أصول الفقه - ج ٢

آية الله الشيخ محمد علي الأراكي

أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ محمد علي الأراكي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٥٢
الجزء ١ الجزء ٢

حسن الخطاب ، وبعبارة اخرى من حيث القيود العقليّة يكون في مقام الإهمال ، فلا كلام ، وأمّا لو قيل بأنّها ناظرة إلى هذه الجهات أيضا فالمقام من قبيل التقييدات والتخصيصات اللبيّة ، حيث يستكشف حال موارد شكّها بأصالة الإطلاق أو العموم وأنّها غير مندرجة تحت عنوان المقيّد أو المخصّص كما في «لعن الله بني اميّة قاطبة» عند الشكّ في مؤمنيّة بعضهم ، وحينئذ فلم لا يستكشف في مورد الشكّ في القدرة أو الدخول في محلّ الابتلاء مصداقا بواسطة أصالة الإطلاق أو العموم حال المصداق وأنّه مقدور أو داخل في محلّ الابتلاء؟.

قلت : القدرة والدخول في محلّ الابتلاء من الشرائط العامّة ولا اختصاص بخطاب دون خطاب ، فكما يشترطان في الواقعي كذلك يشترطان في الظاهري ، فيشترط في صحّة التمسّك بأصالة الإطلاق إحراز شرائط صحّة توجيه الخطاب ، وهذا في مثل «لعن الله بني اميّة» موجود وفي المقام مفقود.

وحاصل الكلام أنّه في فرض ناظريّة الأدلّة إلى هذه الشروط يمتنع النظر الإطلاق ، بمعنى أنّ الهيئة لوحظ في الدليل تقييدها بحال القدرة والدخول في محلّ الابتلاء ، ولا ينافي ما قرّر من أنّ إمكان التقييد فرع إمكان الإطلاق ، فإنّ الإطلاق ممكن غير محال وإن كان قبيحا.

والحاصل : لا يمكن الانتهاء إلى القطع بالحكم الشرعي ولو في الظاهر ؛ إذ كما أنّا نشكّ في أنّ الخطاب الواقعي هنا حسن أو قبيح ، فكذلك نشكّ في أنّ الخطاب الظاهري أيضا أيّ منهما.

ثمّ بعد عدم الرجوع إلى الأصل اللفظي فهل المرجع حينئذ الاحتياط أو البراءة؟ الأقوى الأوّل ، لما عرفت من كون المرجع في الشكّ في الشرط العقلي هو الاحتياط كالشكّ في القدرة ، فالعلم الإجمالي الذي أحد أطرافه مشكوك خروجه عن محلّ الابتلاء بالشبهة المفهوميّة يكون منجّزا.

١٤١

الامر الثاني : لو تعقّب العلم الإجمالي بالتفصيلي فله صور :

الاولى : أن يكون كلّ منهما بلا عنوان ، كما لو كان متعلّق الإجمالي موطوئيّة غنم واحد من القطيع ، ومتعلّق التفصيلي موطوئيّة غنم معيّن منه.

الثانية : أن يكون الإجمالي مع العنوان والتفصيلي بدونه ، كما لو تعلّق الأوّل بموطوئيّة غنم واحد أسود مثلا من القطيع ، والثاني بموطوئيّة واحد معيّن بدون إحراز اتّصافه بالسواد وعدمه ، وهذا على قسمين ؛ لأنّ العنوان الموجود إمّا له دخل في خطاب الشرع وإمّا اجنبيّ

عنه ، فالثاني مثل المثال المرقوم ، فإنّ السواد خارج عن موضوع نهي الشارع ، وإنّما الموضوع عنوان الموطوء ، والأوّل مثل ما لو تعلّق العلم الإجمالي بمغصوبيّة واحد من القطيع والتفصيلي بحرمة أكل لحم معيّن منه بدون إحراز أنّ الحرمة لأجل المغصوبيّة أم الموطوئيّة ، فإنّ العنوان هنا وهو المغصوبيّة دخيل في موضوع التحريم.

الثالثة : أن يكون متعلّق العلم التفصيلي محتمل الحدوث ، كما لو احتمل في المثال الأوّل ـ مثلا ـ أن يكون موطوئيّة الغنم المعيّن حادثة ، فيكون الموجود في القطيع على هذا التقدير غنمين موطوءين.

لا إشكال في القسم الأوّل ، (١) فإنّ الإجمال يزول عن النفس بالمرّة ، فلا يمكن

__________________

(١) فإن قلت : كيف يحصل الانحلال والحال أنّ كلّا من الإجمالي والتفصيلي المتأخّر متعلّق بصورة غير ما تعلّق به الآخر ، فإنّ متعلّق الأوّل هو الصورة الإجماليّة ، ومتعلّق الثاني هو التفصيليّة وهما أمران منحازان ، ولهذا يصير الثاني معروضا للشكّ في حال كون الأوّل معروضا لليقين.

والحاصل : الواقع إن كان في الطرفين موجودا فمن باب عدم لزوم الترجيح بلا مرجّح نقول : إنّ العلم إنّما نجّز الجامع الذي نسبته إليهما على السواء ، وأمّا إن كان أحدهما واقعا والآخر أجنبيّا عنه فحينئذ المنجّز بسبب العلم نفس الواقع الموجود في أحد الطرفين على ما هو عليه من جميع الخصوصيّات الشخصيّة الثابتة له واقعا وتعلّق علمنا باشتماله عليها إجمالا ، والمعلوم بالتفصيل ـ

١٤٢

__________________

ـ غير معلوم بالفرض اشتماله على جميع تلك الخصوصيّات ، لفرض عدم العلم بالانحصار واحتمال التعدّد.

قلت : سلّمنا أنّهما صورتان منحازتان ، لكن تنجيز العلم وتأثيره هذا الأثر في كلا الطرفين موقوف على بقاء الترديد في النفس في الزمان المتأخّر بملاحظة زمان حدوث التكليف المعلوم ، وبلحوق العلم التفصيلي يزول الترديد ، فصورة الجامع وصورة الشخص صورتان ، لكن لا يبقى ترديد الأوّل مع الثاني ، فلا يمكن أن يقال : إمّا هذا نجس سابقا وإمّا ذاك ، بل هذا نجس في السابق قطعا وذاك مشكوك الحال.

والسرّ في ذلك أنّ ما تعلّق به العلم عنوان كلّي وهو عنوان النجس الواحد في هذا البين ، وهذا العنوان كان قبل العلم التفصيلي مردّدا بين أن يكون منطبقا على هذا أو على ذاك ، وبعده صار معلوم الانطباق على هذا ومشكوكه على الآخر ، وهذا الشكّ ليس عين الترديد الناشي من العلم ، بل عين الشكّ البدوي الذي كان حاصلا مع العلم الإجمالي متعلّقا بعنوان الزائد ، ولهذا لو لم يكن معه هذا الشكّ بأن كنّا عالمين بالانحصار لما بقي شكّ في غير المعلوم بالتفصيل ، فقولك : لو كان ذات المعلوم في البين واحدا في الواقع فهو بجميع خصوصيّاته الواقعيّة يقع في عهدة المكلّف فيه أنّه وإن كان ذات المعلوم جزئيّا حقيقيّا ، ولكنّ المعلوم بوصف المعلوميّة لا يعقل أن يكون تلك الخصوصيّات الممتازة عمّا سواها ، كيف وهي مورد الشكّ ، فيلزم اجتماع الضدّين في محلّ واحد.

