أصول الفقه - ج ١

آية الله الشيخ محمد علي الأراكي

أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمد علي الأراكي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٠٤
الجزء ١ الجزء ٢

الابتلاء ، فالإناء الآخر مشكوك الطهارة والنجاسة ، فيشمله عموم دليل طهارة كلّ مشكوك.

وأمّا وجه عدم الجريان عند ثبوت كلا الطرفين في محلّ الابتلاء هو لزوم المحذور العقلي؛ فإنّه لو رخّص في ارتكاب كليهما بمقتضى الأصل يلزم الإذن في المخالفة القطعيّة ، فعدم الجريان ليس لعدم الموضوع ، بل لأجل المانع العقلي ، فكلّما ارتفع هذا المانع كان الأصل جاريا.

ولهذا لو تعلّق العلم بالترخيص وكان مفاد الأصلين هو الإلزام كانا جاريين ، فلو علم بنجاسة الإنائين تفصيلا ثمّ علم بطروّ الطهارة على أحدهما إجمالا ، فاستصحاب النجاسة السابقة جار في كليهما ، فإنّه لا يلزم من ذلك مخالفة قطعيّة وإن كان مخالفة أحدهما للواقع معلوما ؛ فإنّ مجرّد ذلك بدون لزوم المخالفة العمليّة ليس بمانع عن جريان الأصل والتمسّك بعموم دليله.

وبالجملة الموضوع للأصل هو الشكّ وإنّما لم يحكم به مع العلم الإجمالي لأجل المانع العقلي ، فعند خروج أحد الطرفين عن محلّ الابتلاء كان المانع مرتفعا ، فيكون الأصل جاريا، لتحقّق موضوعه وفقدان المانع.

وهذا بخلاف الأمارات ، فإنّ المعيار فيها ليس شكّ المكلّف حتّى يحكم فيها أيضا بذلك ، بل المعيار فيها هو الكاشفيّة النوعيّة عن الواقع ، ولا شكّ أنّ هذا المعيار يرتفع برأسه عند العلم الإجمالي ، فلا يبقى الكشف النوعي أصلا ، فيسقط عن الحجيّة لارتفاع موضوعه.

ألا ترى أنّه لو قال المولى : أكرم العلماء ، وقال أيضا : لا تهن الفسّاق ، وعلم العبد إجمالا بخروج زيد العالم عن العموم الأوّل ، أو عمر الفاسق عن العموم الثاني فلا يبقى لهما بالنسبة إلى أحدهما ظهور ، بل يصير مجملا في كليهما؟.

قلت : نعم في ما ذكرت من المثال ينتفي الكشف ويسقط بذلك عن الحجيّة ، ولكن حيث إنّ المتّبع في باب الظهورات بناء العقلاء في محاوراتهم ، فلا بدّ من الرجوع إليهم ، وإذا راجعناهم نرى أنّهم يفرقون بين أمثال هذا المثال وبين ما إذا

٥٠١

علم إجمالا بمخالفة الظاهر إمّا بالنسبة إلى ظاهر محلّ الابتلاء وإمّا بالنسبة إلى ظاهر خارج عنه ، فنراهم يحكمون في الثاني بالنسبة إلى الظاهر المبتلى به بالحجيّة ، ويعاملون معه معاملة الاحتمال البدوي ، ولا يجعلونه مع الظاهر الآخر في عرض واحد ، وأمّا وجه ذلك فلا نعلم، وثبوت بنائهم على ذلك مسلّم.

وإن شئت توضيحه لك بالمثال فنقول : لو قال مولى لعبده في أحد بلاد العجم : أعلم جميع الطّلاب للضيافة ، وقال مولى آخر ببلاد الهند لعبده : اقطع أشجار هذه الأجمة ، وعلم بذلك العبد الأوّل ، وحصل له العلم الإجمالي بأنّه إمّا أنّ مولاه لم يقصد من الطّلاب شخصا معيّنا ، وإمّا أنّ مولى ذلك العبد لم يقصد من الأشجار الشجر الفلاني ، فلم يخبر الشخص المعيّن لأجل ذلك فآخذه المولى فاعتذر بأنّي علمت إجمالا بأنّه إمّا أنّك غير قاصد لهذا الشخص من عامّك ، وإمّا المولى الهندي غير قاصد للشجر المعيّن من عامّه الصادر بالنسبة إلى عبده ، فلا شكّ في أنّ هذا الاعتذار يضحك منه العقلاء ، فليس إلّا لأنّ الظاهر الخارج عن الابتلاء لا يحسبونه طرفا لما هو محلّ الابتلاء ، بل يجعلونه منحازا عن هذا.

وحينئذ لو علمنا في مقامنا بوقوع التحريف إمّا في آية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) وإمّا في آية (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) وأنّه كان الأصل «ما انزل اليك في على عليه‌السلام» فليس هذا مورثا للقدح في ظاهر الآية الاولى بعد كونها محلا للابتلاء وعدم كون الثانية كذلك.

وبالجملة ، المستند في المقام بناء العقلاء على الفرق بين الابتلاء بكلا الطرفين ، وبين الابتلاء بأحدهما ، وهذا الوجه جار ولو علم أنّ الخلل المحتمل فيه أو في غيره سقوط قرينة متّصلة بأحدهما ، ودعوى أنّ أصل وجود القرينة حينئذ معلوم ، والشكّ في وجوده في هذا أو ذاك ، ولم يعلم بنائهم على الأصل في هذا ، وبالجملة ، مورد الأصل ما إذا كان عروض الشكّ بعد استقرار ظهور الكلام وهنا لم يحرز استقرار الظهور ، فلو علم إجمالا بوجود قيد فاسقطوه إمّا في آية أوفوا بالعقود ، وإمّا في آية يا أيّها الرسول بلغ ، الآية ، فلا يبقى ظهور موثوق به للآية الاولى ، مدفوعة بما

٥٠٢

عرفت ، مع أنّ الخلل المحتمل في المقام يحتمل كونها من قبيل الجملة المستقلّة أو الجزء الغير المغيّر للمعنى ، وهذا وجه آخر للتفصّي ولو اغمض عن خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء.

وأمّا الجواب عن العلم الإجمالي بوجود مخصّصات ومقيّدات ، فهو أنّ المقصود إن كان العلم بوجود مخصّصات ومقيّدات لعمومات الكتاب وإطلاقاته في ما بأيدينا من السنّة ، فهذا واضح الدفع ؛ فإنّه إذا تفحّصنا في السنّة ولم نجد لعموم خاصّ من عمومات الكتاب مخصّصا ، فيخرج عن تحت العلم الإجمالي ، نظير ما إذا كان الغنم الموطوء المردّد بين القطيعة أسود ، فالأبيض خارج عن طرف العلم.

وإن كان المقصود العلم بوجود المخصّصات والمقيّدات في الواقع ولو لم يكن في ما بأيدينا فحينئذ نقول : تارة يدّعى هذا العلم في خصوص غير آيات الأحكام فهذا لا يضرّ بآياتها ، واخرى يدّعى بالنسبة إلى مجموع الآيات فتكون آيات الأحكام أيضا طرفا للعلم.

