أصول الفقه - ج ١

آية الله الشيخ محمد علي الأراكي

أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمد علي الأراكي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٠٤
الجزء ١ الجزء ٢

إذا كان حاصلا من القياس ، فإذا جاز ذلك في ما يقوم مقام القطع جاز فيه أيضا لاتّحاد الملاك.

وأجاب عنه صاحب الكفاية في الحاشية على الرسائل بإبداء الفرق بين القطع والظن بوجود السترة في الثاني بالنسبة إلى الواقع وعدمها في الأوّل ، فمرتبة الحكم الظاهري محفوظة في الثاني دون الأوّل.

وفيه أنّه كما يمتنع القطع بصدور المتناقضين من الشارع كذلك الظنّ به ، بل مجرّد احتماله ؛ فإنّ الظانّ بحرمة الفعل الخاص في الواقع إذا منعه المولى عن متابعة هذا الظن فمعناه أنّه رخّصتك في فعله ، فيلزم أن يجتمع الظنّ بالحرمة والقطع بالرخصة ، فيلزم الظن بوجود المتناقضين في الواقع وهو أيضا كالقطع به.

وإن اريد ذلك مع اختلاف متعلّق الظن ومتعلّق المنع بأن يكون الواقع الميسور حكما شأنيّا والمنع حكما فعليّا فهذا غير مختصّ بالظن ، فإنّه يمكن في القطع أيضا بأن يكون الواقع المقطوع حكما شأنيّا والمنع حكما فعليّا ، وإن اريد أنّ الظّن بعد ورود المنع ينقلب إلى القطع بالضّد فليس كذلك ؛ فإنّا مع ورود مثل هذه النواهي الأكيدة عن العمل بالقياس يحصل لنا الظنّ بالحكم الشرعي من طريق القياس.

وبعبارة اخرى إنّما نتكلّم من حيث ما في نفس الأمر لا من حيث التنجيز وحكم العقل بوجود الامتثال ، فالمقصود ملاحظة وجود التناقض في ما في نفس الأمر وعدمه وإن لم يكن امتثال أمره واجبا ، ومن هذا الحيث كما يكون التناقض في القطع كذلك يكون في الظّن ؛ إذ تقول في القطع : إنّ العبد يقطع بكون هذا الشيء مبغوضا للمولى وأنّ نفس المولى متنفّر منه غاية التنفّر وهذا مع قول المولى له : لا تعمل بهذا القطع مضادّ ومناقض ؛ إذ معنى هذا النهي أنّه لا تنفّر لي من هذا الشيء ، فيلزم الجمع بين التنفّر واللاتنفّر ، وبعبارة اخرى معنى الواقع المقطوع أنّك لست بمأذون في الفعل ، ومعنى النهي أنّك مأذون فيه.

ونقول نحن في الظّن : إنّ العبد إذا قطع بكون هذا خمرا وظنّ كون الخمر حراما فحيث إنّ النتيجة تابعة لأخسّ المقدّمتين فيظن أنّ هذا الشيء حرام والمولى متنفّر

٣٦١

منه غاية التنفّر ، فقول المولى : لا تعمل بهذا الظن يوجب القطع بعدم تنفّره من هذا ، وهذا ظنّ بالتضاد والتناقض كما أنّ الأوّل كان قطعا بهما ومجرد ذلك فرق لا ينفع ، فمن حيث الإشكال لا تفاوت بين القطع والظن.

إن قيل : إنّ القاطع ـ حيث إنّ القطع طريق ـ لا ينظر إلّا إلى نفس الواقع ولا يرى ورائه في هذه النظرة شيئا.

فالجواب أوّلا بمنع عدم إمكان الالتفات إلى نفس القطع ، بل يمكن أن يعلم القاطع بكونه قاطعا ، وثانيا لا فرق من هذه الجهة بين القطع والظن ؛ فإنّ الظن أيضا طريق ، ففي هذه النظرة لا ينظر إلى ما وراء الواقع.

إن قيل : إنّ الظّن حيث يكون فيه سترة وحجاب فالحكم المجعول فيه ظاهري ، وأمّا القطع فحيث إنّه تمام الانكشاف وكشف تامّ فليس الحكم المجعول عليه ظاهريّا.

قيل : لا نزاع لنا في الإسم ، فإن كان في الظّن ممكنا ففي القطع أيضا ممكن ولا نسمّيه باسم الظاهري بل باسم آخر ، وإن لم يمكن في القطع لا يمكن في الظنّ أيضا.

وبالجملة المدّعى عدم الفرق إشكالا وجوابا بين القطع والظّن من حيث القطعيّة والظنيّة بمعنى أنّه ليس مجرّد حيث الظنيّة موجبا لعدم جريان الإشكال أو اندفاعه ، ومجرّد حيث كون القطع قطعا موجبا لخلافه ، فهذا من حيث الإشكال.

وأمّا من حيث الجواب فكلّ جواب يدّعيه المجيب في الظنّ ندّعيه في القطع ؛ فإنّ المجيب لا يخلو من حالين ، إمّا يبنى في الجمع والتوفيق بين الحكم الواقعي والظاهري بالقول بثبوت المراتب للأحكام بمعنى أنّه يقول : إذا تبيّن لنا الظاهري نحمل الواقعي المظنون على الحكم الشأني وإن كان ظاهره الفعليّة والوصول إلى مرتبة البعث والزجر ، والظاهري على الحكم الفعلي.

فنقول : لا فرق في ذلك بين القطع والظن ، فإذا وصل إليك المنع عن العمل بالقطع فاحمل الحكم الذي قطعت به من حرمة الشرب على الشأني ، وهذا النهي على الفعلي.

٣٦٢

فإن قلت : إنّ القاطع قاطع بالحكم على وجه الفعليّة وليس قابلا للحمل على الشأنيّة.

قلت : إنّا نفرض مثل ذلك في الظّن أيضا بأن يكون ظانّا بأصل حكم لا تشرب وقاطعا بأنّه على تقدير تحقّقه فعلي ، فالأمر دائر بين أن لا يكون حكم أصلا على وهم ، وأن يكون وكان فعليّا ووجوده شأنيّا مقطوع العدم ، ففي هذا الفرض أيضا لا يمكن الجمع بين الواقع المظنون وبين المنع.

وبالجملة فهذا فرق راجع إلى حيث المتعلّق ؛ فإنّه مختلف بحسب المقامات لا أنّه راجع إلى حيث الظن والقطع.

فالمتعلّق سواء كان مقطوعا أم مظنونا على قسمين ؛ إمّا قابل للحمل على الشأنيّة وهذا في صورة قطع أو ظنّ بوجود لا تشرب واقعا ، وظاهره وإن كان كونه فعليّا لكن يحتمل كونه شأنيّا ، ففي هذه الصورة إذا ورد المنع سواء عن العمل بالقطع أم عن العمل بالظن يتعيّن حمل لا تشرب المقطوع أو المظنون على خلاف ظاهره من الشأنيّة وحمل هذا المنع على الفعليّة للجمع.

