أصول الفقه - ج ١

آية الله الشيخ محمد علي الأراكي

أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمد علي الأراكي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٠٤
الجزء ١ الجزء ٢

ملحوظة على وجه الاستقلال بأن كان المفاد هو جواز إتيان الحرث في كلّ زمان ، فحينئذ يكون المرجع عموم هذه الآية ؛ فإنّه قد استغرقت جميع الأزمان ومن جملتها الزمان بين النقاء والغسل ، وخرج عنه بقضيّة الخاص زمان التلبّس بالحيض ، فيبقى الباقي تحت العموم.

وإن قلنا بعدم إرادته العموم الزماني إمّا بكون كلمة «أنّى» ظرفية مكانيّة ، أو كانت للزمان لكن لوحظ الزمان قطعة واحدة وجعل ظرفا للحكم واستمرّ الحكم باستمراره ، لا أن يكون قد لوحظ كلّ زمان مستقلا ، فالمرجع قاعدة استصحاب حكم المخصّص.

والحاصل أنّ هنا ثلاث صور :

الاولى : أن نقول بتواتر القراءات ، وحينئذ فكأنّ كلّ قراءة منزلة من السماء ، فإن كان في البين أظهر أو نصّ يحكّم على غيره.

والثانية : أن لا نقول بتواترها ولكن قلنا : يجوز الاستدلال واستفادة الأحكام بكلّ قراءة كما يجوز القراءة ، وحينئذ فكلّ قراءة منزلة من السماء تعبّدا قراءة وعملا ، فإن كان في البين أظهر أو نص يحكّم أيضا على غيره.

والثالثة : أن لا نقول لا بالتواتر ولا بجواز الاستدلال ، وأنّ الثابت جواز القراءة ، فكلّ قراءة بمنزلة المنزل من السماء قراءة لا عملا ، وحينئذ لا يجوز التمسّك بالنص والأظهر لو كان أيضا ؛ لاحتمال عدم القرآنيّة.

ففي جميع صور الصورة الأخيرة وفي صورة عدم النص والأظهر من الصورتين الاوليين لا بدّ من الرجوع إلى قاعدة اخرى ، ولا يلاحظ علاج الخبرين المتعارضين بين القراءتين في الصورتين الاوليين ؛ فإنّ الأمارة إذا تعارضت بأمارة اخرى فمقتضى القاعدة هو التساقط والتماس دليل آخر ، وأمّا عدم الخروج عنها إمّا بترجيح إحداهما لو كان مرجّح ، وإمّا بالتخيير بينهما عند فقده فهو خلاف القاعدة ؛ فإنّ المرجّح أيضا إن كان أمارة مستقلّة فهو المرجع ، وإلّا فكونه مرجّحا خلاف القاعدة ، فيقتصر في ذلك على مورد الأخبار العلاجيّة وهو الخبران المتعارضان.

٥٢١

وبالجملة ، ففي القراءتين المتعارضتين مفادا وعملا لا بدّ في جميع صور الصورة الأخيرة وصورة عدم الأظهر والنص من الصورتين الاوليين من الرجوع إلى القاعدة وهو مختلف على المبنيين ؛ لأنّه إن قلنا بأنّ كلمة «أنّى» في آية (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) زمانيّة واستيعابيّة فالمرجع هو العموم الزماني ، وإن قلنا بأنّه غير زمانيّة أو غير استيعابيّة فالمرجع قاعدة استصحاب حكم المخصّص.

وهذا نظير ما ذكره شيخنا المرتضى في رسائله ومكاسبه تعرّضا على المحقّق الكركي في باب الخيارات الحادثة في البين وبعد حدوث العقد ، مثل خيار تلقّي الركبان عند الاطّلاع على سعر البلد في مسألة أنّه هل بعد مضيّ الزمان بقدر الفسخ يبقي خيار أولا؟ فإنّه قد اختار المحقّق الفوريّة مستدلا بآية (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) فإنّه يدّل على وجوب الوفاء في تمام الأزمان ، خرج زمان الفسخ بالدليل ، فيبقى الباقي تحت هذا العموم.

واعترض عليه شيخنا بأنّه فرع أن يكون في الآية عموم بالنسبة إلى الأزمنة ، كما أنّ له عموما بالنسبة إلى أفراد العقود ، وليس كذلك ؛ إذ ليس في الآية تقييد بالزمان ، بل هو حكم واحد ممتدّ بامتداد الزمان ، والمفروض أنّه انقطع في جزء من الزمان ، وبعده يحتاج إثباته إلى دليل آخر ، فليس من مقام الرجوع إلى العموم ، بل المرجع استصحاب حكم المخصّص.

توضيح المقام أنّ الاختلاف ينشأ من ناحية الجاعل وكيفيّة جعله وإنشائه ، فقد يجعل هو حكمه بحيث يجعل كلّ زمان زمان موضوعا مستقلا في عالم فرضه ، فينحلّ الحكم بحسب هذا الجعل إلى أحكام عديدة بحسب قطعات الزمان ، وقد يجعل في عالم الفرض حكما واحدا ويلاحظ الزمان شيئا واحدا فيمتدّ هذا الحكم الواحد بامتداد الزمان ما دام موضوعه باقيا.

فلازم الصورة الاولى أنّ الحكم متى ارتفع في زمان بدليل خاص يثبت بعد ذلك الزمان بقضيّة العموم ، ولازم الثاني أنّه لو انقطع حكمه وزال استمراره في زمان فهذا الحكم الواحد المستمرّ قد انقطع استمراره إلى هنا بالدليل ، ولا دليل على ثبوت

٥٢٢

حكم جديد ثانيا كان مبدؤه ما بعد هذا الزمان.

مثلا تارة يقول : أكرم العلماء في كلّ زمان ، وحينئذ لو قام إجماع على عدم وجوب إكرام زيد العالم يوم الجمعة وشككنا أنّه يوم السبت واجب الإكرام أولا؟ لا شكّ أنّ الدليل الأوّل اقتضى وجوب إكرامه في كلّ يوم ، والقدر الخارج يوم الجمعة ، فيوم السبت باق تحت العموم.

واخرى يقول : أكرم العلماء ، من دون تقييد بالزمان ، فلا شكّ أنّه لو لم يرد مخرج فهو بالنسبة إلى زيد وعمرو وبكر وسائر الأفراد مستمرّ ما دام حياتهم ، ولكن إذا قطع استمرار هذا الحكم في زيد في يوم الجمعة فلا دليل يدّل على وجوب إكرامه يوم السبت ، ووجوب الإكرام الأوّلي قد فرض انقطاعه ليوم الجمعة.

والحاصل أنّ الرجوع إلى العام يحتاج إلى إثبات دلالتين له :

الاولى : إثبات الحكم من الأوّل إلى ما قبل زمان المخصّص.

