أصول الفقه - ج ١

آية الله الشيخ محمد علي الأراكي

أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمد علي الأراكي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٠٤
الجزء ١ الجزء ٢

بالاطمئنان من قول القائل ، بل لا يرضى إلّا بترتيب الأثر على العلم ، وكذلك لا يخطر ببالهم أنّ حجيّة هذا الارتكازي موقوف على عدم منع المولى ، فهم عاملون على هذا التقييد صغرى وكبرى ، فالحاصل عندهم هو الحجيّة التنجيزيّة الإطلاقيّة.

فلهذا لو ورد من الشارع النهي عن العمل بالظنّ ينصرف نظرهم إلى غير هذا الاطمئنان فيقطعون أنّه بمنزلة العلم وإن كان غير علم ، بل ويعمّمون الحكم المعلّق على العلم بالنسبة إلى هذا الاطمئنان مثل عدم نقض اليقين إلّا باليقين ، فالنقض بهذا الاطمئنان يكون في نظرهم نقضا باليقين ، وبالجملة ، لا يدخل في ذهنهم من دليل مثبت للحكم على الظنّ هذا الفرد ، ويدخل في ذهنهم من الدليل الدال على الحكم في العلم هذا الفرد ، والسبب لذلك هو الارتكاز والمجبوليّة المانعة عن دخول مضادّه في أذهانهم ، بمعنى أنّهم مع وقوع نظرهم إلى هذا العموم والإطلاق الصادرين من المولى لا يحتملون أنّ هذا الطريق الذي يمشونه من العمل بمقتضى الاطمئنان لعلّه كان على خلاف الواقع وغير مرضيّ لمواليهم وكان طريقة المولى طريقة اخرى.

ويمكن أن يقال : إنّ صورة المعارضة الصورية أيضا ينقدح في ذهنهم ، لكنّه مقرون بالقطع بالتخصيص ، وبالجملة ، لا يذهب عنهم هذا العموم قطعهم بعدم قابليّة طريقتهم للردع ، وبعبارة اخرى : لا يذهب قطعهم بالكبرى ، والاحتمال الصوري إنّما يتعلّق بمقام الصغرى ، فهم يرون الإرادة الصوريّة المستفادة من العموم قد تعلّق بأمر لا يقبل الإرادة الجديّة ، فهو عام عندهم قطعي التخصيص نظير أكرم العلماء مع القطع بلا تكرم زيدا ، والفرق بين هذا وسابقه أنّ الأوّل دعوى الانصراف وهذا دعوى التخصيص.

هذا هو الحال في عامّة الناس المتّصفين بالغفلة عن تصوّر خلاف مرتكزهم ، وأمّا الملتفتون وهم الشاذ القليل من الناس فهذه الطريقة وإن كان ليست في نفسها حجّة لهم لاحتمالهم الخطاء في حقّهم لعدم كونهم معصومين ، ولكن يثبت الحجيّة عند تحقّق الارتكاز عندهم أيضا بالبرهان.

٦٢١

وهو أن يقال : لو كان للشارع طريقة جديدة غير ما الناس مجبولون عليه ، ويكون خلافه مغفولا عنه لهم ، والنهي عن العمل بالظنّ على وجه العموم منصرفا عندهم عمّا ارتكز حجيّته عندهم ، أو مخصّصا قطعيا بغيره ، لكان يجب على الشارع التنصيص على إظهار أنّه مريد منهم خلاف هذا الطريق المعمول ، كما هو المشاهد في المرتكزات في الجاهليّة التي خطّأها الشارع بالإبلاغات الصريحة الأكيدة والإيعادات بأنواع العذاب ، فإنّ صرف الأذهان عن ما ارتكز فيها لا يحصل بغير هذا الوجه ولا يمكن الاكتفاء في تبليغه بعموم وإطلاق ، فيلزم على تقدير الاكتفاء في بيانه بهما إغراء عامّة الناس بالقبيح.

والحاصل : لو كان احتمال أن تكون الطريقة المجبول عليها من العمل على وفق الاطمئنان الحاصل من قول المخبر غير مرضيّة لدى الشرع وأنّه يحتاج إلى إحراز ذلك حاصلا لعامّة الناس ، كان أدلّة النهي عن العمل بالظنّ صالحة للردع ومحكّمة ؛ إذ المفروض أنّ كلّا من آحاد النوع يحتمل عدم إمضاء الشرع للطريقة التي يمشي عليها في الامور العادية ، ومن المعلوم أنّ هذه الطريقة إنّما تصير حجّة في الامور الشرعيّة لو لم ترد تخطئة من الشرع ، فإذا ورد العمومات الناهية عن العمل بالظنّ كان لها الورود وكانت ردعا وتخطئة لهذه الطريقة كما ذكرنا نظيره.

ولكنّ الذي سهّل الخطب أنّ الاحتمال غير حاصل إلّا للشاذ القليل من الأشخاص، فيقوم عند هذا الأشخاص ـ المحتملين ـ البرهان على حجيّة الطريقة المألوفة بين أهل العرف.

وحاصله أنّ هذه العمومات غير صالحة للردع لصرف أذهان العامّة منها إلى غير مورد ارتكازهم ، ويثبت عدم الرادع من جهة اخرى بلزوم الإغراء بالجهل على تقديره ؛ إذ لو كان واقعا غير راض بالطريقة المألوفة المأنوسة كان الواجب عليه إقامة الدليل بحدّ لا يبقى لأحد تشكيك من كثرة التصريحات المحفوفة بالإنذارات والبيانات المكتنفة بالوعيدات ، فعدم الرادع في مقام الإثبات يصير دليلا على عدمه

٦٢٢

في مقام الثبوت ، واحتمال نصب هذا الدليل وعدم وصوله إلينا مقطوع العدم ، فإنّه لا بدّ في هذه الامور إقامة النصّ الصريح على وجه تبلغ صيته جميع العالمين ، فإذا لم يثبت هذا الدليل قطعنا بأنّه ليس طالبا لهذا الأمر.

ومن هنا نقول في باب اعتبار نيّة الوجه والتمييز في العبادة أنّ لنا رفع هذين القيدين وإن قلنا بعدم جريان البراءة فيهما كما يقوله شيخنا المرتضى بهذا الطريق ، فنقول : إنّ اعتبار الوجه والتمييز مغفول عنه للعامّة ولا يخطر احتماله ببالهم ، وإنّما يحتمله بعض أهل الدقّة من العلماء ، وما كان شأنه هكذا فلو طلبه الشارع كان الواجب عليه إقامة مقدّمات تبليغه من التنصيص الغير القابل للتشكيك عليه ، ولو كان لبان ، وحيث ما أقام نقطع بأنّه ما أراد ، وبالجملة ، يصحّ دفع الدور المذكور بأن نقول : سلّمنا توقّف الحجيّة على عدم الرادع ، ولكن نجعل العدم في مرحلة الإثبات دليلا على العدم في مرحلة الثبوت بمعونة البرهان.

