أصول الفقه - ج ١

آية الله الشيخ محمد علي الأراكي

أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمد علي الأراكي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٠٤
الجزء ١ الجزء ٢

هذا الفرد ، فثبت من جميع ما ذكرنا منع الكبرى في المقام عقلا وشرعا.

وثانيا : نمنع الصغرى وبيانه أنّا سلّمنا مقالة المشهور من أنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في بعض المتعلّقات ، دون الإنشاء والجعل كما هو مقالة آخرين ، لكن نقول مع ذلك : إنّ المفسدة في نفس المتعلّق لا يلزم أن يكون شخصيّة راجعة إلى شخص المقدم ، بل يمكن كونه نوعيّة راجعة ضرره إلى النوع ، مثل وجوب الجهاد والدفاع في مقابل الكفّار ، فإنّ عدم الإقدام عليه ربّما لا يكون فيه مفسدة على شخص التارك ، بل فيه مصلحة له من سلامة بدنه ، ولكن فيه مفسدة النوع وهو إضرار الكفّار وتسلّطهم على النوع ، فحينئذ لم يلزم من ترك الواجب الوقوع في المفسدة.

نعم يصحّ ذلك في مثل شرب الخمر ممّا يعود ضرره إلى شخص الفاعل ؛ فإنّ فيه ضرر قساوة قلب الشارب ، وبالجملة ، فالصغرى بكليّتها ممنوعة ، يعني ليس كلّما ظنّ بالتكليف حصل الظن بالضرر الدنيوي على النفس.

هذا مضافا إلى وضوح الفرق بين المفسدة والضرر والمصلحة والنفع ، فإنّ المصلحة ليست إلّا عبارة عن كون العمل في نظر العقل راجحا ، والمفسدة ليست إلّا عبارة عن كونه في نظره مرجوها.

وبعبارة اخرى : الاولى عبارة عن استحسان العقل ، والثانية عن اشمئزازه ، ولا ملازمة بين الاولى وبين النفع ، ولا بين الثانية وبين الضرر ، بل ربّما يشتمل ذو المصلحة على الضرر كالإحسان ويشتمل ذو المفسدة على النفع كالظلم ونهب مال الناس ، ووجه ذلك أنّه ليست المصلحة ولا المفسدة في الشيء معلّلة بعلّة وإلّا لتسلسل ، بل لا بدّ من انتهاء الأمر إلى نفس استحسان العقل أو نفس اشمئزازه ، فليست المصلحة لأجل النفع ، ولا المفسدة لأجل الضرر ، بل هما أمران ذاتيان قد يجامع أوّلهما مع الضرر وثانيهما مع النفع ، فظهر ما في دعوى المستدلّ من أنّ الظنّ بالمفسدة ظنّ بالضرر.

٦٤١

الثاني : أنّ الأخذ بالظّن أخذ بالطرف الراجح ، والأخذ بالوهم أخذ بالطرف المرجوح وترجيح المرجوح على الراجح قبيح ، ينتج وجوب العمل والأخذ بالظنّ.

والجواب يبتني على تقديم مقدّمة وهي أنّ هنا أمران : الترجيح بلا مرجّح ، وترجيح المرجوح على الراجح ، فالأوّل يمكن دعوى عدم استحالته بأنّه يمكن أن تكون نفس الإرادة مرجّحا ، فالممتنع هو الترجيح بلا مرجّح ، وأمّا الترجيح فلا.

وأمّا الثاني فله معنيان ، أحدهما محال ، والآخر قبيح.

فالأوّل : ترجيح الراجح بالنظر إلى أغراض الفاعل على المرجوح بالنظر إليها ، فإنّه يتحقّق بحسب الأغراض الفاعليّة راجح ومرجوح ، مثلا لو كان غرض الفاعل رفع العطش عن نفسه ولم يكن له غرض آخر أصلا ، والحاصل كان الغرض العملي الحاصل له بعد الكسر والانكسار بين جميع الجهات وملاحظة تمام المزاحمات هو رفع العطش ، وكان هناك ماء بارد رافع للعطش ، وماء آخر حارّ إمّا غير رافع له وإمّا مزيد له وإمّا رافع لقدر قليل منه، فحينئذ لا يعقل من فاعل أن يرجّح هذا الثاني ، فإنّه نقض للغرض وهو محال أن يصدر من فاعل عاقلا كان أم غيره.

والثاني : أن يؤخذ الراجح والمرجوح بملاحظة القواعد العقليّة وبالنظر إلى الحسن والقبح الفعليين ، مثلا لو صار نصب الإمام واجبا بحكم العقل على الرعيّة ، وتردّد الأمر بين من كان أعلم ومن كان غير أعلم ، فالراجح هو ما كان أقرب بالغرض العقلائي وهو نصب الأعلم ، والمرجوح ما كان أبعد منه في النظر ، فتقديمه وترجيحه قبيح عقلا وليس بمحال ؛ لإمكان أن يصير الأبعد من الغرض العقلائي أقرب من الغرض النفساني وأشدّ ملائمة بنفس الفاعل والمقدم.

وما حكي عن الأشعري من تجويزه ترجيح المرجوح على الراجح لا بدّ من حمله على المعنى الثاني ، فإنّه لإنكاره الحسن والقبح لا يرى المرجوح مرجوحا والراجح راجحا ، بل يزعم أنّه متى حصل الملاءمة للنفس في جانب المرجوح دون

٦٤٢

الراجح فاختاره الفاعل لم يصدر عنه قبيح ، فمعنى تجويزه ترجيح المرجوح على الراجح إنكاره الحسن والقبح ، وإلّا فتجويزه بالمعنى الأوّل لا يمكن صدوره من أحد ولو كان في أدنى مرتبة الجهالة وقصور الإدراك.

إذا عرفت ذلك فنقول : إن أراد المستدل من الكبرى المذكورة في كلامه ترجيح المرجوح على الراجح بالمعنى الذي يكون محالا ، فالجواب أنّ الكبرى وإن كانت مسلّمة إلّا أنّ الصغرى ممنوعة وهو لزوم الترجيح بهذا المعنى من الأخذ بالموهوم ، وذلك لأنّ الظانّ بوجوب شيء التارك له لا يختار جانب الترك إلّا لأجل كون هذا الطرف ملائما لنفسه وأوفق بغرضه النفساني من الآخر ، فترجيحه للموهوم ليس إلّا ترجيحا للراجح بحسب أغراضه النفسانيّة على المرجوح بحسبها ، بل ولا يمكن أن يتحقّق منه ترجيح المرجوح بحسب هذه الأغراض على الراجح بحسبها ؛ لما عرفت من كونه نقض غرض يمتنع صدوره من كلّ فاعل.