والثانية : إثباته من ما بعد هذا الزمان إلى آخر أزمنة الموضوع ، ومن المعلوم عدم إمكان إثبات الدلالة الثانية ، نعم يمكن تقييد الدليل بالنسبة إلى الدلالة الواحدة من حيث الأوّل ، فيكون منقطع الأوّل ، أو من حيث الآخر ليصير منقطع الآخر.

مثلا يمكن جعل مبدإ وجوب الوفاء في العقد الذي فيه خيار من ابتدائه أوّل انقضاء هذا الخيار ، أو في العقد الذي فيه خيار من آخره بجعل مقطع وجوب الوفاء ومنتهاه في أوّل حدوث هذا الخيار ، فيلزم في الصورتين تقييد البيع بكونه من الزمان الفلاني ، أو إلى الزمان الفلاني.

وأمّا إذا انقطع الوجوب من الوسط فلا يمكن إثبات الوجوب في ما بعد الوسط إلّا بدلالتين ، إحداهما على الحكم من الأوّل إلى الوسط ، والآخر من ما بعده إلى الآخر ، وليس للدليل الدلالة الثانية وهو في هذا نظير الاستصحاب ؛ فإنّه ما لم ينقطع استمرار الحكم الموجود في زمان يستصحب في ما بعده ، ولو حدث القاطع له في الأثناء انقطع الاستصحاب.

إذا تقرّر ذلك فنقول : إن كان لفظة «أنّى» مفيدة للزمان على وجه الاستيعاب

٥٢٣

فالقدر الخارج زمان التلبّس بالدم ويبقى الباقي تحته ، فيكون المرجع العموم المستفاد من هذه اللفظة ، وأمّا إن كان مفيدة للمكان أو للزمان لكن لا على وجه العموم والاستيعاب ، فيقال : الحكم الثابت في القطعة السابقة من الزمان حرمة الوطي فيستصحب هذا الحكم في القطعة اللاحقة.

ثمّ في كليّة ما ذكره شيخنا قدس‌سره في صورة عدم ملاحظة الزمان قطعة قطعة بمقدار يسع الوطي مثلا من أنّ المرجع هو الاستصحاب نظر ، بل هنا أيضا تفصيل ، ولا يصحّ الرجوع إلى الاستصحاب مطلقا ، بل ربّما يكون المرجع أصل آخر ، نعم عدم صحّة الرجوع إلى العموم يكون مطلقا ، وذلك لأنّه لا بدّ من أن ينظر الدليل الدالّ على خلاف حكم العام في فرد في زمان وأنّه ما ذا يستفاد منه ، هل يستفاد كون الزمان جزء من الموضوع وقيدا له ، أو كونه ظرفا وخارجا عن الموضوع والمحمول.

وكذا لا بدّ من ملاحظة حال الزمان في تلك القضيّة عند العرف وأنّه هل يراه العرف داخلا في الموضوع أو المحمول أو خارجا عنها وظرفا للحكم ، فصحّة الرجوع إلى استصحاب حكم المخصّص مبتن على عدم فهم القيديّة للزمان لا من دليل المخصّص ولا من العرف ، كما لو كان في مثال الوطي موضوع الحرمة هو الوطي وكان زمان الحيض ظرفا لهذا الحكم.

وأمّا لو كان الموضوع بحسب الدليل أو العرف هو المقيّد بالزمان الخاص كما لو كان موضوع الحرمة في المثال هو الوطي في زمان الحيض بحيث اعتبر حال الحيض قيدا في الموضوع فحينئذ وإن كان لا يمكن الاستدلال بعموم العام لإثبات حكمه في ما بعد ، ولكن التمسّك لإثبات حكم المخصّص أيضا بقاعدة الاستصحاب غير صحيح ، لعدم بقاء الموضوع مع فرض كونه مقيّدا بالزمان الخاص وانقضاء هذا الزمان ، فارتفع الحكم بارتفاع الموضوع ، فلا يمكن الاستصحاب ، فلا بدّ من الرجوع إلى أصل آخر وهو مختلف في المقامات ، وفي هذا المثال يكون هو البراءة ، وكذلك الحال عند الشكّ وعدم تبيّن أنّ الزمان من أحد القسمين ، فلا يمكن الاستصحاب حينئذ ، لعدم إحراز الموضوع.

٥٢٤

«في حجيّة الإجماع المنقول وعدمها»

«فصل»

من جملة الظنون التي اقيم على حجيّتها الدليل الإجماع المنقول بخبر الواحد ، وتحقيق المقام يبتني على بيان امور :

أحدها : اعلم أنّ الكلام هنا في أنّه لو سلّمنا دلالة الأدلّة على حجيّة الأخبار المنقولة عن النبي والأئمّة عليه وعليهم‌السلام ، وزدنا فيه كلّ قيد واشترطنا فيه كلّ شرط احتملناه وصار المحصّل حجيّة ما ينقله الثقة والعادل ، وفرغنا عن ذلك ، فهل نقل الإجماع مع فرض كون الناقل واجدا لما اعتبرناه في الخبر من العدالة تكون تلك الأدلّة شاملة له بالعموم أو الإطلاق أولا؟.

ثمّ فهم أنّ الأدلة المذكورة هل يشمل هذا النقل أولا يتوقّف على فهم حقيقة الحال في الإجماعات التي يدّعيه العلماء في المقامات ومعرفة حقيقتها وكيفيتها.

وليعلم أنّ الإجماع ، المخترع والمؤسّس له هو العامّة ، وادّعوا قيام النصّ على حجيّته ، ثمّ لمّا رأى الخاصّة أنّ عدّ الإجماع بالمعنى الذي هم يعنون ويعرّفون في جملة الأدلة لا يضرّ ؛ فإنّهم تارة يعرّفونه بأنّه اتّفاق أمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أمر من الأمور الدينيّة كما عن الغزالي ، واخرى بأنّه اتفاق أهل الحلّ والعقد من أمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله على أمر من الامور كما عن الفخر الرازي ، والمراد من أهل الحلّ والعقد على ما نبّه عليه ، غير واحد منهم المجتهدون ، وثالثة بأنّه اجتماع المجتهدين من هذه الامّة في عصر على أمر كما عن الحاجبي ، ومن المعلوم أنّ هذا الموضوع متى تحقّق فالمعصوم داخل ؛ إذ هو واحد من الامّة وأهل الحلّ والعقد من الامّة ومن علماء الإسلام بل أكملهم ، لامتناع خلوّ عصر وزمان عن وجوده الشريف.

فعند ذلك وإن كان لم يثبت على خصوص هذا المعنى دليل عندهم ونصّ عن

٥٢٥

أئمّتهم تبعوا العامّة خوفا من إثارة الفتنة بإظهار الخلاف منهم وانتهاء الأمر إلى عنادهم مع الشيعة بهذه المخالفة ، مع كون المعنى مسلّما ، فوجدوا في الوفاق معهم سلامة عن كيد الأعداء مع عدم الخروج عن طريق السداد ، فقالوا هم أيضا بحجيّة هذا المعنى واعتبار هذا الموضوع لمجرّد متابعة الجماعة ، من دون أن يكون لهم فيه اصطلاح جديد ، نعم قد يتسامح في إطلاقه على اتّفاق جماعة خاصّة يعلم بدخول الإمام فيهم ، لوجود الملاك وعدم الاعتناء بمخالفة غيره ، مع ما فيه من إسكات الخصم وإلزامه بما التزم.