وبعبارة اخرى : الحجيّة الشرعيّة لدى الملتفت موقوفة على عدم الرادعيّة لتلك العمومات ، وهي موقوفة على الحجيّة الارتكازيّة ، وهذا بخلاف من يدّعي أنّ العقلاء مع كونهم محتملين عدم رضى الشارع بطريقتهم وعدم كونهم غافلين عنه يبنون على رضائه به ما لم يثبت ردعه عنه ، وهذا بمنزلة أصل عندهم ، حيث إنّ عند الشكّ في وجود الردع يبنون على عدمه ، فإنّه وإن كان لا يلزم الدور ببيان تقدّم ، لكن يتمّ الرادعيّة للعمومات على هذا التقدير لما مرّ من عدم المعارضة بين المقتضي التنجيزي وهو العمومات والتعليقي وهو البناء ، بل اللازم تقديم التنجيزي ؛ لوروده على التعليقي.

وأمّا الدليل العقلي فهو على قسمين ، قسم يفيد حجيّة خصوص الخبر ، والآخر يفيد حجيّة الظنّ في الجملة ، ومن أفراده الخبر ، غاية الأمر يدور الحجيّة حينئذ مدار حصول الظنّ الفعلي منه. أمّا الأوّل : فتقريره من وجوه :

الأوّل : وهو الذي قال شيخنا المرتضى : وهو الذي اعتمدته سابقا ، وهو أنّا

٦٢٣

نعلم إجمالا بأنّ كثيرا من الأخبار التي بأيدينا وغالبها وجلّها صادرة ، وطريقنا إلى هذا العلم هو الفحص عن حال الرجال ومتانتهم وضبطهم وحفظهم الأحاديث لأن لا يتغيّر حرف وكلمة ولا يزيد ولا ينقص ، وغير ذلك مثل اقتصارهم على ما سمعوا دون ما وجدوا في الكتب ، حتّى أنّ بعضهم قد سمع من أبيه في حال الصغر فلم يرو عن أبيه لأجل كونه صغيرا في حال السماع ، وروى عن أخويه ، ومثل تركهم رواية من يعمل بالقياس ، حتّى أنّ أحمد بن محمّد بن عيسى أخرج البرقي عن القم لأنّه كان يروي عن الضعفاء مع كمال وثاقته ؛ لأجل مجرّد روايته عن الضعفاء ، إلى غير ذلك.

فيحصل من ذلك علم إجمالي بأنّ كثيرا من الأخبار صادرة عن المعصومين عليهم‌السلام ، ويكون في هذه الأخبار مقدار المعلوم الإجمالي على قدر التكاليف المعلومة بالإجمال ، يعني نعلم اجمالا بصدور هذا المقدار في الأخبار التي بأيدينا ، وحينئذ ينحّل علمنا الإجمالي بالتكليف إلى علم إجمالي صغير وشكّ بدوي ، كما لو كان هذه الأخبار الصادرة التي نعلم بوجودها إجمالا بين الأخبار معلومة لنا بالتفصيل ، فإنّه لا إشكال في انحلال العلم الإجمالي حينئذ إلى العلم التفصيلي بموارد هذه الأخبار والشكّ البدوي في غيرها. فكذلك في فرض العلم الإجمالي بالأخبار الصادرة في ضمن الأخبار ، فإنّه ينحّل إلى العلم الإجمالي بخصوص ما في الأخبار والشكّ البدوي في غيرها.

وليعلم أنّ النافع لانحلال العلم هو العلم الإجمالي بصدور خصوص الأخبار المثبتة للتكليف كما هو واضح ، ولا بعد في وجود هذا العلم ، فإنّ الأخبار المثبتة كثيرة ، وبضميمة حال الرجال يحصل العلم الإجمالي بصدور غالبها ، وإن كان لنا هذا العلم أيضا في خصوص النافية أيضا فهنا علمان إجماليّان ، أحدهما متعلّق بالمثبتة والآخر بالنافية ، إلّا أنّ النافع للانحلال هو العلم الإجمالي الذي يكون قوامه بالمثبتة المحضة ، وأمّا لو كان قوامه به وبالنافية بمعنى أنّه لو لم يضمّ النافية إلى المثبتة

٦٢٤

فلا يبقى علم إجمالي ، فلا يؤثّر في انحلال العلم الإجمالي بالتكليف.

ونحن نمثّل لذلك مثالا في العلم الإجمالي الصغير حتى يتّضح الحال في الكبير ، مثلا لو علمنا إجمالا بوجود واجب واحد علينا وكان غير معلوم بعينه ومشتبها بين الأفعال ، فقام عندنا خبر على وجوب فعل معيّن ، وقام خبر آخر على وجوب فعل آخر ، وقام خبر ثالث على إباحة فعل ثالث ، فإن حصل لنا علم إجمالي بصدور واحد من هذه الأخبار الثلاثة ، فالعلم الإجمالي الأوّل بوجود واجب باق بحاله. وأمّا لو حصل لنا علم إجمالي بصدور أحد الخبرين الدالّين على الوجوب فلا شكّ أنّ العلم الإجمالي بتكليف واحد ينحّل إلى تفصيلي بالموجود بين الفعلين وشكّ بدوي في غيرهما وهذا واضح.

والجواب عن هذا الوجه أنّه لا يفيد المدّعى ؛ فإنّ غاية ما يثبت بهذا هو وجوب العمل على طبق الخبر ، لمكان العلم الإجمالي المذكور ومن باب الاحتياط لإحراز الواقع ، وهذا غير حجيّة الخبر التي إثباتها مهمّنا.

فعلى هذا لو كان في قبال الخبر عموم الكتاب أو السنّة القطعيّة أو إطلاق أحدهما لم يخصّص العموم وتقييد الإطلاق بالخبر ، بل يجب العمل بهما دون الخبر ، وكذلك لو قام أصل ـ ثبت حجيّته بالأخبار المتواترة ونحوها ـ على خلاف الخبر لا يجب طرح الأصل ؛ لعدم الحجّة في قباله ، سواء كان الأصل المخالف نافيا للتكليف أم مثبتا لتكليف آخر ضدّ ما يفيده الخبر ، كما لو أفاد الخبر وجوب الفعل وقام الاستصحاب (١) مثلا على حرمته ، بل الواجب حينئذ هو العمل بالأصل في المقامين ، غاية الأمر أنّه أصل قائم في بعض الموارد التي علم إجمالا بخلاف الأصل فيها ؛ فإنّ الأصل معمول به في هذا المورد إذا كان بلا معارض ، كما في الإنائين

__________________

(١) وقد يستفاد من شيخنا الاستاد دام بقاه دعوى تواتر الأخبار بحجيّة الاستصحاب. منه قدس‌سره الشريف

٦٢٥

المشتبهين بالنجاسة إذا كان الأصل في أحدهما فقط هو الطهارة ، فإنّه جار بلا إشكال.