فالمعلوم ليس إلّا أمرا جامعا بين جميع الخصوصيات المحتملة وهو في المعلوم بالتفصيل موجود بالفرض ، فيصير المحصّل أنّ الشيء الواجد للون من الألوان وكيف من الكيفيّات وكذا المتّصف بالنجاسة إمّا منطبق على هذا أو ذاك ، وهذا الترديد يزول بعد العلم التفصيلي ؛ إذ يصدق العنوان المذكور بجميع القيود المذكورة على المعلوم بالتفصيل تفصيلا ينافي الترديد.

ومن هنا يعلم أنّ ذات المعلوم بالإجمال في صورة وحدته واقعا وإن كان محتمل الانطباق على المعلوم بالتفصيل ، لكن بوصف المعلوميّة مقطوع الانطباق عليه ، ومن هنا يعرف الخدشة في ما في المتن (المراد بالمتن الدورة الاولى من الاصول ، وهذه المطالب من الدورة الثانية اثبتناها هنا للمناسبة) من أنّه لو انضمّ إلى المعلوم بالإجمال خصوصيّة اجنبيّة عن مراد الشارع مثل الأسوديّة لا يضرّ في الانحلال بالعلم التفصيلي مع عدم إحراز تلك الخصوصيّة.

وجه الخدشة أنّها وإن كانت أجنبيّة عن مراد الشرع ، لكنّ الحصّة الخاصّة من المبغوض الشرعي ـ

١٤٣

__________________

ـ مثلا الملازمة لهذه الخصوصيّة صارت في عهدة المكلّف ، فإنّه وإن كان خطاب «أكرم العالم» مثلا متعلّقا بعنوان جامع ، لكن مع ذلك مؤاخذة المولى عبده بترك إكرام الزيد إذا علم أنّه عالم صحيحة. وبالجملة ، عدم ارتباط الخصوصيّة بالغرض الشرعي لا ينافي تنجيز العلم إيّاها ، وإذن فالمعلوم بوصف المعلوم غير معلوم الانطباق على المعلوم التفصيلي وقد كان هو المعيار في الانحلال.

ثمّ نقول : سلّمنا قولك : إنّه في صورة وحدة الواقع يكون المنجّز هو بشخصه وبما عليه من جميع الخصوصيات لا من جهة أنّ المعلوم بوصف المعلوميّة له عنوان زائد على عنوان أحدهما ، بل من جهة أنّه ربّما يقال : يكفي في حكم العقل بالتنجيز العلم بالشيء ولو بالوجه ، لكن نقول : يشترك هذا المبنى مع المبنى المتقدّم في انطباق المعلوم الإجمالي على التفصيلي ، إذ الأمر على هذا دائر بين وجهين لا ثالث لهما ، إمّا ثبوت الواقع في كلا الطرفين أو في أحدهما ، فعلى الأوّل إنّما يؤثّر العلم في تنجيز الجامع ، والجامع معلوم الانطباق على التفصيلي ، وعلى الثاني وإن كان مؤثّرا في الشخص ، لكن على هذا الاحتمال ينحصر الشخص في المعلوم التفصيلي ، فيكون بشخصه معلوم الانطباق عليه ، فما هو معيار الانحلال وهو التطبيق القطعي لعنوان المعلوم الإجمالي على شيء حاصل على كلا الوجهين.

إن قلت : ما تقول في ما إذا رأينا قطرة بول وقعت في كأس معيّن في ساعة معيّنة ، ثمّ اشتبه بكأس آخر ، ثمّ علمنا تفصيلا أنّ أحدا معيّنا من هذين الكأسين كان في تلك الساعة متنجّسا بالبول ، فهل تلتزم بالانحلال بملاحظة أنّ المعلوم بعنوانه الخاص الذي هو المتنجّس بالبول صار منطبقا تفصيلا على هذا الكأس؟

قلت : هذا داخل في ما إذا كان العلم الإجمالي متعلّقا بأحدهما مع عنوان غير دخيل في حكم الشرع ، ولا يضرّ عدم دخالته فيه دخالته في موضوع تنجيز العقل ، والنجس المعنون بكونه ذاك المرئي وقوع البول الخاص فيه في الساعة المعيّنة غير معلوم الانطباق على هذا الكأس ، وكلامنا في ما إذا تعلّق العلم الإجمالي بأحدهما بلا عنوان أصلا حتى مثل هذه الخصوصيّة المردّدة الغير المعلومة تفصيلا ؛ إذ لا فرق بين أن ينضمّ بالمعلوم بالإجمال عنوان كأس زيد ، وبين أن ينضمّ به الخصوصيّات الشخصيّة الواقعيّة الغير المعلومة تفصيلا بواسطة سبق العلم التفصيلي بها.

فإن قلت : لو رأينا قطرة بول في ساعة معيّنة وقعت وتقطّرت في أحد الكأسين المعيّنين ولكن خفي على حاسّتنا شخص الذي وقعت فيه من الكأسين ، ثمّ علمنا تفصيلا بأنّ هذا المعيّن منهما كان في ـ

١٤٤

__________________

ـ تلك الساعة متنجّسا بالبول ، فهل تقول بالانحلال في هذه الصورة؟

قلت : لا نقول : فإنّ المعلوم إجمالا في هذا أيضا معنون بكونه متنجّسا بنجاسة متسبّبة من تلك القطرة الخاصّة المرئيّة في تلك الساعة ، وهذا المعنون لنا غير معلوم الانطباق على المعلوم التفصيلي ، فمحلّ الكلام ما إذا كان المعلوم إجمالا من جميع الجهات وكلّ الحيثيات بلا عنوان ، ولم يتلبّس بلباس العلم غير عنوان أحد الكأسين مثلا.

فإن قلت : فعلى هذا يلزم جواز الاكتفاء في الامتثال باجتناب أحد الكأسين ؛ لأنّه مصداق لعنوان الأحد الذي قد فرض عدم حيازة العلم إلّا إيّاه ، فكيف يعقل حيازة أثره وهو التنجيز زيادة على هذا المفهوم الكلّي.

قلت : ليس متعلّق العلم هذا المفهوم بصرفه ، بل مع ضميمة عنوان النجس أو عنوان الواجب ، أو عنوان الخمر أو نحو ذلك ، فلو احرز في مصداق الأحد الذي يكتفي به هذه الضميمة كان كافيا بلا شبهة.