الأمر الثاني : اعلم أنّ طريق إحراز هذا المعنى أعني اتفاق علماء الإسلام الموجودين في العصر الواحد بلا استثناء واحد منهم يكون أحد امور ثلاثة :

الأوّل : أن يستفتي الإنسان بعد الفحص والاستقراء في تمام أصقاع الارض ونواحيها من كلّ عالم وجد فيها بحيث لم يبق عالم من الاسلام إلّا واستفتى منه ، ثمّ صار رأي الجميع شيئا واحدا ، ويسهل ذلك لو انحصر علماء الإسلام في دورة قليلين أمكن الإحاطة بهم ، لكن مع العلم بوجود الإمام عليه‌السلام فيما بينهم ، فيكون رأيه في جملة الآراء وإن لم يعرف بشخصه الشريف بعينه.

والثاني : أن يحرز ويحصل فتاوى كلّ من في وجه الأرض من ذوي الفتوى ممّن عدى الإمام عليه‌السلام ، بحيث لا يبقى أحد غير الإمام ، ثمّ بعد تحصيل هذا احرز انضمام فتواه عليه‌السلام ورأيه بالفتاوى وكونه على طبق الآراء من قاعدة اللطف ، فإنّ من اللطف الواجب على الإمام أن لا يترك رعيّته طرّا وكلّا على الجادّة الباطلة ، بل يظهر الحقّ لهم إمّا بنفسه ، وإن كان مغيّبا بإرسال واحد فيهم يظهر بتوسّطه الحقّ عليهم ويلقيه إليهم ، فحيث ما فعل كشف عن مطابقة رأيه الشريف لآرائهم ، فإنّه لا يخلو بحسب الواقع أمر الاتّفاق من حالين، إمّا مطابق لرأيه عليه‌السلام فيتمّ المطلوب ، وإمّا مخالف له فيلزم خلاف اللطف ، فحيث يمتنع الثاني يتعيّن الأوّل.

ثمّ بعد إحراز رأيه بهذه القاعدة يضمّ إلى سائر الآراء فيتمّ موضوع الإجماع ، فإنّ

٥٢٦

قبله لم يتم ؛ إذ اتفاق جميع علماء الإسلام في عصر واحد لا يتحقّق من اتفاق من عدى الإمام ما لم يضم إليهم رأيه ؛ فإنّه أعلم العلماء وإمامهم ، فكيف يتحقّق المعنى المذكور بدونهعليه‌السلام؟ وبالجملة ، فبعد إحراز رأيه بذلك يسمّى المجموع منه ومن سائر الآراء من حيث المجموع إجماعا.

والثالث : أن يحصل أيضا بالفحص والاستقراء آراء جميع العلماء من عصر واحد بحيث علم عدم بقاء واحد منهم ممّن عدى الإمام عليه‌السلام ، وبعد رؤية اتفاق الجميع في الرأي يستفاد رأى الإمام عليه‌السلام بواسطة الحدس ، وهو حدس رأي الرئيس من رأي رعيّته ، ولكن ليعلم أنّ الحدس لا يحصل لو كان المسألة ممّا يتطرّق فيها العقل بحيث احتمل اعتماد الجميع على حكم العقل ، فيتوقّف على العلم بعدم تطرّق العقل فيه ، وكذلك لا يحصل لو كان أخبار صحيحة على طبق آرائهم ؛ إذ يحتمل كونهم مستندين إليها ، فيتوقّف على عدم وجود الأخبار الصحاح في البين.

ثمّ بعد استكشاف رأيه بطريق الحدس يسمّى المجموع من حيث المجموع إجماعا ، هذا.

ويمكن التسامح في إطلاق لفظ الإجماع بحسب كلّ من هذه المناطات الثلاثة ، فمن كان مناط الحجيّة عنده الوجه الأوّل يطلقه مسامحة على اتّفاق جماعة قليلة مثل ثلاثة أو اثنين إذا كان فيه المناط بأن كان واحدهم الإمام ؛ ولذا قال المحقّق : ولو خلا المائة من علمائنا عن الإمام لم يكن بحجّة ، ولو وجد في اثنين كان قولهما حجّة.

ومن كان مبناه الوجه الثاني مثل شيخ الطائفة قدس‌سره يطلقه مسامحة على اتّفاق خصوص من عدى الإمام مع عدم كونه إجماعا مصطلحا ، لخروج الإمام عنه ، ومع ذلك يطلق عليه اسم الإجماع باعتبار وجود مناط الحجيّة فيه وهو كونه محلّا لقاعدة اللطف المتقدّمة.

ومن كان المناط عنده الوجه الأخير يطلقه على اتفاق عدد يسير من أعيان العلماء واساطينهم مع عدم كون المسألة عقليّة وعدم خبر صحيح أو أصل معتبر ؛ فإنّه ربّما يحصل لبعض ـ لحسن الظنّ بهذه العدّة القليلة مع ملاحظة كثرة تخالف

٥٢٧

آرائهم وتشتّت مذاهبهم من اتّفاقهم في المسألة مع عدم ظهور دليل معتبر ـ الحدس بمطابقة آرائهم مع رأي الإمام عليه‌السلام ، فيسميه إجماعا لاشتماله على وجه حجيّته وهو كونه مدركا للحدس عن رأي الإمام.

الأمر الثالث : اعلم أنّ القسم الأوّل يمكن لكلّ أحد دعوى القطع بعدم تحقّقه في الإجماعات المنقولة في كتب أصحابنا الفقهيّة ؛ لعدم الوصول إلى جنابه في هذه الأزمنة إلّا للأوحدي في نادر من الزمان ، فيمكن القطع بأنّ واحدا من تلك الإجماعات ليس مشتملا على قول المعصوم بأن يكون أحد مجمعيه جنابه عليه‌السلام.

وأمّا القسم الوسط ففيه جهتان من المناقشة والإشكال ، الاولى : الاستبعاد ؛ فإنّ إحراز الاتفاق يتوقّف على الفحص التام والاطلاع على رأى العلماء الاعلام والسعي والمداقّة حتى لا يبقى واحد منهم ، فإنّه لو احتمل وجود عالم لم يحصل الظفر به وبرأيه وكان مخالفا لم يتم إجراء قاعدة اللطف ، فإجراؤها يتوقّف على العلم بعدم وجود واحد على وجه الأرض من العلماء إلّا وظفر به وحصول الاتفاق بين آراء الجميع ، ومن المعلوم عدم إمكان هذا الأمر لأحد عادة.

