أصول الفقه - ج ١

آية الله الشيخ محمد علي الأراكي

أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمد علي الأراكي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٠٤
الجزء ١ الجزء ٢

بالنسبة إلى هذا الحسّي والوجداني لما كان وجه لذلك إلّا حمل كلامه على تعمّد المكذب المنفي بأدلّة الحجيّة.

وكذلك لا إشكال ظاهرا في عدم ترتّب الأثر المترتّب على التواتر عندنا وإن كان ربّما يتوهّم كونه محلا للإشكال باعتبار أنّه إذا كان الموضوع للأثر هو الثبوت عندنا فلا فرق بين ثبوته بالعلم أو بطريق تعبّدي يقوم مقامه ، فهو كما إذا قال المولى : إذا ثبت عندك قيام زيد فافعل كذا ، فإنّ طريق ثبوت القيام كما يكون بالعلم كذلك يكون بإخبار العادل به ؛ إذ معنى الثبوت هو وجدان الطريق ، فكذا إذا قيل : متى ثبت عندك التواتر فافعل كذا ، فإنّه أيضا يلزم ترتيب هذا الأثر عند إخبار العادل بالتواتر ، فإنّه قد ثبت عندي التواتر بخبر العادل.

ولكنّه توهّم في غير المحلّ ؛ فإنّك قد عرفت أنّ حدّ التواتر ليس بمضبوط ، بأن يكون إخبار الألف مثلا تواترا بحسب نوع الأشخاص ، وإخبار ما دونه لا يكون تواترا بحسب نوعهم ، فإذن فلا بدّ في إحرازه من تحقّق العدد المفيد للعلم عند كلّ شخص حتى ثبت التواتر عنده ، وحينئذ فحال إخبار الناقل عن التواتر غير خارج عن شقّين ، فإنّه إمّا يدّعي بأنّ العدد المفيد للعلم عنده قد تحقّق ، فهذا ليس بموضوع للأثر ؛ إذ قد فرضنا أنّه العدد المفيد للعلم لنا.

وإمّا يدّعي تحقّق العدد المفيد للعلم عندنا ، فلا دليل على التعبد بقوله ، فإنّه لا طريق له إلى وجدان شخص آخر غير نفسه ، وإنّما ذلك حدس منه نظير الحدس الحاصل من مدّعي الإجماع حيث إنّه أيضا يدّعي أنّ هذا ممّا يوجب القطع النوعي ، كمدّعي الظهور النوعي ، لكن قلنا : إنّه مع عدم لزوم كون المدّعى خارجا عن المتعارف حتى يدفع بالأصل يحصل الاختلاف حسب اختلاف الأشخاص ، وبعد عدم شمول الآية إلّا للإخبار عن الحسّ لا ينفى احتمال خطائه في هذا الحدس بأصل عقلائي ولا شرعي.

فإن قلت : نحن نفرض أنّ الناقل قد أحرز من حال المنقول إليه أنّه يقطع بإخبار ألف نفر ، فلو أخبره بهذا العدد فلا بدّ من ثبوت التواتر.

٥٤١

قلت : نعم ولكن يلزم ترتيب آثار الواقعي على هذا أيضا ، ومدّعانا أنّه في مورد يتوقّف في ترتيب آثار الواقع لا يمكن ترتيب آثار التواتر عند المنقول إليه ، فإذا فرضنا أنّ رؤية شخص عدد المخبرين في الكثرة بالغا حدا يحصل منه القطع عادة ليس ملازما عاديا لثبوت نفس الواقع ، وذلك لمدخليّة خصوصيّة الأشخاص في ذلك ، فكما لا يمكن الحكم بثبوت الواقع وترتيب آثاره ، فكذلك لا يمكن الحكم بثبوت التواتر الذي هو العدد الملازم لثبوت الواقع ، فكما يقال : إنّ حدسه في المقام الأوّل لا دليل على اتّباعه ، فكذلك في المقام الثاني بلا فرق ، فدعوى اطّلاعه على وجداننا غير مسموعة منه.

وبالجملة ، فهذا نظير ما إذا رتّب الأثر على نفس العلم ولو على وجه الطريقيّة ، فإنّه لا ريب في أنّ هذا الأثر يتوقّف ترتّبه على حصول العلم لنا بالوجدان ، ولا يكفي إخبار عادل بحصول العلم ، فإنّه إن ادّعى العلم له فلم يتحقّق الموضوع في حقّنا ، وإن ادّعاه لنا فهو مقطوع الخلاف ، فإنّ كلّ أحد أعرف بوجدان نفسه من غيره ، فكيف يكون قوله حجّة مع اطلاعنا على عدم حصوله في وجداننا.

وهكذا الكلام في التواتر ، فإنّه عبارة عن إخبار عدد يوجب الجزم ، ولا ينفك عن الجزم الفعلي ؛ إذ قد فرضنا أنّه لا يستقرّ على عدد معلوم حتى يصير له موضوع خارجي معلوم مثل قيام زيد في المثال ، بل هو دائر مدار حصول العلم ، فيكون مثل نفس العلم ، فلا بدّ من قيام هذا العدد عند كلّ أحد وإفادته للجزم في نفسه ووجدانه حتى يتحقّق عنده موضوع التواتر.

وأمّا مجرّد إخبار عادل بحصول هذا العدد فإن كان مدّعاه حصول ما يفيد الجزم له ، فهذا ليس محقّقا لموضوع التواتر بالنسبة إلى غيره ، وإن كان مدّعاه حصول ما يفيد الجزم لغيره فهذا دعوى لا يسمع من غير من يعلم الغيب.

وإذن فلا إشكال في عدم حجيّة نقل التواتر بالنسبة إلى الآثار المترتّبة على التواتر عند المنقول إليه وإن فرض كون العلم مأخوذا في الموضوع على وجه الطريقيّة دون الصفتية ، بأن كان الموضوع هو العلم بالتواتر بمعنى الطريق إليه.

٥٤٢

وأمّا بالنسبة إلى الآثار المترتّبة على الواقع أعني ما هو المخبر به للتواتر فالكلام في نقل التواتر هو الكلام في الإجماع المنقول حرفا بحرف ؛ فإنّ إخباره عن السبب أعني سبب العلم ليس إلّا عن السبب عند نفس الناقل ، ويحتمل كونه سببا عند المنقول إليه أيضا ، ويحتمل عدمه ، وحينئذ فيؤخذ بالعدد الذي هو المتيقّن من كلامه ، فيكون قوله بالنسبة إلى هذا المقدار حجّة ، فإن أفاد هذا المقدار بنفسه العلم للمنقول إليه لو كان محصّلا له يعامل معه معاملة تمام السبب ، وإلّا فيضم إليه من سائر الأمارات والروايات ما يبلغ به تمام السبب.