فالجواب ما تقدّم في مسألة التحريف من أنّ أحد الطرفين خارج عن محلّ الابتلاء ، فآيات القصص والحكايات مثل قصّة يوسف وحكاية نوح غير مبتلى بها لنا ، فيكون الطرف المبتلى به ظاهره مأخوذا به على ما تقدّم من أنّ القاعدة في الاصول أنّه لو كانت الاصول ملزمة ومثبتة للتكليف والعلم حاصلا على الترخيص ، فلا محذور في جريان الاصول والعمل بعموم دليلها ، فيبنى بحسب الظاهر بحرمة الطرفين مع العلم بحليّة أحدهما واقعا.

ولو انعكس الأمر يعني كانت الاصول نافية للتكليف ومرخصة وكان العلم متعلّقا بالتكليف فحينئذ لا يجري الاصول ؛ للمانع العقلي وهو المخالفة القطعيّة ، هذا في الاصول.

وأمّا الأمارات فهي إذا كان العلم الإجمالي في قبالها فمطلقا يسقط عن الحجيّة ، وإن كان العلم متعلّقا بالرخصة والأمارة حاصلة على إثبات التكليف ، لارتفاع الكشف النوعي عن الواقع من البين ، مثل العلم إجمالا بخروج واحد من زيد أو عمرو عن تحت «أكرم العلماء» بمعنى أنّ أحدهما لا يجب إكرامه ، لا أنّه يحرم ، فالعلم

٥٠٣

ليس إلّا بمجرّد عدم الوجوب ، ولكن ظاهر أكرم العلماء بحسب عمومه مع قطع النظر عن هذا العلم هو الوجوب في كليهما ، فيسقط هذا الظهور عن الحجيّة ؛ لعدم بقائه بوصف الكشف عن الواقع نوعا وانقلابه إلى الإجمال.

ولكن فيما إذا كان أحد طرفي العلم الإجمالي خارجا عن محلّ الابتلاء فحال الأمارة في خصوص هذا حال الأصل ، فكما يجري الأصل في الطرف الآخر ، فكذا الأمارة.

فقصص نوح ولوط وهود وإبراهيم غير مرتبطة بنا ، فالعلم بورود تخصيص إمّا فيها وإمّا في ما هو محلّ ابتلائنا من آيات الأحكام لا يوجب عدم جواز الأخذ بظاهرها وسقوطها عن الحجيّة عند العقلاء كما ذكرنا.

وأمّا إن كان المقصود العلم الإجمالي بمخصّصات في الواقع بخصوص آيات الأحكام نقول : لا محالة يكون لهذا العلم قدر متيقّن ، فالواحد معلوم والاثنان كذلك وهكذا يعدّ إلى عدد توقّف فيه وكان شاكّا فيه فنأخذ القدر المتيقّن. فنقول : مع وجود هذا العلم وقبل فحص وتجسّس لا إشكال في عدم جواز الأخذ ونحن لا نفعل أيضا ، ولكن نفحص فيما بأيدينا من الأخبار ونجد بقدر هذا القدر المتيقّن الذي يكون الزائد منه مشكوكا بدويّا.

مثلا مقدار العشرة قدر متيقّن ، ومقدار عشرة آلاف محتملة ، فبالنسبة إلى الزائد عن العشرة نجري أصالة البراءة ، وأمّا العشرة ، فإذا راجعنا الأخبار فوجدنا بالنسبة إلى عموم «أوفوا بالعقود» أنّه خصص بالبيع الغرري ، وعموم آخر خصّص بفرد وهكذا وجدنا إلى عشرة عامّات وعشرة مخصّصات ، فهذا العدد القدر المتيقّن وإن كان وقع متعلّقا للعلم بدون عنوان ما بأيدينا ، لكن بعد هذا الفحص والوجدان ينطبق قهرا العشرة المعلومة على هذا العشرة الموجودة فيما بأيدينا التي ظفر بها بالفحص ، فيكون العلم منحلا إلى العلم التفصيلي بهذه العشرة والاحتمال البدوي بغيرها ، ويجري فيها أصالة البراءة بناء على ما تقرّر في محلّه من انحلال العلم الإجمالي بالطرق القائمة في بعض أطرافه ، بل وبالاصول إمّا حقيقة وإمّا حكما.

وهذا الفحص والعلم في غاية السهولة في زماننا حيث قد بوّب الأخبار و

٥٠٤

الأحاديث ، وأيضا الكتب الفقهيّة المبسوطة تكون بأيدينا مثل الجواهر ، ففي كلّ مسألة إذا روجع الجواهر ولم يذكر فيه مخصّصا يحصل العلم بأنّه ليس في الأخبار له مخصّص وإلّا لذكره.

فيعلم إجمالا أنّه بعدد المعلوم بالإجمال يكون المخصّص في أخبار الوسائل مثلا موجودا ، فإذا ورد ما في باب الطهارة ولم نشهد خبرا في الوسائل في هذا الباب راجعا إلى المسألة المطلوبة نعلم بكونها خارجة عن مورد الطرق التي انحلّ العلم الإجمالي بسببها ، فنعلم بكونها من موارد الشكوك البدويّة ، فلا يقال : إنّه على هذا لا بدّ من الفحص والانحلال ثمّ استدلال.

ونحن علاوة على هذا الفحص نفحص زائدا على مقدار العلم أيضا بقاعدة اخرى غير قاعدة العلم الإجمالي ، وهو أنّا فرضنا الفحص بمقدار العشرة المتيقّنة ، وانحلّ العلم الإجمالي ، لكن مع ذلك في كلّ آية نحتمل أن يكون له في الأخبار مخصّص لو فحصنا لوصلنا إليه وظفرنا به فنفحص بمقدار نطمئنّ بعدم هذا المخصّص أيضا وصار بحيث لو كان موجودا واقعا كان وجوده الواقعي بلا أثر.

وأمّا الجواب عن إجمال المتشابه فهو أنّ ذلك ممنوع ، بل لا إجمال لا في مفهوم الظاهر ولا في مفهوم المتشابه ، فإنّ المراد به المجمل ، وهو مثل فواتح السور حيث ليس لها ظاهر أصلا ، ومنه أيضا ما كان له ظاهر ولكن كان المقطوع عدم إرادته ، وبعد الغضّ عنه لم يكن له ظاهر ثانوي ، بل كان أمره دائرا بين محتملات لا مرجّح لأحدها ، وإذن فمن المعلوم خروج الظواهر عن تحت المتشابه ودخولها تحت المحكم.