ثمّ على تقدير إمكانه في بعض الأحيان كما لو اجتمع جميع علماء الاسلام في بلدة مخصوصة يرد الإشكال الثاني وهو القدح في المبنى ، فإنّه بعد وجود فوت الفيوض الكثيرة والبركات الغفيرة من جهة غيبة الإمام لا غرو في أن يكون هذا أيضا واحدا من الفيوض التى حرمناها بواسطة عدم وجود جنابه فينا ، ومع ذلك لا ينافي اللطف ، فإنّ عدمه عليه‌السلام منّا ، فإنّا نحن بذنوبنا أوجدنا السبب لغيبته ، فحرماننا عن فيوض وجوده إنّما هو سوء بلغنا من سوء أعمالنا ، فليس هذا السوء الوارد بنا إلّا منّا ، وإلّا فمن ناحية المولى لم يقع تقصير ولا قصور ، تعالى عن ذلك علّوا كبيرا ، بل أتمّ أسباب ما يقرّب العبد إلى الجنّة ويبعدّه عن النار كما يليق وينبغي ، والتقصير منا ، فابتلينا بسوء أعمال انفسنا وسوء اختيارنا.

وحاصل الإشكال أنّ الواجب عقلا إنّما هو جعل الأحكام ونصب الإمام ، فإنّه مع عدم الأوّل لكان للناس أن يقولوا : أنت السبب في عدم وصولنا إلى الكمال ،

٥٢٨

فإنّك ما جعلت في حقّنا أوامر على طبق المصالح ونواهي في موارد المفاسد حتى نرتدع عنها ونتحرّك إلى المصالح ، وكذلك مع عدم الثاني ، فإنّه مع الجعل وعدم من يبعث ويزجر ويبلغ الأحكام إلى العباد لا يحصل المقصود ، وأمّا بعد جعل الأحكام ونصب الإمام فرفع المانع الذي تحقّق من عصيان العصاة فليس واجبا في مقام اللطف ، فإنّ الدار دار التكليف وجعل العباد في معرض الإطاعة والعصيان ، فالمنع التكويني عن عصيان العصاة خلاف هذا الشأن.

وبالجملة ، إبقاء المانع المستند إلى عصيان العصاة بحاله وعدم رفعه تكوينا لا يقدح في تماميّة اللطف من الله تعالى ، وعلى هذا فكلّ ما كان من تبعة هذا من الحرمان عن فيوضات وجود الإمام عليه‌السلام التي منها خفاء الحكم الواقعي في الواقعة الجزئيّة ليس مخالفا للطف ، مع أنّه من الممكن أن يكون اللطف في الإخفاء كما في غالب الأحكام في صدر الاسلام.

فإن قلت : فعلى هذا فالبرهان الذي أقمت على إمضاء الشارع للطريقة الارتكازيّة المغفول عنها للعامّة يمكن الخدشة فيه بمثل هذا البيان.

فإنّه يقال : إنّما عليهم في اللطف الواجب عليهم (ع) بيان الأحكام ، فلعلّه قد بيّنوا أيضا في هذه القضيّة ، ثمّ عرض اختفائه من جهة الموانع الخارجيّة ، وليس ابقاؤهم هذه الطريقة بحالها وعدم الردع عنها مع كونها غير مرضيّ لهم نقضا لغرضهم ، فإنّ الفرض كون غرضهم إتمام الحجّة والفرض إمكان حصوله.

قلت : نعم ، ولكن نحتاج في ذلك الباب إلى مقدّمة اخرى وهي كون القضيّة محلا لابتلاء العامّة في جميع الأعصار بلا استثناء ، مثل الصلوات اليوميّة والطهارة والنجاسة ومسألة حجيّة الظواهر ؛ فإنّ مثل هذا الأمر لا محالة كان بمرأى ومسمع من الصادقين وسائر الأئمّة عليهم‌السلام مع ما رأوا من ابتلاء الناس في يومهم وليلتهم ، ففي مثل هذه القضيّة عدم ورود التخطئة وعدم وصوله إلينا موجب للقطع بعدم صدوره عنهم ، لكون القضيّة ممّا يتوفّر الدواعي على النقل فيها ، فلو كان لبان.

ثمّ بعد هذا نقول : لا يخلو الأمر إمّا أنّ هذا الأمر الارتكازي كان مرضيّا لهم

٥٢٩

أولا ، فعلى الأوّل يثبت المطلوب ، وعلى الثاني يلزم خلاف اللطف ـ العياذ بالله ـ وهذا بخلاف الحال في مقامنا ؛ فإنّه يمكن عدم ورود الحكم فيه من الأئمّة عليهم‌السلام ، لعدم كونه محلّ ابتلاء الناس ، واستمرّ ذلك إلى زمان من أوان الغيبة فاتّفق علمائها في عصر من باب القاعدة على رأي واحد. فتحصّل أنّ تماميّة هذا القسم من الاجماع مخدوشة صغرى وكبرى ، فتعيّن في الوجه الأخير.

إذا عرفت هذا فنقول : لو نقل الإجماع ناقل فحجيّة هذا النقل على الوجه الأخير مبنيّة على تماميّة دلالة ما يدّل على حجيّة خبر الواحد وشمولها لنقل الثقة ، وكون مفادها حجيّة الأعمّ من النقل الذي يدركه الحسّ والذي يدركه الحدس.

ثمّ على تقدير عموم هذه الأدلّة لا بدّ من عدم العلم بابتناء حدس الناقل على مقدّمة اجتهاديّة باطلة ، فإنّه حاك لرأي الإمام بأقوال العلماء ، وحدسه الناشي من تلك الأقوال على الوجه الباطل ، كحسن الظنّ بجماعة لا ينبغي حسن الظنّ بهم في هذا المقام ، نعم لو اشتبه الحال ولم يعلم أنّ حدسه على وجه باطل أو صحيح فمفاد الأدلّة حجيّته ، سواء كان المقدار من الأقوال التي حصلها وصارت منشئا لحدسه موجبة لحدس المنقول إليه أيضا لو حصلها ، أو لم يحصل منها الحدس عنده.

وأمّا على تقدير عدم العموم لتلك الأدلّة وعدم شمولها إلّا للنقل الذي يدركه الحس فالمقدار الذي نقل عن حسّ في نقل الإجماع هو نقل أقوال عدّة من العلماء ، وأمّا حدسه فهو اجتهاده ، فليس لنقله حجيّة من جهة حدسه ، وكذلك من جهة قول الإمام ؛ لأنّها مستندة إلى حدسه ، فيكون بالنسبة إلى الأمر الحسّي أعني تتبّع أقوال العلماء نقله حجّة ، فنأخذ به ونجعل هذا المقدار من الأقوال كالمحصّل ونعامل معاملة المحصل.

مثلا لو نقل الشيخ الإجماع وقال : أجمعت العلماء ، فنعلم أنّه تتبّع أقوال خمسين نفرا من علماء عصره لا محالة ، وهذا مقدار متيقّن ، والزيادة محتملة ، فنفرض أنّ أقوال الخمسين محصّلة لنا ؛ فإن كان بنفسه موجبا للحدس عندنا فهو ، وإلّا فنضمّه إلى أمارات أخر وأقوال سائر العلماء حتى يحصل السبب التام للحدس.