«فصل»

«في حجيّة الشهرة»

ممّا قيل باعتباره بالخصوص الشهرة ، واستدلّ له بوجهين :

الأول : أنّ الدليل الدال على حجيّة خبر الثقة يستفاد منه حجيّة الشهرة بطريق أولى ، فإنّ حجيّة الخبر يكون من باب إفادته الظنّ ، ولا شك أنّ الظن الحاصل من الشهرة أقوى من الحاصل عن الخبر.

وتقرير ذلك على نحوين :

الأوّل : أن يكون على نحو فحوى الخطاب.

والثاني : أن يكون على نحو القياس الاولوي القطعي وتنقيح المناط ، والفرق أنّه على الأوّل يكون من باب دلالة اللفظ ، وعلى الثاني يكون من باب إسراء الحكم إلى ما وجد فيه مناطه القطعي ، وهذا الوجه بكلا نحويه باطل.

أمّا الأوّل فواضح ؛ فإنّ المعتبر في الفحوى أن يكون المعنى منفهما عند العرف من اللفظ عند إطلاقه ، بل يكون سوق الكلام لأجل إفادته وكان هو المقصود الأصلي كما في قوله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ) فإنّه يفهم منه عرفا حرمة الضرب ، بل ربّما

٥٤٣

لا يكون المدلول المطابقي ملحوظا أصلا ، كما يقال : لو نظرت إلى ظلّ فلان نظر سوء لأفعلنّ بك كذا ، فإنّ المقصود في الحقيقة ليس النهي عن النظر إلى ظلّه ، بل إيراد أنواع التوهين عليه ، ومن المعلوم أنّه لا يتفوّه أحد مثل ذلك في الشهرة بالنسبة إلى أدلّة حجيّة خبر الثقة ، وأنّى لأحد أن يدّعي أنّ العرف يفهم من قولنا : خبر الثقة حجّة ، أنّ الشهرة أيضا حجّة.

وأمّا الثاني فتماميّته مبتنية على كون المناط لحجيّة خبر الثقة إفادته الظن الفعلي أو النوعي ، وليس كذلك ، بل مناط الحجيّة غلبة المطابقة مع الواقع بحيث كان موارد التخلّف في غاية الندرة ، كما لو كان المتخلّف بين المائة واحدا.

فإن قلت : إنّ العقلاء ـ كالشرع ـ يرون خبر الثقة حجة ، ويرون الشهرة أيضا حجّة ، والفرق بين هذين الظنّين وسائر الظنون الغير الحجّة عندهم ليس لا محالة إلّا من جهة رؤية غلبة المطابقة في هذين دون ذلك ، ولا يخفى أنّ هذا المناط عندهم في الشهرة أقوى من خبر الثقة.

قلت : لو نزّلنا الأدلّة الواردة في حجيّة خبر الثقة على تقرير طريقة العرف ، تمّ ذلك على فرض تسليم ما ذكرت من حجيّة الشهرة عند العقلاء وأتمّية المناط عندهم فيها ، وأمّا لو كانت الأدلّة المذكورة بصدد التأسيس فلا يخفى أنّ إحراز أغلبيّة المطابقة إنّما يكون بنظر العرف ، ولا ملازمة بينها وبين الأغلبيّة بنظر الشرع ، والملاك إنّما هو الثاني.

فإن قلت : إذا احرز الأغلبيّة بنظر العرف فلا محالة يحرز بنظر الشارع ؛ لأنّ هذا معنى الظنّ وإدراك الواقع بطريق الراجح ، وإلّا يلزم التناقض وأنّه رجّح في نظرهم ذلك ، وما رجّح.

قلت : نعم ، ولكن غايته الظن بذلك دون القطع ، فيصير تنقيحا ظنّيا للمناط لا قطعيّا ، ولا دليل على حجيّة هذا الظن ، وذلك لأنّ الإنسان إذا جمع مائة فرد من ظنون الحاصلة في مائة مورد فهو لا يقطع بأنّ المخالف ممّا بين المائة واحد ، بل يحتمل موهوما كون الجميع مخالفا ، نعم يظنّ ذلك ، وهو ما ذكرنا من التنقيح الظنّي ، ثمّ من

٥٤٤

الممكن أن يكون المناط في نظر الشارع لم يكن مطلق الغلبة ، بل الغلبة بالحدّ الخاص ، ومن الممكن عدم بلوغ الغلبة المظنونة لنا في الشهرة ذلك الحدّ ، وبذلك يخرج عن كونه تنقيحا ظنّيا أيضا.

فتحصّل أنّ ملاك الحجيّة في خبر الثقة هو الطريقيّة ، ولكنّ الطريقيّة هناك ليس بمعنى الظنّ الفعلي أو النوعي ، بل المقصود بها هو أنّ الشارع رأى هذا الطريق أغلب مطابقة من غيره فلهذا أوجب العمل به دون غيره ، ولم يحرز هذا المعنى في الشهرة ؛ إذ لا طريق لنا إلى إثبات كون الأغلب من أفرادها مطابقا ، بل يحتمل موهوما أن تكون جميع أفرادها أو غالبها مخالفا ، وعلى تقدير كون غالب أفرادها مطابقا فمن أين نعلم كون الغلبة فيها على حدّ الغلبة في الخبر ، فلعلّ الغلبة في الخبر يكون في نظر الشارع بحدّ ليس بين المائة خبر إلّا مخالف واحد ، وهذا الحدّ له خصوصيّة في نظر الشارع في الحجيّة.

وبالجملة ، من أين لنا سبيل إلى إحراز الغلبة في الشهرة على حذو الغلبة التي رآها الشارع في الخبر بلا تفاوت أصلا؟ وبدون ذلك لا يمكن دعوى القطع بتنقيح المناط ، بل يمكن أن يقال : إنّ مناط الحجيّة ليس هو الأقربيّة إلى الواقع وقلّة التخلّف ، وذلك لأنّ ظواهر الألفاظ عند العقلاء حجّة في تشخيص مراد المتكلّم ، ولو كان الظنّ الفعلي على خلافه من طريق غير معتبر فلا يعتنون بهذا الظن ، حتى لو فرض وجود هذا الظن في غالب موارد الظواهر ، مع أنّه لا يمكن الحكم في تلك الموارد بأنّ المتخلّف في هذا المظنونات المخالفة للظواهر أكثر من المتخلّف في تلك الموهومات الموافقة لها ، فلا بدّ أن يقال : إنّ الأقربيّة المذكورة ليست تمام المناط ، بل لخصوصيّة المورد أيضا دخل تعبّدا عقلانيا.