نعم لو قلنا بأنّ العلم المأخوذ غاية للاصول أعمّ من التفصيلي والإجمالي ، لما كان له حينئذ مجرى ، ولكنّه خلاف المختار ، وإذن فالواجب هو العمل بالأصل النافي أو المثبت المقابل للخبر ، فإنّه لا يعقل مزاحمة اللاحجّة مع الحجّة.

هذا كلّه مع عدم العلم بمخالفة الاصول إجمالا ، وأمّا لو علم إجمالا ذلك فإن كان العلم الإجمالي بمخالفة بعض الاصول المثبتة للتكليف للواقع ومطابقة الخبر الدالّ على ضدّ هذا التكليف له ، بمعنى أنّا إذا لاحظنا مجموع الاصول المثبتة القائمة على خلاف الأخبار المثبتة في الموارد المتفرّقة كما لو قام الخبر في مورد على الوجوب والأصل على الحرمة ، وفي مورد آخر قام الخبر على الحرمة والأصل على الوجوب وهكذا ، فإنّا نعلم إجمالا بصدور بعض هذه الأخبار القائم في قبالها الأصل المثبت للتكليف ، فيتولّد منه العلم الإجمالي بمخالفة بعض من هذه الاصول المثبتة القائمة على خلاف الخبر للواقع ، فيلزم من العمل بهذه الاصول في جميع هذه الموارد وطرح العمل بالخبر في قبالها مخالفة قطعيّة للتكليف.

فيكون كما إذا كان الأصل في كلّ من الإنائين المشتبهين هو الطهارة ، فإنّ العمل بالأصل موجب لمحذور المخالفة القطعيّة للتكليف المعلوم بالإجمال ، غاية الأمر أنّ الاحتياط هناك ممكن بالاجتناب عن كلا الإنائين ، لكونه جمعا بين الدليل والأصل ، فإنّ مقتضى الأصل هو الترخيص في الارتكاب لا إلزامه ، فاختيار الاجتناب ليس مخالفة له ، وأمّا هنا فالاحتياط غير ممكن ، لكونه من باب الدوران بين المحذورين ؛ لدوران الأمر في كلّ من الجمعة والدعاء مثلا بين الوجوب والحرمة ، فالاحتياط بالجمع بين الواقع المعلوم والأصل غير ممكن.

فحينئذ هل يجب إلغاء الأصلين في المقام للزوم المحذور المذكور كما في مثال المشتبهين والاحتياط بعد ذلك بالعمل بالخبرين باجتناب الجمعة وإتيان الدعاء ،

٦٢٦

فنحن وإن لم نقل بأنّ غاية الاصول هو الأعمّ من الإجمالي ، بل خصّصناه بالعلم التفصيلي فلا نقول بجريانه هنا لأجل المانع العقلي ، أو أنّ العلم الإجمالي بمخالفة أحد الأصلين هنا لا يوجب طرحهما ، غاية الأمر لمّا لم يمكن العمل بكليهما أيضا للزوم محذور المخالفة القطعيّة كان المكلّف مخيّرا في العمل بأحدهما ، بمعنى أنّ كلّا من الدعاء والجمعة مثلا أمره دائر بين كونه واجبا واقعيّا ، وبين كونه مصداقا للنقض الحرام ، فيتخيّر المكلّف في كليهما في الفعل الآخر.

قد يرجّح الأوّل بعدم الفرق بين المقام ومثال الإنائين أصلا ، فيجري هنا كلّ ما يجري هناك حرفا بحرف ، فإنّ وجه طرح الأصلين هناك أنّ العمل بكليهما يوجب المخالفة القطعيّة، والعمل بأحدهما بعينه ترجيح بلا مرجّح ؛ فإنّ نسبة الدليل إلى كليهما على السواء ، والعمل بأحدهما بعينه الذي مرجعه إلى التخيير في العمل بواحد منهما يكون بلا دليل ؛ فإنّ دليل الأصل مقتضاه جريان حكمه في مورده على التعيين ، فالتخيير يحتاج إلى دليل آخر عليه ، وهذا بعينه جار في المقام.

ولكنّه فاسد ، فإنّ الدليل الآخر على التخيير يكفي فيه حكم العقل أيضا ، ألا ترى أنّ الغريقين المتعذّر إنقاذ أحدهما مع إمكان الآخر حكم العقل فيه هو التخيير ، مع أنّ الدليل الدال على وجوب الإنقاذ له اقتضاء تعييني في وجوب إنقاذ هذا واقتضاء تعييني لوجوب إنقاذ ذاك.

وسرّ ذلك أنّه لو احرز أنّ الغرض والمقتضي في كليهما حال التعذّر أيضا موجود تام، فاحرز من حال المولى بواسطة إطلاق المادّة أنّ إنقاذ الغريق محبوب له من غير تقييد بحال ، فإنّه حينئذ يجب بحكم العقل أن لا يترك كلا غرضي المولى ، بل يبادر بدرك أحدهما.

وحينئذ فحيث لا يعلّم أنّ أيّا من الغرضين أهمّ بنظره كان مخيّرا في إنقاذ أيّهما شاء.

ثمّ من جملة المقتضيات هي العناوين التي رتّب عليها الحكم في الأدلّة ، حيث إنّ الظاهر كونها مقتضيات لأحكامها ومن جملتها عنوان المشكوك ، فقولنا : المشكوك

٦٢٧

محكوم ببقاء حرمته السابقة مثلا ، أو محكوم بالترخيص ظاهر في كون الشكّ مقتضيا لذلك.

فإن قلت : الترخيص لا يكون باقتضاء المقتضي ، بل هو ناش عن الاقتضاء ، فالشكّ لا يمكن أن يكون مقتضيا للترخيص.

قلت : بل الترخيص تارة يكون من جهة عدم الاقتضاء كما في إباحة شرب الماء ، واخرى يكون من جهة المقتضى له كما في الترخيص الناشي عن العسر والحرج ، حيث إنّه من جهة اقتضاء العسر وتقدّم العناوين الثانوية على الأوليّة إنّما هو في خصوص الأوّل ، فلو صار شرب الماء منذورا أو محلوفا عليه خرج عن اللااقتضاء إلى الاقتضاء ، أمّا لو تعلّق الحلف أو النذر بأمر صار مباحا لأجل لزوم العسر من التكليف فيه كان من باب تزاحم المقتضيين.