فإن قلت : ما ذكرت من الضميمة حكم على موضوع الأحد ، ولا معنى لاحتساب الحكم جزء وضميمة لموضوعه ، فالمعلوم قضيّة موضوعها عنوان الأحد ، ومحمولها وجوب الاجتناب أو وجوب الارتكاب ، ولازم هذا جواز الاكتفاء باجتناب أو ارتكاب ما يصدق عليه عنوان الأحد كما هو الشأن في جميع المقامات.

قلت : كلامنا في الوجوب العقلي ، ولا شبهة أنّ موضوعه تمام القضيّة الشرعيّة بجزأيها من الموضوع والمحمول إذا صارت معلومة ، فالأحد الواجب الاجتناب أو الارتكاب شرعا المعلوم لنا بهذا الوصف يحكم العقل بوجوب الاجتناب أو الارتكاب له بالوصف المذكور ، ففي هذا الحكم أخذ الوصف جزء الموضوع.

فإن قلت : لازم وقوع الأحد تحت الوجوب الشرعي الاكتفاء بمصداقه في مقام الامتثال عقلا ، والوجوب العقلي ليس إلّا وجوب الخروج عن عهدة ما اقتضاه الحكم الشرعي لا أزيد وقد فرضنا أنّه لا يقتضي إلّا عنوان الأحد.

قلت : تارة يقع الأحد تحت الحكم الشرعي مستقلّا ، وهذا يجري فيه ما ذكرت من الاكتفاء بكلّ ما يكون مصداقا له ، واخرى يقع تحته بتبع اتّحاده مع خاصّ هو واقع تحته مستقلّا ، والحكم المتعلّق بالأحد بهذا النحو لا يسري منه إلى جميع مصاديقه ، فالوجوب الشرعي تعلّق بالخاص ، وهو ـ

١٤٥

الحكم بعد ذلك بأنّ الموطوء إمّا هذا أو ذاك حتى بملاحظة الزمان السابق. كما أنّه لا إشكال في عدم الانحلال في القسمين الأخيرين ، أمّا في الأوّل منهما فلأنّ الإجمال باق في النفس بملاحظة العنوان الدخيل في الحكم وهو المغصوب في المثال ، فيمكن الحكم بأنّ المغصوب إمّا هذا أو ذاك.

وأمّا في الثاني منهما فلأنّ من شروط بقاء تنجيز العلم الإجمالي في الأزمنة المتأخّرة أن يكون المكلّف في كلّ آن لاحظ الزمان المتقدّم ـ أعني زمان حصول العلم الإجمالي ـ كان الإجمال في نفسه باقيا ولو زال بملاحظة الزمان المتأخّر منه ، ألا ترى أنّ الشكّ الساري يوجب ارتفاع أثر العلم بلا شبهة ، وإراقة أحد الإنائين المشتبهين من حيث النجاسة أو إدخال النجس في معيّن منهما لا يوجب ذلك ، فليس ذلك إلّا لأنّ الاعتبار في تأثير العلم إنّما هو بالماضي دون الحال.

وأمّا القسم الثاني وهو ما لو تعلّق الإجمالي بشيء ذي عنوان ، والتفصيلي بهذا الشيء بدون عنوانه ، وكان العنوان أجنبيّا عن الحكم الشرعي مثل الأسوديّة في

__________________

ـ غير معلوم الانطباق على المعلوم التفصيلي ، لاحتمال التعدّد ، ولكن علمنا تعلّق بعنوان الأحد بماله من الصفة التبعيّة ، بل ومع ضميمة عنوان الخاص ، فالمعلوم هو عنوان الواحد الخاص الواجب بعنوان هذه المفاهيم الثلاثة ، فما دام لم نعلم تطبيق هذا المجموع على واحد معيّن يكون هذا العنوان المعلوم لا محالة متردّدا بين الطرفين. فيسرى تنجيز العلم بتبعه أيضا إليهما.

وأمّا إذا علمنا تطبيق جميع الثلاث على واحد معيّن فلا محالة يخرج عن الترديد والدوران إلى التفصيل والتعيين ، فمعروض هاتين الصفتين إنّما هو هذه الصورة الكلّية ، فإنّها قد تتّصف بالدوران والترديد ، واخرى بالتفصيل والتعيين ، ومن الممتنع اجتماعهما مع وحدة المحلّ ، فلا مساس لما ذكرت من تعدّد صورة الجامع مع صورة الفرد بمقامنا ؛ فإنّ هذا لا ينكره أحد ، فيقع صورة الإنسان محلّا للعلم وصورة الزيد محلّا للشكّ ، بل المدّعى في المقام أنّ صورة الجامع في فرض اتّصاف صورة الفرد بالشكّ متّصفة بالدوران ، وفي فرض اتّصافها بالعلم يخرج عن الدوران إلى التعيين ، لا أن يكون مفروض الترديد صورة الجامع ومفروض التفصيل صورة الفرد حتى ينفع تعدّد المحلّ في اجتماعهما كالعلم والشكّ.

١٤٦

المثال المتقدّم ، فهل حكم العقل فيها هو البراءة في غير المعلوم التفصيلي أو الاحتياط؟ الأقوى الأوّل ، لأنّا إذا أغمضنا النظر عن عنوان الأسوديّة في المثال مثلا ولاحظنا عنوان المحرّم فلا نرى إجمالا في النفس ، فإنّه لا دخل في موضوع حكم العقل بوجوب الإطاعة والامتثال إلّا لما هو الموضوع لخطاب الشرائط دون الضمائم الخارجيّة المنضمّة إليه أحيانا ، وهذا واضح لا سترة عليه.

نعم لو احتمل الحدوث في متعلّق العلم التفصيلي صار من قبيل القسم الأخير ، وعرفت أنّ الإجمال فيه غير منحلّ ، هذا كلّه حال العلم التفصيلي.

ولو قام طريق معتبر على التكليف في أحد أطراف العلم الإجمالي المثبت للتكليف على نحو لو كان مقام هذا الطريق علم تفصيلي بمؤدّاه صار موجبا لانحلال الإجمال ، فهل حكم العقل في الطرف الخالي عن الطريق هو البراءة أو الاحتياط ، ومحلّ الكلام ما إذا لم يكن مفاد العلم الإجمالي أو الطريق انحصار التكليف في واحد ؛ إذ على الأوّل يكون مؤدّى الطريق وهو ثبوت التكليف في هذا المعيّن ملزوما لنفي التكليف في الطرف الآخر ، وقد قرّر في محلّه أنّ اللوازم العقليّة والعادية مأخوذة في الطرق والأمارات ، وهو وجه الفرق بينها وبين الاصول العمليّة.

وعلى الثاني يكون نفي التكليف في الطرف الآخر جزءا لمعناه المطابقي ، فلا إشكال إذن في عدم لزوم الاحتياط في الطرف الآخر في الصورتين ، وكذا ما إذا لم يكن مفاد الطريق تعيين المعلوم بالإجمال ، وإلّا فلا شبهة في عدم لزوم الاحتياط أيضا في الطرف الآخر.