وإن أراد بالكبرى في كلامه ترجيح المرجوح على الراجح بالمعنى الذى يكون قبيحا فلا يتمّ الصغرى إلّا على تقدير تماميّة مقدّمة ، وهي أنّ المكلّف يكون بحكم العقل ملزما بتحصيل الواقع والتجسّس عنه مهما أمكن ، فإنّ الأنسب بهذا الغرض العقلائي أنّ يقدّم بعد تعذّر القطع مظنوناته على مشكوكاته وموهوماته ، ولو عكس كان ترجيحا للمرجوح على الراجح بحسب هذا الفرض ، ومع ذلك يحتاج إلى ضمّ هذه المقدّمة إلى سائر مقدّمات دليل الانسداد وبدون أحدها لا يتحقّق موضوع للكبرى ، فلا يكون دليلا آخر وراء دليل الانسداد.

وكذا الحال في الوجه الثالث المحكىّ عن السيد الطباطبائي قدس‌سره ، فإنّه ليس إلّا تعرّضا لبعض مقدّمات دليل الانسداد مع حذف بعضها الآخر ، فلا يصلح عدّه دليلا في قباله.

فعلم انحصار الدليل في الباب أعني لإثبات حجيّة مطلق الظنّ في

٦٤٣

دليل الانسداد

وهو : الوجه الرابع وهو مركّب من مقدّمات أربع أو ثلاث ، فإن جعلنا العلم الإجمالي منها كانت أربعا وإلّا فثلاثا ، ويمكن أن يقال بعدم كونه من المقدّمات ، فإنّه علّة لبعض المقدّمات فلا يصلح عدّه في عرضها ، فإنّ ما يكون مقدّمة لصحّة مقدّمة النتيجة لا يصحّ عدّه في عرض مقدّماتها ، ووجه ذلك أنّ من بعض المقدّمات أنّه لا يجوز لنا ترك التعرض للوقائع المشتبهة ، فلو صحّ هذا كان النتيجة حاصلة ولو لم يضمّ إليه العلم الإجمالي ، فإنّه لو لم نعلم إجمالا بوجود أحكام وتكاليف كثيرة ولكن علمنا من إجماع ونحوه أنّه لا يجوز لنا إهمال الوقائع المشتبهة ، وضممنا المقدّمات الأخر كانت النتيجة حاصلة ، فالاحتياج إلى العلم الإجمالي إنّما هو في طريق إثبات عدم جواز ترك التعرّض ، فإنّه معلّل بوجوه منها الإجماع القطعي ، ومنها العلم الإجمالي ، ثمّ مع الإغماض عن ذلك نذكره في عداد المقدّمات.

فنقول : المقدمة الاولى : أنّا نعلم إجمالا بوجود تكاليف وأحكام كثيرة لا نعلمها تفصيلا وإنّا مكلّفون بها.

المقدّمة الثانية : ـ وهذه يمكن عدّها مقدّمات ، ويمكن عدّها مقدّمة واحدة ـ أنّه لا يجب علينا الامتثال القطعي لهذه المعلومات الإجماليّة ، ولا يكون شغلنا الخروج عن عهدة التكاليف الواقعيّة خروجا قطعيّا ، وتفريغ الذمّة منها فراغا علميّا ، وذلك لأنّ طريق الفراغ والخروج القطعي إمّا بتحصيل العلم بها والإتيان ، وإمّا بتحصيل الواقع على وجه الظنّ الخاص ثمّ الإتيان ، وإمّا بالاحتياط بإتيان كلّ محتمل الوجوب وترك كلّ محتمل الحرمة ، وإمّا بالعمل بالاصول المثبتة للتكليف الثابتة الحجيّة بالأدلّة القطعيّة ، مثل استصحاب التكليف السابق في الشبهات الحكميّة المسبوقة بثبوت التكليف ، ومثل الاحتياط في جزئيّات الموارد من الشبهات الحكميّة ، مثل دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر فيها ، فإنّ بناء العمل في موارد هذه الاصول عليها يوجب انحلال العلم الإجمالي بالتكاليف ، بناء على المختار من أنّ

٦٤٤

الاصول المثبتة لو كان في أطراف العلم بالتكاليف فهي جارية ويورث انحلال العلم.

فأمّا القطع والظنّ الخاص فلا سبيل لنا إليهما ، والاحتياط غير واجب أو غير ممكن، والعمل بالاصول المثبتة والاكتفاء بها في هذا المقام غير جائز فثبت أنّ الامتثال القطعي بجميع طرقه وأنحائه ليس شغلا تعيينيّا لنا ، فالعبارة الجامعة أنّ الامتثال والخروج القطعي ليس واجبا علينا أعمّ من أن يكون من جهة عدم الإمكان أو من جهة الرخصة في تركه مع الإمكان ، أو من جهة عدم جوازه في هذا المقام.

والمقدّمة الثالثة : أنّ حالنا ليس كالبهائم والمجانين حتّى يجوز لنا إهمال هذه الوقائع المشتبهة وترك التعرّض لها ، سواء كان بواسطة إجراء أصالة البراءة في جميع موارد ثبوت التكليف أو بدون واسطتها.

والمقدّمة الرابعة : أنّ تقديم الموهومات والمشكوكات على المظنونات قبيح ، هذا.

أمّا المقدّمة الاولى : فهي من الوضوح بمثابة لا تكون مخفيّة على أهل الملل والأديان الخارجة عن الإسلام ، فإنّهم أيضا عالمون بأنّ في شريعة الإسلام أحكاما وتكاليف مجعولة لا بدّ للداخل فيه من التديّن بها والعمل عليها.

وأمّا المقدّمة الثانية : فبالنسبة إلى دعوى عدم السبيل إلى العلم في مقدار الوافي من الأحكام بمقدار المعلوم بالإجمال يساعدها وجدان كلّ أحد ؛ فإنّ المعلومات بالتواتر أو الضرورة من الأحكام قدر قليل إذا لوحظ في جنب الباقي يلحق بالمعدوم.

وأمّا بالنسبة إلى انسداد الظنّ الخاص بالمقدار الوافي ، فالانصاف أنّ خبر الواحد حسب قضيّة الأدلّة المتقدّمة يكون حجّة بمقدار واف وهو خبر الثقة ، بل بملاحظة بناء العقلاء قلنا : إنّ الحجيّة لا يختصّ بخصوص هذا ، بل تشمل كلّ خبر موثوق بصدوره وإن لم يكن من جهة وثاقة الراوي ، ولهذا استقرّ بناء المشهور على انجبار الخبر الضعيف بعمل الأصحاب ، ووجهه أنّ بعملهم يحصل الوثوق بصحّة

٦٤٥

السند ، وإلّا فلا معنى لانجبار الدلالة بذلك ، ولكن لو لم يستفد أحد حجيّة هذا المقدار من خبر الواحد من الأدلّة المتقدّمة فله أن يدّعي هنا انسداد باب الظنّ الخاص أيضا.