ثمّ إنّ الشكّ من هذا القبيل أيضا مثلا المشكوك المائيّة والخمريّة مباح ، معناه أنّ الشكّ سبب للإباحة وإن كان المائع في الواقع خمرا.

وبالجملة ، فإذا استفدنا من أدلّة الاصول أنّ لموضوعها ـ أعني الشكّ ـ اقتضاء لحكمها ، ففي الموردين الذين علمنا بمخالفة حكم الأصل في أحدهما للواقع نعلم أنّ الشكّ في هذا مقتض لحكم الأصل ، والشكّ في ذاك أيضا مقتض له ، فإذا لم يمكن العمل بكليهما وجب بواحد منهما على التخيير ، فالتخيير وإن لم يكن مستفادا من الدليل الشرعي ، لكنّه مستفاد من الدليل العقلي.

وحينئذ نقول : لا بدّ في صحّة الأخذ بأحد المقتضيين على التخيير عند عدم إمكان الجمع بينهما أن لا يكون هنا مقتض آخر يقتضي خلافه ، كما في مثال إنقاذ الغريقين ، حيث إنّ المقتضي للإنقاذ الذي يؤتي به تخييرا يكون موجودا والمقتضي لعدمه ليس في البين ، ضرورة أنّه لو كان وكان أقوى كان هو المقدّم ، وإن لم يعلم الأقوائيّة لأحد الجانبين فالتخيير.

ومن هنا يظهر الفرق بين الأصلين في المقام وبينهما في مثال الإنائين المشتبهين ،

٦٢٨

فإنّ هنا يكون الشكّ في بقاء الحرمة السابقة مثلا مقتضيا تعيينيّا لحرمة هذا والشكّ في بقاء الوجوب السابق في ذاك مقتضيا تعيينيّا لوجوب ذاك ، وهذا وإن كان موجبا للأخذ بالاقتضاء مهما أمكن ، فعند عدم إمكان الجمع يعيّن الأخذ بأحدهما ، إلّا أنّ هنا مقتضيا آخر يقتضي خلاف ما يقتضيه هذا المقتضي وهو العلم الإجمالي ، فإنّه لا شكّ أنّ العلم الإجمالي بالواقع مؤثّر ومقتض لإتيان الواقع ، وهذا مناف للعمل بأحد الأصلين.

فإن كان هذا المقتضي بنظر الشارع أقوى من اقتضاء الشكّ المذكور ، لا شكّ في أنّه يطلب من المكلّف حينئذ طرح الأصل والعمل على وفق علمه ، وإن كان اقتضاء الشكّ أقوى فلا شكّ أنّه يطلب من المكلّف العمل بالأصل في كلا الموردين ، وحيث إنّ المكلّف متحيّر ولا يعلم أقوائيّة أحدهما ولا عدمها كان نتيجة تحيّره التخيير بحكم العقل.

مثلا الشكّ في بقاء حرمة الدعاء مقتض للإلزام على تركه ، والشكّ في بقاء وجوب الجمعة مقتض للإلزام على فعله ، ولا يمكن إعمال كلا المقتضيين للزوم محذور المخالفة القطعية ، للعلم الإجمالي بصدور أحد الخبرين الدال أحدهما على وجوب الدعاء والآخر على حرمة الجمعة ، فيتحصّل من الأصل وهذا العلم إحراز ثلاث مجعولات شرعيّة في البين ، اثنان منهما الحكم الاستصحابي المفروض كون غايته خصوص العلم التفصيلي ، لا الأعمّ منه ومن الإجمالي ، فإطلاق المادّة يقتضي أنّ هنا استصحابين مجعولين ، والمجعول الثالث مضمون أحد الخبرين المقطوع صدور أحدهما.

فإن قلت : كيف يمكن وجود الإرادتين مع وجود الإرادة الواقعيّة بالخلاف ، ولو فرض أنّه ليس تناقضا في الإرادة فلا شبهة في كونه تناقضا بحسب مقام الأثر.

قلت : يأتي إن شاء الله تعالى في مبحث الشكوك ما يندفع به هذا الإشكال ، وبالجملة ، فيدور أمر المكلّف في كلّ من الفعلين بين الوجوب والحرمة مع عدم إحراز

٦٢٩

الأقوى منهما ، فيكون مخيّرا بين الفعل والترك.

هذا في ما إذا كان كلّ من العلم الإجمالي والأصل مثبتين للتكليف ، وأمّا لو كان العلم مثبتا للتكليف والأصل نافيا له كما في مثال الإنائين فإنّ العلم مقتض تعييني في تحريم كلّ من الإنائين ، والأصل مقتض تعييني لترخيص كلّ منهما ، ولا شكّ في تقديم مقتضي التحريم على مقتضي الترخيص وإن فرض كون الثاني أقوى من الأوّل بمراتب ، فإنّ في العمل بالأوّل عملا بكلا المقتضيين بخلاف العمل بالثاني ، فإنّه طرح للأوّل ، فلهذا يجب الاحتياط في ذلك المثال ، ويثبت التخيير في المقام.

ومن هنا يظهر حال العلم الإجمالى بمخالفة الاصول النافية الواردة في موارد الأخبار المثبتة ، وأنّ الحكم العمل بالعلم وطرح الأصل ، وذلك لأنّ الشكّ في كلّ واحد من الفعلين مقتض تعييني للترخيص ، ولكن إجراء كليهما غير ممكن ، فيرجع الأمر بحكم العقل إلى التخيير بإعمال المقتضي المذكور في أحد الإنائين ، والعمل فى الآخر على طبق العلم الإجمالي ، ولكن مع ذلك يكون في البين مقتض على الخلاف في البين ، فإنّ العلم الإجمالي يقتضي التجنّب عن النجس الواقعي ، ولعلّه كان في ضمن هذا الإناء الذي حكم بترخيصه بالأصل.

وحينئذ فإن كان اقتضاء هذا العلم واقعا وبنظر الشارع أقوى من اقتضاء الشكّ كان اللازم طرح الأصل في الموردين والتجنّب عن كلا الإنائين ، وإن كان اقتضاء الشكّ أقوى ، لزم ترك العمل بالعلم وإجراء الترخيص في كلا الإنائين ، ولو شكّ في أنّ أيّهما أقوى كان المتعيّن حينئذ هو الاحتياط بالجمع بعدم مخالفة أحد المقتضيين لإمكانه هنا ، فإنّ ترك الارتكاب ليس مخالفة للحكم الترخيصي كما عرفت.

فتحصّل أنّ نتيجة تحيّرا لمكلّف في الأقوى من المقتضيين في الصورة السابقة أعني ما إذا كان الأخبار مثبتة للتكليف والاصول مثبتة للتكليف المخالف هو التخيير في كلّ مورد بين الفعل والترك ، لعدم إمكان الاحتياط ، وامّا في الصورة الثانية اعني ما إذا كان الأخبار مثبتة للتكليف والأصل نافيا له فهو الاحتياط.