وحاصل الجواب أنّه أوّلا نمنع إجمال المتشابه ، فإنّه مفهوم مبيّن كمفهوم المحكم والنصّ والظاهر ، والمراد به ما ليس له ظاهر عرفا ، ولو سلّمنا إجماله مفهوما فالمتيقّن من النهي عنه هو المجملات ، فلا يكون دليلا على المنع في الظواهر ، فيكون من قبيل المخصّص المجمل المفهومي بين الأقلّ والأكثر حيث نأخذ بالقدر المتيقّن منه ، وفي غيره نرجع إلى العام ، ففي المقام يبقى الظواهر بعد إجمال هذا النهي تحت عموم القاعدة الارتكازية من حجيّة الظواهر؛ فإنّه لم يعلّق الجواز في الأدلّة على عنوان

٥٠٥

المحكم حتّى يحتاج إلى إثبات المحكميّة ، وإنّما ورد النهي عن العمل بالمتشابه ، فجواز العمل بعد إجمال المتشابه ليس له حالة منتظرة.

ثمّ إنّك بعد ما عرفت فساد ما تمسّك به لعدم جواز التمسّك بظاهر الكتاب فلا حاجة إلى إقامة الدليل على جوازه في خصوص هذا الظاهر بعد إقامته على الجواز في مطلق الظواهر.

وما تمسّك به للجواز أيضا لا يخلو أكثره عن الخدشة ؛ فإنّ منها خبر الثقلين ، ويمكن الخدشة فيه بأن غاية ما يستفاد منه جواز التمسّك بالكتاب ، وأمّا كيفيّة التمسّك فلا تعرّض لها فيه ، فلعلّ المراد التمسّك بنصوصه وإن كانت قليلة ، دون ظواهره.

ومنها قوله عليه‌السلام في بعض الروايات : «يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله» وظاهره توبيخ السائل على سؤاله مع إمكان الرجوع إلى الكتاب ، ولو كان المقصود الرجوع إلى الظواهر لما كان وجه للتوبيخ ، فإنّ العمل بالظواهر شرطه الفحص عن القرينة على خلافها ، ولم يكن له طريق غير السؤال عن الإمام عليه‌السلام ، فلم يكن السؤال عنه مع وجود ظاهر القرآن في البين للفحص عن بقائه بحاله أو ورود تجوّز أو تقييد عليه موردا للملامة والتوبيخ ، فلا بدّ أن يكون كلام الإمام عليه‌السلام محمولا على وجوه أخر لا نعلمها.

ومنها الأخبار الدالّة على عرض الأخبار المتعارضة على كتاب الله والعمل بما وافقه والطرح لما خالفه ، وهذا أيضا قابل للخدشة ؛ فإنّ ما يستفاد من هذه الأخبار كون ظواهر الكتاب صالحة للمرجحيّة للخبرين المتعارضين ، ولا ملازمة بين المرجحيّة وبين المرجعيّة والحجيّة ، فيمكن كون الشيء مرجّحا مع عدم كونه مرجعا وحجّة كما يقوله الشيخ في الظنون المطلقة ، حيث جعلها مرجّحة للخبرين المتعارضين مع عدم جعله إيّاها حجّة مستقلّة.

هذا ولكنّ الإنصاف وجود ما يصلح للدليليّة فيما بين هذه الأخبار على صحة الرجوع في الأحكام إلى الآيات ولو مثل الأمر بالتدبّر في القرآن الواقع في الأخبار ؛ فإنّه سليم عن الخدشة.

٥٠٦

«في اعتبار قول اللغوي»

ومن جملة الظنون التي ادّعي خروجها عن الأصل واقيم الدليل على حجيّتها الظّن الحاصل من قول اللغوي ، والظاهر أنّ المراد به هنا الظنّ النوعي كما في باب الظواهر دون الفعلي ، والمراد حجيّة قوله في تشخيص ظواهر الألفاظ بعد فهم مراده الجدّي من ظواهر كلامه أو نصوصه ، فيقال : هذا الذي ثبت مراديّته جدّا بظاهر كلامه ـ كما مرّ في الباب المتقدّم ـ أو بنصّه يجب الحكم بمطابقته مع الواقع.

والحاصل : أنّ الكلام هنا في تطبيق الإرادة الجدّي مع الواقع بحسب العمل ، وهو غير تطبيق الإرادة الاستعماليّة مع الإرادة الجدّية ، فالمدّعى تصديقه في العمل وترتيب آثار الصدق على مفاد قوله في مقام تشخيص الظواهر وإن لم يورث الظّن الفعلي ، نظير حجيّة قول العادل ، فكما لو أخبر العادل وكان ظاهر كلامه أو نصّه ملكيّة هذا لزيد يرتّب عليه آثار الملكيّة الواقعيّة تعبّدا وإن لم يورث الظنّ فعلا ، فكذا لو أخبر اللغوي بأنّ لفظ الصعيد موضوع لمطلق وجه الأرض ، وظاهر هذا شموله للرمل والحجر أيضا ، فلا بدّ من ترتيب أثر الواقع على هذا الظاهر وإن لم يظن بالصدق ، فيحكم بترتيب الأثر الشرعي المرتّب على الصعيد على الرمل وو الأحجار (١).

__________________

(١) والحاصل : قد يحصل للإنسان بعد مراجعة كتب اللغة الاطمئنان بالمعنى فهذا في الحقيقة اعتماد على الاطمئنان ، والمدّعى من حجيته في المقام هو الاعتماد على قوله ولو لم يورث ظنا أصلا ، بل ولو حصل على خلافه نظير الحجيّة في الظواهر وقول البيّنة ، فالمقصود منها صحة الاحتجاج بين العبد والمولى وإن كان السر هو الكشف النوعي وحصول الظنّ منه نوعا. منه قدس‌سره الشريف

٥٠٧

والدليل الذي أقاموه على هذا المدّعى وجهان :

الأوّل : أنّ اللغوي خبرة في هذا الباب ، وقول الخبرة حجّة.

وجوابه أنّ الصغرى وهي خبروية اللغوي في مقام تشخيص الظواهر يمكن أن يمنع حقّ المنع ، وذلك لأنّه ليس وظيفة اللغوي إلّا تتّبع موارد الاستعمال ، فيذكرون عقيب كلّ مادّة معاني عديدة ، ويستشهدون لكلّ معنى ببعض أشعار العرب أو كلام سمعوه من العرب ، فكلّ معنى وجدوا استعمال اللفظ فيه في لسان العرب نقلوه ، وربّما كان في البين قرينة على هذا المعنى ولم ينبّهوا لذلك ؛ لأنّهم ليسوا في هذا المضمار.

وبالجملة ، لم يجر ديدنهم على تميّز الحقيقة عن المجاز ، أو المشترك عن الحقيقة والمجاز ، فلم يجدي شيئا لما هو المهمّ لنا وهو كون اللفظ عند التجرّد عن القرينة ظاهرا في المعنى الفلاني ؛ لما مرّ من أنّهم ليسوا بصدد بيان التجرّد عن القرينة والاحتفاف بها ، فلو شككنا من جهة موارد الاستعمال كان للرجوع إليهم وجه ، لأنّهم خبرة هذا المقام.