وأمّا بالنسبة إلى العمل بالاصول المثبتة فوجه عدم جواز الاكتفاء بها هنا أمران :

الأوّل : أنّا إذا لاحظنا جميع موارد الاستصحابات المثبتة للتكليف في موارد الشكّ في الحكم الكلّي وضممنا إليها الاحتياطات الجزئيّة في موارد هذا الشكّ فالإنصاف عدم بلوغ مجموع هذين على قدر المعلوم الإجمالي بوجود التكاليف ، فمع هذا يكون لنا علم إجمالي بالتكليف غير ما اشتمله هذه الاصول ، وبالجملة ، فالعلم الإجمالي بالتكاليف لا ينحّل بهذه الاصول ، فيبقى وجوب الاحتياط بحاله بالنسبة إلى سائر موارد الاصول ولا يرفع العمل بها مئونة ذلك عنّا.

والثاني : أنّا نعلم إجمالا بأنّ بعضا من هذه الاصول على خلاف الواقع إمّا بأن نعلم بأنّ في محلّ هذا البعض تكليفا مضادّا لما أثبته ، وإمّا بأن نعلم بأنّ في محلّه اللاتكليف ، وعلى كلّ حال لا ينفع الاصول نفعا بحالنا.

أمّا على الأوّل فواضح ، فإنّه يجب حينئذ الجمع بين الأصل والعلم بقدر الإمكان ، فافرض أنّ العلم الإجمالي بمقدار مائة تكليف ، وكان الاصول المثبتة أيضا مائة ، ولكن علمنا بأنّ في ما بين هذه المائة تكليف على خلاف مقتضى الأصل ، فلا يجوز لنا الاكتفاء بهذه الاصول مع هذا العلم ، بل يجب العمل بالعلم في بعض هذه الموارد وبالأصل في البعض الآخر كما تقدّم تفصيله.

وأمّا لو كان العلم بنفي التكليف في بعض الاصول المثبتة له فحينئذ وإن كنّا في غير المقام قلنا بأنّ العمل على طبق الاصول لا يضرّه العلم بعدم التكليف في بعضها ، ولكن لا يجري هذا في هذا المقام ، ووجه ذلك أنّ المفروض هنا ثبوت العلم الإجمالي بالتكاليف ، فلو سلّمنا وفاء الاصول المثبتة بمقداره أيضا ، كما فرضنا من كون مقدار كلّ من المعلوم بالإجمال وموارد الاصول المثبتة مائة تكليف ، ولكن

٦٤٦

علمنا إجمالا أنّ ثلاثين من هذه الاصول مخالف للواقع بمعنى أنّ عوضها اللاتكليف ، فنعلم بقضيّة العلم الإجمالي بمائة تكليف بثبوت ثلاثين تكليفا في غير موارد الاصول ، فيحصل العلم الإجمالي في خارج الاصول ، فيجب الاحتياط فيها.

ونظير هذا ما لو علمنا بوجود عشرين شاة موطوءة في جملة قطيع غنم ، فأخبر البيّنة بموطوئيّة عشرين من هذا القطيع ، ثمّ علمنا بأنّ عشرة من هذا العشرين غير موطوءة وإخبار العادل بموطوئيّتها كذب ، فإنّه يجب حينئذ الاجتناب من كلّ القطيع.

وأمّا بالنسبة إلى الاحتياط بأن يرتكب كلّ محتمل الوجوب ويجتنب كلّ محتمل الحرمة فربّما يدّعي بعضهم بأنّ ذلك موجب لأمر أعظم من العسر والحرج وهو اختلال النظام وفساد امور العامّة معاشا ومعادا ، وادّعى ذلك أيضا شيخنا المرتضى ، فيكون الاحتياط حراما بالدليل العقلي ، ولسنا رهين اقامة الدليل الشرعي على رفع وجوب موجب العسر وتقرير الدعوى أنّه على هذا يلزم بأن يرفع جميع الناس أيديهم عن أشغالهم ويصرفوا جميع وقتهم في تعلّم موارد الاحتياط ، ويصرف المجتهد وقته في تعليم ذلك إيّاهم ؛ إذ كثيرا ما يتّفق الاحتياط في الاحتياط ، فيجب معرفة ذلك لمقام الابتلاء والحاجة.

أقول : الإنصاف عدم استلزام الاحتياط في جميع الموارد اختلال النظام وفساد جميع امور بني النوع ، وتوضيح ذلك أنّ كثيرا من الأفعال لا يحتمل أحد وجود التكليف فيها ، أترى أنّ أحدا يحتمل أن يكون جعل اليد بوضع خاص مثلا محرّما شرعا؟ وهكذا من هذا القبيل كثير ، فهذه الموارد خارجة عن أطراف العلم ، بقي الموارد التي يكون وجود التكليف فيها احتمالا عقلائيّا إما لكون العنوان مستحدثا غير موجود في عصر الشارع مثل شرب التتن ، فيحتمل وجود التكليف فيه ولم يبلغ إلينا ، أو لغير ذلك ، وهذه الموارد محصورة لا يحصل الاختلال من مراعاة الاحتياط فيها ، فلاحظ موارد ذلك من الصلاة ، فإنّ أحد موارد الاشتباه فيها اللباس المشكوك فيبني على خلعه في حالها ، وأحدها جلسة الراحة فيبني على

٦٤٧

إتيانها ، وأحدها السورة فكذلك ، وهكذا.

وأمّا الابتلاء بالاحتياطات العديدة الداخل بعضها في بعض الموجبة لاستيعاب الوقت كما مثّله الشيخ فقد يتّفق بندرة ، كما لو فرض انحصار الماء في المضاف فيحتاط بالتوضّؤ منه والتّيمم ، ولو فرض انحصار الساتر في النجس فيصلّي صلاة عريانا وصلاة مع الساتر ، ولو تردّد ما يصحّ السجود عليه بين أمرين كرّر الصلاة عريانا ومع الساتر مع كلّ من الأمرين، ولا يخفى قلّة الابتلاء بذلك للإنسان ، نعم المبتلى بذلك نلتزم بحجيّة الظنّ في حقّه ، لكن لا يورث ذلك في حقّ النوع الغير المبتلين به.

والشاهد على أنّ موارد احتمال التكليف والاشتباه ليس بمثابة لزم من مراعاة الاحتياط فيها اختلال معاش الإنسان أنّا قد اطّلعنا على عصرين متتابعين انحصر المرجع للناس في الفتوى في شخص واحد ، أحدهما : عصر شيخنا المرتضى ، فقد انتقل الرئاسة الإماميّة إليه ، والأخر بعده ، فانتقل الرئاسة العامّة إلى السيّد الأجلّ الميرزا الشيرازي جزاهما الله عن الإسلام وأهله خير الجزاء ، وقد كان طريقتهما في أكثر الموارد هو الاحتياط ، ومع ذلك لم نطّلع على انتهاء الأمر في حقّ أحد من العامّة إلى الحرج والعسر واختلال نظام المعاش ، فإنّ العامل بهذه الاحتياطات كان موجودا بين الناس قطعا ، فالحقّ عدم استلزام الاحتياط في موارد الاشتباه للاختلال ، نعم لا شبهة في كونه مستلزما للحرج على العامّة وأنّه يتضيّق الأمر عليهم لو كانوا ملزمين بمراعاة الاحتياط فيها.