ألا ترى أنّ الوثوق الحاصل من المخبر بعد الفراغ من إخباره متّبع عندهم ، وأمّا الوثوق الحاصل بأصل صدور الخبر من الخبر لا من قول مخبر بالصدور غير متّبع ، مع أنّهما في ملاك الأقربيّة بنظرهم بمرتبة واحدة.

والوجه الثاني : دلالة مرفوعة زرارة ومقبولة عمر بن حنظلة الواردتين في

٥٤٥

الخبرين المتعارضين على ذلك.

ففي الاولى : «خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر» وجه الاستدلال أنّ المورد وإن كان خصوص الشهرة في الرواية ، ولكنّ العبرة بعموم اللفظ دون خصوص المورد ، فيستفاد من تعليق الحكم بالشهرة كون الشهرة في حدّ نفسها حجّة وإن تحقّقت في الفتوى.

ومنه يعلم وجه الاستدلال بالثانية ؛ فإنّ فيها : «ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه بين أصحابك فيؤخذ به ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه ، وإنّما الامور ثلاثة ، أمر بيّن رشده فيتّبع ، وأمر بيّن غيّه فيجتنب ، وأمر مشكل يردّ حكمه إلى الله ورسوله ، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك الخ».

فإنّ التعليل بأنّ المجمع عليه لا ريب فيه بعد معلوميّة أنّ المراد به المشهور بقرينة قوله : «ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور» أوضح دلالة على المدّعى من الخبر السابق.

وهذا الوجه أيضا باطل ؛ فإنّ فيه.

أوّلا : أنّ خصوصيّة المورد في أمثال ذلك لها مدخليّة عرفا ، ألا ترى أنّه لو سئل عن أحد عن أحبّ الرمّانين إليه فأجاب بما هو أكبر لا يلزم كون كلّ أكبر أحبّ إليه ولو كان يقطينا؟ ، وكذا لو سئل عنه عن أحبّ المسجدين إليه فأجاب بما كان أكثر جمعيّة ، فلا يلزم أحبيّة كلّ مكان كان أكثر جمعيّة ولو كان سوقا أو خانا.

فكذا مورد السؤال في الروايتين الخبران المتعارضان ، فاجيب بوجوب الأخذ بما اشتهر ، فلا ربط له بما اشتهر من الفتوى بينهم. (١)

وثانيا : سلّمنا أنّ لفظ الجواب عام والحكم قد علّق بمطلق الشهرة ، ولكن

__________________

(١) وحاصل هذا الجواب أنّ الخصوصيّة كون الشهرة في الرواية مأخوذة في الجواب ، ونحن إنّما لا نعتني بخصوصيّة المورد مع كون الوارد عامّا ، لا في مثل المقام ، وهذا الجواب مختصّ بالمرفوعة ولا يجري في المقبولة ؛ لعموم العلّة فيها. منه قدس‌سره.

٥٤٦

نقول : إنّ الشهرة الاصطلاحيّة التي هي عبارة عن الكثرة في مقابل القلّة اصطلاح جديد يطلق في مقابل الإجماع ، وإلّا فمعنى هذه اللفظة لغة هو الوضوح والظهور ، يقال : فلان شهر سيفه وسيف شاهر ، يعني برز ، فالمراد بالمشهور في الروايتين هو الواضح الذي يعرفه كلّ أحد ، وهذا داخل في بيّن الرشد ، ومن هنا قال : «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» واستشهد بحديث التثليث ، وهذا المعنى متى يتحقّق لا ريب في حجيّته ، ولكنّه أجنبيّ عن الشهرة.

وثالثا : لو سلّمنا كون الشهرة أعمّ من الفتوائيّة وكون المراد هي الاصطلاحيّة بملاحظة قوله : هما معا مشهوران ، والجواب بالرجوع إلى أعدلهما ، فإنّه مع مقطوعيّة صدور كلّ منهما وعدم الشكّ لا معنى للأخذ بالأعدل كما هو واضح ، ولكن غاية ما يثبت بالروايتين مرجحيّة الشهرة ، ولا منافاة بين كون الشيء مرجّحا وعدم كونه مرجعا بالاستقلال ، ولهذا على مبنى شيخنا المرتضى في الخبرين المتعارضين ـ حيث تعدّى عن المرجّحات المنصوصة إلى كلّ ظنّ حصل من أيّ سبب ، فعند وجود ظنّ على طبق أحد المتعارضين ذهب إلى الأخذ بالطرف المطابق له ـ يكون الظنّ المطلق مرجّحا ، مع عدم قوله قدس‌سره بحجيّته ومرجعيّته.

وبالجملة ، فلا ملازمة بين المعنيين ، والثابت من الروايتين هو المرجحيّة ، فيبقى مرجعيّة الشهرة بلا دليل ، فيكون داخلة تحت الأصل أعني حرمة العمل بالظنّ.

فإن قلت : قوله في المقبولة : «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» بعد فرض كون المراد هو المشهور كما ذكرنا ، ووضوح أنّ المراد بكونه «لا ريب فيه» أيضا لا يمكن كونه كذلك بقول مطلق ، فلا بدّ من إرادة أنّه لا ريب فيه بالإضافة إلى مقابله الذي ليس بمشهور ، ووجه إطلاق «لا ريب فيه» عليه بقول مطلق أنّه ممّا لا ريب فيه عند العقلاء ولا يصير كذلك إلّا مع كون المشهور متّبعا وحجّة عقلائيّة ، فحينئذ يحصل من التعليل أمران : تشخيص صغرى الحجّة العقلائيّة ، وتقرير الشارع هذه الطريقة ، ومن المعلوم أنّ الشهرة مثلا إذا كانت كذلك عند العقلاء كان ذلك مساوقا لحجيّته بالاستقلال.

٥٤٧

قلت : نمنع ذلك ؛ إذ لا يستفاد من الرواية إلّا أنّه ممّا لا ريب فيه في مقام ترجيح أحد المتعارضين لا مطلقا ، ولا غرو في ثبوت ذلك عند العقلاء ، ولهذا تراهم عند تعارض الظهورين يعتمدون على بعض المؤيّدات الموجودة في أحد الجانبين مع عدم اعتمادهم على هذا المؤيّد بالاستقلال.

وقد يجاب بأنّ كون المشهور ممّا لا ريب فيه عقلائيّا مختصّ بالحسيّات ، ولا يورث ظنّا فضلا عن الحجيّة في الحدسيّات.

وفيه أنّ الشهرة في الحدسيّات متّحد الملاك مع الإجماع على مذاق الحدس ، غاية الأمر هي أدون منه مرتبة ، فإنّ اتفاق المشهور من الماهرين في الفتوى واولي الأنظار يورث الظن بأنّ ذلك من جهة وصول الحكم الواقعي إليهم يدا بيد.