٦٣٠

وهنا صورة ثالثة يظهر حكمها ممّا تقدّم ، وهى ما إذا كان الأخبار نافية للتكليف والاصول مثبتة له ، فإنّه يعمل بالأصل في جميع موارده ، غاية ما يلزم التزام ترك مباح أو فعله وهو ليس بمحذور ، وهو من قبيل إجراء استصحاب النجاسة في الإنائين المشتبهين مع العلم بطهارة إحداهما.

هذا ملخّص الكلام في حكم الاصول ، وعلم أنّ الدليل المذكور لا يفى بما هو المقصود من حجيّة الخبر التي معناها عدم الاعتناء بالأصل في مقابله أصلا للحكومة أو الورود ، وإنّما يثبت بسببه وجوب العمل بالأخبار من باب العلم الإجمالى من دون كونها حجّة ، فيجري الأصل في مقابله على ما تقدّم من التفصيل ، ومحصّله لزوم العلم بالأصل مثبتا كان أم نافيا لو لم يكن علم إجمالي بمخالفته للواقع بالعلم إجمالا بمطابقة ما في قباله من الأخبار له ، وأمّا مع هذا العلم فالمتعيّن التفصيل بين الصور الثلاثة.

فإن قلت : كيف يمكن إجراء الأصل مع احتمال وجود الخبر الحجّة في مورده ومعه مورود أو محكوم؟.

قلت : المفروض نفي العلم بالصدور أعني صدور مضمون بعض الأخبار في موارد الاصول للواقع ، وأين هو من العلم بالحجيّة.

فإن قلت : نعم ، لكن ظاهر لفظ الخبر الصادر حجّة وبه يتمّ المطلوب.

قلت : مضافا إلى أنّ الكلام من حيث الصدور لا الظهور ليس حال الحجّة إلّا كحال نفس الواقع ، فكما أنّ نفس الواقع إنّما ينافي الأصل بوجوده الواصل لا بوجوده الواقعي ، كذلك الحجّة أيضا لا تصير حاكمة أو واردة بوجودها الواقعي حتى يكون الأصل حكما ظاهريّا في حكم ظاهري ، بل مجراه نفس الواقع ، فلا يوجب الحكومة أو الورود إلّا الوجود الواصل للحجّة ، والوصول أيضا لا بدّ أن يكون على نحو العلم التفصيلي ، وأمّا الإجمالي فحسب الفرض لا يضرّ وصول نفس الواقع بهذا النحو لجريان الأصل ، فكيف بالحجّة وإلّا يلزم زيادة الفرع على الأصل.

٦٣١

ثمّ إنّ في هذا المقام إيراد للمولى الجليل الخراساني على الشيخ الأجلّ المرتضى طاب ثراهما قد تعرّض له في الحاشية وحكى الاستاد تسجيله إيّاه في درسه ، ومنشائه الاشتباه في مراد الشيخ وحمل كلامه على ما ليس مدّعاه ، والتحقيق أنّه على تقدير صحّة مدّعاه قدس‌سره لا مجال للإشكال عليه ، والمناقشة الممكنة إنّما هي في أصل مدّعاه ، فالإشكال لو كان كان بمنع الصغرى.

وبيان هذا الاجمال أنّ الشيخ بعد أن ذكر هذا الوجه وأنّه ممّا اعتمده سابقا وأنّ العلم الإجمالي بمقدار من التكاليف ينحّل بواسطة العلم الإجمالي بصدور كثير من الأخبار أورد على ذلك بأنّا إذا ضممنا سائر الأمارات إلى الأخبار نجد علما إجماليّا أوسع دائرة من الأوّل بين مجموع الأخبار وسائر الأمارات من الشهرات والإجماعات المنقولة وغيرهما ، فهنا علمان إجماليان : الأوّل مخصوص بالأخبار ، والثانى موجود بينها وبين الإمارات الأخر ، فالعلم الإجمالى بصدور كثير من الأخبار لا يوجب انحلال العلم الإجمالي الأوسع ، بل هو باق بحاله، فاللازم الاحتياط في جميع أطرافه من الأخبار وسائر الأمارات.

أقول : لا بدّ لتوضيح مرام الشيخ من تقديم بيان مطلب وهو : أنّ كلّما كان لنا علمان إجماليّان متداخلان في بعض الأطراف وكان أحدهما أوسع دائرة من الآخر فلذلك تصويران :

الأوّل : أن يفرض ذلك مع اتّحاد عدد المعلوم بالإجمال في كلا العلمين ، كما لو علم إجمالا بموطوءين في الغنم السود وكان في مجموع القطيع المشتمل على السود وغيرها أيضا هذا العلم موجودا ، اعني العلم بوجود موطوءين لا أزيد.

والثاني : أن يصير في العلم الإجمالي الأوسع عدد المعلوم بالإجمال أزيد وأكثر ، كما لو كان لو نظر إلى خصوص سود الغنم علم بوجود موطوءين في ما بينها ، وأمّا لو نظر إلى مجموع القطيع كان المعلوم الموطوئيّة اكثر من اثنين.

ففي الصورة الاولى لو عزل المقدار المعلوم الإجمالي من الطائفة الخاصة لم يبق

٦٣٢

علم إجمالي بينها وبين غيرها ، ففي المثال لو عزل اثنان من الغنم السود وضمّ بقيّة السود إلى سائر الغنم لم يكن فيها علم إجمالى ، بل الثابت مجرّد الاحتمال ، لاحتمال أن يكون الاثنان الموطوءان هما هذين الغنمين الذين عزلناهما ، وأمّا في الصورة الثانية لو عزلنا مقدار المعلوم الإجمالي عن الطائفة الخاصّة وضممنا الباقي إلى غيرها فالعلم باق بحاله.

مثلا لو علمنا بعشرة موطوءات في قطيع الغنم ، ولكن كان خمسة منها متعيّنة في السود ، والخمسة الاخرى لم يعلم كونها في السود أم في غيرها ، فإذا عزل عن السود خمسة وضمّ الباقي إلى باقي القطيع ، فحينئذ يبقى علم إجمالي بوجود خمسة موطوءات وإن كان قد ارتفع العلم بوجود الخمسة المتعيّنة في السود بالعزل المزبور ، إلّا أنّ العلم بما ورائها الموجود في مجموع القطيع بحاله.

وحينئذ نقول : مراد الشيخ قدس‌سره أنّ العلم الكبير الأوسع طريق معرفة أنّه غير العلم الإجمالي الصغير الأضيق أو أنّه عينه هو عزل المقدار المعلوم إجمالا من أطراف العلم الأضيق ، فإن كان الباقي مع ضمّ أطراف الأوسع غير محلّ للعلم فهما علم واحد ، والأضيق يوجب انحلال الأوسع إلى شبهة بدويّة في غير أطراف الأضيق وعلم إجمالي فيها.