٥٣٠

والحاصل أنّ نقل الإجماع بحسب ما ذكر ينقسم إلى ثلاثة أقسام :

الأوّل : أن يعدّ الناقل المفتين ويصرّح بأسمائهم في كلامه وكان المنقول إليه بحيث لو حصّل بطريق الحسّ فتاوى هؤلاء المعدودين لقطع بالملازمة بحكم الله ورأي الإمام.

والثاني : أن لا يكون عنده ملازمة بينهما ، وعلى هذا أيضا قد يكون ما نقله من الفتاوى بمقدار يحصل للمنقول إليه العلم بضميمة الأمارات الموجودة عنده وقد لا يكون كذلك.

والثالث : أن يشكّ في أنّ هذا الإجماع من الأوّل أو الثاني ، وعلى تقدير كونه من الثاني من أيّ من قسميه ، بأن ينقل الإجماع بدون تصريح بأسماء المجمعين وتعيين لعددهم ، فيحتمل أن يكون متتبّعا لأقوال عدد يوجب القطع للمنقول إليه ويحتمل عدمه ، وهو الغالب في الإجماعات المنقولة التي بأيدينا.

فنقول : لا إشكال في الأوّل بمعنى حجيّة نقل الإجماع كاشفا ومنكشفا ، أمّا الأوّل وهو إخباره بفتاوى عدّة من العلماء معلوم العدد فواضح أنّه إخبار عن الحسّ ، فيكون كما لو حصّل المنقول إليه هذه الأقوال بنفسه ، وحيث يثبت في الأمارات اللوازم الثابتة للمؤدّى أيضا بخلاف الاصول ، والمفروض ثبوت الملازمة بين المؤدّى هنا وهو فتاوى هؤلاء الخاصّة ، وبين رأي الإمام ، فبعد ثبوت الملزوم بخبر الثقة يحكم بثبوت ما هو لازمه لو حصّله بنفسه وهو رأي الإمام.

مثلا لو قطع أحد بثبوت الملازمة الاتفاقيّة بين عدالة عمرو وفسق بكر ، فأخبر البنيّة بعدالة عمرو فيكون حجّة له بالنسبة إلى فسق بكر أيضا ، وأمّا الثاني وهو جهة حكايته عن رأي الإمام بالالتزام فلأنّه نقل عن حدس مبناه الحس ، وأدلّة حجيّة خبر الثقة يشمل مثل هذا أيضا.

ألا ترى قبول الشهادة بالعدالة مع أنّها ملكة باطنيّة وليست قابلة للحسّ ، ولكنّها يستكشف بالحدس من احساس آثارها ، فيعلم أنّ الحدس القريب بالحسّ أيضا بمنزلة الحسّ في باب حجيّة الخبر.

٥٣١

ولا إشكال في القسم الثاني من القسم الثاني أيضا عكسا ، بمعنى عدم إمكان الوصول إلى رأي الإمام بنفس نقل الإجماع لا كاشفا ولا منكشفا ، أمّا الأوّل فلما هو المفروض من أنّه لا يصير سببا للقطع عند المنقول إليه ، وأمّا الثاني فلأنّ حكايته مبنيّ على ما لا يراه المنقول إليه للمدركيّة للحدس ، وهذا غير مشمول لأدلّة حجيّة الخبر ، بمعنى أنّه قاطع ببطلان الحدس والخبر المبني على الحدس الباطل لدى من يراه باطلا لا نفي الأدلّة بحجيّته.

نعم في القسم الأوّل منه يمكن إثبات حجيّة نقله من حيث الكاشف بأدلّة الحجيّة بالنظر إلى الأثر التعليقي الثابت لجزء الموضوع ، فيفرض ما نقل إليه من فتاوى فلان وفلان وفلان إلى خمسين نفرا مثلا كأنّه المحصّل عنده ، وهي وإن كانت بنفسها لا يفيد له القطع ، ولكن حسب الفرض يمكن أن يفيده له بعد ضمّ أقوال خمسين نفرا آخر حصّلها بنفسه ، وقرائن وأمارات أخر إلى أقوال الخمسين التي نقلها الثقة ، فأوجب المجموع قطعه بحكم الله ورأى المعصوم ، فيكون مشمولا للأدلّة بملاحظة هذا الأثر المعلّق حصوله على حصول الضميمة وتتمّة السبب.

بقي الكلام في القسم الثالث وهو الثابت في الإجماعات المنقولة ، وهو صورة عدم تبيّن الحال ونقل الإجماع بدون تصريح بصاحبي الأقوال وعددهم ؛ فإنّه يحتمل أن يكون هو من قبيل ما ذكره شيخنا المرتضى من أنّه ربّما يكون الإجماع على الأصل فيدّعيه الناقل على الفرع ، كما لو استدلّ على عدم جواز الصلاة المؤدّاة في وسعة الوقت لمن كان عليه المقضيّة بالإجماع لوجود خبر ثقة على هذا المضمون بملاحظة إجماعهم على اتّباع خبر الثقة ووجوب العمل به.

أو يحكى الإجماع على طهارة خرء الطير بملاحظة وقوع الإجماع على أنّ كلّ مشكوك طاهر حتى يعلم أنّه قذر ، مع أنّ من المعلوم أن لا ملازمة بين الإجماع على الأصل في المسألتين وبينه في الفرع ؛ إذ ربّما لم يكن الراوي عندهم ثقة أو لم يتّضح دلالة الخبر عندهم ، أو كان له معارض أقوى ، وكذا ربّما كان لهم دليل على النجاسة في المسألة الثانية ، ولا يجري الأصل مع وجدان الدليل.

٥٣٢

ويحتمل أيضا أن يكون قد اطّلع على فتاوى جماعة في خصوص المسألة ، ولكن حصل له القطع لكونه سريع القطع ، بحيث لا ينتفي حصول القطع بهذا المقدار بحسب المتعارف.

ويحتمل أن يكون قد اطّلع على فتاوى جماعة وحصل له القطع ، لكن من جهة أنّه تتبّع أحوالهم وحصل له اطلاع زائد فصار قاطعا بفتواهم بحكم الله لحسن ظنّه بهم واحتسابه إيّاهم لسانا للفقهاء ، كما لو اطّلع على حصول علم لهم قد وصل إليهم صدرا بصدر ، فهم حاكون لحكم الإمام بما عندهم والثابت في صدورهم منتقلا إليه من صدور أسلافهم ؛ فإنّ من المعلوم عدم حجيّة النقل في هاتين الصورتين أيضا بالنسبة إلى من ليس له هذا الاطلاع بأحوالهم ، فحينئذ يبتنى حجيّة نقل الإجماع على وجود دليل بحجيّة نقل حكم الله بأيّ وجه كان إذا كان الناقل ثقة.