فلو عيّن بعضهم بواسطة بعض الأمارات والعلامات الدالّة على الحقيقة مثل أصالة عدم القرينة ونحوها المعنى الحقيقي عن غيره فهو في هذا التعيين غير خبرة ويكون كواحد منّا ، وخبرويّة هذا المقام إنّما يحصل بالفحص في استعمالات العرب ومحاوراتهم والممارسة لذلك حتّى يحصل له القطع في كلّ مورد مورد بأنّ المعنى الفلاني قد أراده المستعمل من حاقّ اللفظ ، وفهمه المخاطب أيضا كذلك ، وأنّ المعنى الفلاني ليس هكذا ، وإنّما اريد وفهم بمعونة القرينة الخارجة عن حاقّ اللفظ لا أن يحرز ذلك بالأمارات الظنيّة.

فعلم أنّ الرجوع إلى قول اللغوي بعد تسليم الكبرى المذكورة أعني حجيّة قول الخبرة يبتني على إحراز مقدّمتين ، الاولى : كون اللغوي بصدد تميز الحقائق عن المجازات لا صرف موارد الاستعمال ، والثانية : كونه خبرة في معرفة الحقائق والمجازات لا متّكئا على الأمارات المعمولة.

وأمّا لو كان الشكّ في مقام آخر وهو أنّ الانفهام والتبادر هل هو من حاقّ اللفظ أو من القرينة فحالهم في ذلك حالنا بلا فرق ، وليس لهم خبرويّة فيه أصلا ، و

٥٠٨

بالجملة ، فالصغرى ممنوعة وإن كان الكبرى وهي حجيّة قول الخبرة مسلّمة بالوجدان ، بل عليه الفقهاء في مسألة التقويم ومسألة التقليد ، فرجوع الجاهل في كلّ صنعة إلى العالم بها ممّا لا ينكر وإن كان يظهر من شيخنا المرتضى قدس‌سره منع الكبرى أيضا.

لا يقال : إنّك تسلّمت خبروية اللغوي في تشخيص موارد الاستعمال ، وهذا المقدار يكفينا ؛ فإنّ الشكّ الحاصل في مرحلة وجود القرينة وعدمها يرفع بأصالة عدم القرينة ، فيثبت بذلك أنّ الانفهام من حاقّ اللفظ.

لأنّا نقول : لا يثبت بذلك حجيّة قول اللغوي مستقلا كما هو المدّعى ، نعم الكلام في الأصل المذكور وجريانه في هذا المقام أو لا؟ كلام آخر يأتي ، وعلى فرض الجريان لا ربط له بحجيّة قول اللغوي.

الوجه الثاني : مقدّمات انسداد باب العلم ، وبيانه أنّ الاستنباط لا شكّ في كونه واجبا على المجتهدين ، ولا شكّ في توقّفه على فهم الألفاظ الواقعة في الكتاب والسنّة ، ولا طريق له سوى الرجوع إلى كتب اللغة ، فلو لم يكن قول اللغوي حجّة يلزم تعطيل باب الاجتهاد ؛ لانسداد باب العلم بمعاني الألفاظ.

والجواب أنّ المقدّمات المذكورة بين ما يمكن منعه ، وبين ما لو سلّم صحّته فلا ينتج المدّعى ، وبيان ذلك أنّ الملازمة بين الانسداد وعدم الحجيّة ممنوعة ، فلنا أن نقول بعدم حجيّة قول اللغوي ، ومع ذلك لا يلزم كون باب العلم بمداليل الألفاظ مسدودا ، بل هو مفتوح ؛ فإنّ من المعلوم إمكان تحصيل القطع في عامّة الألفاظ بدون الرجوع إلى اللغة والاستفسار من أهلها ؛ فإنّ أحدا لا يشكّ في معنى «ضرب» وهكذا غيره إلّا ما شذّ وندر ، ولا يلزم من إجراء الأصل في هذا الشاذ النادر محذور.

وأمّا مدرك هذا القطع فلا نحتاج إلى تشخيصه ، ولا يضرّ كونه اتّفاق أهل اللغة ؛ إذ لا منافاة بين عدم حجيّة الظنّ الحاصل من قول واحد واحد منهم ، وبين حصول القطع من اجتماع الظنون الغير المعتبرة. وبالجملة ، لا نحتاج في تشخيص معاني الألفاظ إلى الاستفسار من أهل اللغة في عامّة الألفاظ.

٥٠٩

والحاصل : إن كان مقصود المستدلّ إثبات الحجيّة مع ملاحظة انسداد باب العلم بمعظم الأحكام وسائر مقدّمات دليل الانسداد فهذا منتج لحجيّة كلّ ظنّ فعلي ، وقول اللغوي إذا حصل منه الظّن الفعلي يصير حجّة بملاك مطلق الظنّ وإن فرض انفتاح باب العلم باللغات في غير هذا المورد ، والمقصود إثبات كونه ظنّا مخصوصا.

وإن كان المقصود إثباتها مع قطع النظر عن انسداد العلم بمعظم الأحكام بمعنى أنّ أخبار الثقات كانت حجّة وهي وافية بمعظم الفقه ، ومعاني ألفاظها أيضا غالبا طريق العلم بها موجود ولا يحتاج إلى الرجوع إلى اللغوي ولا يلزم من عدم الرجوع إليه إلّا الانسداد في الشاذ النادر ، فالقاعدة في هذا الشاذ النادر يقتضي الرجوع إلى الاصول العمليّة بعد انقطاع اليد عن العلم والعلمي وإن فرض انسداد باب العلم باللغات في غير الأحكام ، ولا يقتضي مجرّد وجوب الاجتهاد على المجتهد حجيّة قول اللغوي في هذا المورد.

فإن قلت : نعم لا حاجة إليه بالنسبة إلى تشخيص أصل المعاني ، وأمّا موارد الحاجة إلى قوله في تفصيل المعاني وتعيين الحال في المصاديق المشكوكة فأكثر من أن يحصى كما في ألفاظ الوطن والمفازة والتمر وغيرها.

قلت : الإنصاف عدم الحاجة رأسا في تعيين تفاصيل المعاني أيضا : ووجه ذلك أنّا نقطع بأنّه كما في لغة العرب لفظ الماء بإزاء المعنى الخاص كذلك في لغة الفرس لفظ (آب) موضوع له ، وإذا خلط مقدار من التراب في مقدار من الماء بحيث حصل لنا الشكّ في صدق مفهوم (آب) فلا شكّ أنّ العرب أيضا في صدق الماء عليه متحيّر وشاكّ ، فلا معنى لرجوع طائفة الفرس إلى طائفة العرب في تشخيص مصاديق المفاهيم بعد فرض عموم التحيّر وثبوت الشكّ في كلتا الطائفتين ، بل المرجع ليس إلّا تخلية كلّ طائفة ذهنه واستفهام الحال من المخلّى بالذهن من هذه الطائفة لا استفهام العجمي من المخلّى بالذهن العربي.