وتحقيق الكلام في المسألة هو أنّه لا إشكال في الحكم في بعض صورها وهي ما إذا قام الطريق قبل العلم الإجمالي أو مقارنا له ، سواء في الشبهة الحكميّة أم الموضوعيّة وكذا ما إذا قام بعده ، لكن في خصوص الشبهة الحكميّة بشرط أن يكون عدم الوصول إلى الطريق قبل ذلك مستندا إلى عدم الفحص عنه.

وتوضيح عدم الإشكال في الحكم في هذه الصور يبتني على مقدّمة وهى : أنّ

١٤٧

وجه تنجيز العلم الإجمالي على ما عرفت سابقا هو سقوط البراءة العقليّة عن البين مع وجوده، لأنّها متقوّم بعدم البيان ، والعقاب مع العلم الإجمالي يكون مع البيان ، فيكون حكم العقل في موضوع العلم الإجمالي بالتكليف هو الاحتياط هذا بحسب العقل.

أمّا بحسب الشرع فأدلّة رفع ما لا يعلمون ونحوه غير ممكن الجريان أيضا ؛ لأنّ الجريان في كلّ من الطرفين ترخيص في القبيح ، وفي واحد معيّن ترجيح بلا مرجّح ، وفي واحد لا بعينه خارج عن مدلول تلك الأدلّة ، فلا جرم كان حكم العقل بالاحتياط في مورد العلم الإجمالي سالما عن المزاحم والحاكم ، وهذا وجه تنجيز العلم ، فلو فرض في مورد أنّ جريان البراءة الشرعيّة في واحد معيّن من أطرافه ليس له محذور الترجيح بلا مرجّح كان جاريا وسقط العلم عن التنجيز.

إذا عرفت ذلك فنقول : أمّا صورة قيام الطريق قبل العلم أو معه كما لو قام طريق معتبر على وجوب الجمعة أو حرمة الغناء أو نجاسة هذا الإناء ، فحصل إمّا بعده أو في حاله، العلم الإجمالي بوجوب أحد الأمرين من الجمعة والظهر ، أو حرمة أحد الأمرين من شرب التتن والغناء ، أو نجاسة أحد الأمرين من هذا الإناء وذاك ، فلا إشكال أنّ مورد الطريق سواء كان من قبيل الشبهة الحكميّة أم الموضوعيّة يصير بعد قيام الطريق خارجا عن كونه شبهة ، ويخرج عن عنوان كونه ممّا لا يعلمون ، ويصير ممّا يعلم ، فيخرج عن موضوع أدلّة البراءة الشرعيّة ، فعند قيام العلم بعد ذلك أو في هذا الحين تكون البراءة الشرعيّة في الطرف الآخر الخالي عن الحجّة الشرعيّة والطريق الشرعي سليمة عن المزاحم ، هذا حال قيام الطريق قبل العلم أو معه في مطلق الشبهة.

أمّا قيامه بعده إذا كان ذلك من جهة عدم الفحص في خصوص الحكميّة ، فلأنّه عند الاطّلاع على الطريق في ما بعد يكشف ذلك عن كون مورده من أوّل الأمر غير موضوع للبراءة الشرعيّة ، فيكون عدله موضوعا ومحلّا لها بلا مزاحمة شيء.

نعم يبقى الإشكال في الشبهة الموضوعيّة إذا قام الطريق بعد العلم ، سواء كان

١٤٨

أصل حدوثه في ما بعد ، أم كان الاطّلاع عليه كذلك مع كون أصل حدوثه سابقا أو مقارنا للعلم ، وفي الحكميّة إذا كان عدم الاطّلاع على الطريق إلى الزمان المتأخّر ، لا من جهة عدم الفحص بأن تفحّص عنه ولم يظفر به ثمّ حصل سبب خارج عن العادة موجب للاطّلاع عليه.

أمّا وجه الإشكال في الصورة الاولى والأخيرة فواضح ؛ لأنّ الحجّة المتأخّر الحدوث أو المتأخّر الاطلاع عليه لا من جهة عدم الفحص يكون موردها قبل ذلك في حدّ نفسه مجرى للبراءة الشرعيّة ، وقيام الحجّة في ما بعد لا يؤثّر في السابق ، فكانت البراءة الشرعيّة في عدله مزاحمة.

وأمّا الصورة الوسطى فلأنّ الفحص في الشبهة الموضوعيّة غير واجب ، ولا يتوقّف جريان الاصول فيها على عدم وجود أمارة لو فحص عنها لظفر بها ، بل هي جارية وإن كان في البين أمارة كذلك غاية الأمر لو ظفر بها اتّفاقا بعد ذلك كان الأصل ساقطا من هذا الحين ، لا منكشفا عدم (١) سقوطه من أوّل الأمر.

وحاصل الإشكال في هذه الصور الثلاث أنّه بعد تماميّة العلم الإجمالي موضوعا وأثرا كما هو المفروض وسراية أثره إلى جميع أطرافه ، فما الموجب لرفع اليد عن هذا الأثر في بعض أطرافه إذا قام بعد ذلك طريق معتبر على التكليف في بعض آخر ، فإنّ العلم سبب منجّز للواقع بالنسبة إلى كلّ من الطرفين ، ففي أيّ منهما كان الواقع وخولف كان للمولى المؤاخذة عليه ، وقيام الطريق على الواحد المعيّن أيضا سبب منجّز له في خصوص هذا المعيّن ، فلو كان الواقع فيه كان المصحّح للعقاب على مخالفته اثنين. بخلافه لو كان في الطرف الآخر ، فإنّ المصحّح فيه واحد.

وبالجملة ، لا منافاة بين تنجيز العلم في الطرفين وبين تنجيز الطريق في مورده ، فما وجه رفع اليد عن تنجيز العلم في غير مورد الطريق ، هذا هو الإشكال ،

__________________

(١) كذا ، والظاهر أنّ كلمة «عدم» زائدة.

١٤٩

وحلّه يمكن بوجوه ثلاثة :

الأوّل : انحلال العلم وزوال الإجمال عن النفس موضوعا ، وبيانه أنّه إذا علم إجمالا بأنّ الواجب الأوّلي الواقعي أو الحرام (١) كذلك أو النجس كذلك إمّا هذا أو ذاك ، فباعتبار الحكم الواقعي الأوّلي بوصف كونه أوّليا واقعيّا لا انحلال بعد قيام الطريق ، بل الإجمال باق ، فإنّ قيام الطريق لا يوجب حصول العلم بمضمونه ، فمؤدّاه وإن كان ثبوت التكليف الأوّلي في مورده ، لكن لا يحصل للمكلّف علم بهذا ، فيكون الإجمال في نفسه باقيا ، بمعنى أنّه مع ذلك يحكم بأنّ الواجب الأوّلي مثلا إمّا هذا أو ذاك.