وإن كان الباقي ، مع ضمّ أطراف الأوسع محلا للعلم الإجمالى أيضا فهما علمان إجماليّان ، فالأوسع لا يصير منحلا بالأضيق.

مثلا : إنّا من ابتداء الأمر إذا نظرنا إلى مجموع ما بأيدينا من الأخبار وسائر الأمارات علمنا إجمالا بوجود تكاليف كثيرة واقعيّة في ضمنها ، فهذا علمنا الأوسع ، ثمّ إذا نظرنا إلى خصوص الأخبار علمنا بوجود الأحكام الصادرة في ما بينها أيضا ، فهذا علمنا الأضيق وإن كان مقدارا لتكاليف المعلومة إجمالا بين تمام الأخبار والأمارات أكثر من مقدار الأحكام الصادرة المعلومة إجمالا بين الأخبار ، والكاشف عن ذلك أنّا لو عزلنا المقدار الذي علم إجمالا بين خصوص الأخبار من التكاليف

٦٣٣

عن الأخبار وضممنا بقيّة الأخبار إلى سائر الأمارات وجدنا أيضا ثبوت العلم الإجمالي بينها، فتعيّن مقدار من التكاليف في الأخبار لا يوجب انحلال العلم الثابت بينها وبين الأمارات في الزائد عن هذا المقدار.

وإن تطابق المقداران فكان مقدار التكاليف المعلومة بين الأخبار وغيرها مساويا للمقدار الذي علمناه ثانيا في خصوص الأخبار واحتملنا أن يكون هذا هو ذاك ، فحينئذ وإن كان المعلوم الأوّلي غير مقيّد ، لكن عند حصول العلم بهذا المقدار مقيّدا بالأخبار صار ذاك المطلق منطبقا على هذا المقيّد ، ويظهر نتيجته في اخراج ما عدى الأخبار عن طرفيّة العلم وكونها ملحقة بالشبهة البدويّة.

ثمّ المولى المتقدّم توهّم أنّ مراد الشيخ هو صورة التطابق ، فاستشكل عليه بما حاصله ، أنّ تعيّن المعلوم بالإجمال في طائفة خاصّة كيف لا يوجب الانحلال ، ألا ترى أنّا لو كنّا علمنا إجمالا بوجود عشرين موطوء في القطيع ، ثمّ قام البيّنة على كون العشرين من خصوص السود موطوء فلا شكّ أنّ مورد العلم بعد عدم كونه ذا علامة يصير منطبقا على ذي العلامة، أعني العشرين المتّصفة بالسواد ، وفائدته خروج غير مورد العلامة عن طرفيّة العلم وصيرورته الشبهة البدويّة.

وأنت خبير بأنّ مراده صورة عدم التطابق وكون مقدار المعلوم بالإجمال في العلم الصغير أقلّ منه في الكبير.

وبالجملة ، فالشيخ مثلا يدّعي أنّ عدد التكاليف المعلومة في مجموع ما بأيدينا هو أربعون تكليفا مثلا ، وليس هذا المقدار معلوما في الأخبار ، بل المعلوم فيها ثلاثون مثلا ، فبعد تعيّن ثلاثين فى الأخبار تكون الأمارات الأخر أيضا طرفا بالنسبة إلى العشرة الاخرى ، والذي ينادي بأعلى صوت أنّ مراده قدس‌سره هو الصورة الثانية دون الأوّل مثاله قدس‌سره بالعلم الإجمالي بالموطوء في قطيع الغنم.

قال قدس‌سره بعد بيان الإشكال في الأخبار : نظير ذلك ما إذا علمنا إجمالا بوجود شياه محرّمة في قطيع غنم ، بحيث تكون نسبته إلى كلّ بعض منها كنسبته إلى

٦٣٤

البعض الآخر ، وعلمنا أيضا بوجود شياه محرّمة في خصوص طائفة خاصّة من تلك الغنم ، بحيث لو لم يكن من الغنم إلّا هذه علم إجمالا بوجود الحرام فيها أيضا ، والكاشف عن ثبوت العلم الإجمالى فى المجموع ما أشرنا إليه سابقا من أنّه لو عزلنا من هذه الطائفة الخاصّة التى علم بوجود الحرام فيها قطعة يوجب انتفاء العلم الإجمالي فيها ، وضممنا إليها مكانها باقي الغنم حصل العلم الإجمالي بوجود الحرام فيها أيضا ، انتهى.

فإنّ فرضه قدس‌سره بقاء العلم الإجمالي بعد العزل والضمّ صريح في صورة كون مقدار المعلوم بالإجمال في الطائفة الخاصّة أقلّ من مقداره في تمام القطيع ، إذ مع فرض تطابق عدديهما فلا يمكن فرض بقاء العلم الإجمالي بعد العزل والضمّ المذكورين ، فعلم أنّه على تقدير تماميّة ما ادّعاه قدس‌سره من عدم وفاء الأخبار المقطوع الصدور بتمام المعلوم بالإجمال من التكاليف وأنّها إنّما تكون وافية ببعض من هذا المقدار ، والباقي من هذا المقدار يحتمل كونه في الأخبار ، ويحتمل كونه في سائر الأمارات ، يكون ما ذكره من عدم إيجاب العلم الإجمالي بصدور كثير من الأخبار ، الانحلال ، صحيح لا محيص عنه.

نعم يمكن الخدشة في صغرى هذه الدعوى أعني كون الأخبار بهذه الصفة ، وهذا أمر راجع إلى وجدان كلّ أحد بحسب تتبّعه في الفقه والأخبار ، وبعد ذلك يمكن أن يدّعى أنّا بالمقدار الذي علمنا بالتكاليف وصدور الأحكام عن المعصومين صلوات الله عليهم في أبواب الفقه ، نعلم إجمالا بوجود الأخبار الصادرة بهذا القدر في ضمن ما بأيدينا من الأخبار ، فيكون اللازم هو الانحلال وإلحاق غير الأخبار من سائر الأمارات بالشبهة البدويّة.

ويمكن أن يدّعى مثل دعوى الشيخ بأنّ القدر المعلوم الصدور من الأخبار أقلّ عن عدد التكاليف المعلومة الصدور الموجودة بين تمام ما بأيدينا من الأخبار وسائر الأمارات ، فيكون اللازم حينئذ عدم انحلال العلم وكون سائر الأمارات أيضا

٦٣٥

طرفا ، فيجب الاحتياط فيها كما في الأخبار ، غاية الأمر أنّه يجب في الأخبار من جهتين ، وفي سائر الأمارات من جهة واحدة.