وإمّا ليس قابلا إلّا للحمل على الفعليّة وهذا في صورة قطع أو ظنّ بوجود لا تشرب وقطع بأنّه حكم فعلي ، فلا يمكن الجمع بين هذا الحكم المقطوع أو المظنون وبين المنع ؛ لعدم إمكان جعل الحكمين في موضوع واحد في مرتبة واحدة.

وإمّا يبني (١) على أنّه ليس للأحكام إلّا مرتبة واحدة مثل الإرادة الفاعليّة ؛ فإنّها إمّا موجودة فعلا وإمّا معدومة ، ولكن رتبة الحكم متفاوتة ، يعني أنّ الحكم الواقعي متعلّق بنفس الواقع ، والظاهري متعلّق بالشكّ في الحكم الواقعي أو الظنّ به والشكّ والظنّ متأخّران رتبة عن نفس الحكم.

فكذلك نقول في القطع أيضا ؛ فإنّ العلم بالحكم الواقعي أيضا متأخّر عنه ، فالحكم الواقعي متعلّق بنفس المتعلّق مع قطع النظر عن العلم ، فالعلم بنفس هذا

__________________

(١) أي يبنى المجيب

٣٦٣

المتعلّق أو بحكمه ليس إلّا كاشفا صرفا وطريقا محضا بالنسبة إلى هذا الحكم ، لكنّه بالنسبة إلى الحكم الآخر أعني النهي مأخوذ على وجه الموضوعيّة ، مثلا تعلّق الحرمة الواقعيّة بنفس شرب الخمر الواقعي ، فالعلم بأنّ هذا خمر وكذا العلم بأنّ الخمر حرام لا مدخليّة لهما في موضوع هذه الحرمة ، ولكنّه دخيل في موضوع حكم الرخصة المستفادة من قوله : لا تعمل بالعلم الذي حصّلته من الجفر ، فليس نفس الشرب بواقعيّته متعلّقا للرخصة كما أنّه كذلك متعلّق للحرمة ، بل باعتبار كونه مقطوع الخمريّة أو الحرمة بالقطع الحاصل من الجفر.

فعلم أنّ حيث الكاشفيّة التامّة وعدم السترة والكاشفيّة الناقصة ووجود السترة لا يجديان فرقا أصلا لا إشكالا ولا جوابا.

نعم بين القطع والظنّ فرق من جهة اخرى وهي مرحلة الامتثال ، وبيانه : أنّ العبد إذا علم بأنّ الشيء الفلاني محبوب للمولى بحيث لا يرضى بتركه يتحقق بسبب هذا العلم موضوع الإطاعة وموضوع العصيان في حقّ هذا العالم ، ولا إشكال في أنّ إطاعة المولى المنعم حسن ذاتا بحيث لا يمكن أن ينفكّ منه الحسن إلّا بانقلاب موضوعها ، وكذلك عصيان هذا المولى قبيح ذاتا بحيث لا يمكن انفكاك القبح منه ؛ فإنّ بعض العناوين علّة تامّة للقبح ، فما دام باقيا فالقبح لازمه ذاتا ، بل الأسماء الأخر لا بدّ من انتهائها إلى هذا ليصير قبيحا ، وذلك مثل الظلم ، كما أنّ بعض العناوين علّة تامّة للحسن ما دام باقيا ، وسائر الأشياء إن انتهت إليه صارت حسنا ، وذلك مثل الإحسان ، وبعض العناوين يكون الحسن والقبح فيها بالوجوه والاعتبار ، يعنى نحتاج في اتّصافها بالحسن من انتهائها إلى العنوان الأوّلي مثل الإحسان ، وبالقبح إلى عنوان أوّلي آخر مثل الظلم وذلك كضرب اليتيم ؛ فإنّه إن اندرج تحت الظلم كان قبيحا وإن دخل في الإحسان كان حسنا.

فنقول : مخالفة المولى المنعم وعصيانه ظلم عليه ، بل من أبده أفراد الظلم وأعظمها ، فيكون قبحه أبده من قبح سائر الأفراد وأعظم ، فلو رخّص المولى هذا العبد العالم بترك ما هو عالم بمحبوبيّته له بواسطة منعه عن العمل بعلمه يلزم الإذن في

٣٦٤

فعل ما هو من أقبح القبائح وأشدّ أفراد الظلم ، والترخيص في القبيح قبيح ، وليس حسن الإطاعة لأجل ترتّب الثواب عليها ولا قبح المخالفة لأجل إيجابها العقاب والوقوع في العذاب، بل هما لازمان لهما ولو فرض عدم ترتّب الثواب على الإطاعة ولا العقاب على المخالفة وإن كان بتصريح من المولى ؛ فإنّ الحسن والقبح غير معلّلين بشيء ، فإنّه ينقل الكلام في العلّة فلا بدّ أن يكونا فيها أيضا لعلّة وهكذا إلى غير النهاية فيلزم التسلسل ، فلا بدّ من انتهاء السلسلة إلى ما يكون الحسن والقبح فيه ذاتا لا لأجل جهة ، ولذا نرى أنّ الدهري الغير القائل بترتّب الثواب على الإحسان والعقاب على الظلم يحكم بديهة بحسن الأوّل وقبح الثاني.

وهذا بخلاف الظن فإنّه حيث يكون الواقع معه غير منكشف تمام الانكشاف بل مع سترة وحجاب فلا يوجب الظن بأنّ هذا حرام ومبغوض تحقّق عنوان التمرّد والعصيان على فعله بالنسبة إلى الظان حتى يكون قبيحا مطلقا ، بل القبح منحصر فيه من جهة العلم الإجمالي بثبوت تكاليف في الواقع وبظنّ كون هذا التكليف في ضمن المظنون فيجب ارتكابه عقلا دفعا للضرر المظنون ، فإذا ورد الترخيص من الشرع ارتفع القبح لوجود المؤمّن ، فقبحه تعليقي معلّق على عدم ورود الترخيص بخلاف قبح التمرّد في العلم ، فإنّه حكم مطلق بتّي لا يرتفع بترخيص الشرع.

هذا في العلم ، وأمّا الظن فلا يلزم فيه ذلك ، بيانه أنّ موضوع القبح وما هو علّة تامّة له ليس هو مجرّد المخالفة الواقعيّة للطلب الواقعي ، ولهذا لو لم يسمع العبد صوت المولى عند صدور الأمر لا يلام على الترك ، بل الموضوع هو العصيان ، والعلم والالتفات محقّق لموضوعه، فتحقّقه فرع تحقّق العلم.

وأمّا العلم الإجمالي لو قلنا بكونه كالتفصيلي في صيرورته موجبا لتنجّز التكليف ووجوب الاجتناب عن جميع الأطراف ففيه وإن جاز للشارع الترخيص في ارتكاب بعض الأطراف ولا يلزم منه الترخيص في القبيح ، إلّا أنّ وجوب الاجتناب من أحد الأطراف ليس من جهة العصيان بتركه حتّى يكون تركه قبيحا بحكم بتّي ، وإنّما هو لأجل وجوب الموافقة القطعيّة بحكم العقل من باب توقّف دفع

٣٦٥

الضرر المحتمل أو الموهوم أو المظنون عليها ، فارتكاب بعض الأطراف ليس بعصيان وإنّما هو مخالفة لحكم العقل بوجوب الموافقة القطعيّة لوجوب دفع الضرر.