وحينئذ فالذي يمكن أن يقال في المقام : إنّ الشهرة لها مراتب فإذا وصلت بالمرتبة التي حصل منها الاطمئنان وسكون النفس فهي حجّة ، وذلك لأنّ الظنّ من أيّ سبب حصل لا يبعد دعوى أنّه مع وصوله بهذا الحدّ حجّة عقلائيّة ، وبضميمة عدم الردع يصير حجّة شرعيّة سواء في الموضوعات أم في الأحكام ، ولكن هذا ليس إثباتا للحجيّة في بعض أقسام الشهرة ، بل الحجّة في الحقيقة هو الاطمئنان ، هذا.

«فصل»

«في حجيّة الخبر الواحد»

من الظنون الخارجة عن الأصل خبر الواحد.

اعلم أنّ ما له نفع كثير في الفقه من الاصول هو [بحث] حجيّة الظواهر وحجيّة الأخبار ؛ فإنّه لا بدّ أوّلا من إحراز حجيّة الأخبار وضمّ حجيّة الظواهر إليه ، ثمّ ننظر أنّه وصل إلى حدّ يكفينا هذا المقدار في الفقه ويوجب انحلال العلم الإجمالي ، أو أنّه

٥٤٨

لا يصل إلى هذا المقدار ، وأمّا حجيّة الظواهر فقط بدون حجيّة الأخبار فلا يكفينا قطعا ، فإنّه حينئذ ينحصر الدليل في ظواهر الكتاب والخبر المتواتر أو المحفوف بالقرينة القطعيّة ، ومن المعلوم قلّة ذلك بحيث لا يفي بمعظم مسائل الفقه ، فيلزم انسداد باب العلم بالنسبة إلى غالب المسائل ، فينتهى إلى القول بحجيّة مطلق الظنّ.

وأمّا بعد الفراغ عن حجيّة الظواهر فلو فرغنا أيضا عن حجيّة سند الأخبار ولم يكن الخبر الذي فرغنا عن حجيّته قليل الفرد ، نادر الوجود ـ كما يقول به صاحبا المدارك والمسالك ، فإنّهما قائلان بحجيّة فرد مخصوص من الخبر وسمّياه بالصحيح الأعلائي وهو ما يكون جميع رجال السند فيه عدلا إماميّا إلى أن ينتهى إلى المعصوم ، فإنّ من المعلوم ندرة وجود ذلك في الأخبار ـ بل كان شائعا بين الأخبار مثل خبر الثقة ، فإنّ الوثوق يجتمع مع فساد المذهب ومع عدم العدالة.

فحينئذ لو رأينا في الفقه أنّه يوجد لنا خبر الثقة بالنسبة إلى غالب الأحكام بحيث ينحّل علمنا الإجمالي ولا يوجب العمل بالأصل في ما عداه خروجا عن الدين فلا يلزم القول بحجيّة الظنّ المطلق.

إذا عرفت هذا فنقول : إذا وجدنا خبر واحد غير مقطوع الصدور وله ظاهر فالحكم بأنّ ما يستفاد منه بحسب ظاهره هو حكم الله تعالى يتوقّف على مقدّمات فرغنا عن بعضها في علم الكلام ، مثل إثبات الصانع والنبي والوصي ، فقول الصادق صلوات الله عليه مثلا لكونه مفترض الطاعة يجب العمل به ، وبعد المقدّمات المفروغ عنها في الكلام يتوقّف على مقدّمات أربع :

الاولى : أنّ هذا الخبر صادر عن الإمام عليه‌السلام.

والثانية : إحراز معاني ألفاظ الخبر وما هو المفهوم منها عرفا.

والثالثة : إحراز كون هذا المفهوم والظاهر لدى العرف مراد.

والرابعة : أنّ هذا المراد مطابق للحكم الواقعي اللوح المحفوظي ، وبعبارة اخرى : كان الداعي إلى إظهاره بيان لحكم الله الواقعي لا التقيّة والخوف ، فإنّه قد يكون

٥٤٩

الظاهر من اللفظ مستعملا فيه ومرادا جدّيا ، لكن الداعي إليه الخوف أو التقيّة دون بيان الواقع اللوح المحفوظي.

فالمقدّمة الثانية قد عرفت حالها وأنّ طريق إحراز الظواهر منحصر في القطع وإثباتها بقول اللغوي محلّ إشكال والمقدّمة الثالثة أيضا قد مرّ البحث فيها في حجيّة الظواهر وأنّ إثباتها بالظواهر لا إشكال فيه. والمقدّمة الرابعة أيضا يمكن إحرازها بالأصل العقلائي ، فإنّهم متّفقون على حمل كلام المتكلّم صادرا لغرض بيان المطلوب الواقعي لا لتقيّة أو خوف ، وليس هو أصالة تطابق الإرادتين الاستعماليّة والجديّة ، بل بعد إجرائها وإحراز التطابق يكون هنا أصل آخر وهو أنّ الداعي إلى إظهار هذا المراد الجدّي هو بيان الواقع دون التقيّة (١) والخوف ونحوهما.

فيبقى المقدمة الاولى هي : إثبات الصدور ولو تعبّدا ، وهي التي عقد هذا المبحث لها، ثمّ تعرّض هنا شيخنا المرتضى لإثبات كون المسألة اصوليّة ببيان أنّ البحث راجع إلى أنّه هل السنّة الواقعيّة أعني قول المعصوم وفعله وتقريره التي هي مفروغ عن دليليّته يثبت بخبر الواحد أولا؟ فعلى المشهور من كون مسائل الاصول باحثة عن أحوال الأدلّة بعنوان كونها أدلّة وبعد الفراغ عن ذلك يتّضح كون هذه المسألة اصوليّة ، ولا يحتاج إلى جعل الموضوع خبر الواحد الذي هو الموضوع الذي يحتاج إلى البحث عن دليليّته وتجشّم أنّ المراد بالأدلّة في الموضوع ذاتها ، ليرجع البحث عن الدليليّة إلى البحث عن أحوال الموضوع.

واستشكل عليه قدس‌سره بأنّ مسائل العلم لا بدّ وأن يكون باحثة عما يعرض بموضوعه ، بعد الفراغ عن وجوده وثبوته ، وبعبارة اخرى عمّا يثبت له ثبوت شيء

__________________

(١) وليعلم أنّ المقصود تقيّة نفس الإمام في بيان الحكم بأن يبين خلاف الواقع لخوفه عليه‌السلام عن الظالمين ، لا أن يكون الداعي تقيّة غيره بأن يبيّن حكم عامّة الشيعة المبتلين بالتقيّة ، فتبصّر. منه عفي عنه وعن والديه

٥٥٠

لشيء الذي هو مفاد كان الناقصة ، فالبحث عن أصل ثبوت الموضوع الذي هو مفاد كان التامّة يخرج عن المسائل ويندرج في المبادي.