فنقول : أمّا السيرة وبناء العقلاء فمعلوم أنّه بالنسبة إلى غير هذا المورد ، وأمّا الأخبار المدّعى تواترها في الجملة فموردها حجيّة نقل الرواة في الأحاديث التي سمعوها من لسان الإمام ، وأمّا الآية (١) فأوّلا : يتوقّف أصل دلالتها على حجيّة خبر العادل على القول بثبوت المفهوم لمطلق الوصف ، وتقرّر في محلّه عدم ثبوته.

وثانيا : على فرض القول بثبوته في مطلق الوصف أو في خصوص هذا الوصف نقول : إنّ المستفاد من الآية في موضوع خبر العادل حكم حيثي وهو الاعتبار بخبره من حيث احتمال تعمّده الكذب في أخباره ، فالآية دالّة على عدم الاعتناء بهذا الاحتمال ، فخبره في الحسيّات بعد رفع احتمال تعمّده الكذب بالآية ، ورفع احتمال خطائه في الحس وسهوه ونسيانه بالأصل العقلائي الجاري في حقّ كلّ عاقل ، يحمل أقواله وأفعاله وحركاته وسكناته على الوجه الصحيح ، لا على وجه الغفلة والسهو والنسيان ، يكون متّبعا.

وأمّا في الحدسيّات فالآية أيضا دالّة على الاعتناء بخبره من الحيثيّة المزبورة

__________________

(١) أي آية البناء.

٥٣٣

أعني احتمال تعمّده الكذب ، وأمّا احتمال خطائه في الحدس فالآية ساكتة من رفعه وليس عليه أصل عقلائي أيضا ، ولا ملازمة ـ كما هو واضح ـ بين العدالة ومطابقة الحدس للواقع ؛ إذ ربّ فاسق يكون أفطن وحدسه أصدق من عادل ، فيكون الاعتماد على خبر العادل في الحدسيّات غير مستفاد من الآية على ما ذكرنا من كونه حكما حيثيّا لا فعليّا من جميع الحيثيّات ، بمعنى أن يكون المفاد أنّه متى أخبر العادل يجب الأخذ به والتصديق له والبناء على أنّ مؤدّى خبره هو الواقع.

والدليل على عدم كونه بهذا النحو وكونه بالنحو الأوّل هو التعليل الواقع في آخر الآية وهو قوله تعالى : (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) فإنّ من المعلوم أنّ ترتّب الوقوع في الندم على الاعتماد على خبر الفاسق بدون التبيّن إنّما هو لأجل فسقه وعدم تحرّزه عن الكذب في إخباره عمدا بخلاف العادل ، فإنّه بمقتضى عدالته متحرّز عن تعمّد الكذب ، فلا يوجب العمل بقوله الوقوع في الندم ، فلا يجب التبيّن في خبره لأجل هذه العلّة.

وبالجملة ، فما به الامتياز فيما بين الفاسق والعادل إنّما هو هذه الجهة ، وإلّا فالخوف المذكور من جهة الخطاء في الحدس لا اختصاص له بالفاسق ، وليس جهة فارقة بين الفاسق بما هو فاسق والعادل بما هو عادل ، فالآية مسوقة للفرق من الجهة التي يتمايزان فيها محضا ، ولا نظر لها إلى غير تلك الجهة ، وعلى هذا فعدم وجوب التبيّن في خبر العادل من هذه الجهة لا ينافي وجوبه لأجل احتمال خطائه في الحدس.

فالآية على تقدير ثبوت المفهوم لها دالّة على أنّ العادل مأمون في خبره ، فهو في إخباره مصدّق من هذه الجهة ، يعني ولو احتمل أنّه صار فاسقا بنفس إخباره هذا لتعمّده بالكذب فيه لا بدّ أن لا يعتنى بهذا الاحتمال ، ومن هنا علم أنّ الموضوع هو العادل مع قطع النظر عن هذا الإخبار ؛ إذ العادل مع النظر إليه ليس محلا للكلام ؛ إذ يقطع حينئذ بصدقه.

فان قلت : على ما ذكرت من أنّ ما اشتمله الآية بحسب المفهوم حكم حيثي وليس بفعلي ناظر إلى جميع الحيثيّات ، فليست الآية بثمرة في شيء من المواضع ، أمّا

٥٣٤

في الحدسيّات فلما ذكرت ، وأمّا في الحسيّات فلأنّ الآية ليس بفعليّ بمعنى أنّه لا تدلّ على لزوم البناء والتعبّد على كون مؤدّى الخبر هو الواقع ، وإنّما دلّت على عدم الاعتناء باحتمال تعمّده الكذب ، وهذا أعمّ من الحكم بمطابقة خبره للواقع ؛ إذ ربّما يكون هذا مشروطا بأمر آخر أيضا ، كما هو المشاهد في باب الشهادة في الموضوعات ، فإنّه لا يجوز البناء على واقعيّة المؤدّى بمجرّد إخبار العدل الواحد مع رفع احتمال تعمّده الكذب أيضا بعموم الآية ، فكما صار التعبّد بقوله في الموضوعات منوطا بشرط آخر علاوة على العدالة وهو التعدّد ، من المحتمل أن يكون خبره في الأحكام أيضا منوطا بشيء آخر ، فلا تدلّ الآية على هذا على حجيّة خبره في موضع أصلا.

قلت : لا إشكال في أنّ وجه محجوبيّة الواقع ومستوريّته علينا بعد إخبار العدل منحصر في أمرين لا ثالث لهما ، بحيث إذا ارتفعا لم يبق وجه لعدم الأخذ بقوله وعدم ترتيب أثر الواقع عليه ، أحدهما : احتمال تعمّده الكذب في إخباره وكونه في إخباره بقيام زيد مثلا كاذبا ، والثاني : احتمال خطائه في حسّه ، فجهة عدم حصول الجزم لنا بإخباره بقيام زيد منحصرة في هذين الاحتمالين.

فإذا دلّ الشرع على إلغاء الاحتمال الأوّل كما هو المفروض من دلالة الآية وجرى بناء العقلاء على إلغاء الاحتمال الثاني في حقّ العقلاء يلزم قهرا ترتيب آثار الواقع بلا تأمّل؛ إذ قد وضّح الواقع وارتفع المحجوبيّة عن البين بالتعبّد وبناء العقلاء ، فلا مانع عن إجراء آثار الواقع.

لا يقال : إنّ هذا رجوع عن الاستدلال بالآية إلى الاستدلال بالسيرة والأصل العقلائي.

فإنّه يقال : المقصود هو عدم التوقّف في النتيجة ولو كان بتتميم الاستدلال بالآية من الخارج ، فإنّ مدّعى المستشكل على ما حكي هو لزوم التوقّف وعدم إمكان إثبات الحجيّة من الآية ولو بضميمة من الخارج ، فراجع كلامه.