ومخالفة هذا وإن كان قبيحا أيضا إلّا أنّ قبحه ليس على وجه البتّ ، بل هو معلّق على عدم وجود المؤمّن إمّا من الشرع أو العقل في أحد الأطراف ، وترخيص المولى في ارتكاب بعض الأطراف مؤمّن عن خوف الوقوع في الضرر من جهة هذا الارتكاب ورافع لموضوع حكم العقل وهو الخوف ، فالقبح في مخالفة حكم العقل بوجوب الامتثال القطعى بارتكاب بعض الأطراف حكم تعليقى يرتفع بورود الترخيص من المولى ، والقبح في العصيان حكم بتّي لا يرتفع بالترخيص ، فلهذا لا يجوز الترخيص في مخالفة العلم التفصيلي ويجوز في مخالفة الإجمالي بالنسبة إلى بعض الاطراف.

وحينئذ فنقول : الظنون التي ورد النهي عن اتّباعها لا يخلو من حالين : إمّا تكون لازم الاتّباع بحكم العقل كما في الظنّ في حال الانسداد على تقدير تماميّة المقدّمات ، وإمّا تكون غير لازم الاتّباع بحكم العقل كما في الظن عند الانفتاح ، فإن كان من قبيل الثاني فلا إشكال في جواز الترخيص في مخالفته ، وإن كان من قبيل الأوّل فيجوز أيضا ؛ فإنّ قبح مخالفته معلّق على عدم ورود الترخيص ؛ فإنّ لزوم متابعة المظنونات في حال الانسداد إنّما هو لأجل العلم الإجمالي بورود تكاليف من الشرع وكونها مشتبهة بين امور بعضها مظنونات وبعضها مشكوكات وبعضها موهومات مع عدم تمكّن الاحتياط بموافقة الجميع أو عسره ، فإنّ هذا موجب للأخذ بالمظنونات وطرح الباقي ، فالأخذ بالظن وقبح مخالفته يكون لأجل التحفظ عن الوقوع في ضرر مخالفة التكليف المعلوم إجمالا ، والترخيص في ترك العمل بالظنون في تلك الحال مؤمّن وموجب للاستراحة عن الوقوع في هذا الضرر ، فلا تكون المخالفة قبيحة ، فلا يكون الترخيص ترخيصا في القبيح.

وأمّا المقام الثالث وهو عدم جواز الأمر المولوي بموافقة القطع والنهي المولوي عن مخالفته وإن كان الأوّل حسنا وواجدا للحسن الملزم والثاني قبيحا

٣٦٦

بقبح ملزم ويجب على المولى الأمر والنهي المولويين في مثل هذين من باب اللطف ، إلّا أنّه في هذين لا يمكنه ذلك.

فقد يقال في وجه عدم الجواز بأنّه مستلزم للتسلسل ، بيانه أنّ الأمر باطاعة الأمر المعلوم محقّق لموضوع الإطاعة بالنسبة إلى هذا الأمر الثاني ، فيكون هنا بعد هذا الأمر إطاعتان ، إطاعة حقّق موضوعها الأمر الأوّل بذات العمل مع العلم به ، والاخرى حقّق موضوعها الأمر الثاني بإطاعة الأمر الأوّل مع العلم به ، وتكون هذه أيضا مشتملة على الحسن الملزم ، فيلزم الأمر بها أيضا ثالثا ، ثم يتحقّق إطاعة اخرى للأمر الثالث ، فيتحقّق في حقّ المكلّف ثلاث إطاعات لثلاثة أوامر ، وإطاعة الأمر الثالث أيضا مشتملة على الحسن الملزم فيلزم الأمر به رابعا ، ثمّ ننقل الكلام في إطاعة الرابع وهكذا إلى غير النهاية ، ولو اقتصر على الأمر ببعض الإطاعات دون بعض يلزم الجزاف ؛ لكونها أمثالا والحكم في الأمثال واحد ولا مرجّح لبعضها.

وهذا مخدوش بأنّه لا يوجب المحذور من حيث إنشاء الأمر ولا من حيث امتثال المأمور ، أمّا الأول فلأنّه لا يحتاج إلى أزيد من إنشاء واحد للأمر بإطاعة الأمر بذات العمل، ثمّ إطاعة هذا الأمر الثانوي أيضا مشمولة لهذا الإنشاء أيضا ، غاية الأمر قد حدث موضوعه بنفس هذا الإنشاء ، ولا بعد في شمول الحكم للفرد الذي وجد بنفس الحكم كما في القضيّة الطبيعيّة ، مثل ما لو قال : كلّ خبري صادق ؛ فإنّ موضوع هذا الخبر أعني الإخبار بأنّ كلّ خبري صادق لا يتحقّق إلّا بعد تمام الحكم بتمام موضوعه ومحموله ، لكن مع ذلك يكون هذا الفرد داخلا في عموم الحكم ؛ فإنّ الحكم قد تعلّق بطبع الخبر ، فهنا أيضا ينشأ الأمر بطبع إطاعة الأمر فيقول : أطع أمري ، ثمّ هذا بعمومه يشمل إطاعة هذا الأمر التي حدثت بنفسه ويكون أمرا بها أيضا ثمّ بالإطاعة الحاصلة من هذا الأمر ثالثا وهكذا إلى غير النهاية.

وأمّا من حيث الامتثال فلأنّ المأمور يمتثل جميع هذه الأوامر بعمل واحد وإتيان واحد لنفس العمل ، وعند هذا تنقطع سلسلة الأوامر المترتّبة.

لا يقال : فقل مثل ذلك في المقام الأوّل ؛ حيث أوردت على احتياج القطع بجعل

٣٦٧

الحجيّة بلزوم التسلسل ؛ فنحن ندفع هذا التسلسل أيضا بأنّ قوله : اعمل بقطعك حكم مجعول في موضوع طبيعة القطع فيشمل القطع الحاصل بهذا الأمر أيضا ؛ لأنّه من أفراد طبيعة القطع ، ثمّ القطع بوجود الأمر بالمتابعة في هذا القطع أيضا مشمول للأمر المذكور وهكذا إلى غير النهاية.

لأنّا نقول : نعم لكن لا ينتهي الأمر إلى غير المحتاج في حال ؛ إذ كلّ قطع حصل فالمفروض كونه محتاجا إلى دليل الحجيّة إيّاه ، مثلا القطع بوجوب الصلاة محتاج إلى شمول دليل وجوب العمل بالقطع إيّاه ، ثمّ القطع بأنّ كلّ قطع واجب العمل أيضا محتاج إلى شمول دليل وجوب العمل بالقطع إيّاه ، فيحصل القطع بأنّ هذا القطع حجّة بواسطة شمول الدليل إيّاه ، فهذا القطع أيضا محتاج ، فيقطع بكونه حجّة لعموم الدليل ، فننقل الكلام في هذا القطع ، وبالجملة لا تستقرّ سلسلة المحتاجات إلى غير المحتاج في حال.