ولكن لا يخفي أنّ هذه الخصوصيّة أعني الأوّليّة والواقعيّة ملغاة في حكم العقل ، بمعنى أنّ حكم العقل إنّما هو أنّه يجب على العبد أن يمتثل ولا يتمرّد حكم المولى وإلزامه ، وأمّا خصوص كون الحكم والإلزام مجعولا أوّليّا أو مجعولا عند الشكّ فلا خصوصيّة عند العقل لأحدهما ، بل كلاهما في نظره على حدّ سواء.

وإذن ففي هذا المقام لا بدّ من طرح خصوصيّة الأوّليّة والواقعيّة ، فيقال بأنّ العلم الإجمالي حاصل بأنّ الواجب الإلهي أو المحرّم كذلك والنجس كذلك ، هو هذا المعيّن ونشكّ في تحقّقه في الآخر ، وبالجملة ، حال هذه الخصوصيّة أيضا حال وصف السواد في المثال المتقدّم حيث ذكرنا لزوم إلغائه ، لكونه ملغى في نظر الشرع ، فكذا في نظر العقل ، وبعده يحصل الانحلال بلا إشكال ، فكذا هنا أيضا خطاب المولى مفصّل في هذا ومشكوك في ذاك وإن كان لا تفصيل بملاحظة الخطاب الأوّلي. ويرد على هذا الوجه إشكالان :

الأوّل : يلزم على هذا في ما لو خالف المكلّف موافقة الأمارة تجرّيا وأتى بالطرف الآخر أيضا فاتّفق كون الواقع في ضمن الآخر دون ما قام فيه الأمارة أن لا يكون معاقبا على مخالفة الواقع أصلا ؛ لأنّ المتحقّق في مورد الطريق إنّما هو مخالفته دون الواقع بالفرض ، ومخالفة الطريق ما لم يكن مخالفة لذي الطريق لا

__________________

(١) «الالهي أو النجس الشرعي إمّا هذا وإمّا ذاك ولا إشكال انّه بعد قيام الطريق يحصل العلم الوجداني التفصيلي بأنّ الواجب الالهي أو المحرم»

١٥٠

يوجب عقابا ، وأمّا الطرف الآخر وإن تحقّق مخالفة الواقع فيه ، لكنّه معذور من جهة أصل البراءة ، وهذا ممّا لا يساعده الوجدان.

والثاني : أنّ هذا الوجه لا يجري في بعض صور الإشكال وهو الشبهة الموضوعيّة إذا حدث الأمارة بعد العلم ، ووجه عدم الجريان أنّ خطاب «صدّق الأمارة» تابع لحدوثها ، فلا خطاب قبله ، فزمان مفصليّة خطاب الشرع في مورد الأمارة إنّما هو بعد قيامها وحدوثها ، وأمّا بملاحظة الزمان السابق فخطاب الشرع مردّد بين هذا وذاك ، وقد تقدّم أنّه إذا كان الإجمال في العلم الإجمالي باقيا بملاحظة الزمان المتقدّم كفي في تنجيزه وإن ارتفع الإجمال بملاحظة الزمان اللاحق.

الوجه الثاني : أيضا انحلال العلم رأسا وزوال الإجمال بسبب قيام الطريق موضوعا ، وبيانه أنّ موضوع حكم العقل هل هو العلم بحكم المولى بوصف أنّه علم أو هو بوصف أنّه طريق معتبر؟ لا إشكال أنّه الثاني ، بمعنى أنّ العقل يحكم بأنّه متى حصل للعبد طريق خال عن الخدشة ومقبول وحجّة على حكم المولى وإلزامه يجب عليه الامتثال وعدم التمرّد ، ولا فرق في نظره بين كون هذا الطريق هو العلم الذي هو حجّة بنفسه أو طريقا محتاجا إلى الجعلي ، فإنّه أيضا بعد الجعل يكون من مصداق هذا الموضوع حقيقة.

وحينئذ فنقول : إذا حصل العلم الإجمالي فقد حصل الطريق المعتبر على حكم المولى في أحد الطرفين لا على التعيين ، وإذا حصل الأمارة على التكليف في واحد انقلب ذاك الإجمال إلى التفصيل ، بمعنى أنّ التكليف الواقعي الأوّلي الجامع بين التكليفين المشكوكين لا يصحّ أن يقال : إنّه ثابت بالأعمّ من الثبوت الوجداني أو التعبّدي إمّا في هذا وإمّا في ذاك ، بل هو حاصل في هذا تفصيلا ومشكوك في ذاك ، فنحن وإن لاحظنا وصف الأوّليّة والواقعيّة في الحكم في المقام نقول : حكم العقل معلّق بانكشاف الحكم الأوّلي لدى المكلّف بطريق حجّة إمّا بنفسه وإمّا بالجعل ، فقبل قيام الأمارة كان التكليف عنده منكشفا بالطريق المعتبر ، لكن في أحد الأمرين لا بعينه.

١٥١

وأمّا بعد قيامها فقد انكشف التكليف عنده بالطريق الحجّة في خصوص هذا المعيّن ، ولا يمكن بعد ذلك أن يقال : إنّ هذا الجامع متحقّق بالنسبة إلى أحدهما لا بعينه ؛ لأنّه مفصّل التحقّق في هذا ، ومشكوك بدوي بالشكّ المقابل للعلم المذكور في الآخر. وهذا الوجه سالم عن كلا الإشكالين السابقين.

أمّا عدم العقوبة في صورة مخالفة كلا الطرفين ومصادفة الواقع في غير ذي الطريق فلا محذور فيه بعد ما ذكرنا من الانحلال الحقيقي وصيرورة الطريق كالعلم التفصيلي المتأخّر بلا فرق ، وأمّا عدم الجريان في الشبهة الموضوعيّة فممنوع ، فإنّ البيّنة القائمة على نجاسة الإناء المعيّن من الإنائين من السابق يوجب تنجيز النجاسة السابقة ولا يحتاج إلى إسراء التنجيز إلى السابق ، كما أنّ في العلم التفصيلي المحتاج إليه تعلّق الانكشاف في اللاحق بالمضمون السابق ، لا إسراء نفس الانكشاف من اللاحق إلى السابق الذي هو من المحالات ، وهذا واضح.

الثالث : أن يقال بأنّ العلم الإجمالي باق موضوعا وأثرا ولكن نقول : يحصل مقتضاه بموافقة الطريق ، فبعد الإتيان بمورد الطريق يصير الطرف الآخر مشكوكا بدويا وإن كان قبله طرفا للعلم.

وبيان ذلك أنّ قضيّة العلم الإجمالي بالتكليف في صورة عدم قيام أمارة في البين ليس إلّا موافقة التكليف الواقعي المعلوم ، وهو لمّا لا يكون له عنوان غير عنوان أحدهما ولا يكون له تميّز وتعيّن حتّى في علم الله فهذا لا يمكن الإتيان به إلّا بإتيان كلا الطرفين ، فيكون إتيان الطرفين مطلوبا في باب حكم العقل من باب المقدّمة لتحصيل موافقة أحدهما.