فإن قلت : لا بدّ بعد هاتين القضيتين الحيثيتين من بناء ثالث من العقلاء في مورد

٥٣٥

اجتماعهم على وجوب العمل وترتيب آثار الواقع على مؤدّى الخبر ، فيكون تتميم الأمر بهذا البناء ، ولو نوقش فيه فلا بدّ من التوقّف عند احتمال إناطة الحكم بوجوب الأخذ بوجود شيء آخر.

قلت : لا حاجة إلى البناء الثالث في مورد الاجتماع ، فإنّه لا يعقل سدّ باب العدم من هاتين الحيثيتين مع فرض انحصار بابه فيهما ، ومع ذلك نتوقّف في مقام العمل ، فلا بدّ إمّا من العمل أو رفع اليد من أحد هذين الأصلين التعبّدي والعقلائي ، فلهذا نقول في موارد عدم رخصة الشارع في ترتيب الأثر بمجرّد العدالة كما في باب الشهادة حيث اعتبر العدد أيضا مضافا إلى العدالة : أنّه لا بدّ فيها من الالتزام بأحد امور ثلاثة :

الأوّل : أنّ هذا مستثنى من القاعدة التعبّديّة المدلول عليها بالآية من إلغاء احتمال التعمّد للكذب في إخبار العادل ، والقول بتخصيص هذه القاعدة في باب الشهادة ، بأن كان الشارع لأجل الاهتمام بهذا المورد قد اعتنى بالاحتمال المذكور ، إلّا أن يكون المخبر اثنين ، ولم يلغه في صورة الوحدة ، وعلى فرض القول بأنّ القاعدة عقلائيّة وليست بتعبديّة صرفة والآية إمضاء لطريقة العقلاء وتقرير لبنائهم من تصديق الأمين والثقة فالشارع في باب الشهادة لم يمض هذه الطريقة بل خطّأها.

والثاني : أن يكون الشارع في باب الشهادة قد خطّأ العقلاء في أصلهم الجاري لرفع احتمال الغفلة والنسيان ، فلم يعتن بهذا الأصل في موضوع العدل الواحد في باب الشهادة ومقام المرافعات.

والثالث : أن يكون الشارع قد اعتبر في موضوع وجوب الحكم بمعنى فصل الخصومة عمّا بين المترافعين ـ الذي جعله منصبا للقاضي ـ العدد ، فما لم يكن الشاهد متعدّدا لم يتحقّق موضوع الحكم ، فليس الحكم عند فقد العدد بمشروع وإن كان الوصول إلى الواقع وترتيب آثاره بينه وبين الله حاصلا بنفس إخبار العادل.

وبعبارة اخرى : لنا هنا شيئان :

الأوّل : هو إدراك الواقع وترتيب آثاره والالتزام بأحكامه في مقام العمل ،

٥٣٦

كإدراك أنّ هذا المال مال لزيد دون عمرو ، وترتيب أثر ملكيّة زيد كجواز شرائه منه وعدم جوازه من عمرو ، وجواز الصلاة فيه لو كان ثوبا بإذن زيد وعدمه بإذن عمرو ، إلى غير ذلك.

والثاني : وجوب فصل الخصومة والنزاع عن البين ، بدفع المال إلى زيد بعد نزعه من يد عمرو لو كان في يده وختم الأمر بذلك ، ولا ملازمة بين هذين الأمرين ؛ لوضوح إمكان حصول الأوّل بأن يلزم على القاضي ترتيب آثار ملكيّة زيد دون عمرو من جواز شرائه من الأوّل المشهود له دون الثاني المشهود عليه ، وجواز صلاته فيه بإذن الأوّل دون الثاني ، ولكن كان الأمر وهو وجوب القضاء ومشروعيّة الحكم ونفوذ فصله الخصومة منوطا بحسب الشرع على حصول العدد ، فلا يشرع له ولا يجب عليه نزع المال من يد عمرو ودفعه إلى زيد وطيّ النزاع على ذلك ما لم يشهد عنده شاهد آخر بملكيّته لزيد.

وعلى هذا فلو شهد فاسق كان في أعلى درجة من الوثوق في مقام الإخبار بحيث كان قاطعا بعدم تعمّده الكذب في الإخبار ـ وكان وجه عدم القطع بخبره منحصرا في صدور غفلة وسهو منه في إخباره ـ بملكيّة المال لعمرو يلزم عليه ترتيب آثار ملكيّته لعمرو في مقام عمل نفسه ، فإنّه قد وقع الواقع في يده ، فلا يعقل منه عن إجراء أثره ، ومع ذلك ليس يجب عليه فصل الخصومة بمجرّد شهادة فاسق أو فاسقين بهذا الوصف.

وهذا نظير ما قاله بعض في ما إذا حصل القطع للقاضي من الخارج بحقيّة المدّعي مثلا في حقوق الله تعالى من أنّه لا يجوز له إجراء الحكم بمجرّد قطعه ما لم يقم شاهدان ، مع أنّه بحسب معاملات نفسه لا إشكال في كونه مكلّفا بمقتضى قطعه ، فيعلم أنّه لا منافاة بين ثبوت الواقع ولزوم ترتيب أثره وبين عدم لزوم القضاء وفصل الخصومة.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا أنّه لا دليل على التعبّد بقول الثقة في نقل الإجماع على الوجه الثالث ؛ لعدم الدليل على لزوم الأخذ والعمل بحدسه ، نعم يكون حجة بالنسبة

٥٣٧

إلى من كان مقلّدا للناقل ؛ فإنّ دليل التقليد قائم في حقّه بحجيّة حدسيّات الناقل له ولزوم اتّباعها عليه.

ثمّ على تقدير تسليم الإطلاق في مفهوم الآية بالنسبة إلى جميع أقسام خبر العادل من الحسيّة والحدسيّة نقول : لا إشكال في أنّ الحدس المبتني على مقدّمة اجتهاديّة بعيدة عن الحسّ ليس في حقّ غير صاحبه من مجتهد آخر حجّة ، كيف ولو كان كذلك لكان اجتهاد كلّ مجتهد في حقّ غيره حجّة ومن قبيل خبر العادل ونقل الثقة لحكم الله ، والمقطوع خلافه، فعلى فرض الإطلاق في الآية يكون مخصّصا بغير الإخبار الحدسي الاجتهادي البعيد عن الحسّ.

فإن قلت : القدر المخرج من هذا الإطلاق هو ما علم استناده إلى اجتهاد المخبر كما هو الحال في فتاوى المجتهدين ، فإنّهم وإن كانوا يخبرون بطريق القطع يكون مؤدّى نظرهم حكم الله في حقّهم وحقّ جميع المكلّفين ، إلّا أنّ إخبارهم معلوم الاستناد إلى اجتهادهم ، وأمّا المشكوك حاله ، المحتمل كونه عن اجتهاد من المخبر وكونه عن حسّه فهو مشمول لهذا الإطلاق ، ولم يثبت له مخرج.