واجيب بأنّ الثبوت الذي هو مفاد كان التامّة إنّما هو الثبوت الوجداني ، وأمّا الثبوت التعبّدي الذي هو المبحوث عنه هنا فهو من مفاد كان الناقصة كما هو واضح.

واجيب عن هذا الجواب بأنّ هذا وإن كان مفاد كان الناقصة ، لكنّه ليس من عوارض السنّة الواقعيّة المحكيّة بخبر الواحد ، بل من عوارض نفس الحاكي الذي هو الخبر ، فإنّ معنى الحجيّة أنّه يجب العمل بالخبر والحكم بمطابقة مؤدّاه مع الحكم الواقعي والسنّة الواقعيّة.

قلت : لو سلّمنا عدم ورود هذا الإشكال وأنّ البحث عن الحجيّة يرجع إلى البحث عن أحوال الدليل نقول : إن أمكن إتمام هذا المعنى أعني وجوب إرجاع كلّ مسألة إلى البحث عن أحوال الدليل في تمام مسائل الفن فهو ، ولكن لا يتمّ ذلك فإنّ الموضوع في مسألة الاستصحاب وأصل البراءة هو الشكّ في التكليف مع الحالة السابقة أو مع عدمها ، أو فعل المكلّف في الحالين ، وليس ذلك واحدا من الأدلّة لا بعنوانها ولا بذاتها.

وأيضا فلا بدّ من ملاحظة أنّ موضع الذي نتكلّم فيه ونرد السلب والإثبات عليه في المسألة ما ذا ، وهو في مسألة حجيّة خبر الواحد ، خبر الواحد ، فلا داعي إلى إخراجه عن وضعه وإرجاعه إلى البحث عن أنّ السنّة الواقعيّة هل يثبت بخبر الواحد أولا ، بل نسبة هذه المسائل بالمسائل الفقهيّة ، فإنّها بحث عن الحكم الفرعي ووجوب العمل بالحالة السابقة أو بمضمون الخبر ، أو إباحة الفعل والترك ، وهذا الحكم مستفاد من الأدلّة التفصيليّة أيضا من الآية والخبر والعقل ، وموضوعها أيضا فعل المكلّف ، فينطبق عليها تعريف الفقه الذي هو العلم بالأحكام الفرعيّة عن أدلّتها التفصيليّة.

وحينئذ فيجب رفع اليد عن هذا الميزان أعني كون ميزان الاصوليّة رجوع

٥٥١

البحث في المسألة إلى البحث عن أحوال واحد من الأدلّة إمّا بعنوانها أو بذاتها والرجوع إلى ميزان آخر وهو أنّ الاصول هو العلم بالقواعد الممهّدة لكشف الحال بالنسبة إلى الأحكام الواقعيّة.

وبعبارة اخرى نتيجة هذه القواعد مفيدة بحال تلك الأحكام إمّا علما بها ، وإمّا تنجيزا لها ، وإمّا عذرا عنها على تقدير الثبوت ، يعني ثبوت الإلزام في الواقع.

أقول : لا بأس بتفصيل الكلام في هذا المرام وإن تقدّم الكلام فيه في أوّل الشروع في الفن ، فنقول : إنّ القوم جعلوا موضوع الاصول الأدلّة الأربعة فاستشكل عليهم بأنّه على هذا يلزم خروج جلّ المسائل لو لا كلّها عن كونها مسائل الفن واندراجها في المبادي ، وذلك لأنّ البعض الذي يكون مباديا للعلم من قبيل المبادي اللغوية واضح كونها من المبادي.

وأمّا البعض الذي يحسب من المسائل فلا إشكال أنّ البحث في شيء منها ليس عن عوارض الأدلّة بعد الفراغ عن كونها أدلّة ، وإنّما يبحث فيها عن الدليليّة إلّا مباحث التعادل والتراجيح ، فإنّها باحثة عن أحوال الدليل بعد إثبات دليليّته ، مع أنّه يمكن أن يقال : إنّ البحث فيها أيضا عن الدليليّة ، ضرورة أنّه يبحث فيها عن أنّ الدليل عند تعارض الدليلين ما هو ، هل هو شيء ثالث ، أو الأقوى منهما أو الأرجح أو أحدهما ، فالبحث إنّما هو عن الدليليّة في هذا الحال ، وإذن فلا يبقى من المسائل ما كان مسألة ويلزم اندراج الجميع في جملة المبادي.

فأجاب بعضهم عن هذا الإشكال بأنّ المراد بالأدلّة التي جعلناها موضوعة هي ذواتها لا هي بوصف كونها أدلّة ، ولا يشكل بأنّ ذواتها متباينة بالحقيقة ، فإنّه يقال : نعم لكنّها مندرجة تحت جامع مثل عنوان الذوات التي يمكن البحث فيها عن الدليليّة ، وعلى هذا فيكون البحث عن الدليليّة بحثا عن عوارض هذه الذوات.

وحاول شيخنا المرتضى تصحيح الحال مع محفوظيّة كون الأدلّة بوصف أنّها أدلّة موضوعة للاصول بدون الحاجة إلى تجشّم أنّ المراد ذاتها بما عرفت من التوجيه.

٥٥٢

وفيه أيضا بعد تسليمه أنّ هذا لا يتمّ في الاصول العمليّة ؛ فإنّ موضوع مسألة الاستصحاب ليس هو السنة وإن قلنا باعتباره من باب الأخبار ، لوضوح أنّه على هذا يكون البحث عن دلالة «لا تنقض» من أجل كونه مدركا للمسألة ، وإلّا فليس العنوان الذي هو المطرح في أوّل هذه المسألة أنّه : هل يكون لقوله عليه‌السلام : «لا تنقض» الخ دلالة أولا؟ بل ما يعنون في صدر الباب أنّ الشكّ في الشيء بعد العلم بتحقّقه سابقا يوجب البناء على بقائه أولا.

ثمّ قد يجعل المدرك للأوّل دلالة هذا الخبر ، وقد يجعل العقل ، فالموضوع هو الشكّ الذي له حالة سابقة ، كيف ولو كان البحث عن دلالة «لا تنقض» موجبا لجعله بحثا عن أحوال السنّة لزم دخول تمام مسائل الفقه ، فإنّها أيضا مشتملة على البحث عن دلالة الأدلّة ، وكذلك الكلام في سائر الاصول العمليّة.