وحينئذ نقول : في صورة قيام الأمارة لو أمكن لنا أن نكتفي بإتيان مورد الأمارة ونقول : إنّه موافقة أحدهما التي نجّزها علينا العلم الإجمالي وكان المولى أيضا ملزما بتقبّله ولو لم يكن مصادفا للواقع ، فلا شبهة في جواز الاكتفاء به لدى العقل.

فنقول : حكم الشارع بلزوم تصديق الأمارة وإلغاء احتمال الكذب ومحسوبيّة

١٥٢

مؤدّاه بدل الواقع في جميع الآثار تعبّدا ـ وإن لم يكن هو الواقع حقيقة ـ ملازم لذلك ؛ لأنّه إذا أتى العالم [بالعلم] الإجمالي بالتكليف في شيئين القائم عنده الأمارة على التكليف في معيّن منهما بهذا المعيّن وارتكب الآخر فله جواب مسموع في ساحة المولى غير قابل للرّد ؛ لأنّه يقول بأنّ علمي لم ينجّز عليّ سوى موافقة التكليف الواحد في أحد هذين الأمرين بدون علامة وبمنزلة في هذا أو ذاك ، وأنا أتيت بما أدّى الأمارة بثبوت التكليف فيه وهو موافقة لتكليف واحد في موضوع أحدهما ، فإن ردّ عليه المولى بأنّ التكليف لم يكن بموجود في ذاك ففعلك لم يكن موافقة للتكليف فهو محجوج عليه بأنّك قلت : إنّى اتقبّل مؤدّى الأمارة في مقام الواقع ولو لم يكن مصادفا.

وبعبارة اخرى : فالعبد عند عدم المصادفة وإن لم يأت بموافقة التكليف واقعا ، ولكنّه أتى بما هو بدلها ومحسوب في محلّها ، ومن المعلوم أنّ قضيّة العلم الإجمالي ليس بأزيد من هذا.

وهذا البيان سالم عن كلا الإشكالين السابقين ، أمّا عدم الجريان في الشبهة الموضوعيّة عند حدوث الأمارة بعد العلم فلأنّه مبنيّ على الانحلال ، وليس مبنى هذا الوجه هو الانحلال، بل هو دفع اقتضاء العلم وجعل النفس في استراحة منه وهو حاصل هنا أيضا ، فإنّ حدوث الأمارة وإن كان في الزمان المتأخّر ، ولكن مؤدّاه على ما هو الفرض ثبوت التكليف من أوّل الأمر ، فيمكن للعبد أن يأتي بمؤدّاها يقول : هذا موافقة للتكليف الثابت من أوّل الأمر.

وأمّا التالي الفاسد المذكور من عدم العقوبة على الواقع عند مخالفة كلا الموردين وتحقّق الواقع في غير مورد الطريق دونه فهو على هذا البيان غير وارد ؛ لأنّ مقتضى البيان المذكور أنّ مورد الطريق لو أتى به المكلف يحسب بدلا عن الواقع ، فيمكن الاستراحة به عن تبعة العلم ، وأين هذا من عدم الاستحقاق لو لم يأت بالواقع المعلوم أصلا لا به نفسه ولا ببدله كما هو المفروض.

وبعبارة اخرى : لا يرتفع تبعة العلم عن المكلف حتّى يأتي بالموافقة الواقعيّة أو

١٥٣

ببدلها ، فالمدّعى في صورة الإتيان بمورد الطريق أنّه فرغ عن هذه التبعة لأجل أنّه أتى ببدل الموافقة الواقعيّة ، ولا يلزم من هذا فراغه في صورة لم يأت بشيء من الموافقتين ، هذا.

ولكن هذا البيان أيضا يرد عليه إشكال آخر لو حصل الذبّ عنه أيضا كان بيانا تامّا ، وبيان الإشكال يتوقّف على مقدّمة ، وهى أنّه لو علم بالتكليف في أحد أمرين فارتكبهما وخالف علمه في كليهما فاتّفق وجود التكليف في كلا الأمرين فلا إشكال أنّه مستحقّ لعقوبة واحدة وإن صدر منه مخالفتان للواقع ؛ لأنّه إنّما يستحقّ بمقدار علمه ، والمفروض أنّه تعلّق بتكليف واحد ، وهذا واضح لا سترة عليه ، إنّما الكلام في أنّ هذه العقوبة الواحدة التي يستحقّها في هذه الصورة هل هي لأجل عدم صدور موافقة واحدة منه، أو هي لأجل صدور مخالفة واحدة منه.

وتظهر الثمرة بين الوجهين في هذه الصورة لو أتى بأحد الأمرين وترك الآخر ، فعلى الأوّل لا يستحقّ عقوبة ، لصدور موافقة واحدة منه ، وعلى الثاني يستحقّ ، لصدور مخالفة واحدة منه أيضا ، وحيث إنّ الأوّل ممّا لا يساعده الوجدان يتعيّن المصير إلى الثاني ، وحينئذ فالإشكال على الوجه المزبور أنّ مبناه الاكتفاء في مقام الامتثال بموافقة واحدة ، وقد كان الوجدان حاكما بلزوم ترك مخالفة واحدة.

والذي ينبغي أن يقال في التفصّي عن الإشكال أنّ الطريق الشرعي عبارة عن طريق اعتمد عليه الشرع ، ومعنى اعتماده أنّه رأى مطلوباته في مؤدّيات هذا الطريق ، وهو ألغى احتمال الخلاف فيه ، ولازم هذا صيرورة التكليف المتعلّق بالعناوين الواقعيّة ساقطة عن التأثير وصرف تنجّزها إلى مؤدّيات هذا الطريق ، وليس هذا تقييدا في الواقعيّات.

ألا ترى أنّك لو كنت محبّا لإكرام الصديق فشخّصته بطريق اعتمدته في شخص لا يشكّ في حمل عنوان الصديق عليه مع عدم تغيير حبّك عن عنوان الصديق الواقعي.

١٥٤

وحينئذ فنقول : لو أراد مولى ظاهري من عبده إنقاذ ابنه ، وعلمه العبد مشتبها بين أشخاص فشخّصه نفس المولى بطريق يثق به أو بعلم نفسه فاقتصر العبد على إنقاذه دون الباقين ، ثمّ ظهر خطاء طريقه وعلمه وكون الابن في الباقين ليس للمولى عتابه بأنّك كنت عالما فلم لم تحتط ، فإنّه يقول : ليس هذا بتقصير منّي ، بل بخطاء طريقك أو علمك ، فالعلم في خارج دائرة الطريق يصير ملحقا بالشكّ البدوي ، وكذلك الحال في المولى الحقيقي بعد ما شخّص مراداته في مقول قول الثقة ، فإنّ الواقع إمّا موجود في جميع الأطراف ، أو أزيد من واحد ، فاللازم حينئذ تنجيز الجامع ، وإمّا في واحد فقط فاللازم تنجيز هذا الشخص.