الوجه الثاني : ما ذكره صاحب الوافية ، وحاصله أنّا مكلّفون بالأحكام الواقعيّة ولا سيّما الاصول الضرورية من الصلاة والصوم والحج ، ولا شكّ أنّ لهذه الأركان أجزاء وشرائط وموانع ، والمتكفّل لبيان ذلك هو الأخبار ، فلو تركنا العمل بخبر الواحد لزم خروج هذه الحقائق عن الصورة التي جاء بها النبي ؛ لأنّ جلّ كيفيّتها مذكور في الأخبار.

وهذا كما ترى صريح في دعوى العلم الإجمالي بالصدور في الأخبار الواردة في بيان كيفيّة هذه الأركان وأجزائها وشرائطها ، فيكون مثل الوجه السابق ، غاية الأمر أنّ ذاك علم في مجموع الأخبار ، وهذا في خصوص طائفة منها ، فيرد على هذا كلّ ما ورد على ذاك حرفا بحرف.

ويرد على هذا علاوة على ذاك أنّه بناء على دعوى اختصاص العلم الإجمالي بهذه الطائفة تكون الأخبار الواردة في بيان الأحكام الابتدائيّة من غير كونها لبيان كيفيّة واحد من الضروريات غير واجب العمل ؛ لخروجها عن أطراف العلم.

والوجه الثالث : ما ذكره الشيخ محمّد تقي طاب ثراه في حاشية المعالم ، وحاصله : أنّا مكلّفون بالعمل بالكتاب والسنّة إلى يوم القيامة بالبداهة والضرورة ، وحينئذ فإن أمكن العمل بهما على وجه العلم أو الظنّ المعتبر فهو ، وإلّا وجب العمل على وجه الظنّ ، ونتيجة ذلك وجوب العمل بالأخبار الظنيّة الصدور ، فإنّه عمل بالسنّة على وجه الظنّ ، وأمّا من حيث الدلالة فقد فرغنا عن كفاية الظنّ النوعي.

وفيه أنّه إن كان المراد بالكتاب والسنّة هو الكتاب والسنّة الواقعيّة التي هي واجب العمل بالضرورة ، فهذا راجع إلى الانسداد ، فبعد ضمّ سائر المقدّمات وتماميّتها يكون منتجا لحجيّة كلّ ظن حاصل بالكتاب والسنة الواقعيين ولو كان من شهرة ونحوها من الأمارات.

٦٣٦

وبالجملة ، يلزم حجيّة كلّ ظنّ بحكم الله الواقعي ، فإنّه ظن لا محالة بالكتاب أو السنّة ، للعلم بأنّه إمّا مدلول للسنّة قولا أو فعلا أو تقريرا ، وإمّا مدلول للكتاب ، ولا أقل من الأخير ؛ إذ (لا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) ، وبالجملة ، فالنتيجة أعمّ من المدّعى ؛ فإنّ المدّعى وجوب العمل بخصوص الظنّ الحاصل من الخبر لكونه مظنون الصدور، والنتيجة وجوب العمل على طبق كلّ أمارة ظنيّة.

وإن كان المراد بالسنّة هي الأخبار الحاكية للسنّة الواقعيّة فلا بدّ أن لا يكون جميع ما دوّن في الكتب ، وإلّا كان الدعوى من أوّل الأمر حجيّة تمام الأخبار ، بل لا بدّ من دعوى العلم الإجمالي بوجوب العمل على طبق خبر في ما بين الأخبار.

وحينئذ يرد عليه أوّلا : أنّ هذا المعنى ـ أعني كون خبر في ما بين أخبار الآحاد واجب العمل ـ ليس من الضروريات ، كيف والقائل بعدم الحجيّة موجود.

وثانيا : أنّه إن كان المراد هو العلم الإجمالي بوجود الخبر الصادر في مجموع الأخبار فهو راجع إلى الوجه الأوّل الذي قد عرفت الكلام عليه.

وإن كان المراد هو العلم الإجمالي بوجود الخبر الحجّة في ما بين الأخبار فلا شكّ أنّ الأخبار من هذه الجهة بالتفاوت ، مثلا الخبر القوي إذا لوحظ مع الخبر الضعيف كان الأوّل قدرا متيقّنا ، ثمّ القوي إذا لوحظ مع الممدوح كان أحدهما متيقّنا وهكذا.

وبالجملة ، لا يحتمل أحد أن يكون الخبر الصحيح الأعلائي مثلا غير حجّة ، ويكون الأدون منه حجّة ، فهو متيقّن الحجيّة لا محالة ، وحينئذ فإن انتفى العلم الإجمالي وانحلّ كان المتعيّن هو الاقتصار على الصحيح الأعلائي ، فإن لم يكن وافيا بالفقه فيؤخذ بالخبر الأوسع الذي قام على حجيّة الصحيح الأعلائي ، فإن لم يف هو أيضا فيؤخذ بثالث دلّ الثاني على حجيّته ، وهكذا إلى أن يفي.

ثمّ إن بقي بعد أخذ القدر المتيقّن المذكور أعني الصحيح الأعلائي علم إجمالي أيضا بأن علم بوجود الحجّة في غيره أيضا فلا محالة يكون في ما بين الباقي أيضا قدر متيقّن مثل خبر الثقة مثلا ، فإن كان في غير أيضا علم إجمالي فيؤخذ بالقدر

٦٣٧

المتيقّن من غيره ، وهكذا إلى أن انتفى العلم الإجمالي ، ثمّ لو فرض على سبيل مجرّد الفرض عدم وجود القدر المتيقّن في ما بين الأخبار وكان نسبة العلم الإجمالي إلى الجميع على حدّ سواء ، فاللازم هو الاحتياط بالعمل على طبق كلّ خبر كان محتمل الحجيّة ، دون ما ليس فيه هذا الاحتمال ، لخروجه عن أطراف العلم ، وهذا الاحتياط غير مستلزم للعسر كما على مذهب من يزعم حجيّة جميع الأخبار المدوّنة في الكتب.

ثمّ لو فرض على سبيل مجرّد الفرض كونه مستلزما للعسر فاللازم حينئذ هو الاقتصار على الخبر المظنون الحجيّة ، وأين هذا من الخبر المظنون الصدور ، كما أنّ المدّعى وجوب العمل به ، فيرد عليه حينئذ ما ورد على الوجه الأوّل من عدم جواز العمل بالأخبار في قبال الاصول المثبتة ، وعلاوة عليه عدم كونه منتجا للمطلوب ، هذا هو الأدلّة على وجوب العمل بالظنّ الخبري.

وأمّا الأدلّة الّتي اقيمت على حجيّة مطلق الظنّ.