وحينئذ نقول : قد عرّف الفقه بأنّه العلم بالأحكام الشرعيّة الفرعيّة عن أدلّتها التفصيليّة ، وجعل موضوعه فعل المكلّف ، وأنت خبير بأنّه يمكن جعل مسألة الاستصحاب من هذا القبيل ، فإنّ البحث فيه عن حكم شرعي مأخوذ عن الأدلّة التفصيليّة وهو وجوب البناء على الحالة السابقة وعدمه ، وموضوعه فعل المكلّف وهو البناء على الحالة السابقة. بل يمكن ذلك أيضا في حجيّة الأمارات وحجيّة الظواهر ، فإنّ البحث عن حجيّة خبر الواحد مثلا ، بناء على أنّ الحجيّة ليست أمرا آخر وراء وجوب العمل على طبق خبر الواحد بحث عن حكم شرعي ، وموضوعه عمل المكلّف ، وهكذا حجيّة الظواهر.

ونحن نذكر أوّلا ما هو وجه التمييز والفرق بين علمي الاصول والفقه ثمّ نشير إلى ما هو الموضوع لهذا العلم ، فنقول : لا إشكال أنّ لله تعالى في كلّ واقعة حكما واقعيّا ثابتا في اللوح يعبّر عنها بالأحكام الواقعيّة الأوّليّة ، وهي مطلوبة بنفسها وليس ما وراءها حكم آخر يكون الغرض من جعلها ملاحظة ذاك الحكم ، وإنّما الغرض من جعلها نفسها ، مثل حرمة الخمر ووجوب الصلاة ، فالشارع جعل حرمة

٥٥٣

الخمر لأجل نفسه والمفاسد الكامنة في الخمر ، وكذا جعل وجوب الصلاة لأجل نفسها والمصالح الكامنة في الصلاة ، لا أن كان مطلوبه وملحوظه في جعلهما حكما آخر ورائهما.

ثمّ تبيّن حال المكلّف بالنسبة إلى هذه الأحكام يحتاج إلى مقدّمات مثل النحو والصرف واللغة وحجيّة خبر الواحد ، وغير ذلك ، فإنّ المكلّف في طريق استكشاف تلك الأحكام يحتاج إلى العلوم الثلاثة لفهم معانى ألفاظ الكتاب والسنّة ، وكذلك يحتاج إلى مقدّمات أخر ، فإنّه قد لا يظفر بشيء في طريق استكشاف الواقع ويبقى في الشكّ والتحيّر فيحتاج إلى قواعد من الشرع أو العقل تبيّن حاله عند الشكّ والتحيّر.

وعلى هذا فكلّ مسألة متى بلغنا بعد إمعان النظر فيها وبذل الوسع إلى نتيجة تكون هذه النتيجة حكما شرعيّا وليس مجعولا إلّا بملاحظة نفسه لا بملاحظة شيء آخر فهي مسألة فقهيّة ، مثل قاعدة كلّ ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ، فإنّه قاعدة مطلوبة لنفسها وليس المطلوب منها كشف الحال بالنسبة إلى حكم آخر ورائه.

وكلّ مسألة وصلنا بعد طيّ طريق الاحتجاج والاستدلال فيها إلى نتيجة هي مجعولة بلحاظ حكم وراءه لا لأجل نفسه ، فهي مسألة اصوليّة مثل مسألة حجيّة خبر الواحد ، فإنّا وإن قلنا بأنّ الحجّة ليست إلّا وجوب العمل ، لكن لا إشكال أنّه ليس مجعولا على حذو وجوب الصلاة وكون نفسه عملا مطلوبا للشارع ، بل هنا واقع محجوب مستور تحت الحجاب ، وهذا الخبر إمّا مطابق له ، وإمّا مخالف ، فالشارع جعل هذا الوجوب ملاحظة لحال ذاك الواقع المستور ، فإن طابقه يكون التارك له مستحقّا للعقاب ولا عذر له في ترك الواقع ، وإن خالفه يكون العامل به معذورا على ترك الواقع.

وكذلك الاستصحاب ، فإنّ البناء على الحالة السابقة ليس له عند الشارع مطلوبيّة نفسيّة ، وإنّما جعله واجبا على المكلّف إمّا لسقوط عذره بالنسبة إلى الواقع

٥٥٤

لو ترك العمل مع الموافقة ، أو كونه معذورا لو عمل مع المخالفة ، وكذلك البراءة في الشك بعد الفحص ، فإنّها أيضا مجعولة لأجل الأحكام الواقعيّة وسقوطها عن المكلّف على تقدير الثبوت.

ومن هنا يعلم عدم تماميّة ما ذكره شيخنا المرتضى قدس‌سره في مسألة الاستصحاب في مقام تعيين المعيار لكون المسألة اصوليّة أو فقهيّة ، من أنّه إن كانت ثمرة المسألة نافعة بحال المجتهد والمقلّد على السواء فالمسألة فقهيّة ، وإن لم ينفع ثمرتها إلّا للمجتهد فهي اصوليّة ، مثلا حجيّة خبر الواحد لا ينفع للمقلّد إلّا بواسطة التقليد عن المجتهد ، وليس له العمل به بلا واسطة ، كما هو الحال في حرمة الخمر إذا تلقّاها من المجتهد ، فإنّك تعلم أنّ هذا ليس معيارا ، فإنّ القاعدة المتقدّمة أعني قولنا : كلّ ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ، لا إشكال في كونها قاعدة فقهيّة ، ومع ذلك لا يمكن رجوع المقلّد إليها ، بل هي مرجع للمجتهد لا غير ، لأنّه متمكّن من تشخيص صغراها لا غير.

ثمّ نقول في مقام تشخيص الموضوع : إنّ بعض مقدّمات استكشاف الواقع قد دوّنوه في علوم آخر مثل مسائل النحو والصرف واللغة ، فإنّهم ـ شكر الله مساعيهم ـ وإن دوّنوها لأجل غرض آخر ، لكن يكفي لمهمّنا ، فبقي أشياء أخر نحتاج إليها في تحصيل هذا الغرض ، فهي دوّنت في هذا العلم وسميّت بالاصول ، وهذه المسائل لها موضوعات شتّى ، وحينئذ لا داعي لنا إلى جعل الموضوع شيئا واحدا ، بل نجعل هذه المتشتتات موضوعا للاصول ، وبينها جامع لا محالة على ما تقرّر في المعقول من عدم إمكان انتهاء غرض واحد ونتيجة واحدة إلى أشياء متعدّدة ، ولسنا بصدد تعيين الإسم لهذا الجامع.