وكذا الحال في سائر الألفاظ المشكوكة في سعة مفاهيمها وضيقها ، فإنّ الوطن نقطع بأنّ مرادفه في الفارسيّة (جايگاه) ، وكذا المفازة ؛ فإنّها اسم للمهالك ، سميّت

٥١٠

بالمفاوز تفؤّلا بالخير ، فنقطع بأنّ بإزاء الصحاري المخوفة المهلكة اسما في الفارسيّة أيضا ، ثمّ لو بقينا على الشكّ ولم يتّضح الحال بعد تخلية الذهن أيضا في نادر من المقامات فلا بأس بإجراء الأصل في هذا المقام ، ولا يلزم ارتفاع الدين بالأصل كما هو إحدى مقدّمات الانسداد.

ثمّ لو سلّمنا تماميّة مقدّمات الانسداد فمقتضاها حجيّة كلّ ظنّ فعلي ، ومن جملته الظنّ الحاصل من قول اللغوي ، مثلا إذا قال اللغوي : الصعيد اسم لمطلق وجه الأرض فحصل الظنّ بصدقه فيحصل الظنّ قهرا بترتّب حكم الصعيد على الرمل والحصى ، وأين هذا من المدّعى من اختصاص الحجيّة بخصوص الظنّ الحاصل من قول اللغوي.

وبالجملة ، نتيجة مقدّمات الانسداد على فرض تسليمها مخالفة للمدّعى من جهتين، الاولى : أنّ نتيجتها حجيّة الظنّ الشخصي الفعلي والمدّعى هو الظنّ النوعي.

والثانية : أنّه لا اختصاص بحسب هذه المقدّمات بالظّن الناشي من قول اللغوي والمدّعى هو الاختصاص بهذا الظن.

والحاصل أنّ معنى الحجيّة صحّة الاعتذار ، فلو تيمّم على الحصى مع إمكان التراب ، فسأل الله عن ذلك يوم القيامة أمكن أن يجاب بأنّه : قد قال الجوهري مثلا بأنّ الصعيد أعمّ ، فإن حصل الاطمئنان بحيث صحّ الجواب عند سؤال الله فهو معنى الحجّة ، وإن لم يحصل هذا الاطمئنان والجزم فلا حجيّة.

والإنصاف عدم حصوله من هذه الأدلّة ، فإذن فلا بدّ من الرجوع في كلّ مقام إلى الأصل المناسب به ، ففي هذا المثال يرجع إلى الأصل الجاري في الأقلّ والأكثر ، لكون الترديد بين مطلق وجه الأرض أو خصوص التراب الخاص ، فإن قلنا إنّه البراءة حكم بها ، وإن قلنا إنّه الاشتغال حكم به.

بقي الكلام في أنّه هل يفيد ضمّ أصل عدم القرينة إلى قول اللغوي في تشخيص الظواهر أولا؟ فإنّه قد ذكرنا خبرويّته في تشخيص أصل موارد استعمال اللفظ في كلام العرب ، فبعد تشخيص كون المعنى من موارد استعمال اللفظ بالرجوع

٥١١

إلى اللغوي يرفع احتمال الاتكال إلى القرينة بأصالة عدمها ، فيثبت بذلك كون المعنى حقيقيّا، فينفع ذلك للمواضع التي نجد اللفظ في كلام الشارع أو غيره بدون قرينة ، فنحمله على هذا المعنى.

فنقول : قد تقدّم في بعض المباحث السابقة أنّ القدر المعلوم من العمل بهذا الأصل هو ما إذا كان الشكّ في المراد مع محرزيّة الموضوع له ، مثلا لفظ الأسد الذي نعلم بأنّه موضوع للحيوان المفترس ، ومجاز في الرجل الشجاع لو شككنا في أنّ المتكلم ب (جئني بأسد) هل أراد الأوّل أو الثاني ، فعند هذا يجري الأصل لتشخيص المراد.

وما نحن فيه عكس هذا ، فنعلم أنّ هذا المعنى مراد في استعمال العرب ، والشكّ في المعنى الموضوع له ، وهذا هو الذي وقع محلا للنزاع بين السيّد والمشهور ، فذهب السيّد إلى أنّ الأصل في الاستعمال الحقيقة ، وذهب المشهور في قباله إلى أنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة ، فلا يمكن الجزم لمكان هذا النزاع بحجيّة الأصل المذكور لإثبات الوضع في مقام الشكّ في الموضوع له مع إحراز المراد وإنّما الثابت حجيّته لإثبات الإرادة في مقام الشكّ في المراد مع إحراز الموضوع له ، والظاهر أنّ من قبيل الثاني تشخيص مصداق العامّ بأصالة عدم التخصيص في ما إذا علم عدم حكم العام في موضوع وشكّ في أنّه داخل في أفراد العام حتّى يكون خروجه عن الحكم تخصيصا أو خارج حتى يكون تخصّصا.

وقد وقع في مواضع من مكاسب شيخنا المرتضى قدس‌سره ، مثلا لو قال : أكرم العلماء وعلم بأنّ زيدا لا يجب إكرامه ، بل يحرم ، ولكن لم يعلم أنّه عالم حتى يكون تخصيصا في العامّ ، أو جاهل حتى يكون تخصّصا فيه.

فربّما يقال في هذا أيضا : أنّ الثابت جريان هذا الأصل في ما إذا كان الشكّ في الحكم بعد إحراز الموضوع ، وهذا شكّ في الموضوع بعد إحراز الحكم ، فإذا علم أنّ زيدا عالم يصحّ [إجراء] أصالة عدم التخصيص لإثبات وجوب إكرامه ، وأمّا إذا علم أنّه محرّم الإكرام فلا يصحّ إجرائها لإثبات جهله.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ الشكّ هنا يرجع بالأخرة إلى المراد الإجمالي من العام ،

٥١٢

فإنّه لو كان الزيد المحرّم الإكرام عالما يلزم أن يكون المراد الجدّي في أكرم العلماء بعض العلماء، وإن كان جاهلا يلزم أن يكون المراد الجدّي فيه تمامهم ، فلا يعلم أنّه أراد بقوله : أكرم العلماء تمام العلماء أم بعضهم ، ونشأ هذا من الشكّ في علم زيد وجهله مع العلم بحرمة إكرامه ، فيصحّ إجراء الأصل لإثبات مراديّة التمام دون البعض ، فيتشخّص بسببه الحال في زيد ، فيستكشف عدم علمه وكونه جاهلا ، فيكون حال هذا العام حال العام العلمي أو العقلي.

فكما لو علم بمضمون «كلّ عالم يجب إكرامه» وعلم أنّ زيدا لا يجب إكرامه ، علم بعكس النقيض أنّه ليس بعالم ، وكذا إذا حكم العقل بأنّ كلّ إنسان حيوان ناطق ، فعلم بأنّ الجسم الخاص ليس بحيوان ناطق ، علم بعكس النقيض أنّه ليس بإنسان ، فكذا الحال في العامّ الغير العلمي والعقلي بضميمة الأصل المذكور ، ويظهر الثمرة في ما إذا كان حكم مرتّبا على عنوان الجهال فيحكم بترتّب هذا الحكم على زيد ، فإنّ المثبت من هذه الاصول أيضا حجّة.