وبالجملة ، إنّ العسر المخلّ بالنظام صغراه ممنوعة وإن كان كبراه أعني عدم وجوبه بل عدم جوازه عقليّة مسلّمة ، وأمّا العسر على غير وجه الإخلال فصغراه واضحة في مقامنا ، ولكن كبراه أعني عدم وجوبه شرعي لا عقلي ، فنحتاج فيه من التمسّك بالأدلّة الشرعيّة (١). ثمّ الخدشة في هذه الكبرى الشرعيّة المستفادة من الأدلّة

__________________

(١) يمكن رفع الحرج بأدلّته الشرعيّة بوجهين ، الأوّل : بالتصرّف في مرحلة الامتثال ـ

٦٤٨

__________________

ـ بمعنى أنّ الشارع بما هو عاقل يمكن أن يرى أنّ في الامتثال الحرجي محذورا أشدّ من محذور ترك الموافقة القطعيّة يقصر عن دركه سائر العقول ، فإن أرشد العباد إلى ذلك لا يعدّ هذا منه نقضا لغرضه ، فإنّه إنّما يطلب الواقعيّات بما هو شارع ، وإرشاده في مقام امتثالها إلى ترك الموافقة القطعيّة من جهة ملاحظة المزاحمات والكسر وفحينئذ فقوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) لا مانع من الاخذ به بتقريب أنّ الله بنظر الشارعيّة والعاقليّة معا لا يرضى بوقوع العباد في العسر.

الوجه الثاني : بالتصرّف في الواقعيات ، بمعنى أنّ الواقعيات من حيث القيود الراجعة إلى غرض الشارع فعليّة ، ولكنّها بالنظر إلى الطواري والمزاحمات الحاصلة بملاحظة الجمع بين هذه الأغراض وغرض آخر للمولى ليست بفعليّة ، ومن تلك الطواري الحرج الطاري على نفس تلك الواقعيّات في مقام الامتثال ، وبالجملة ، حال الواقعيات مع عموم لا حرج بالنسبة إلى الحرج الحاصل في مقام الامتثال وتحصيل الموافقة القطعيّة حال دليل حليّة الغنم مع دليل حرمة الغصب.

وحينئذ نقول : أمر هذا الشخص دائر بين أن يهمل جميع الوقائع حتى يقطع بفوت ذلك الغرض الذي يهتمّ لأجله المولى ، وبين أن يتحرّك نحوه بمقدار لا ينافي حفظ غرضه الآخر الأهمّ وهو عدم وقوع عبده في الحرج ، فالعقل مستقلّ بالثاني ، ولا يقال : إنّه حيث لا يعلم لعلّه يقع تمام موارد التكليف في ما يتركه لأجل الحرج ، وحينئذ ليس التكاليف فعليّة ، فهو شاك في التكليف الفعلي ، فيجري في حقّه قبح العقاب بلا بيان ، فإنّه ليس الموضوع للتنجيز العقلي القطع بالتكليف الفعلي وإلّا لاجرى البراءة في الشكّ في القدرة ، بل العقل مستقلّ بالتنجيز في موارد القطع بثبوت الغرض للمولى ، ولو شكّ في التكليف الفعلي ، وإن شئت قلت في المقام : إنّ الجمع بين الغرضين للمولى ممّا يحكم به العقل ، فإن أمكن على نحو القطع فهو ، كما لو علم بمبغوضيّة شرب الخمر للمولى ومحبوبيّة برء المرض له ، وتوقّف برء مرض العبد على واحد من شرب الخمر أو السكنجبين ، فإنّ العقل قاطع بعلاج المرض بالسكنجبين ، وفي مقامنا لا يمكن حفظ الغرضين بالقطع ، لكن يمكن بطريق الظن فيجب بحكم العقل ، والسرّ ما ذكرنا من عدم توقّف التنجيز العقلي على إحراز فعليّة التكليف بعد إحراز أصل غرض المولى الذي صار ـ

٦٤٩

اللفظيّة من مثل قوله تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) هي دعوى عدم شمول هذه الأدلّة اللفظيّة لهذا المقام ، فإنّ مفاد نفي الحرج بحسب جعل الشارع أنّ جعل الشارع أمرا ونهيا ليس متعلّقا بما فيه العسر والحرج ، وهذا لا ينافي أن يكون الحرج حاصلا لا بجعله ، بل كان جعله خاليا عن الحرج ، ولكن طرأ عليه العسر بواسطة جهل المكلّف مع ضميمة حكم العقل ، فإنّ التكاليف المجعولة بحسب الواقع ليس بحدّ كان في امتثالها الحرج ، ولكن لمّا جهل بها المكلّف وتردّدت عنده بين امور كثيرة أوجب حكم عقله بوجوب الاحتياط الحرج عليه.

وإن شئت توضيح ذلك بالمثال ، مثلا لو تردّد القبلة في أربع جهات وانحصر الساتر في النجس وتردّد حكم البسملة بين الجهر والإخفات ، فمراعاة الاحتياط موجب لإتيان ستّ عشرة صلاة ، مع أنّ المجعول فيها صلاة واحدة.

والحاصل أنّ وجوب تمام الأطراف ليس بجعل الشارع ، بل بعضها ، ووجوب الباقي جاء من قبل الجهل وحكم العقل بالاحتياط ، فيصدق أنّ الشارع ما جعل على المكلّف حرجا.

__________________

ـ بصدد تحصيله من العبد ، ومن هنا تبيّن أنّ تقديم الظنّ على غيره من باب الحكومة العقليّة.

فإن قلت : يلزم على ما ذكرت في صورة الاضطرار إلى الواحد المعيّن قبل حدوث العلم الإجمالي كون العلم الإجمالي منجّزا ، مع أنّك معترف في ما يأتي بعدم التنجيز ، والفرق بينه وبين الاضطرار إلى غير المعيّن.

قلت : الفرق بين الصورتين ظاهر ، فإنّه مع الاضطرار إلى الواحد لا بعينه يكون الغرض مطلقا ، فلهذا يسأل الله أن يدفع عنده الاضطرار بغير مورد غرضه ، وأمّا في الصورة الاخرى فلا يحرز هنا غرض مطلق للمولى ؛ إذ لعلّ مورد الغرض هذا الذي صار مضطرا إليه بعينه ، ليس له حالة الرجاء والاستيفاء من العبد ، فسقوط الغرض عن الإطلاق هنا يكون من أوّل حدوث الاضطرار ، وهناك بعد دفع الاضطرار خارجا بمورد الغرض.

