العجز الابتدائي ، والثاني : العجز الطاري ، والثاني أيضا على قسمين ، الأوّل : العجز الطاري فى الواقعة الشخصيّة ، والثاني : العجز الطاري فى الوقائع المتعدّدة ، فالأوّل مثل ما إذا بلغ المكلّف عاجزا عن السورة مثلا ، والثاني مثل ما إذا كان قادرا عليها من أوّل الظهر إلى وسط الوقت ثمّ طرأ العجز فى نصف الآخر ، فقد اختلف الحال حينئذ فى الواقعة الشخصيّة بالعجز والقدرة ، والثالث مثل ما إذا كان قادرا عليها فى الأيّام المتقدّمة ثمّ طرأ العجز فى اليوم الحاضر من أوّل الوقت إلى الغروب ، فإن كان العجز طارئا فى الواقعة الشخصية فهنا احتمالان : الأوّل عدم التكليف فى حال العجز رأسا ، والثاني ثبوت التكليف بالناقص ، والتكليف بالناقص أيضا يكون فيه ثلاثة احتمالات.

الأوّل : أن يكون التكليف به على وجه كان الامتثال له امتثالا للتكليف بالتامّ المعجوز عنه ، بأن يكون الناقص فى حال العجز محصّلا للمصلحة المطلوبة من

٢١٩

التامّ فى حال القدرة بعينها.

والثاني : أن يكون التكليف لا على هذا الوجه بأن يكون التكليف بالناقص تكليفا مستقلّا ثابتا فى حال العجز فى قبال التكليف بالتام الثابت فى حال القدرة ، وهذا يمكن على نحوين :

الأوّل أن يكون لهذا التكليف ارتباطا بالتكليف بالتام بأن يكون الناقص حال العجز محصّلا لمرتبة نازلة من المصلحة التامّة الحاصلة بالتامّ حال القدرة.

والثاني أن يكون التكليف به غير مرتبط بذاك التكليف رأسا بأن يكون الناقص فى حال العجز محصّلا لمصلحة مغايرة للمصلحة الحاصلة بالتامّ بالكليّة.

ولا إشكال فى حكم شيء من هذه الأقسام بحسب العقل ، فإنّه مستقلّ بالاحتياط بإتيان الناقص فى ما إذا احتمل ثبوت التكليف به على الوجه الأوّل ؛ لأنّ المفروض تنجّز التكليف بالتام فى أوّل الوقت لمكان القدرة عليه فيه ، والامتثال القطعي له وإن كان لا يمكن فى حال العجز ، ولكنّ الاحتمالي ممكن ، لفرض احتمال كون الناقص امتثالا للتام ، والعقل مستقلّ بعد عدم إمكان الموافقة القطعيّة للتكليف المنجّز الفعلي بلزوم الموافقة الاحتماليّة وعدم تجويز المخالفة القطعيّة ، فإتيان الناقص موافقة احتماليّة ، وتركه مخالفة قطعيّة ، فالعقل مستقلّ بلزوم الأوّل وعدم جواز الثاني ، كما أنّه مستقلّ بالبراءة عن إتيان الناقص فى صورة القطع بعدم كون التكليف به على الوجه الأوّل ، وكونه على تقدير الثبوت على أحد الوجهين الآخرين ، فإنّ الشكّ حينئذ راجع إلى الشكّ البدوي فى التكليف ، ومن المعلوم أنّ الأصل فيه البراءة.

ومن هنا يعلم الحال فى العجز الابتدائى ؛ (١) لأنّ المفروض عدم تنجّز التكليف بالتامّ فيه فى زمان ، فالشكّ فى التكليف فيه أيضا شكّ بدوي والاصل فيه البراءة.

__________________

(١) راجع التعليقة الرقم (٢) فى صفحة ٧٢٧ هذا المجلّد

٢٢٠