وبالجملة ، فالشكّ في هذا المقام راجع إلى الشكّ في المراد ، وهذا بخلاف ما إذا علم أنّ المراد من لفظ الأسد مثلا الرجل الشجاع ، ولكن لم يعلم أنّه موضوع لما يعمّ الرجل الشجاع ، أو لمعنى يكون الرجل الشجاع معنى مجازيّا بالنسبة إليه ، فإنّ الشكّ لا يرجع إلى مراد المتكلّم أصلا.

والحاصل أنّ محلّ إجراء الأصل اللفظي ما كان وظيفة المتكلّم تعيينه لو كان حاضرا وسئل عنه ، ففي مقام علمنا بإرادته من الأسد ، الحيوان المفترس قد فرغ من وظيفته من بيان المراد اللفظي والجدّي.

وأمّا فهم أنّ هذا المعنى معنى حقيقيّا فاللائق بهذا السؤال هو من كان خبرة من اللغوييّن في هذا المقام بخلاف الحال في العام ، فإنّه وإن لم يكن للمكلّف تحيّر في مقام العمل لعلمه بحرمة إكرام زيد ، لكن له حقّ فهم مراد المتكلّم لينتفع به في مقام آخر ، وهذا من شأنه بيانه بحيث لو كان حاضرا وسئل عنه لكان سؤالا راجعا بحيث متكلميّته ؛ لأنّه سؤال عن إرادته الجدّية وأنّها متعلّقة بتمام أفراد العالم أو ببعضها بعد

٥١٣

ما فرغ اللغوي الخبرة عن بيان ما هو وظيفته بعكس اللفظ المشكوك كون مورد استعماله حقيقيّا أو مجازيّا ، فإنّه قد فرغ من إرادة المتكلّم بحسب اللفظ وبحسب الجدّ وبقي ما هو وظيفة اللغوي الخبرة.

وبعبارة اخرى هنا مرحلتان ، الاولى : أنّ المعنى بعد انفهامه من اللفظ وكونه تحت الإرادتين يبحث عن كيفيّة انفهامه وأنّه كان بالوضع أو بمعونة القرينة ، والثانية : أنّ المعنى المنفهم بأيّ كيفيّة كان من الوضع أو القرينة هل وقع تحت الإرادة اللفظيّة أو الجدّيّة ، ولو فرض أنّ المراد بحسب نفس الأمر كان معلوما ، ولكن فرق بين المراد الجدّي بحسب نفس الأمر والمراد الجدّي في مفهوم اللفظ.

فإن قلت : على ما ذكرت يلزم جواز التمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة في ما إذا كان بينه وبين المخصّص عموم من وجه ، مثل قوله : أكرم العلماء ، وقوله : لا تكرم الفسّاق ، فإنّه إذا شكّ في كون زيد العالم مثلا فاسقا : الشكّ في المراد الجدّي من أكرم العلماء بالتقريب المتقدّم وأصالة عدم التخصيص ينفي احتمال التخصيص ، وحيث إنّ هذا الأصل في اللوازم أيضا حجّة نأخذ بلازمه وهو عدم كون الزيد فاسقا ولا حاجة إلى قيد احتمال استقصاء حال الأفراد من المتكلّم كما قيّدته سابقا ؛ إذ صورتا وجوده وعدمه متساويتان في الملاك الذي ذكرته هنا.

قلت : نعم كلّ ما ذكرنا في هذه المسألة أعني مسألة دوران الأمر بين التخصيص والتخصّص لترجيح الثاني على الأوّل جار بعينه في تلك المسألة ، ولكن قيد احتمال الاستقصاء محتاج إليه في كلتا المسألتين ، فلو قال : أكرم العلماء ، ثمّ قال : أهن زيدا وشككنا في كونه عالما أو جاهلا وعلمنا بكون المتكلّم أيضا مثلنا في عدم العلم بحاله فإنّه لا شبهة في عدم جريان الأصل من رأس ، لا أنّه جار ولا يثبت اللازم ، فإنّ الأصل المذكور يكون جاريا في مقام صحّ السؤال عن المتكلّم لو كان حاضرا ، ففي مورد احتمال الفحص والاستقصاء يجري الأصل ويصحّ السؤال ، ومع عدمه العدم من غير فرق بين المسألتين ، ومن هنا يعرف أنّ الشبهة المراديّة بالطريق الذي ذكرنا ليست موردا للأصل على وجه الكليّة.

٥١٤

فتحصّل أنّ التمسّك بأصالة عدم القرينة لإثبات الوضع مع معلوميّة المراد غير جائز وإن قلنا بجواز التمسّك بأصالة عدم التخصيص لإثبات خروج الموضوع عن تحت العام مع معلوميّة حكمه مخالفا لحكم العام.

ثمّ إنّ في الكفاية في مقام ذكر حجج المانعين عن التمسّك بظاهر الكتاب ذكر وجوها خمسة :

الأوّل : أنّ فهم القرآن مختص بأهله ومن خوطب به ، كما يشهد به ما ورد في ردع أبي حنيفة وقتادة عن الفتوى.

والثاني : أنّ القرآن مشتمل على مطالب عالية لا تصل إليها أيدي اولى الأفهام ، كيف ولا يصل إلى فهم كلام مثل امرئ القيس وابن سينا إلّا الأوحدي من الأفاضل ، فما ظنّك بكلامه تعالى مع اشتماله على علم ما كان وما يكون وحكم كلّ شيء ، والفرق بين الوجهين بعد اشتراكهما في عدم فهمنا لمطالب القرآن وعدم معرفتنا بها أنّ الأوّل يكون بالخبر والتعبّد ، والثاني بالوجدان ، وهذا الوجه لم نذكره نحن لوضوح الجواب منها ، فإنّا نسلّم على اشتمال القرآن على البطون وبطون البطون ، لكن أين هذا من ظواهر مثل آية (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) فلا يدّل هذا إلّا على عدم جواز الأخذ بما لم يظهر معناه.

والثالث : أنّ المتشابه ممنوع عن اتّباعه وهو شامل للظواهر ، ولا أقلّ من احتمال شموله له بأن يكون ما نزعمه ظاهرا من قبيل الرموزات والإشارات التي لا يلتفتها إلّا من خوطب بالقرآن ويكون كما قيل بالفارسيّة.

ميان عاشق ومعشوق رمزى است

نداند آنكه اشتر مى چراند

مثلا كان الياء في (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إشارة إلى مطالب عالية و «أيّها» إلى مطالب أخر وهكذا.

والرابع : أنّ ظواهر القرآن وإن لم يكن من قبيل المتشابه ذاتا ، إلّا أنّها صارت منه عرضا للعلم الإجمالي بطروّ التخصيص والتقييد والتجوّز في كثير من ظواهره.

والخامس : الأخبار الناهية عن تفسير القرآن بالرأي لشمولها لحمل الكلام

٥١٥

الظاهر في معنى على هذا المعنى.