٦٥٠

والجواب أنّ هذا المعنى دقّة عقليّة ، وأمّا في فهم العرف فلا فرق بين القسمين ، فكما يفهمون من نفي جعل الحرج نفي الأمر أو النهي الذي نفس امتثاله حرج ، كذلك يفهمون نفي الأمر أو النهي الذي يصير منشأ للحرج بعد جهل المكلّف.

نعم فرق بين جعل الشارع الحرج وبين جعل المكلّف إيّاه والتزامه له على نفسه ، مثل أن ينذر الحجّ ماشيا مع كونه شاقّا عليه ، أو يؤجر نفسه للعمل الشاقّ ، فإنّ أدلّة الوفاء بالعقود لا مانع من شموله لهذا المقام ، ولا معارضة له مع دليل نفي الحرج ، فإنّ المنفي هو أن يكون الحرج مجعولا من قبل الشارع بالجعل الابتدائي ، وأمّا لو كان الجاعل له نفس المكلّف غاية الأمر لم يمنعه الشارع وأبقاه على جعله ، فلا يصدق أنّ الشارع جعل عليه الحرج ، ومن المعلوم أنّ المقام على تقدير وجوب الاحتياط ليس من هذا القبيل ، نعم لو نذر المكلّف أن يحتاط في جميع الوقائع المشتبهة كان منه ، فيكون خارجا عن تحت هذا الكبرى الشرعيّة ، وأمّا بدونه فمشمول لها بلا كلام.

وأمّا المقدّمة الثالثة : أعني عدم جواز إهمال الوقائع المشتبهة وترك التعرّض لها ، فالدليل عليه هو العلم الإجمالي ، وأمّا عدم وجوب الامتثال القطعى والترخيص في تركه ـ كما مرّ في المقدّمة الثانية ـ فليس بمانع من تأثير العلم الإجمالي في الأطراف الخالية عن الحرج.

بيان ذلك أنّ المختار هو حفظ فعليّة الواقع مع ورود الحكم الظاهري والجمع بين فعليّتهما بكون الظاهري في طول الواقعي كما مرّ تفصيله ، وعلى هذا يمكن حفظ العلم الإجمالي بالتكاليف الفعليّة مع الترخيص المذكور بدون منافاة لهذا الترخيص مع فعليّة المعلوم بالإجمال.

فإن قلت : نعم ، ولكن إذا ورد الترخيص من الشرع بارتكاب بعض الأطراف والمفروض احتمال كون الواقع في ضمنه ، فيكون الطرف الآخر شبهة بدويّة ، فلو كان الواقع فيه وارتكبه المكلّف كان العقاب عليه بلا بيان وحجّة.

قلت : الحجّة والبيان هو العلم الإجمالي ، والحاصل أنّ العلم الإجمالي إذا تحقّق

٦٥١

صار الحجّة على التكليف تامّة في كلا الطرفين ، فإذا ورد الترخيص في أحدهما فالحجّة بالنسبة إلى الآخر تامّة ، لبقاء العلم الإجمالي.

وبعبارة اخرى : أثر العلم الإجمالي شيئان : وجوب الموافقة القطعيّة ، وحرمة المخالفة القطعيّة ، فحكم العقل بالنسبة إلى الأوّل حكم تعليقي معلّق على عدم الأمن من العقاب ، فالترخيص الشرعي يرفع موضوعه ، وبالنسبة إلى الثاني حكم بتّي ، فالعقل قاطع بقبح المخالفة القطعيّة وقبح تجويزها ، فلو ارتكب مع الطرف المرخّص فيه الطرف الآخر لزم ذلك ، وبالجملة ، فعلى المبنى المذكور لا إشكال في إيجاب الاحتياط بقدر لا يحصل الحرج.

وحينئذ نقول : إذا جاء دفع الحرج بترك بعض المحتملات فهل يجوز دفعه بترك المظنونات والإتيان بالمشكوكات والموهومات؟ مقتضى حكم العقل بوجوب الخروج عن عهدة الواقعيات يعيّن دفع الحرج بترك المشكوكات والموهومات وإتيان المظنونات دون العكس؛ لكون الأوّل أقرب إلى امتثال الواقع ، فترجيح الثاني قبيح.

وبعبارة اخرى : تكون للموافقة بحسب العقل مراتب مرتّبة لا مجال للمرتبة اللاحقة مع إمكان السابقة ، فالاولى منها الموافقة القطعيّة ، فإذا تنزّلنا منها بالترخيص الشرعي تعيّن الموافقة الظنيّة ، ولا نتنزّل مع إمكانها إلى الشكيّة والوهميّة ، فإذا حصل التنزّل من الظنيّة تعيّن الشكيّة وبعدها الوهميّة ، فهذه هي المقدّمة الرابعة ، فتحصّل أنّ على مبنانا كان جميع المقدّمات تامّة على فرض تماميّة انسداد باب الظنّ الخاص بمعظم الأحكام.

بقي الكلام بناء على مبنى المولى الجليل المحقّق الخراساني طاب ثراه في الجمع بين الواقعي والظاهري ، فإنّه على هذا المبنى لا يمكن الجمع بين العلم الإجمالي بالأحكام الفعليّة مع الترخيص الشرعي ظاهرا في بعض الأطراف ، فإنّه لو أذن الشارع في شرب أحد الإنائين المشتبهين بالخمر مثلا فلو كان هو الخمر واقعا علم

٦٥٢

أنّ «لا تشرب الخمر» لم يكن فعليّا ، فينحل العلم الإجمالي ويتبدّل بالشبهة البدويّة ، فإنّ الواقع على تقدير وجوده في الأطراف الغير المرخّص فيها كان حكما فعليّا واجب الامتثال.

وعلى تقدير وجوده في الأطراف المرخّص فيها كان شأنيّا وليس له وجوب الامتثال ، فالعلم الإجمالي وإن كان حاصلا بأصل الحكم أعمّ من الفعلي والشأني ، لكن بخصوص الفعلي غير حاصل ، والعلم الذي يكون الامتثال معه واجبا عقلا هو العلم بالتكليف الفعلي ، فالعلم الإجمالي على هذا المبنى يرتفع من البين ، فلا بدّ من التمسّك لإيجاب الاحتياط في غير الطائفة المرخّص فيها بدليل آخر وهو أن يقال : إنّه وإن لم يكن علم إجمالي بالتكليف الفعلي مع الرخصة الشرعيّة ، ولكن قام الإجماع القطعي على أنّه لا يجوز ترك جميع المحتملات.