فهي وجوه :

الأوّل : إنّ المجتهد إذا ظنّ بوجوب شيء أو حرمته ظنّ بأنّ في مخالفته الضرر ، ودفع الضرر المظنون واجب ، ينتج أنّ العمل بالظنّ المذكور واجب ، أمّا الكبرى فمسلّمة ، وأمّا الصغرى فيمكن إثباتها بنحوين :

الأوّل : أنّه إذا ظنّ بوجوب شيء ظنّ بالعقاب على تركه ، وإذا ظنّ بالحرمة بالعقاب على الفعل ، فالظنّ بالتكليف ظنّ بالضرر الاخروي.

والثاني : أنّ الظنّ بالوجوب ظنّ بالمفسدة في الترك ، وبالحرمة ظنّ بالمفسدة في الفعل بناء على ما هو المشهور بين العدليّة من أنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد الكامنة في نفس المتعلّقات دون الإنشاء والجعل ، فالظنّ بالتكليف ظن بالضرر الدنيوي.

والجواب أمّا على تقدير فرض الضرر العقاب فيمتنع الصغرى ، وذلك لأنّ الظانّ بالتكليف لا يحتمل العقاب بعد مسلميّة قاعدة قبح العقاب بلا بيان ؛ إذ لو عاقبه

٦٣٨

المولى على مخالفة التكليف المظنون كان بلا بيان وحجّة وهو قبيح ، فيحصل القطع بعدم العقاب ، وبالجملة فبهذه القاعدة يرتفع موضوع قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ؛ وذلك لأنّ المفروض أنّه ليس في البين ما يصلح لأن يكون بيانا وحجّة إلّا نفس هذه القاعدة أعني: وجوب دفع الضرر المحتمل ، وهذا أيضا غير صالح ، ووجهه أنّه لا يعقل أن يكون حكم الشيء محقّقا لموضوعه ، بل لا بدّ من تحقّق الموضوع من الخارج ثمّ تعليق الحكم على الموضوع المحقّق.

ولو جعلت هذه القاعدة بيانا وجعلت هي واردة على القاعدة الاخرى ونافية لموضوعها لزم أن يكون موضوع القاعدة وهو احتمال الضرر محقّقا من قبل نفس القاعدة ، وهو غير معقول ، فتحقّق أنّ العقاب هنا غير محتمل حتى يصير موضوعا لقاعدة دفع الضرر.

وأمّا على تقدير فرض الضرر وهو المفسدة الكامنة في القول أو الفعل ، فأوّلا بأنّا نمنع الكبرى أعني وجوب دفع الضرر عقلا ، بيان ذلك أنّ بعضا من الأحكام مبناها الحسن والقبح ، مثل حكم العقل بقبح الظلم وحسن الإحسان ، ففي هذه الموارد يكون العقل حاكما بوجوب الإقدام أو الترك ، ويكون حكمه مستلزما لحكم الشرع أيضا ، وإن لم يكن مستلزما له كما في الحكم بقبح المعصية أو بقبح التجرّي حيث عرفت عدم قبولها للحكم الشرعي ، فلا أقلّ من كونه مصحّحا للعقوبة.

وبالجملة ، ففي موارد حكم العقل بالقبح يترتّب على الإقدام علاوة على الوقوع في القبيح استحقاق المقدم للعقاب ؛ لكونه فعل القبيح ، وليس كذلك قاعدة دفع الضرر ، فإنّه لو أقدم فغاية ما يترتّب هو الوقوع في الضرر ، بل ولو فرضنا كون الضرر مقطوعا لا مظنونا ، فإنّه ليس في مخالفته والإقدام عليه إلّا التضرّر بهذا الضرر ، يعني بحسب حكم العقل ليس هنا أثر آخر للإقدام كما في الإقدام على الظلم.

والحاصل أنّ الكلام في أنّه لو فرض عدم ورود حكم الشرع على وجوب الدفع الضرر المالي أو النفسي فهل يكون هنا حكم بالاستقلال للعقل؟ مثلا لو أوقع أحد

٦٣٩

على نفسه ضررا وفرض له الداعي العقلائي لئلا يلزم اللغوية فيلزم القبح من هذه الجهة ، مثل أن يقتل نفسه بداعي أن يستريح من هموم الدنيا ، فهل هو في نظر العقل علاوة على الضرر الذي أوقع نفسه فيه مستحقّ لعقوبة على نفس فعله الذي هو الإيقاع ، لكونه فعل فعلا قبيحا ، كما لو أقدم على الظلم؟ من المعلوم عدم ذلك.

حتى أنّ الحال ذلك في الضرر الاخروي أيضا ، كما لو علم بأنّ الفعل الفلاني موجب لدخول النار ، فليس في نظر العقل في إقدامه إلّا الدخول في النار ، ولا يحكم بدخوله في نارين أحدهما بقطعه ، والاخرى لإقدامه على عمل قبيح وهو إيقاع نفسه في النار ، وتوضيح ذلك كمال الإيضاح مشاركة الحيوانات للإنسان في دفع الضرر عن النفس ، فإنّه يعلم أنّه ليس مبناه اللزوم العقلي المبتني على الحسن والقبح ، بل لأجل جبلّة النفوس على حبّ النفس الباعث على تجنّب الضرر ، وإلّا فليس حفظ الكلب مثلا نفسه عن الوقوع في البئر لأجل خوفه صدور أمر قبيح منه.

فإذا لم يكن مبنى دفع الضرر الحسن والقبح العقليين فليس له وجوب عقلي ، فالتعبير بأنّ دفع الضرر لازم بحكم العقل مسامحة ، والحقّ أنّ الضرر لا يتحمّله الطباع ويفرّون منه بالفطرة والجبلّة ، فالمتحقّق عدم الصدور وعدم الارتكاب دائما لا الوجوب العقلي ، فتحقّق أنّه ليس هنا حكم عقلي حتى يكون مستلزما للشرعي أو موجبا لصحّة العقاب ، هذا كلّه مع قطع النظر عن عمومات حرمة الضرر بحسب الشرع وملاحظة حكم العقل محضا.

وأمّا العمومات المذكورة فهي أيضا غير شاملة للمقام ، وذلك لأنّ الحكم فيها مرتّب على موضوع الضرر يعنى ما يسمّى عرفا ضررا وإلقاء في التهلكة ، مثل شرب السمّ ونحو ذلك ، أمّا مثل المقام ممّا لا يلتفت إلى ضرريّته إلّا أهل المعقول بالدقّة العقليّة ـ فإنّ الضرر الاخروي منتف بالفرض ، كما بيّن في الجواب على التقدير الأوّل ، وأمّا الضرر الكامن في نفس الفعل أو الترك وهو المفسدة فهو غير ملتفت إليه لعامّة أهل العرف ـ فلا يكون النهي عن إلقاء النفس في الضرر شاملا لمثل

٦٤٠