وأمّا في ما نحن فيه فلا يلزم محذور عقلي ؛ فإنّ مئونة الأمر إنشاء واحد وهذا الإنشاء يسري حكمه في الأفراد الطوليّة الغير المتناهية ، ومئونة المأمور ليست إلّا عملا واحدا ، وعلى تقدير العصيان يلزم استحقاق عقابات غير متناهية ، وبعبارة اخرى الخلود ، وهذا أيضا ممكن عقلا.

وقد يوجّه عدم الجواز بلزوم اللغوية ؛ فإن الغرض الباعث على الأمر المولوي ليس إلّا دعوة المأمور نحو المأمور به لو لم يكن فيه داع آخر ، والمفروض أنّه قد صدر من الآمر أمر بذات العمل صالح لداعويّة العبد المطيع للمولى ، فالعبد إن كان منقادا فهذا الأمر يصلح لتحريكه وبعثه نحو العمل من دون حاجة إلى أمر آخر ، وإن كان متمرّدا فلا يفرق في حاله بين أمر واحد وأمرين ، فكما لا يتحرّك بالأمر الواحد فكذلك بالأمرين وأزيد ، فعلى أيّ حال الأمر الثاني لغو ولا طائل تحته.

وفيه أيضا منع ؛ فإنّ العبيد مختلفون ، فمنهم من يكفيه أمر واحد للعمل ولا كلام فيهم ، ومنهم من لا يتأثّر بالأمر أصلا لا بالواحد ولا بالمتعدّد ولا كلام فيهم أيضا ، ومنهم من يتجرّى على معصية أمر واحد ولكن لا يتجرّى على معصية أمرين ولا

٣٦٨

تقدم نفسه عليها ، ففائدة هذا الأمر تحريك هذا الصنف من العبيد ، ويكفي هذا المقدار في الخروج عن اللغويّة.

وربّما يوجّه بوجه ثالث وهو لزوم انتفاء الموضوع بنفس امتثال الأمر ، والأمر بموضوع ينتفي بمجرّد امتثال الأمر ويقتضي الأمر خروجه عن عنوانه قبيح ، بيان ذلك أنّ عنوان إطاعة الأمر بالصلاة مثلا إنّما يتحقّق بالإتيان بالأركان المخصوصة بداعي خطاب «صلّ» ، وهكذا إطاعة كلّ أمر يتحقّق بالإتيان بالمأمور به بدعوة هذا الامر وتحريكه ، فإذا فرضنا كون الأمر بإطاعة «صلّ» مولويّا فهذا الأمر أيضا يقتضي تحرّك الفاعل نحو الصلاة بدعوة هذا الأمر ، والإتيان بالصلاة بدعوة هذا الأمر ليس إطاعة لأمر «صلّ» والمفروض أنّ الأمر تعلّق باطاعته ، فموضوع أمر أطع الأمر بالصلاة وهي إطاعة خطاب «صلّ» متقوّمة بكون داعي المصلّي هذا الخطاب ، ومقتضى خطاب «أطع» كونه بداعي هذا الخطاب وهذا معنى كون الأمر مقتضيا لخروج موضوع الإطاعة عن كونه إطاعة.

ولا يختصّ ذلك بالتعبديّات ، بل يجري في التوصليّات أيضا ؛ فإنّها وإن كان الإتيان بمتعلّقاتها بدون داعي أمرها مجزيا إلّا أنّ المقصود من تلك الأوامر أيضا هو الداعويّة نحو الفعل وتحريك المأمور لو لم يتحرّك بداع آخر ، فعنوان اطاعتها إنّما يصدق لو كان العمل بداعي أمرها لا بداع آخر ، ومرجع هذا الوجه إلى عدم إمكان داعويّة هذا الأمر اعني : أطع أمر صلّ مثلا إلى متعلّقة ؛ إذ بدعوته يخرج متعلّقه عن كونه متعلّقه ، وبهذا الاعتبار يصير الأمر لغوا وإن سلم عدم لغويّته من جهة الفاعل كما هو الوجه الثاني.

والجواب بإمكان تعدّد الداعي في الطول بأن يكون خطاب «صلّ» مثلا داعيا إلى نفس الصلاة ، ويكون خطاب «أطع» داعيا إلى الصلاة بداعي أمرها ، وكذلك يكون خطاب «أطع» ثانيا داعيا إلى الإتيان بالصلاة بداعي أمرها بدعوة أمر «أطع» أوّلا ، وهكذا.

وبعبارة أخرى : هذا الأمر يصير داعيا إلى الإطاعة ، والأمر الأوّل يصير داعيا

٣٦٩

إلى نفس الفعل ، فيكون الأمر الثاني داعيا إلى الداعي نظير أمر الشارع بإطاعة الوالدين ، فالفعل بدعوة أمرهما يكون بدعوة أمر الشارع بحيث لو لا أمر الشارع لم يكن أمرهما داعيا.

فهذه ثلاثة أوجه لعدم إمكان الأمر مولويّا بمتابعة القطع والنهي مولويّا عن مخالفته ، وقد عرفت الجواب عن جميعها.

وقصارى ما يمكن أن يقال في تقريب عدم الإمكان : إنّ الأمر المولوي حاله حال الإرادة الفاعليّة ومن سنخها بحيث يصح نسبة الإيجاد إلى نفس الأمر بنوع من العناية والاعتبار ؛ فإنّه بإرادته المولويّة الآمريّة محرّك عضلات عبده التي هي العضلات التنزيليّة لنفسه نحو الفعل ، فالآمر هو المريد وهو الموجود ببدنه التنزيلي والفاعل يريد ويوجد ببدنه التحقيقي ، فكما أنّ إرادة الفاعل علّة تامّة وسبب مستقلّ للمتعلّق والمراد بحيث لا يشركه في التأثير شريك فكذا إرادة الآمر أيضا لا أقلّ من أنّه لا بدّ وأن يكون قابلا وصالحا لأن يكون سببا مستقلا لتحريك نفس العبد بحيث لم ينضمّ إليها في هذا التحريك والدعوة ضميمة وإن كان فعلا مؤثّرا مع الضميمة وداعيا مع الشركة ، كما هو الحال في الأوامر المتعدّدة بشيء واحد للتأكيد إذا فرض عدم تأثّر نفس المأمور إلّا من المجموع بوصف الاجتماع ؛ فإنّ كلّ واحد منها يصلح للدعوة بالاستقلال وبدون الضميمة كما لو كان منفردا والعبد ذليل النفس منقادا ، كما لو كان فعلا غير مؤثّر أصلا ولو مع الشركة كما لو كان العبد طاغيا متمرّدا.

وبعبارة اخرى الإرادة الآمريّة بشيء لا بدّ وأن يكون الآمر بإرادته إيّاها موجدا بالعناية لهذا الشيء لو كان الفاعل قابلا ، فمقدّمة الإيجاد بالعناية من ناحية المولى تامّة ، وهذا المعنى في الإطاعة غير ممكن ؛ لأنّ الإرادة فيها إمّا غير مؤثّرة أصلا وإمّا مؤثّرة مع الضميمة ، فلا يصلح أن يكون إرادتها مولويّا إيجادا بالعناية مستقلا أبدا ، ووجه ذلك أنّ الأمر بالإطاعة لا بدّ وأن يكون مسبوقا بالأمر بنفس الفعل ، ضرورة أنّ قبله لا يكون في البين عنوان الإطاعة حتّى يجعل متعلّقا للأمر ، بل تحقّقه فرع وجود الأمر بذات العمل واطلاع العبد عليه والتفاته إليه.