قلت : المخرج عن الإطلاق غير مقيّد بالعلم ، بل نفس الخبر الذي استناده بحسب الواقع إلى الاجتهاد البعيد خارج ، وليس للعلم والجهل مدخل في عنوان المخصّص ، وإذن فالتمسّك بهذا الإطلاق في مورد يحتمل كونه من أفراد المخصّص يكون من باب التمسّك في الشبهة المصداقيّة ، وهو غير جائز على ما تقدّم في بابه.

بقي هنا أمر آخر ربّما يتمسّك به لحجيّة الإجماع المنقول وهو أنّ بعد حجيّة قول الناقل : أجمعت الطائفة ، أو أجمعت العصابة بالنسبة إلى مقدار محسوساته فالذي يمنعنا عن التمسّك بقوله أحد أمرين ، الأوّل : أن يكون قد ادّعى الإجماع المنعقد على الأصل في الفرع ، والثاني : أن يكون فتاوى جماعة حصّلها موجبة لقطعه بموافقة الإمام ، لكونه في حصول القطع خارجا عن المتعارف فيقطع بما ليس سببا للقطع بحسب المتعارف ، فيكون إخبار هذه الجماعة الذي هو مدركه في نقل الإجماع من هذا القبيل.

٥٣٨

ولنا لرفع كلّ من هذين طريق.

أمّا الأوّل : فطريق رفعه أنّ من يقول : ماء الغسالة طاهر بالإجماع مثلا فلا إشكال في ظهور هذا القول في انعقاد الإجماع في نفس الفرع ، وقد فرغنا عن حجيّة الظواهر ، فيكون ظهور كلامه حجّة يرفع به احتمال إرادة الإجماع على الأصل ، وبعد هذا الظهور يرتفع احتمال إرادته الخلاف بدليل اعتبار الظهور ، ويرتفع احتمال كونه مريدا للظاهر ، لكن كان كاذبا في دعواه وأنّ الواقع كونه محصّلا للإجماع على الأصل بأدلّة الغاء احتمال كذب العادل.

وأمّا الثاني : فلأنّ طريقة العقلاء حمل أفعال العاقل على ما هو غير خارج عن حدّ المتعارف ، فكما يرفعون احتمال الخطاء والغفلة والنسيان في حقّ من يحتملون فيه ذلك ، كذلك يرفعون احتمال الخروج عن المتعارف في حصول التصديق والاعتقاد أيضا مع احتماله، وجرى بنائهم على عدم الاعتناء بالاحتمال في المقام الثاني ، كما جرى في المقام الأوّل. وإن شئت قلت : إنّ حالة الخروج عن حدّ المتعارف في الاعتقاد في جانب الحصول مثله في طرف عدم الحصول يكون من الأمراض لصاحبه ، فأصالة الصحّة صالحة لرفع احتماله.

قلت : هذا أيضا لا يسمن ولا يغني من جوع ؛ فإنّا سلّمنا رفع احتمال كون الإجماع المدّعى في الفرع منعقدا في الأصل دون الفرع لظاهر الكلام ، ولكنّ الأصل المدّعى في المقام الثاني ممنوع ، وجه المنع أنّ الاعتقاد بحسب طرفيه من الحصول وعدم الحصول وإن كان محدودا وهو أن يتعدّى عن الطريقة المتعارفة تعدّيا فاحشا ، إمّا في جانب الإفراط بأن لا يحصل له الجزم من إخبار آلاف عدول محتاطين في الإخبار ، وإمّا في جانب التفريط ، كأن يحصل له الاعتقاد بمجرّد إخبار رجل واحد مجهول غير معتنى بإخباره ، لكن ليس لوسطه حدّ محدود ومقدار مضبوط ، بل الأشخاص مختلفون في ذلك غاية الاختلاف.

ولهذا ترى أنّه يكون إخبار جماعة عند أحد بالغا حد التواتر ، لإفادته له القطع ، ولا يكون عند آخر بالغا هذا الحد ، لعدم إفادته القطع له ، فليس للتواتر عدد معلوم ،

٥٣٩

ولهذا أيضا ترى اختلاف الاشخاص في الاستظهار من الأدلّة اللفظيّة ، فربّما يكون شخص في غاية المتانة والفطانة يحصل له القطع بإخبار أربعة بواسطة معاشرته معهم واطلاعه على أحوالهم بما يوجب كمال وثوقه بهم ، أو قابل مصنّفاتهم مع مصنّفات غيرهم ، فوجد في كلماتهم اتقانا لم يجده في كلمات غيرهم ، ومن هنا يحصل له القطع من اتفاقهم بموافقة الامام ، ولكن لا يحصل هذا القطع لغير المعاشر الغير المتتبع.

وبالجملة ، فأحوال النقلة وتتبّعهم مختلف في ذلك اختلافا كثيرا ، وليس لمتعارفه حدّ محدود حتّى يعيّن هذا الحدّ بالأصل فيثبت بذلك كونه من قبيل ما لو كان محصّلا لدى المنقول إليه لأوجب حدسه وقطعه ، بل يحتمل أن يكون حصل للناقل القطع بما لا يوجبه للمنقول إليه ، مع عدم خروج أحدهما عن المتعارف.

بقي الكلام في نقل التواتر في الآية أو الخبر ، فاعلم أوّلا أنّ الخبر تارة لا يكون بما هو خبر مفيدا للقطع ، بل بملاحظة حال المخبر ووثاقته ، فربّما يفيد بهذه الملاحظة خبر شخص واحد ، واخرى يكون بما هو خبر مع قطع النظر عن الناقل مفيدا للقطع ، والتواتر من هذا القبيل ، فإنّ الاخبار تصير متعدّدة إلى حدّ يحصل العلم للإنسان ، ثمّ ليس له حدّ مضبوط وعدد معلوم متى تحقق الاخبار من هذا العدد تحقّق العلم نوعا ، ومتى لم يتحقّق لم يتحقّق العلم نوعا ، بل هو مختلف بحسب الأشخاص ، فربّ عدد يكون تواترا ومفيدا للقطع عند شخص ولا يكون عند آخر.

إذا عرفت ذلك فالآثار التي يطلب ترتيبها بحجيّة نقل التواتر يكون بين ثلاثة أقسام ، الأوّل : الأثر المترتّب على نفس الواقع المخبر به ، فإذا نقل تواتر الأخبار على طهارة الغسالة فالمنقول اليه هل يرتّب أثر الطهارة أولا؟ ، والثاني الأثر المترتّب على نفس التواتر لو كان أثر لهذا الموضوع ، مثل ما لو نذر أن يحفظ كلّ خبر متواتر ، وهذا على قسمين ، إمّا أن يكون موضوع الأثر هو التواتر عنده ، وإمّا أن يكون هو التواتر عندنا ، لا إشكال في ترتيب الأثر المترتّب على التواتر عنده ، فإنّه يشمله أدلّة حجيّة خبر العادل ، فإنّ اخباره مستند إلى الحس والوجدان ؛ فإنّ إخباره بتعدّد المخبرين والرواة حسّي ، وبحصول العلم له من إخبارهم وجداني ، فلو لم يقبل نقله

٥٤٠