ومن هنا علمت أنّ تمايز العلوم ليس بتمايز الموضوعات ، كما أنّ وحدتها لا تكون بوحدتها ، ألا ترى أنّ علمي النحو والصرف علمان ومع ذلك يكون لهما موضوع واحد وهو الكلمة والكلام.

٥٥٥

فإن قلت : قد جعلوا موضوع الأوّل هما من حيث الإعراب والبناء ، وموضوع الآخر هما من حيث الصحّة والاعتلال تحفّظا لتلك القاعدة.

قلت : لا إشكال في أنّ الإعراب والبناء من مسائل النحو ، وكذا الصحّة والاعتلال من مسائل الصرف ، فكيف يجعل ما هو من المسائل داخلا في الموضوع؟ فالتمايز ليس إلّا بتمايز الغرضين ، فالمسائل المدوّنة لأجل غرض واحد يكون علما واحدا وإن كان موضوعها متعدّدا ، والمسائل المتعلّقة بموضوع واحد يعدّ علمين إذا كان تدوينها لغرضين ، فعلم أنّ في مسألتنا لا حاجة إلى جعل الموضوع ذات الأدلّة ليصير البحث عن الدليليّة بحثا عن أحوال الدليل ، ولا إلى جعل الموضوع هو السنّة الواقعيّة ، بل الموضوع خبر الواحد.

إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم أنّه قد اختلف في حجيّة خبر الواحد ، فالمنقول عن السيّد المرتضى والقاضي وابن زهرة والطبرسي وابن إدريس عدمها ، والمشهور على الحجيّة.

واستدلّ للمانعين بالأدلّة الثلاثة ، أمّا الكتاب فالآيات الناهية عن العمل بغير العلم والظن ، والتعليل الواقع في آية النبأ ، حيث يستفاد منه النهي عن كلّ ما يوجب خوف الوقوع في خلاف الواقع وفي الندم ، وهو موجود في كلّ ما ليس بعلم.

وأمّا السنّة فأخبار كثيرة بالغة حد التواتر الإجمالي الناهية عن العمل بما لا يوافق الكتاب ، وما خالفه ، وما ليس له شاهد أو شاهدان في الكتاب أو السنّة المعلومة ، فيعلم منها المنع عن العمل بالخبر المجرّد عن القرينة.

وأمّا الإجماع فقد ادّعاه سيّدنا المرتضى حتى أنّه جعل بطلان العمل بخبر الواحد معلوما من مذهب الشيعة كمعلوميّة بطلان القياس.

والجواب أمّا عن الآيات الناهية عن العمل بالظن وما عدى العلم فهو أنّ هذه الآيات ليست إلّا عمومات ، والأدلّة التي نقيمها على الحجيّة مخصّصة لها ، بل نقول : إنّ تلك الأدلّة حاكمة على هذه الآيات ، فإنّ الخبر بعد ما صار حجّة لا يكون العمل

٥٥٦

به عملا بغير العلم ؛ إذ معنى الحجيّة جعله بمنزلة العلم ، فالعمل به عمل بالعلم تنزيلا وإن كان عملا بغيره حقيقة ولغة ، فتكون أدلّة الحجيّة حاكمة على تلك الآيات وهو أقوى من المخصّص.

وأمّا عن التعليل فيظهر الجواب عنه عند البحث عن دلالة آية النبإ ، ومحصّله أنّ مدلول التعليل ليس إلّا المنع عن العمل السفهائي الناشي عن جهالة ، فإنّ صاحب هذا العمل يقع في الندم عند كشف الخلاف ، وأمّا إذا كان العمل عقلائيّا فليس متعقّبا بالندم وإن انكشف خلافه ، ونحن إذا جعلنا خبر الواحد حجّة بالسيرة أو بناء العقلاء أو التعبّد الشرعي يصير العمل به من الأفعال العقلائيّة ، فلا يتعقّبه الندم وإن ظهر الخلاف ، فعلم أنّ أدلّة حجيّة الخبر واردة على التعليل المذكور ورافعة لموضوعه حقيقة ، وهو اقوى من المخصّص والحاكم.

وأمّا عن الأخبار المذكورة فهي ليست متواترة لا لفظا ولا معنى بأن يكون لفظ واحد منقولا بالتواتر ، أو مضمون واحد منقولا بألفاظ مختلفة ، كشجاعة الأمير عليه‌السلام ، وهذه ليست لا متواترا بحسب اللفظ ولا بحسب المضمون ، نعم هي متواترة إجمالا بمعنى أنّها بالغة عددا يحصل القطع بعدم كذب جميعها ، مثلا إذا نقلت إلينا مائة أخبار يحصل لنا القطع بعدم كذب تمام المائة ونقطع بوجود الخبر الصادر في ما بينها ، وحينئذ لو لم يكن بين تلك المائة قدر جامع لم ينتج في مقام العمل ، وأمّا لو كان يجب العمل بالأخصّ مضمونا من تلك الأخبار ، فإنّ الصادر إن كان هو فهو ، وإن كان الأعم فالأعمّ موجود في الاخصّ ، فالعمل بالأخصّ متعيّن على أيّ حال.

فنقول : هذه الأخبار بين ثلاث طوائف :

الاولى : ما يكون واردا لبيان الحال عند التعارض وأنّ ما لا يوافق الكتاب يجب طرحه.

والثانية : ما اشتمل على طرح ما لا يوافق الكتاب على الإطلاق من دون تقييد بصورة التعارض ، فيشمل بإطلاقه الخبر الغير الموافق الذي لا معارض له.

٥٥٧

والثالثة : ما يشتمل على الأمر بطرح ما خالف الكتاب.

أمّا الاولى : فالجواب عنها واضح ، فإنّ موردها صورة التعارض ، فلا عموم ولا إطلاق لها بالنسبة إلى غيرها ، فكأنّه قيل : الخبران المتعارضان يجب الأخذ بما يوافق الكتاب منهما ، وبعبارة اخرى : لا يلزم من المرجحيّة لدى التعارض سقوط ما لا يوافق عن المرجعيّة مع عدمه ، واختصاص المرجعيّة أيضا بما يوافق ، فربّما يكون الشيء مرجّحا ولا دخل له في المرجعيّة.

وأمّا الطائفتان الاخريان فالقطع حاصل بوجود الصادر في ما بينها ، لكثرة مجموع الطائفتين ، فلاحظ الوسائل في كتاب القضاء ، وأخصّهما مضمونا هو الطائفة الثانية اعني الآمرة بطرح ما خالف الكتاب ، فإنّ عدم الموافقة كما يصدق مع وجود خلاف الحكم في الكتاب ، كذلك يصدق مع عدم وجوده ولا وجود خلافه رأسا في الكتاب بحسب ظاهره ، دون باطنه الذي علمه لدى الإمام عليه‌السلام ، فيكون هذا المعنى منطبقا على المخالفة أيضا.