٣٧٠

وحينئذ لا يخلو العبد من ثلاثة أحوال : إمّا يكون بحيث يتأثّر بنفس الأمر الأوّل ويتحرّك نحو العمل بداعويّته ، أو يكون بحيث لا يتأثّر نفسه من أمر المولى أصلا ، أو يكون بحيث يتحمّل معصية أمر واحد ويتحمّل لعقاب مخالفة أمر واحد ولكن لا يحضر نفسه لتحمّل عقابين لمخالفة أمرين ، فالامر الواحد لا يحرّكه ولكنّه بضميمة أمر آخر يصير محرّكا له على نحو الشركة ، ولا رابع لهذه الثلاثة.

فعلى الأوّلين يلزم عدم تأثير الأمر بعنوان الإطاعة رأسا وكون تمام التأثير الأوّل المتعلّق بذات العمل على أوّلهما وعدم التأثير له أيضا على ثانيهما ، وعلى الثالث لا يكون الأمر الثاني إلّا جزء العلّة.

فعلم أنّ الإيجاد التام لا يتصوّر استناده إلى الإرادة المتعلّقة بعنوان الإطاعة ، ولا يعقل أن يكون المريد لها موجدا تامّا بالعناية في حال إرادته إيّاها ، وقد قلنا إنّ الإرادة الآمريّة لا بدّ وأن يكون مريدها موجدا بالعناية والإيجاد بالعناية مستندا إلى نفسها بالاستقلال لا مع الضميمة ، كما أنّ الإرادة الفاعليّة يكون مريدها موجدا بالحقيقة والإيجاد مستندا إلى إرادته بالاستقلال لا بالشركة ، فالأمر المذكور يكون نصف الأمر لا تمام الأمر ؛ لأنّ الإيجاد بالعناية لا يتأتّى منه.

وبالجملة ، فلا بدّ أن يكون الأمر بالإطاعة والردع عن المخالفة ارشاديين ، وأمّا أمر الشارع بإطاعة الوالدين فهو صالح للداعويّة التامّة ، فإنّ أمر الوالدين لو لا أمر الشارع في البين لم يكن له تأثير أصلا ، وإنّما داعويّته بواسطة أمر الشارع ، فالداعي الحقيقي إلى الفعل هو أمر الشارع ، وهذا بخلاف ما إذا كان الأمران صادرين من مولى واحد.

البحث في التجرّي

الأمر الثاني : قد ظهر ممّا تقدّم أنّ القطع حجّة في نفسه ، فلو علم بأنّ المائع خمر وأنّ الخمر حرام وشربه ، فصادف كونه خمرا في الواقع ، فلا إشكال في استحقاقه العقاب ؛ لأنّه شرب الخمر عن حجّة ، وإنّما الكلام في ما لو شرب المائع الذي علم

٣٧١

خمريّته مع العلم بحرمة الخمر ولم يكن في الواقع خمرا ، وهذا هو المسمّى عندهم بالتجرّي وقد وقع محلا للتشاجر والنقض والإبرام بين الأعلام.

وما يمكن أن يكون محلا للكلام في المقام ثلاث مقامات :

الأوّل : أنّ المتجرّي أعني الفاعل لما اعتقده حراما ولم يكن حراما في الواقع هل يستحقّ العقوبة ويحسن عقابه من المولى الحكيم أولا؟ والبحث من هذه الجهة يناسب علم الكلام ؛ إذ مرجعه إلى أنّ الآمر الحكيم لو عاقب المتجرّي فهذا العقاب منه قبيح أولا؟ فالبحث إنّما هو عن فعل الآمر.

الثاني : أن يكون البحث عن فعل المتجرّي وحسنه وقبحه عقلا ، فيقال : ارتكاب الفعل الذي قطع بحرمته مع عدم حرمته واقعا قبيح عقلا أولا؟ فيكون البحث على هذا اصوليّا ، لوقوع نتيجته في طريق استنباط الحكم الفرعي ؛ إذ يستكشف من حكم العقل بالقبح حكم الشرع بالحرمة ، ومن عدم القبح العقلي عدم الحرمة الشرعيّة بقاعدة الملازمة العقليّة بين حكم العقل وحكم الشرع.

الثالث : أن يكون البحث في فعل المتجرّي من حيث الحرمة الشرعيّة وعدمها ، فيكون البحث فقهيّا ، ويظهر من بعض كلمات شيخنا المرتضى أنّ النزاع في الحرمة الشرعيّة ، ومن بعضها الآخر أنّه في القبح العقلي.

وكيف كان فنحن نحرّر الكلام مع تحقيق ما هو الحقّ في كلّ مقام بعون الملك العلّام فنقول : البحث عن كون فعل المتجرّي حراما شرعا الذي هو المقام الثالث ، فالعناوين المجتمعة في هذا الفعل أعمّ من الأوّليّة والثانوية التي يدّعى تعلّق الحرمة بأحدها امور :

الأوّل : شرب الماء ، الثاني : شرب المائع ، والثالث : شرب مقطوع الخمريّة ، الرابع: التجرّي بالمعنى المصطلح وهو الإقدام على فعل ما قطع حرمته مع عدم إصابة قطعه الواقع ، الخامس : ارتكاب مقطوع الحرمة ، وهذه العناوين بين ما ليس بحرام قطعا ، وما لا يمكن أن يقع متعلّقا للتحريم لخروجه عن الاختيار ، وما لا يمكن تعلّق النهي به مولويّا مع كونه اختياريّا.

٣٧٢

فالأوّل هو الأوّلان ، والثاني هو الرابع ، فإنّ التجرّي الاصطلاحي مأخوذ فيه عدم إصابة القطع للواقع وهو خارج عن اختيار المكلّف وقصده ؛ فإنّ المتجرّي قاطع بخلاف هذا العنوان أعني ارتكاب ما قطع خمريّته ولم يكن واقعا خمرا ولا يحتمل ذلك ، فكيف يكون قاصدا له.

وأمّا الثالث فهو الاثنان الآخران ؛ فإنّ ارتكاب مقطوع الحرمة أو شرب مقطوع الخمريّة أو الحرمة ـ بحيث كان القطع جزء الموضوع ـ مقدور ويصح توجّه القصد إليه بأن كان القاطع ملتفتا إلى قطعه وناظرا إليه استقلالا وموضوعا ثمّ انقدح في نفسه القصد إلى الفعل بعنوان أنّه شرب مقطوع الخمريّة لا بعنوان أنّه شرب الخمر ، لكن لا يمكن النهي المولوي عنه ؛ لما مرّ في الأمر الأوّل من عدم إمكان تعلّق النهي المولوي بعنوان المخالفة والأمر المولوي بعنوان الإطاعة ؛ فإنّ القاطع بكون المائع خمرا يتحقّق في حقّه عنوان المخالفة ، فالنهي عن ارتكاب مقطوع الحرمة راجع إلى النهي عن مخالفة خطاب لا تشرب الخمر ، وقد عرفت أنّ الردع المولوي لا يمكن تعلّقه بهذا المعنى.