وعلى كلّ حال تطبيقه على مؤدّى قول الثقة متعيّن ، أمّا في الأوّل فلأنّه مصداق الجامع ، وأمّا في الثاني فلأنّ الطريق كما يثبت الواقع في ما قام عليه ينفيه عن الطرف الآخر بالملازمة ، وقد حقّق في محلّه لزوم الأخذ بلوازم الطرق ولو كانت عقليّة ، وعلى كلّ حال فاللازم صرف تنجيز العلم عن الطرف الآخر وانحصاره في ما قام عليه الطريق.

وبالجملة ، عين ما قلناه في العلم التفصيلي المتأخّر في موضوع الانكشاف من أنّه ليس هنا صورة الجامع محلّا للإجمال وصورة الفرد محلّا للتفصيل حتّى لا يتنافيا كالعلم والشكّ ، بل محلّ الوصفين صورة واحدة وهي صورة الجامع ويستحيل اتّصافها بالإجمال بعد عروض التفصيل ، بقوله بعينه في الطريق المتأخّر في أثر ذلك الانكشاف وهو التنجيز ، فنقول : أثر العمل تنجيز صورة الجامع تنجيزا إجماليّا ، وأثر الطريق تنجيز تلك الصورة بعينها تنجيزا تفصيليّا ، وكما لا يمكن اجتماع الانكشاف بوجه الإجمال والتفصيل في الصورة الواحدة كذلك لا يمكن اجتماع التنجيز بوجه الإجمال وبوجه التفصيل فيها أيضا بلا فرق.

إن قلت : سراية التنجيز إلى الجامع الذي نجّزه العلم وإن كان ممكنا غير مستحيل بملاحظة لزوم تحصيل الحاصل وأنّ المنجّز لا ينجّز ، فإنّ ذلك منقوض بالعلم التفصيلى ، ولكن لا دليل عليها ، فمن الممكن قيام التنجيز المسبّب عن العلم

١٥٥

بالجامع والمسبّب عن الطريق بالشخص كالعلم والشكّ ، فيكون الثابت عند مخالفتهما ومصادفتهما عقابين.

قلت : الوجدان حاكم على خلافه ، فإنّه يرى حال طريق المولى حال علم المولى ، فكما أنّه لو علم المولى بتشخيص مراده في أحد الأطراف لا شبهة في تأثير ذلك في تنجيز المعلوم بالإجمال وقصره على مورده وأن لا يكون العبد في قيد الواقع على تقدير كون علم المولى الظاهري خطأ وجهلا مركّبا ، كذلك حال طريق أعمله نفسه في تشخيص مراده ؛ إذ معنى ذلك أنّه يرفع مئونة التشخيص عن عبده وتكفّل بنفسه لذلك ، ولازم ذلك أن يكون مراداته في غير موارد تشخيصاته مع بقائها على وصف المراديّة وعدم الإغماض عنها عارية عن وصف التنجيز على العبد.

والحاصل أنّ العلم الإجمالي ما دام لم يحصل التشخيص بالعلم أو ما هو بمنزلته إمّا من العبد وإمّا من المولى يؤثّر في تنجيز كلا الطرفين ، أمّا بعد ذلك يصير المنجّز منطبقا على المشخّص ، فحال علم المولى حال علم العبد ، وحال طريقه حال طريقه ، ألا ترى أنّ العبد لو كان مطلوب نفسه إكرام الصديق فاشتبه بين شخصين ثمّ شخّصه في أحدهما بطريق عقلائي كان معاملته مع الآخر معاملة الشبهة البدويّة ، كما في صورة العلم بلا فرق.

ثمّ إن شئت سمّ هذا الوجه انحلالا حكميّا بملاحظة بقاء صفة العلم وانحلال أثره وحكمه وهو التنجيز ، وإن شئت سمّه حقيقيّا بملاحظة أنّ العلم يكون موضوعا لحكم العقل بجامع كونه منجّزا ، حتى يرجع إلى الوجه الثاني من الوجوه المتقدّمة ، ولا يرد الإشكالان السابقان ، أمّا عدم مساعدة الوجدان على عدم العقوبة في ما ارتكب كلا الطرفين وكان الواقع في غير ذي الطريق ، فلا نسلّم ؛ لأنّ حاله حال العلم التفصيلي بعينه ، ويجري أيضا في ما حدث الأمارة بعد العلم في الموضوعيّة ، لأنّ الإجمال السابق يصير من هذا الآن مرتفعا ، كما في الشكّ الساري والعلم التفصيلي المتأخّر ، فتدبّر.

١٥٦

الامر الثالث : في الشبهة الغير المحصورة وهي الشبهة القليل في الكثير مثل الواحد في ألف ألف ، وأمّا الكثير في الكثير فهي كالقليل في القليل يكون من الشبهة المحصورة ، مثلا حال الخمسمائة في ألف وخمسمائة مثل حال الواحد في الثلاثة.

ثمّ إنّ المشهور عدم وجوب الاجتناب في الشبهة الغير المحصورة ، ولكن ليعلم أنّ غالب أفراد هذه الشبهة مصحوبة بأمر بسببه يتوهّم أنّ لازم هذه الشبهة عدم الوجوب وفي الحقيقة يكون عدم الوجوب مستندا إلى ذلك الأمر ، وذلك مثل خروج بعض أطراف الشبهة عن محلّ الابتلاء كما هو الحاصل غالبا ، بمعنى كون بعضها بحيث كان التكليف بتركه هجنا وهزوا ومثل الاضطرار إلى بعضها ، ومثل كون ترك جميع الأطراف حرجيّا.

ولا يخفي عدم انفكاك الشبهة الغير المحصورة عن واحد من هذه الثلاث في الغالب ، وكلّ واحد منها موجب لعدم الوجوب ، ولو فرض الشبهة محصورة فيغلب على الظنّ أنّ حكمهم بعدم الوجوب نشأ من ذلك ، فنحن لو أردنا أن نفهم أنّ جهة كون الشبهة شبهة غير محصورة هل لها مع قطع النظر عمّا عداها مدخل في عدم الوجوب أو لا؟ لا بدّ أن نفرض جميع أطرافها محلّا للابتلاء وعدم كون شيء منها مضطرّا إليه وعدم كون ترك الكلّ حرجيّا ، ثمّ نلاحظ هل له اقتضاء لعدم الوجوب من جهة كونه شبهة غير محصورة أو لا.