ولكن يرد عليه حينئذ أنّه لا وجه لتعيّن العمل بالمظنونات ، بل يمكن عدم ترك جميع الوقائع بإتيان الموهومات والمشكوكات ، فإنّ المعيّن له هو لزوم إتيان الواقع وتنجّزه ، والمفروض أنّ شرط ذلك وهو العلم الإجمالي مفقود.

فإن قلت : نستكشف من هذا الإجماع اهتمام الشارع بالواقعيّات ، فيكون احتمالها في كلّ واقعة احتمالا للواقع المهتمّ به وهو عند العقل منجّز كالعلم ، ومن هذا الباب أيضا منجزيّة الأحكام الطريقيّة للواقع ، فإنّ احتمال الواقع في مواردها احتمال للواقع الذي اهتمّ به الشارع حتّى جعل للوصول إليه هذا الطريق ، ولأجل هذا أيضا يلزم الفحص عند دعوى مدّعى النبوّة عن صدقه وكذبه.

قلت : أيّ فرق بين هذا وبين احتمال كون الواقع الموجود في مورد الشبهات البدويّة الأخر واقعا مهتمّا به؟ ومجرد كون الكبرى في المقام قطعيّة ـ وهو كون الواقع مهتمّا به وإنّما الشكّ في مقام التطبيق والصغرى ، وفي سائر المقامات يكون الشكّ في كلتا المقدّمتين ، أعني نشكّ في أصل وجود الواقع في المورد وفي كونه على تقدير الوجود مهتمّا به ـ لا يجدي شيئا بعد كون النتيجة تابعة لأخسّ المقدّمتين ، ففي كلتا

٦٥٣

الصورتين تكون النتيجة احتمال وجود الواقع المهتمّ.

وحينئذ نقول : إن قست حالك مع أغراض مولاك بحالك مع أغراض نفسك وجدت نفسك في أغراض نفسك لا تدور مدار المهتميّة وعدمها ، بل متى بلغ الغرض درجة الوجوب أو التحريم ، ففي موارد الاحتمال مع عدم الابتلاء بالمزاحمة بمعنى أن يكون في أحد من جانبي الفعل والترك الوقوع في خلاف ذلك الغرض اللازم الاستيفاء ، ولا يكون في الجانب الآخر ضرر ولا في هذا الجانب نفع يتدارك به ذلك المحذور ، فهل تقدم على ذلك الطرف المحتمل المحذور؟.

نعم في موارد الابتلاء بالمزاحمة كما في ركوب البحر تقدم ، وحينئذ فكيف صار أغراض نفسك أولى بالرعاية من أغراض مولاك ، مع أنّ الواجب كون الأمر بالعكس ، فعلى هذا لا بدّ من كون كلّ احتمال منجّزا ، وهذا إشكال غامض لا بدّ من أن نجيب عنه في محلّه إن شاء الله تعالى ، والقول بأنّ الاحتمال لا يكون له تأثير في باب الأمر والنهي أصلا ومطلقا ، وباب الطرق يكون من باب إحراز أمر المولى وهو حجّة ما لم يعلم صوريّته ، وباب الفحص عن مدّعي النبوّة لأجل حجيّة نفس الواقع الذي لو فحص لوجد وظفر به ، فقياس بهما في غير المحلّ.

وإذن فالوجه أن يقال : إنّه يستكشف بهذا الإجماع الاهتمام ، ويستكشف بالاهتمام إيجاب الاحتياط أو جعل الطريق ، وحيث لا طريق واصل غير الظنّ يتعيّن كونه ذلك المجعول ، فتكون اللازم من هذا حجيّة الظنّ على تقرير الكشف.

فإن قلت : إنّا نستكشف من هذا الإجماع بطريق اللّم أنّ للشارع تكاليف فعليّة يهتمّ بمراعاتها ولا يرضى بتركها ، وقضيّة ذلك هو تقديم الظن على الشكّ والوهم ، لقبح ترجيح المرجوح على الراجح.

قلت : إن كان هذا الاستكشاف على نحو العلم كان وجود التكاليف الفعليّة المستكشفة بإيجابه الاحتياط مناقضا مع صدور الرخصة منه كما هو مذاق المولى المذكور ، فيلزم صدور المتناقضين عن الشارع ، وإن كان على سبيل الاحتمال نقول :

٦٥٤

المتّبع حينئذ بعد عدم الدليل العقلي وتمحّض الدليل في الشرعي هو لسان هذا الدليل ، فإن أوجب علينا هذا الدليل التعبّدي إتيان خصوص المظنونات صار متعيّنا ، ولو أوجب خصوص الموهومات أو المشكوكات فكذلك ، ولو أحال الاختيار إلى أيدينا كان لنا الخيار فنختار ما شئنا وإن كان هو الموهومات أو المشكوكات.

فتحصّل أنّه لا محيص حينئذ من دعوى إجماع آخر على تعيين اختيار خصوص المظنونات على غيرها ، وبدونه لا يتمّ المطلوب ، ومعه تكون حجيّة الظنّ شرعيّة لا عقليّة ، وقد كان المقصود إثبات الحجيّة العقليّة.

وحاصل الكلام على هذا المبنى أنّ الرخصة في ترك الاحتياط الكلّي إذا ثبت من الشرع بأدلّة نفي الحرج ارتفع العلم الإجمالي عن البين ، فلا بدّ من أن يتمسّك بالإجماع على أنّ الشارع لا يرضى بترك مراعاة هذه التكاليف المحتملة مع كونها محتملة ، فيكشف من هذا الإجماع أنّ مجعول الشارع فيها إيجاب الاحتياط كما يستكشف ذلك في الشبهات البدوية في باب الدماء والفروج ، فيستشكل حينئذ أنّه لا دليل على أنّه جعل إيجاب الاحتياط في خصوص الطائفة المظنونات ، فلعلّه جعله في المشكوكات أو الموهومات ، فلا بدّ من دعوى إجماع آخر على أنّه جعله في خصوص الاولى.

اللهم إلّا أن يقال : إنّه يكفينا الإجماع الأوّل لكشف إيجاب الاحتياط في خصوص المظنونات بالتقريب الذي سننكره في ردّ إشكال شيخنا المرتضى على القائلين بالكشف ، وحاصله أنّه إذا كشف المقدّمات أنّ الشارع جعل لنا طريقا لامتثال الواقع فمن أين يكون هو الظنون؟ فإنّ الطريق المجعول للشارع لا بدّ أن يكون أقرب إلى الواقع بنظره لا بنظرنا ، ولهذا ترى طرقه المجعولة قد لا تكون مفيدة للظنّ الفعلي ، فلا يكون النتيجة حجيّة الظنّ.