وبعبارة اخرى : من يقطع بحرمة الخمر وخمريّة المائع يكون قاطعا بوجود خطاب لا تشرب بالنسبة إليه ومع التفاته إلى هذا النهي ، فالنهي الثاني عن ارتكاب مقطوع الخمريّة في حقّه لا يمكن أن يفيد في حقّه فائدة الأمر المولوي ببيان تقدّم في الأمر بالإطاعة. نعم يمكن ذلك لو لم يكن نفس الخمر بواقعه حراما ، وهذا خلاف الفرض ؛ لعدم تحقّق التجرّي معه ، هذا.

وربّما يتوهّم عدم تصوّر فعل اختياري في حقّ المتجرّي بالمرّة وينفى الحرمة الشرعيّة عن فعله من هذه الجهة ببيان أنّ من شرب الماء باعتقاد أنّه خمر فعنوان شرب الماء وإن صدر منه لكن ما قصده ، وعنوان شرب الخمر وإن قصده لكن ما صدر منه ، وأمّا عنوان شرب المائع الذي هو الجامع بين ما صدر وما قصد فهو أيضا ما قصد ؛ لأنّ الفرض تعلّق القصد بخصوص فرد من هذا الجامع وهو شرب الخمر ، والقصد إلى خصوص الخاص ليس قصدا للعام.

٣٧٣

نعم لو كان القصد حقيقة متعلّقا بالعام وعمد إلى الخاص بتبعه ، أو كان له غرضان أحدهما بالجامع والآخر بالخصوصيّة فقصد الخاص بالداعيين كان في الصورتين قاصدا للعام وإن فرض وجود العام في خاص آخر غير هذا الخاص ، والحاصل أنّه لا إشكال في صورة تعلّق القصد الأصلي بالعام والتبعي بالخاص ، وفي صورة وجود القصدين الأصليين أحدهما بالعام والآخر بالخاص من باب تعدّد المطلوب.

وأمّا لو تعلّق القصد الأصلي الواحد بخصوص الخاص فالعامّ لا يصير مقصودا بمجرّد ذلك ، ومن هنا تبيّن أنّ عنوان ارتكاب مقطوع الخمريّة أيضا غير مقصود ؛ إذ القصد تعلّق بما يقطع أنّه خمر واقعي ، فمجرّد هذا العنوان الطاري الآلي أعني ارتكاب مقطوع الخمريّة أعمّ من أن يكون مصادفا أو لا غير مقصود ؛ فإنّ القاطع لا يحتمل عدم المصادفة ، بل يعلم خلافها ويشاهد الواقع بلا سترة وحجاب فيقصد مقطوع الخمريّة بما هو عنوان واقعي استقلالي ، وبعبارة اخرى يقصد خصوص مقطوع الخمريّة بالقطع المصادف ، فالجامع بين هذا وبين مقطوع الخمريّة الذي ليس خمرا واقعا وهو مطلق مقطوع الخمريّة الذي هو عنوان آلي غير مقصود بالقصد إلى خصوص القسم الأوّل ، هذا بيان ما توهّمه المتوهم في المقام.

وهو ممنوع بأنّ العنوان الاختياري الذي هو المطلوب في باب التكاليف على قسمين ، الأوّل : أن يكون نفس العنوان داعيا للفاعل مثل من يشرب الخمر بداعي شرب الخمر ، والثاني : أنّه وإن لم يصر داعيا للفاعل ولم يقصد الفعل بهذا العنوان بل بعنوان آخر ، لكن كان الفاعل ملتفتا إلى هذا العنوان لفعله ولم يكن رادعا له عن الفعل مع كونه قابلا لذلك.

وبعبارة اخرى كان المكلّف قادرا على الإيجاد والترك من حيث هذا العنوان الملتفت إليه ، كمن يشرب الخمر مع الالتفات بأنّه خمر بداعي شرب المائع البارد ورفع العطش ، والوجدان حاكم بأنّه كما يصحّ كون القسم الأوّل موردا للتكليف والمؤاخذة ، كذلك يصحّ التكليف والمؤاخذة في القسم الثاني أيضا ، فيصحّ في المثال

٣٧٤

الثاني مؤاخذته على شرب الخمر كما يصحّ في المثال الأوّل.

والحاصل أنّ الفعل إذا كان مجمعا لعناوين متعدّدة وكان جميع تلك العناوين ملتفتا إليها ، ولكن كان الداعي إليه أحد تلك العناوين أو عنوانا اعتقاديا غير موجود فيه واقعا في جميع تلك العناوين مقدورة واختياريّة ، سواء كانت عرضيّة كما لو ضرب شخصا عالما هاشميّا لكونه ابن عمرو مثلا مع الالتفات إلى علمه وهاشميّته ، فيصحّ ذمّه على ضرب العالم والهاشمي وإن لم يكن بهذا العنوان داعيا له ، أو كانت حلوليّة كما لو حرّك اليد بقصد الضرب فقتله فيصح ذمّه على مطلق حركة اليد الذي هو الجامع بين الضرب والقتل وإن لم يكن بعنوانها مقصودة ، بل بعنوان أنّها ضرب.

فكذا في ما نحن فيه أيضا ؛ فإنّ من يشرب المائع باعتقاد أنّه خمر وليس بخمر يلتفت إلى حيث ما يعيّنه وإن كان الداعي إليه خصوص الخمريّة ، فلو كان مطلق شرب المائع ممنوعا صحّ مؤاخذته والقول له : لم شربت المائع مع العلم بحرمته ، فالمعيار في صحّة المؤاخذة والتكليف كون العنوان ملتفتا إليه وإن كان الداعي شيئا آخر ؛ إذ بمجرّد الالتفات يصير قادرا على الفعل والترك لأجل هذا العنوان ، ولا يطلب لصحّة التكاليف إلّا الاختياريّة بمعنى القدرة على طرفي الفعل والترك ، فيصحّ النهي بمجرّد صلاحيّة العنوان لأن يصير بسبب النهي رادعا للفاعل عن الفعل ، ويصح العقاب على الفعل وإن لم يكن مأتيّا بداعي هذا العنوان ؛ لعدم ارتداعه مع الالتفات إلى العنوان المحرّم.

هذا مع أنّ المتوهّم سلّم الاختياريّة لمجرّد الإرادة التبعيّة للخاص والأصلية للعام كالمثال الذي ذكرنا من كون الداعي شرب المائع البارد وشرب الخمر لكونه كذلك مع الالتفات إلى خمريته ، وهذا عكس ما نحن فيه ؛ فإنّ الداعي هنا شرب الخمر وشرب المائع ملتفت إليه ومراد بالتبع ، فإن كان المعتبر هو خصوص العنوان الداعي ولم تكن الإرادة التبعيّة كافية في الاختياريّة لزم عدم الكفاية في عكس ما نحن فيه أيضا كمثالنا ، وإن كانت كافية لزم الاكتفاء بها في المقامين ، فالفرق لا وجه له.