فنقول : غاية ما يثبت بتلك الأخبار طرح خبر الواحد الموجود خلاف مضمونه في القرآن ، وأين هذا من خبر الواحد الوارد في مسألة الشكّ بين الثلاث والأربع في الصلاة التي لا عين ولا أثر لها في القرآن ونحوها من المسائل الغير الموجودة فيه؟ وهذا المقدار يكفي في المطلوب ، فإنّ مطلوبنا إثبات الحجيّة بالإيجاب الجزئي في قبال السلب الكلّي.

وأمّا المخالفة على وجه العموم والخصوص دون التباين الكلّي فربّما يتوهّم شمول هذه الأخبار لها محتجّا بأنّ المخالفة على وجه التباين الكلّي لا يصدر من الكذّابين ، ضرورة أنّه لو جاء أحد وقال : إنّ الصادق قال : يا أيّها الذين آمنوا لا يجب عليكم الوفاء بالعقود ، لا يسمع منه أحد ، فلا يصدر منهم إلّا المخالفة على وجه العموم والخصوص ، فلا بدّ من عموم تلك الأخبار لتلك المخالفة ، لئلا يلزم الحمل على الفرد النادر أو المعدوم.

٥٥٨

وفيه أنّا نقطع بصدور المخالفة على هذا الوجه منهم عليهم‌السلام كثيرا كما في البيع الغرري، ومنع الزوجة عن العقار ، واختصاص الولد الأكبر بالحبوة ، وغير ذلك ممّا ورد التخصيص في عموم الكتاب بالسنّة والأخبار المرويّة عن الأئمة عليهم‌السلام.

فعلى ما ذكر من شمول الأخبار المذكورة للمخالفة على هذا النحو يلزم كون ذلك تخصيصا فيها ، وكلّ أحد يعلم أنّها آبية عن التخصيص ، فإنّ المعصوم عليه‌السلام في مقام التحاشي عن التحديث والقول بما لا يوافق الكتاب والأمر باتّقاء الله من نسبة ذلك إليهم وكونه زخرفا وباطلا.

وكيف يظنّ أحد إمكان تعقيب هذه المضامين بالاستثناء ولو بالنسبة إلى مورد واحد أو موردين ، فكيف بهذه الأخبار الكثيرة في الموارد الكثيرة ، فيتعيّن حمل هذه الأخبار على المخالفة بنحو التباين الكلّي ، مضافا إلى أنّ الطائفة الآمرة بطرح ما لا يوافق أيضا يمكن إرجاعها بحسب المضمون إلى الطائفة الاخرى ، وأنّ المفهوم عرفا من عدم الموافقة هو المخالفة وإن كان بحسب اللغة أعمّ.

ألا ترى أنّه إذا قيل : فلان لا يوافق ميلى في أفعاله ، يشمل بحسب اللغة ما إذا لم يكن لك ميل أصلا ، أو كان على الخلاف ، ولكنّ العرف يفهمون منه الثاني ، وحينئذ فتصير متواترة مضمونا ومعنى ، ويكون مؤدّى الكلّ لزوم طرح الخبر المخالف للقرآن على وجه التباين الكلّي.

وأمّا ما ذكر في الاحتجاج على شمولها للمخالفة من حيث العموم والخصوص بأنّه يلزم على تقدير عدمه حملها على الفرد النادر أو المعدوم ، فالجواب : أنّه لا بعد في صدور المخالفة بنحو التباين الكلّي عن الكذابة إذا كان جعلهم إيّاها بنحو الدّس في كتب أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام ، نعم لا يتصوّر صدورها منهم إذا أسندوا الرواية إلى أنفسهم ، ولكن بنحو الدسّ ممكن ، والداعي لهم إلى ذلك تخفيف الأئمّة في أنظار عوام الشيعة ، وإظهار أنّهم عليهم‌السلام ما كانوا بصيرين بآيات القرآن ـ العياذ

٥٥٩

بالله ـ حتّى صدر منهم مخالفتها بهذا الوجه.

وأمّا عن إجماع سيّدنا المرتضى فهو أنّ هذه الدعوى ليست ممّا انفرد به السيّد قدس‌سره ، بل كلّ أحد يعترف بها بأدنى تأمّل في حال أصحاب الأئمّة ، فإنّهم حيث كانوا مبتلين بمعاشرة العامّة ، فلهذا صاروا هم السبب لأن يشتهر وينتشر بين المخالفين أنّهم غير عاملين بخبر الواحد ، ولا يجوز ذلك في مذهبهم كالقياس حتّى يصير ذلك مغروسا في أذهان مخالفيهم ، حتى إذا جاء أحد منهم بخبر إلى الشيعة عن أئمّتهم ، كان عذرهم في عدم قبوله كونه خبر واحد ، فهذا الإجماع ـ أعني عدم جواز العمل بخبر الواحد من دون تقييده بغير الإمامي أو بغير العدل أو الثقة ـ صدر منهم لمصلحة.

وبهذا يجمع بين إجماع سيّدنا المرتضى ، بل دعواه لضرورة المذهب على المنع وبين إجماع شيخنا المرتضى ، بل دعواه ضرورة المذهب على الجواز ، فإنّهم كانوا مجمعين على منع العمل بخبر الواحد بقول مطلق في الظاهر ، وكانوا مجمعين على جواز العمل بخبر الواحد الإمامي في الباطن.

وأمّا حجج المجوّزين فالأدلّة الأربعة ، أمّا الكتاب فآيات ، ومن جملة الآيات التي استدلّ بها على الجواز آية النبأ وهو قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا).

تقريب الاستدلال بهذه الآية يكون من ثلاثة وجوه :

الأوّل : بمفهوم الشرط ، فإنّ مفهومه أنّه : إن لم يجئكم فاسق النبإ فلا يجب التبيّن ، يعني إن جاءكم عادل به فلا يجب التبيّن ، وهذا الوجه على ما قرّره القدماء محتاج إلى ضمّ مقدّمة اخرى وهي أنّه بعد نفي وجوب التبيّن في خبر العادل بمقتضى المفهوم إمّا يردّ بدون التبين ، وإمّا يقبل كذلك ، وحيث إنّ الأوّل باطل ؛ إذ يلزم أن يكون العادل أسوأ حالا من الفاسق ، فيتعيّن الثاني وهو المطلوب ، لكن قد كفانا مئونة هذه المقدّمة شيخنا المرتضى جزاه الله خيرا ببيان : أن ليس المراد في الآية الوجوب

٥٦٠