ثمّ ذكر بعد ذلك ما حاصله أنّ النزاع يختلف صغرويّة وكبرويّة بحسب هذه الوجوه ، والمقصود أنّ مرجع بعض هذه الوجوه إلى نفي الظهور مع تسليم أنّ كلّ ظاهر حجّة ، ومرجع بعضها إلى نفي حجيّة كلّ ظهور مع تسليم أصل الظهور ، فمرجع عدم المعرفة بمطالب القرآن إلّا لمن خوطب به بكلا وجهيه ، وكذا العلم الإجمالي بطروّ التخصيص ونحوه إلى نفي الظهور ، ومرجع شمول المتشابه للظاهر والأخبار الناهية إلى منع أنّ كلّ ظاهر حجّة.

والظاهر أنّ هذا الكلام منه قدس‌سره ناظر إلى الاعتراض بكلام شيخنا المرتضى قدس‌سره في الرسائل حيث حكم بصغرويّة النزاع على وجه الكليّة ، ومحصّل الاعتراض أنّ هنا تفصيلا ، ويختلف صغرويّة النزاع وكبرويّته بحسب الوجوه ، فلا وجه للحكم بصغرويّته بقول مطلق ، هذا.

أقول : الكبرى المأخوذة في المقام يختلف باختلافها حال النزاع ، فإن كانت هي أنّ كلّ ظاهر حجّة كان كما ذكره قدس‌سره من الاختلاف باختلاف الوجوه ، ولكن شيخنا المرتضى قدس‌سره لم يجعل هذا كبرى الباب ، بل الكبرى التي ذكرها في صدر البحث هي أنّ الشارع في تعيين مراده وإفهام مرامه لم يخترع ولم يجعل طريقة جديدة غير طريقة العرف ، ولا يخفى أنّه على هذه الكبرى يكون جميع النزاعات في هذا المقام راجعة إلى الصغرى سواء في ذلك نزاع الأخباري في الكتاب ونزاع المحقّق القمّي في السنّة بالاختصاص بمن قصد إفهامه.

بيان ذلك أنّ أحدا لا ينكر أنّ الشارع لم يخترع طريقه جديدة في تعيين مراده ، ويقول به الأخبارى والمحقّق المذكور أيضا. وإنّما الأخباري يقول : إنّ كلّ اثنين تباينا على التكلّم بالرمز فليس لثالث حقّ تشخيص المراد بظاهر كلامهما عند العرف أيضا وأنّه على هذا جرت طريقة العرف ، فالقرآن من هذا القبيل.

وكذا المحقّق أيضا يقول : ليس للشارع طريقة جديدة ، ولكن طريقة العرف أنّ الأخذ بالظواهر مخصوص بمن قصد إفهامه ، فهذان وإن كانا بالنسبة إلى حجيّة

٥١٦

الظواهر كبرويين ولكنّهما بالنسبة إلى عينيّة طريقة الشرع مع طريقة العرف ليسا إلّا صغرويين، يعني أنّ الرسم المألوف بين أهل العرف جرى على أنّ من يتكلّم مع مخاطبه بالرمز لا يكون للغير حقّ بأن يعيّن المراد بالأخذ بالظواهر.

وكذا على أنّ غير المقصود بالإفهام لا يكون له تعيين المراد بالرجوع إلى الظواهر ، لا أنّ هذا طريقة جديدة مخترعة مجعولة للشرع.

وبالجملة ، لا يلازم كبرويّة النزاع على الكبرى التي اتّخذها صاحب الكفاية كبرويّتها على كبرى الشيخ قدس‌سره ، فلا وجه للإيراد والاعتراض.

تتمّة ، لو اختلفت القراءة في آية على وجهين مختلفين في المؤدّى مثل «يطهرن» بالتخفيف و «يطّهرن» بالتشديد (١) فلا إشكال أنّ المتضادّين لا يمكن أن يكون

__________________

(١) فإنّ الطهارة من قبيل الحصول والانفعال نحو الشرافة والكرامة ، والتطهّر من قبيل الفعل والحركة ، ويعبّر عن الأوّل بالفارسيّة ب «پاك شدن» وعن الثاني ب «پاك كردن» وباب التفعّل وإن كان لازما لأنّه للقبول والمطاوعة إلّا أنّ الكون من قبيل الفعل والحركة يلائم مع اللزوم والتعدّي ، ألا ترى أنّ «ضحك» و «تبسّم» و «ذهب» ونحوها أفعال لازمة ومع ذلك يكون من قبيل الفعل والحركة للفاعل دون ما كان قهريّ الحصول له.

والحاصل أنّ قراءة التخفيف لا شبهة في كونه من قبيل الحصول المعبّر عنه في الفارسيّة ب «شدن» فلا محالة يكون عبارة عن الطهارة عن الدم ، فيكون غاية الحرمة على هذا هو الانقطاع ، وأمّا التطهّر فحيث إنّه من باب التفعّل وهو لم يستعمل في ما عهدنا من مواضع استعماله في الحصول ، بل استعمل في الكلّ في الفعل والحركة للفاعل سواء استعمل في القبول والمطاوعة أم الغي عنه ذلك فلا محالة يكون عبارة عن التطهير الذي هو من مقولة الفعل الاختياري للفاعل ، وليس ما كان فعلا للمكلّف في المقام وصالحا للغائيّة للحرمة سوى الغسل ، وأمّا غسل الفرج فهو وإن كان فعلا ولكنّه لم يقل بغائيته قائل ، فتعيّن معنى الآية على هذه القراءة في غائيّة الغسل بالضم ، وحيث لا يمكن إرادة كليهما فلا بدّ إمّا من حمل الطهارة على الطهر الحاصل عقيب التطهّر ، فيكون المراد الطهارة من الحدث ، وإمّا من حمل التطهّر على المعنى الحصولي ، ولا يخفى أنّ الثاني مستلزم للتجوّز بخلاف الأوّل ، فإنّه لم يؤخذ في معنى الطهارة إلّا مجرّد الحصول ، وأمّا عدم تعقّبه للفعل ـ

٥١٧

كلاهما حكم الله ، فلا يمكن أن يكون حدّ حرمة الوطي النقاء ، وأن يكون هو الغسل. وحينئذ فإن قطعنا بتواتر القراءات ، والقول بتواترها يمكن على وجهين :

الأوّل : يقال : بأنّهما آيتان نزلتا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان الغاية في إحداهما يطهرن وفي الاخرى يطّهّرن ، والثاني ، أن يقال : الآية واحدة ، ولكن في خصوص هذه اللفظة يكون المنزل على النبي هو المادّة وجعل الاختيار لإحدى الهيئتين بيد القاري.

وعلى كلّ حال فإن حصل القطع بالتواتر بأحد وجهيه فلا بدّ من ملاحظة أنّ أيّ القطعين أظهر من الآخر في معناه ، مثلا ظهور يطهرن في النقاء أقوى أو ظهور يطهّرن في الغسل ، فإن كان في البين أظهر يجعل الأظهر قرينة على صرف الظاهر ، وكذا النصّ لو كان يجعل قرينة لغيره.