٣٧٥

وبالجملة فتقريب المدّعى من عدم الحرمة الشرعيّة للفعل المتجرّى به بما ذكره المتوهّم من عدم فعل الاختياري هنا في البين غير سديد ، فالحقّ في تقريبه هو ما ذكرنا من أنّ العناوين المجتمعة في هذا الفعل إنّما يكون بين ما لا نزاع في عدم حرمته وما لا يمكن حرمته لعدم القدرة عليه وخروجه عن الاختيار وما لا يمكن حرمته لأجل عدم إمكان تعلّق النهي المولوي به مع كونه مقدورا واختياريّا وهو عنوان ارتكاب مقطوع الحرمة مع قطع النظر عن المصادفة وعدمها.

وأمّا إن كان النزاع في التجرّي في القبح العقلي فربّما يقال (١) بأنّ الفعل المتجرّى به أعني شرب المائع مثلا وإن لم يكن بعنوانه الذاتي الواقعي وهو شرب الماء مثلا قبيحا ، إلّا أنّه بعنوانه الطاري الثانوي وهو شرب المقطوع الخمريّة قبيح عقلا ، ويكون هذا من الوجوه والاعتبارات التي يختلف بها الحسن والقبح ؛ فإنّ العناوين الحسنة والقبيحة على ثلاثة أقسام بحسب الحسن والقبح :

أحدها : أن يكون علّة تامّة لأحدهما وهي العناوين الأوّليّة مثل الإحسان والظلم.

والثاني : ما يكون لو خلّي وطبعه حسنا أو قبيحا ولا ينافي الاتّصاف بالضدّ لعارض مثل الكذب ؛ فإنّه بحسب ذاته قبيح يعني فيه اقتضاء القبح ، ولو كان منجيا للنبي ـ مثلا ـ صار حسنا.

والثالث : ما لا يكون فيه اقتضاء شيء منهما كمطلق حركة اليد مثلا ؛ فإنّه لا بدّ في اتّصافه من عروض عنوان ضرب اليتيم للإساءة أو عنوان ضرب اليتيم للتأديب مثلا عليه.

وانقسام الأشياء إلى هذه الثلاثة أمر وجداني من الواضحات وليس قابلا للنزاع ، وما وقع بينهم من النزاع في أنّ حسن الأشياء وقبحها ذاتي أو يكون بالوجوه والاعتبار لا بدّ من التسالم بين مترافعيه بأنّ مراد الأوّل أنّ ضرب اليتيم للإساءة مثلا يكون ظلما فيكون قبيحا ذاتيا ، بعبارة اخرى كلّ شيء اتّصف بأحدهما

__________________

(١) والقائل صاحب الفصول أعلى الله مقامه. منه قدس‌سره.

٣٧٦

لا بدّ من انطباق أحد العناوين الذاتيّة الأوّليّة للحسن أو للقبح عليه ، فيكون الاتّصاف ذاتيّا ؛ فإنّ ما بالعرض لا بدّ من انتهائه إلى ما بالذات وإلّا لتسلسل ولا ينقطع السؤال بلم أبدا.

مثلا يقال : لم صار ضرب اليتيم للإساءة قبيحا؟ فيقال : لأنّه ظلم ، ثمّ يقال لم صار الظلم قبيحا؟ فيقال لأنّه إيذاء ، ثمّ يقال : لم صار الإيذاء قبيحا وهكذا ، يتسلسل ، فلا بدّ من انطباق عنوان عليه كان أحدهما ذاتيا له حتّى ينقطع السؤال ؛ فإنّ الذاتي لا يعلّل ، والقائل الثاني ينظر إلى العنوان الذاتي لنفس الفعل مثل ضرب اليتيم ؛ فإنّه بعد انطباق الظلم عليه يسري قبحه إليه ويصير قبيحا بالعرض.

وبالجملة فالمتجرّى به أعني شرب المائع مثلا يكون قبحه بالوجه والاعتبار ولا كلام مع هذا القائل من هذه الجهة ، إنّما الكلام معه في أنّ عنوان شرب المقطوع الخمريّة الذي هو عنوان ووجه عارض على شرب المائع يكون قبيحا بالذات ، أو لانطباق عنوان آخر عليه؟ يظهر من مواضع من كلامه أنّ قبحه يكون لأجل انطباق عنوان هتك المولى المنعم والاستخفاف بأمره ونهيه والجرأة عليه.

فنقول : لا إشكال في كون هذه العناوين قبيحة بالذات ، وفي الحقيقة يكون من شعب الظلم ، إنّما الكلام في انطباقها على مورد التجرّي دائما ، ولا إشكال أنّا نتصوّر في المعصية الحقيقيّة انفكاكها عن هذه العناوين ؛ فإنّه يمكن أن يكون العبد مع كمال الاعتناء بالمولى وعظم أمره عنده مرتكبا لمعصيته مع كمال التضرّع في هذا الحال راجيا لعفوه لغلبة شقوته عليه ، لا لعدم اعتنائه بمولاه وأوامره ، كما هو الحال في فسّاق المسلمين.

ويدّل على إمكان ذلك قوله عليه‌السلام في دعاء أبي حمزة : «إلهي لم أعصك حين عصيتك وأنا بربوبيّتك جاحد ، ولا بأمرك مستخفّ ، ولا لعقوبتك متعرّض ، ولا لوعيدك متهاون ، ولكن خطيئة عرضت وسوّلت لي نفسي وغلبني هواي وأعانني عليها شقوتي وغرّني سترك المرخى علي».

وبالجملة ، فإذا فرضنا المعصية الحقيقيّة خالية من جميع تلك العناوين فالتجرّي

٣٧٧

ليس بأعظم منها قطعا ، فيمكن خلوّه أيضا منها ولو نادرا ، وهذه يكفي في عدم كونه قبيحا ، يعني أنّ الفعل الخارجي المتجرّى به من حيث هو لا يكون قبيحا عقليّا ، وما يكون موضوعا لذلك هو شيء آخر أعني عنوان الاستخفاف ، نعم يكون غالب الانطباق على الفعل المتجرّى به ، كما يمكن انطباقه على غيره أيضا كالمباحات ، كما لو جعل أحد مباحا شرعيّا محرّما على نفسه من باب الاستخفاف بإباحة المولى ، وبالجملة نحن نتكلّم من حيث التجرّي ، وحيث الاستخفاف أمر آخر وراء التجرّي.

فإن قلت : فعلى هذا يلزم عدم قبح المعصية في الحقيقة أيضا ، لإمكان انفكاك هذه العناوين عنه.

قلت : نعم قد ينفكّ هذه عنها ، لكن عنوان الظلم ينطبق عليها دائما وهذا مفقود في مورد التجرّي ؛ إذ فيه لا يلزم مخالفة أمر من أوامر المولى وتضييع غرض من أغراضه بخلاف المعصية الحقيقيّة ؛ فإنّها غير منفكّة عن ذلك ، فتحصّل من جميع ما ذكرنا إلى هنا أنّ الفعل الخارجي المتجرّى به ليس محرّما شرعيّا ولا قبيحا عقليّا ، ومن ذلك يظهر أنّه ليس ممّا يستحقّ عليه العقاب أيضا.