فنقول : لا إشكال ولا شبهة في وجود جميع ما أسلفنا ذكره في الشبهة المحصورة وجها لوجوب الاجتناب عن جميع الأطراف هنا حرفا بحرف من كون العلم بالتكليف إجمالا حاله عند العقل حال العلم التفصيلي به في لزوم الامتثال وتنجّز التكليف بلا فرق أصلا إلى آخر ما ذكرنا هنا. (١)

__________________

(١) وأمّا التمسّك لعدم الاجتناب بأنّ العلم الإجمالي مع عدم الانحصار كلا علم ، يعني يكون ـ

١٥٧

نعم غاية ما يمكن أن يكون وجها لعدم الوجوب في الشبهة الغير المحصورة أن يقال : إنّ كثرة الأطراف بلغت إلى حدّ صار احتمال وجود المعلوم بالإجمال في طرف بعينه في الضعف بمرتبة لا يعتنى به العقلاء ولا يتبعون هذه المرتبة من الوهم في امورهم ، بل يعاملون مع خلاف هذا الاحتمال الذي هو الاطمئنان معاملة العلم ، ووجه كون الكثرة موجبة لذلك أنّ متابعة الاحتمال في طرف بعينه يجب أن يكون بطرح هذا الاحتمال في مائة فرد آخر وأخذه في خصوص هذا المعيّن ، ومن المعلوم أنّ هذا يوجب كون الاحتمال في هذا من باب الوهم الضعيف.

والشاهد على هذا أنّك لو اخبرت بموت واحد من أهل البلد المتّسع وكان لك فيه أقارب وكان هذا الأحد مردّدا بين جميع أهل البلد ، فهل تجد من نفسك الاضطراب من جهة احتمال كونه بعض أقاربك؟ ، وليس إلّا لأنّ تعيين هذا الأحد من بين مائة ألف نفس في أخيك أو أبيك يكون في الضعف بمكان.

وهذا الوجه غير صحيح لأنّه مستلزم لجمع المتناقضين في عالم الخيال ، فإنّ

__________________

ـ بلا تأثير وتنجيز ففيه أنّه سلّمنا عدم ترتّب أثر العلم على هذا العلم ، لكن لا يقصر حاله عن الشكّ ، فغاية الأمر عدم البيان العلمي على جانب العلم ، لا وجود البيان على الخلاف ، ولازم هذا أن يعامل مع الشبهة الغير المحصورة معاملة الشبهة الابتدائيّة ، فيعمل بالأصل الجاري فيها حسب اختلافه باختلاف المقامات ، ففي مشكوك الطهارة والنجاسة هو الطهارة ، وفي مشكوك الحليّة والحرمة هو الحليّة ، لكن في الماء المشكوك إضافته وإطلاقه مثلا الأصل عدم التوضّي به ، لاشتراط إحراز الإطلاق علما أو استصحابا في جواز التوضّي به ، فليس الأصل في جميع الموارد مساعدا لعدم الاجتناب ، فلا يصحّ دعواه على وجه الكليّة المستلزمة لجواز التوضّي بالمشتبه بالمضاف في غير المحصور.

نعم لو تمّ ما ذكر في المتن من كون الاحتمال في الشبهة الغير المحصورة ضعيفا وموهوما وبعيدا لا يعتدّ به العقلاء سلم عن هذا الإشكال ؛ إذ عليه يتحقّق البيان على الجانب المخالف وهو الاطمئنان بعدم وجود المعلوم بالإجمال في كلّ فرد معيّن اشير إليه من غير المحصور بالبيان المذكور في المتن. پس هم علم كلا علم است وهم احتمال كلا احتمال است. منه عفي عنه وعن والديه.

١٥٨

لازمه الظنّ بالعدم في كلّ واحد واحد من الأطراف ، فيلزم أن يكون للإنسان ظنّ بالسالبة الكليّة ، وهو كيف يمكن جمعه مع ما فرض فيه من العلم بالموجبة الجزئيّة ، وحلّ هذا مضافا إلى نقضه بالظنّ الحاصل من الغلبة مع العلم الإجمالى بوجود الفرد النادر على الخلاف أنّ الظنّ بالعدم إنّما هو مع ملاحظة كلّ طرف على حياله مع قطع النظر عمّا عداه ، فلو فرض إحضار الكلّ في اللحاظ وجعل الكلّ بمدّ النظر لما كان هناك ظنّ بالعدم أصلا ، بل كان الحال مع صورة قلّة الأطراف على السويّة.

وإذن لم يصحّ القول بعدم الوجوب من هذه الجهة أيضا ، فبقي ما ذكرنا وجها للوجوب سليما عن المانع ، نعم لو ثبت إجماع كان هو الحجّة ، لكن في خصوص عدم وجوب الموافقة القطعيّة.

١٥٩

فصل فى الشك بين الاقل والاكثر :

ثمّ إنّك عرفت تفاوت الشكّ في التكليف مع الشكّ في المكلّف به والعلم بأصل التكليف في الأصل العقلي وأنّ الأوّل مجرى البراءة والثاني مجرى الاشتغال ، فاعلم أنّ هنا موارد قد اختلف في حكم العقل فيها وأنّه البراءة أو الاشتغال من جهة الاختلاف في جعلها من مصاديق أحد القسمين السابقين ، فمن جعلها مصداقا للشكّ في التكليف جعل الأصل فيها البراءة ، ومن جعلها من الشكّ في المكلّف به حكم بالاشتغال.

ومن جملة تلك الموارد الترديد بين الأقلّ والأكثر ، ونحن نذكر أوّلا تقريب مدّعى القائلين بالاشتغال على وجه الاستقصاء لتمام ما يمكن التأييد به لهم.

فنقول وعلى الله التوكّل : إنّ الدليل على هذا المدّعى هو أنّ العلم الإجمالي حاصل بالمطلوبيّة النفسيّة إمّا في الأقل وإمّا في الأكثر ، وقضيّة العلم الإجمالى بالتكليف الإلزامي بين أمرين هو الاحتياط كما مرّ في المتباينين حرفا بحرف.

لا يقال : سلّمنا ، ولكن هذا العلم الإجمالي ينحلّ إلى علم تفصيلي وشكّ بدوي ، فإنّا نعلم بوجوب الأقلّ تفصيلا ؛ إذ على تقدير كون الواجب النفسي هو الأكثر كان الأقلّ أيضا واجبا بالوجوب المقدّمي ، لكونه مقدّمة للأكثر الذي هو الواجب النفسي ، ثمّ بعد هذا العلم إنّا نشكّ في وجوب الزائد ، فالأصل البراءة.

لأنّا نقول : سلّمنا العلم التفصيلي بالوجوب الأعمّ من النفسي والغيري في الأقلّ ، ولكن نقول : الذي يكون مورد حكم العقل ويكون العلم به موضوعا للأثر العقلي ومنشئا لوجوب الإطاعة ووجوب الامتثال العقلي إنّما هو الطلب النفسي ، وأمّا الغيري فليس له من هذه الآثار شيء ، إذ من المقرّر في محلّه أنّ الوجوب المقدّمي لا يورث مخالفته عقابا أصلا ، ومن المعلوم أنّ ملاك حكم العقل وإلزامه

١٦٠