وحاصل الردّ أنّا إذا علمنا أنّ الشارع عيّن لنا طريقا ولكن لم يبيّنه لنا تعيّن في الطريق الواصل إلينا وما هو الأقرب بنظرنا ، فلا تصير النتيجة على الكشف مهملة ،

٦٥٥

بل يكون كما على الحكومة ، فيقال في المقام أيضا : إذا علمنا بالإجماع بأنّ الشارع جعل لامتثال الأحكام المحتملة طريقا ولم يبيّن لنا أنّ هذا الطريق ما ذا تعيّن في ما هو الطريق عندنا؛ إذ لو لم يكن هذا مراده كان عليه البيان ، فيستكشف بملاحظة هذا من الإجماع الأوّل حجيّة الظن ، ولكن كما عرفت يلزم الحجيّة الشرعيّة دون العقليّة الثابتة بمعونة المقدّمة الرابعة.

وكيف كان فعلى المبنى الذي هو المختار من أنّ الرخصة في ترك الاحتياط الكلّي لا يورث قدحا في العلم الإجمالي يتمّ حجيّة الظنّ بحكم العقل.

وينبغي التنبيه على امور.

الأوّل : الظنّ الذي يكون حجّة بمقتضى المقدّمات هل هو أيّ ظنّ؟ فنقول : هنا احتمالات ثلاثة :

الأوّل : أن يكون الحكم والتكليف نفيا وإثباتا دائرا مدار الظنّ وتابعا له ، فإذا حصل الظنّ بالتكليف حكم بإثباته ، وإذا حصل بعدمه حكم بالعدم ، والحاصل يعامل مع الظنّ في كلّ مورد حصل ، معاملة العلم ، وفي الموارد المشكوكة يرجع إلى الاصول الثابتة في تلك الوقائع ، وهذا هو مراد المشهور القائلين بحجيّة الظنّ المطلق.

والثاني : أن يؤتي بالموافقة الظنيّة ويعمل بالظنّ على مقدار عدد التكاليف المعلومة بالإجمال ، بأن يلاحظ أنّ القدر المتيقّن من العلم الإجمالي بالتكليف في الوقائع المشتبهة أيّ عدد ، فيعمل بمظنونات الوجود بهذا العدد ، فلو فرض أنّ القدر المتيقّن مائة تكليف وكان الظنون المثبتة للتكليف خمسمائة فلا يجب علينا إلّا العمل بمائة من هذه الخمسمائة ونترك الاحتياط في عداها ؛ فإنّ قضيّة العلم الإجمالي بمائة تكليف أوّلا هو الامتثال القطعي لمائة تكليف بأن يؤتى بتمام المحتملات ، فإذا فرض التنزّل عن هذه المرتبة كان الواجب بعد ذلك الامتثال الظني لمائة تكليف.

فإذا كانت الظنون المثبتة خمسمائة فأوّلا لا بدّ من ملاحظتها من حيث القوّة و

٦٥٦

الضعف ، فيرجّح الظنّ الأقوى على غيره ، فإنّ المرتبة النازلة بعد الامتثال على وجه القطع هو الامتثال على وجه الظنّ الاطمئناني ، فإن كان بين الظنون شدّة وضعف فيعمل بمائة من الظنون الاطمئنانية ، ولا يجب بالظنون الآخر ، وإن لم يكن بين الظنون تفاوت كان المكلّف مخيّرا في اختيار كلّ مائة منها شاء.

والحاصل : ليس يجب على هذا الوجه إلّا العمل بالظنّ والامتثال الظنّي على المقدار المتيقّن من العلم الإجمالي ، وتظهر الثمرة بين هذا والوجه المتقدّم في الظنون المثبتة زائدا على هذا المقدار ، فيجب العمل بها على الأوّل دون الثاني.

فإن قلت : بعد تعذّر العلم لا بدّ من التنزّل إلى أقرب المراتب إلى العلم ، ولا شكّ أنّه الإتيان بما عدى مقدار دفع الحرج جميعا ، لا الاقتصار على المائة من الظنون الاطمئنانيّة ، ضرورة أنّ الكلّ أعظم من الجزء ، فإنّ احتمال عدم التكليف في هذه المائة موهوما ينسدّ كثير منه بإتيان سائر الظنون والاحتمالات.

قلت : بعد فرض كون ثبوت التكليف في هذه المائة مظنونا بظنّ اطمئناني متاخم للعلم ، فلا يصير الاطمئنان بمائة موافقة وامتثال أقوى بإتيان سائر المظنونات والمحتملات ، لاستحالة تحصيل الحاصل ، فإتيان المظنونات إنّما يؤثّر في الزائد عن المائة ، وكذلك المحتملات ، يعني يطمئنّ المكلّف بعد إتيان الكلّ بمائة موافقة ويظنّ أو يحتمل الزيادة على المائة ، والحاصل : الاطمئنان بالمائة قد يحصل بكثرة الأطراف المأتيّ بها ، وهذا إذا لم يكن بشخص مائة منها الاطمئنان ، وقد يحصل بشخص مائة طرف اطمئناني.

والثالث : أن يتعيّن ترك الاحتياط في الظنون الاطمئنانيّة بعدم التكليف ويجب الاحتياط في الظنون الضعيفة بالعدم ، والمشكوكات ومظنونات الوجود ، وإن لم يدفع الحرج بهذا القدر يقيم مقدار الدافع له من الظنون الضعيفة ، وهذا هو الذي يعبّر عنه بالتبعيض في الاحتياط.

ثمّ يتبيّن تحقيق الحقّ من هذه الوجوه بتصفية الكلام في مبنيين ، وهو أن يقال :

٦٥٧

المقدار الذي علم إجمالا به من التكليف ما ذا يكون قضيّة العلم الإجمالي بحسب حكم العقل في تنجيز هذا المقدار؟ فهذا العلم الإجمالي ينجّز على المكلّف الموافقة لهذا المقدار بطريق القطع وإلّا فبالظنّ ، أو ينجّز عليه عدم المخالفة لهذا المقدار قطعا وبعده ظنّا ، مثلا لو علم إجمالا بنجاسة أحد الإنائين فالتكليف المعلوم إجمالا واحد ، فهل يوجب عليه موافقة التكليف الواحد أو عدم مخالفة التكليف الواحد؟ وتظهر الثمرة في ما شرب أحدهما وترك الآخر فانكشف بعد ذلك كون كليهما نجسا.

فعلى الأوّل لا يستحقّ العقوبة ، فإنّ غرض الشارع قد حصل وهو موافقة «اجتنب» واحد ، فإنّه قد وافق تكليفا واحدا بالاجتناب وإن كان هو غير ملتفت إليه ، لكنّه في علم الله يكون كذلك ، نعم صدر عنه مخالفة تكليف واحد أيضا ، لكن لم يصحّ عقوبته عليها ، لعدم علمه إلّا بتكليف واحد.

وعلى الثاني يستحقّ العقوبة ، فإنّ المطلوب منه عدم مخالفة تكليف واحد ، ويصدق في هذا المثال أنّه خالف تكليفا واحدا ، والمفروض أنّ الحجّة بالنسبة إلى عدم مخالفة تكليف واحد كانت عليه تامّة.