بقي الكلام في أفعال النفس التي يكون الفعل الخارجي الاختياري مسبوقا بها أبدا ، فلا بدّ من استقصاء تلك الأفعال.

فنقول : إنّ من يعزم على فعل خارجي يحصل أوّلا في ذهنه تصوّر هذا الفعل بماله من الفوائد والمنافع ، ثمّ يحصل له عند هذا ميل إليه ، ثمّ يحصل في الذهن تصوّر مضارّه المترتّبة عليه ، ويقع بين هذه المضار وتلك الفائدة والمنفعة كسر وانكسار في النفس ، فإن غلبت فائدته يصير الميل في طرف الفعل ثابتا فقط ، وبعد ذلك يتحقق العزم والإرادة نحو الفعل.

ومن الواضح أنّ شيئا من هذه المذكورات التي هي مقدّمات للإرادة والعزم ليس باختياري ، لا تصوّر نفس الفعل ، ولا تصوّر منافعه ، ولا الميل ، ولا تصوّر مضارّه ، ولا الكسر والانكسار وتحقّق الميل نحو الفعل محضا ، بل كلّ ذلك امور قهريّة يحصل بعضها عقيب بعض ، نعم قد يمكن أن يكون نفس تصوّر الفعل اختياريّا

٣٧٨

ومسبّبا عن أمر مقدور ، فيكون سائر الامور المترتّبة على تصوّره أيضا اختياريّا لتسبّبها عن الأمر الاختياري ، لكنّ الدعوى نفي كليّة اختياريّتها.

وأمّا العزم والإرادة ، فأوّلا لا إشكال في أنّ العزم على معصية المولى أمر قبيح ذاتا بمعنى اشمئزاز طبع الإنسان عنه في قبال العزم على طاعته ، حيث إنّ الطبع يستحسنه ، ولا إشكال أنّ القبح الفعلي ملازم للقبح الفاعلي لو كان الفعل عن اختيار الفاعل ، فيكون الفاعل مستحقّا للملامة والعقاب ، فالمهمّ إثبات اختياريّة العزم أو اضطراريّته.

فنقول : قد يقال بأنّ الإرادة هو العلم بالصلاح وإن اختلف تعبيره في الخالق والمخلوق ، فيعبّر عنه في الأوّل بالعلم بالأصلح ، وفي الثاني باعتقاد النفع ، والمحصّل أنّه إذا صار الصلاح والنفع معلوما فالمضرّة لو كانت فهي مضمحلّة في جنب الصلاح ، وبعبارة اخرى علم النفع الخالص السالم عن المزاحم ، فعند ذلك يحصل حركة العضلات ولا يحتاج إلى شيء آخر وراء هذا العلم.

فلا إشكال أنّ العزم على هذا القول ليس باختياري مطلقا إلّا فيما إذا كانت مقدّماته اختياريّة ، وأمّا إذا لم يكن مقدّماته في البين مثل ما لو علم عدم النفع في الفعل فليس باختياري ؛ إذ لا يمكن في هذا الفرض إيجاد العلم بالصلاح في النفس بمجرّد إحراز مصلحة في نفس هذا العلم.

ولكنّ الحقّ أنّ الإرادة حالة نفسانيّة وراء العلم بالصلاح ، والدليل عليه أنّا نتمكّن بالوجدان من إيجاد الإرادة في النفس مع عدم العلم بمصلحة في متعلّقها ، بل والقطع بعدم صلاح فيه أصلا ، والمثال الواضح لذلك أنّ المقيم عشرة أيّام في البلد إذا فرض عدم ترتّب نفع له على نفس البقاء في البلد ، بل يعزم لمجرّد إتمام الصلاة ، فإنّ عزمه هذا لا يمكن جعله عبارة عن العلم بالصلاح ، كيف وهو عالم بعدم نفع في نفس البقاء مع قطع النظر عن العزم ؛ فإنّه لو لم يعزم يقصّر صلاته وإن بقي عشرة أيّام ، ولو عزم يتمّ وإن لم يبق عشرة أيّام ، فهو عالم بعدم فائدة في نفس البقاء ومع ذلك يعزم عليه ، وكذلك كلّ موضع كان لنفس الاختيار مدخليّة في ترتّب الاثر.

٣٧٩

فلو كان العزم هو العلم بالصلاح لزم في هذه المواضع الدور ، لوضوح توقّف العلم بالصلاح فيها على الاختيار ، فلو كان الاختيار أيضا متوقّفا على العلم بالصلاح كان دورا، فيلزم أن لا يمكن الاختيار في هذه المواضع وقد فرضنا إمكانه ، فيلزم أن يكون الاختيار حالة اخرى وراء العلم المذكور.

ثمّ هل هذه الحالة النفسانيّة المسمّاة بالإرادة اختياريّة أو اضطراريّة؟ الوجدان يشهد بالأوّل ، وبرهان (١) الخصم غير تامّ.

أمّا برهان الخصم فهو أنّ الفعل الاختياري ليس إلّا عبارة عمّا هو مسبوق بالإرادة بحيث لو شاء فعل ولو شاء ترك ، فلو كان نفس الإرادة أيضا اختياريّة لزم مسبوقيّتها بإرادة ثانية وهي بثالثة وهكذا ، فيتسلسل.

والجواب على وجه يظهر بطلان التسلسل ودليل الاختياريّة يكون بتمهيد مقدّمتين :

الاولى : أنّ العلّة لوجود الإرادة شيئان كلّ منهما وجد يكتفى به ، وإن وجد كلاهما اشتركا في التأثير ، أحدهما : الصلاح في نفس المتعلّق مثل ما لو كان في ضرب الزيد فائدة فيريده ، والثاني : الصلاح في نفس الإرادة ، وحينئذ يحتاج في وجودها إلى إرادة اخرى فتكون الإرادة الاولى معلولة للإرادة الثانية ، وهي مع الإرادة الاولى حالها حال الإرادة للأفعال الخارجيّة ، فالإرادة الاولى تصير بمنزلة فعل خارجي ، فالإرادة المتعلّقة به معلولة للصلاح فيها ، كما أنّ الإرادة المتعلّقة بالفعل الخارجي معلولة للصلاح في الفعل الخارجي ، فالإرادة الاولى علّتها الإرادة الثانية

__________________

(١) وهذا وجه ثان لبطلان القول باضطراريتها ؛ فإنّ البرهان في كلّ مقام لو كان الوجدان على خلافه كان ساقطا عن درجة الاعتبار ، وإن عجزنا عن تخريبه ورفعه فإنّ البرهان إنّما يكون متّبعا لكونه منتهيا إلى الوجدان ، فإذا كان الوجدان على خلافه فهو بمجرّده غير مفيد ، وفي المقام مع كون الوجدان على خلاف نتيجة البرهان يكون نفس البرهان أيضا مخدوشا وممكن الرفع ، فيكون غير مفيد بطريق أولى. منه عفي عنه.

٣٨٠