وإن لم يحصل القطع بالتواتر فنقول : قد ورد في الأخبار الأمر بالقراءة كما يقرأ

__________________

ـ الاختياري للفاعل فلم يؤخذ فيه بأن يعتبر أن يكون حصولا قهريّا لم يعمل في مقدّماته أيضا اختيار الفاعل ، بل هو من ذلك ومن الحصول الذي يحدث عقيب فعل اختياري للفاعل.

وإذن فبناء على تواتر القراءات يتّضح دلالة الآية الشريفة على كون الحرمة مغيّاة بالغسل دون الانقطاع ، ولكنّ الشأن في ثبوت التواتر ، وذلك لوضوح عدم حصول القطع بقرآنيّة ما يروونه القرّاء السبع.

وإذن فتصير الآية الشريفة مجملة ، فلا بدّ من التكلّم على القاعدة من استصحاب حكم المخصّص أو الرجوع إلى العام ، إلّا أن يقال : إنّ قوله تعالى بعد ذلك : (فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) رافع للإجمال ، فعلى هذا أيضا تكون الغاية هو الغسل ، فيكون الكلام على القاعدة مع الإغماض عن ذلك ، كما يكون مع الإغماض عن الأخبار الخاصّة في المقام أيضا ، وأمّا مع النظر إلى الأخبار الخاصّة فهي بين مصرّح بالجواز وبين الناهي عن الوطي قبل الغسل ، ومن المعلوم أنّ مقتضاها الحمل على الكراهة وحمل يطهرن أيضا على الطهارة من الدم ، هذا. منه قدس‌سره الشريف.

٥١٨

الناس وهذا الأمر محتمل لمعنيين ، الأوّل : أن يكون المفاد نظير مفاد دليل التعبّد بالخبر ، فكما أنّ مفاده لزوم البناء العلمي على كون ألفاظ الخبر صادرة عن المعصوم ، فكذا مفاد هذا أيضا هو البناء على أنّ ما يقرئه الناس هو القرآن وترتيب آثار القرآن الواقعي عليه ، ففي صورة الاختلاف يصدق على كل قراءة أنّه ما يقرئه الناس ، فيلزم البناء على قرآنيّة الجميع ، فيصير القراءتين المتعارضتين في المؤدّي بمنزلة خبرين متعارضين رواهما الثقة.

والثاني : أن يكون الغرض من الأمر بقراءة القرآن الذي يقرئه الناس هو الردع عن التفحّص عن القرآن الذي جمعه الأمير عليه‌السلام وأتاه إلى الجماعة ، فقالوا : كفانا ما بأيدينا ، فقال لا ترونه حتّى يجيء به ابني مهدي عليه‌السلام ، وعلى هذا فيكون المستفاد من هذا الأمر حصول ثواب قراءة القرآن على قراءة ما يقرءوه وترتيب آثار قراءة القرآن الواقعي عليه ، فلا تعرّض فيه لجواز العمل بالحكم الذي هو مشتمل عليه ، وبالجملة فالمستفاد حينئذ جواز القراءة لا جواز الاستدلال.

ثمّ هذا المعنى أيضا محتمل لوجهين :

الأوّل : أن يكون قضيّة مطلقة شاملة لكلّ قراءة حتى في صورة اختلاف القراءات ، فمفاده أنّ كلّ قراءة يجوز القراءة على طبقها وتؤثّر أثر قراءة القرآن الواقعي من الثواب وغيره.

والثاني : أن يكون قضيّة مجملة وكان في مقام مجرّد الردع عن فحص قرآن الأمير عليه‌السلام والإرجاع إلى ما في الأيدي من دون نظر إلى أنّ في صورة الاختلاف يجوز القراءة بكلّ قراءة أولا؟ فيكون الحال من هذه الجهة موكولة على مقتضى القاعدة ، فإن اتّفقت القراءات فلا كلام ، وإن اختلفت فلا بدّ من ملاحظة الأوثق الأتقن.

وهذان الوجهان وإن كان لا تظهر ثمرة بينهما في ما نحن بصدده ؛ فإنّ كليهما مشترك في سكوت الأمر المذكور عن جواز الاستدلال والعمل على طبق المدلول ، وإنّما يدلّ على جواز القراءة ، فمن حيث العمل والاستدلال لا يجوز الرجوع إلى شيء

٥١٩

من القرآنين وإن كان نصّا ، بل يرجع إلى القاعدة.

نعم تظهر الثمرة بينهما في مقام آخر وهو الآثار المترتّبة على قراءة القرآن ، فعلى الأوّل يحكم بترتّبها على جميع القراءات ، وعلى الثاني على خصوص الأوثق إن كان ، وإلّا فيحتاط ، مثلا وجوب القراءة في الصلاة أثر للقرآن أعني الحمد والسورة ، فإن اختلفت القراءة في واحد من ألفاظ الحمد مثل «مالك» حيث قرء «ملك» أيضا فعلى الوجه الأوّل يجوز القراءة بكلّ منهما ؛ لأنّ قراءة كلّ بمنزلة قراءة القرآن ، وعلى الثاني إن كان أحدهما أقوى وأتقن يتعيّن هو بالقراءة ، وإلّا فيحتاط بقراءة كليهما.

وكيف كان فعلى المعنى الأوّل وهو التنزيل منزلة القرآن الواقعي قراءة وعملا كالخبر يصير القراءتان المتعارضتان كالخبرين المتعارضين ، فإن كان بينهما نصّ أو أظهر يجعل قرينة على الظاهر ، وإن تساويا في الظهور فقد جعل الشارع لتعارض الخبرين قانونا وهو الرجوع إلى المرجّحات ، وعند فقدها التخيير ، دون الرجوع إلى ثالث ، وهذا القانون لو لا التعبّد به من الشرع لكان على خلاف القاعدة ، فإنّ الأمارات إن جعلت حجّة من باب الطريقيّة فقاعدة باب الطرق هو التساقط عند التعارض ، وإن جعلت من باب السببيّة فقاعدة باب الأسباب هو التخيير عند التزاحم كإنقاذ الغريقين ، فالترجيح بالمرجّحات يكون على خلاف القاعدة على أيّ حال ، فيقتصر فيه على مورده وهو الخبران المتعارضان ، فيكون المعمول به في القراءتين هو القاعدة ، وحيث إنّ المختار هو الطريقيّة كان مقتضى القاعدة تساقطهما ، فيجوز القراءة بكلّ منهما ولا يجوز الاستدلال بشيء منهما ؛ فإنّه لا تعارض بينهما بحسب القراءة ، وإنّما التعارض ثابت بحسب العمل ، فيتعيّن الرجوع إلى دليل آخر وهو مختلف بحسب المقامات.

ففي الآية المذكورة يبنى على وجود العموم الأزماني وعدمه ، فإن قلنا بالأوّل يعني بكون كلمة «أنّى» في قوله تعالى : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) زمانيّة استيعابيّة استغراقيّة بأن كان الزمان ملحوظا قطعا متعدّدة وكلّ قطعة

٥٢٠