فإن قلت : كما أنّه في صورة طلب المولى الموافقة الواحدة قد خرج عن العهدة باجتناب الإناء الواحد لكون المطلوب فردا منتشرا ونكرة يقبل الانطباق على كلّ طرف على نحو البدليّة ، كذلك لو كان المطلوب ترك المخالفة الواحدة على سبيل النكرة ، فقد خرج عن العهدة بواسطة تسليم مخالفة واحدة متروكة ، وأيضا فاللازم ممّا ذكرت اجتماع الموافقة والمخالفة بالنسبة إلى تكليف واحد في المثال ، فإنّك اعترفت بصدق الموافقة لتكليف واحد بلا عنوان ، ومع هذا اعترفت بصدق المخالفة ، فقد اجتمع الضدّان في أمر واحد.

قلت : ليست لنا قضيّة لفظيّة نتكلّم في صدق ألفاظها ، وبعبارة اخرى : ليس نزاعنا في صدق الإسم ، وإنّما النزاع في أمر عقلي ، وهو أنّ قضيّة العقل عند عرض المثال المذكور عليه كون هذا العبد عاصيا ومستحقّا للعقوبة ، أو متجرّيا وغير

٦٥٨

عاص ، فإن حكم بالأوّل كما هو الذي نجده بالوجدان كان هذا معنى حكم العقل بترك حقيقة المخالفة ، وسمّ ذلك ما شئت ، وإن كان حكمه بالثاني كان هذا معنى اكتفائه بموافقة واحدة ، وسمّه أيضا ما شئت.

والحاصل : فإن قلنا بالثاني فلا محيص عمّا ذكره شيخنا المرتضى من الوجه الثالث ، وذلك لأنّ من علم بمائة تكليف يجب عليه بمقتضى العلم الإجمالي أوّلا القطع بعدم مخالفة مائة تكليف ، ولا يحصل إلا بإتيان جميع محتملات الوجوب وترك جميع محتملات الحرمة ، فإذا تنزّلنا عن القطع كان الواجب عليه الظنّ الاطمئناني بعدم مخالفة مائة تكليف ، وهذا لا يحصل إلّا بتخصيص ترك الاحتياط في الظنون الاطمئنانيّة بعدم التكليف ، فإنّه لو ترك الاحتياط في المشكوكات لم يحصل الظنّ الاطمئناني بعدم مخالفة المائة ، بل يحتمل خلافه ، فلو كان هناك مائة ظن اطمئناني بثبوت التكليف لا يجوز الاقتصار عليها ؛ إذ لا يحصل الظنّ الاطمئناني بعدم مخالفة مائة تكليف بموافقتها ، بل يتوقّف على الاقتصار في ترك الاحتياط على موارد الظنّ الاطمئناني بعدم التكليف ، فإن حصل العسر يضمّ بعض من موارد الظنّ الضعيف بعدم التكليف إلى حدّ انتفى الحرج.

وإن قلنا بالوجه الأوّل تعيّن ما لا قائل له من الوجه الثاني ، فإنّ من علم بمائة تكليف كان الواجب عليه أوّلا بحكم العقل موافقة مائة تكليف قطعا بأن يأتي بجميع محتملات الوجوب ويترك جميع محتملات الحرمة فإذا تنزّلنا عن القطع كان الواجب عليه الظّن الاطمئناني بموافقة مائة تكليف ، فإذا عمل على طبق مائة ظن اطمئناني مثبت للتكليف حصل ذلك ولا يجب عليه العمل بالظنّ أزيد من هذا ، فقد تحقّق أنّ ما ذكره الجمهور القائلين بمطلق الظنّ من الوجه الأوّل لا يستقيم على قاعدة.

ثمّ التحقيق من المبنيين هو الثاني ، بمعنى أنّ حكم العقل في العلم الإجمالي تنجيز عدم مخالفة المقدار المعلوم الإجمالي على المكلّف لا تنجيز موافقة هذا المقدار ، والدليل على ذلك أنّه لو فرض أنّ المكلّف علم إجمالا بنجاسة أحد الإنائين وكان

٦٥٩

كلاهما في الواقع نجسا فشرب أحدهما وترك الآخر يستحقّ العقاب على شرب هذا الواحد لمكان العلم الإجمالي الذي هو الحجّة على التكليف.

لا يقال : فيلزم أن يكون الشارب لكليهما في هذا المثال مستحقّا لعقوبتين مع أنّه واضح البطلان ، فإنّ العقاب على مقدار علمه وهو تكليف واحد.

لأنّا نقول : بل لا يلزم إلّا استحقاقه لعقاب واحد على مخالفة التكليف الواحد المعلوم إجمالا ، ولكن هذا التكليف الواحد الذي يعاقب على مخالفته ليس له علامة ، فلا يمكن تعيينه في خصوص هذا النجس ولا في ذاك ، فنقول : لا فرق بين صورة ارتكاب الجميع وبين ارتكاب أحد الطرفين وترك الآخر في أنّه يصدق أنّه خالف تكليفا واحدا مع كون حجّة المولى عليه تماما ، غاية الأمر أنّه في الصورة الثانية صدر منه موافقة تكليف واحد أيضا.

ووجهه ما ذكرنا من أنّ العلم الإجمالي صار حجّة على تكليف واحد ، وهذا التكليف بلا علامة يصدق على كلّ من الطرفين ، فلا يمكن أن يقال : إنّه خصوص هذا الذي حصل موافقته ، فيكون الآخر الذي حصل مخالفته بلا حجّة ، فيكون العقاب عليه قبيحا ، بل من الواضح بطلان هذا وصحّة العقاب على مخالفة الواحد الذي شرب ، وهذا دليل على أنّ المطلوب في باب العلم الإجمالي عدم المخالفة لا الموافقة ، ومعه فقد عرفت أنّه لا محيص عن الوجه الأخير من الأوجه الثلاثة ، فيكون نتيجة المقدّمات تبعيض الاحتياط دون حجيّة الظن ، نعم يكون الظنّ الاطمئناني بعدم التكليف حجّة على هذا.

الامر الثاني : عرفت أنّ نتيجة دليل الانسداد إمّا حجيّة كلّ ظنّ ، وإمّا حجيّة الظنّ بمقدار العدد المتيقّن من التكاليف المعلومة بالإجمال ، وإمّا حجيّة الظنون الاطمئنانيّة النافية للتكليف ، وعرفت أنّ الأقوى هو الأخير ، فهل الظنّ الذي يثبت حجيّته بمقدّمات الانسداد أيّا من هذه الثلاثة؟ كان هو خصوص الظنون المتعلّقة بالواقع ، أو خصوص الظنون المتعلّقة بالطريق ـ كما اختاره صاحب الفصول و

٦٦٠