أصول الفقه - ج ١

آية الله الشيخ محمد علي الأراكي

أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمد علي الأراكي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٠٤
الجزء ١ الجزء ٢

نجاستهما مع العلم بالنجاسة سابقا ، فإنّ استصحاب النجاسة في كليهما جار ، ولا يضرّ العلم الإجمالي بطهارة أحدهما بعدم كونه منجّزا لتكليف ، وإنّما هو مثبت للإباحة ، والاصول يعمل بها ما لم يلزم المخالفة العمليّة القطعيّة وإن قطع بمخالفة مضمونها للواقع.

وفيه أنّ المدّعى مركّب من قضيتين كليّتين ، إحداهما : لا يجوز العمل بكلّ عام قبل الفحص ، والاخرى : يجوز العمل بكلّ عام بعده ، وهذا الدليل لا يفيد هذا المدّعى ؛ لأنّه لو كان المراد العلم الإجمالي بوجود مخصّصات كثيرة في الواقع أعمّ ممّا يكون موجودا في ما وصل إلينا من الكتاب والسنّة ومن غيره فربّما يحصل الفحص ولا ينحّل هذا العلم ، وذلك بأن يكون القدر المتيقّن من المخصّصات الواقعيّة أزيد ممّا نجده من المخصّصات في الكتاب والسنّة بعد الفحص ، كما لو كان ما وجدناه خمسمائة مخصّص لجميع العمومات والمتيقّن تخصيص تمام العمومات بستمائة ، فحينئذ يلزم أن لا يجوز العمل بالعام بعد الفحص أيضا لبقاء العلم الإجمالي وعدم انحلاله.

وأيضا ربّما ينحّل العلم الإجمالي قبل الفحص كأن يكون المتيقن خمسمائة مخصّصا لتمام العمومات ووجدنا في الكتاب والسنّة خمسمائة لأربع مائة عام فيلزم جواز العمل بغير هذه الأربعمائة من العمومات قبل الفحص لخروجه عن أطراف العلم الإجمالي ، وإنّما تعلّق الشّك البدوي بتخصيصه ، فعلى هذا التقدير لا يستقيم الكليّة في شيء من الجانبين ، لا في الجواز بعد الفحص ولا في عدمه قبله ، ولو كان المراد العلم الإجمالي بوجود المخصّصات في ما بأيدينا من الكتاب والسنّة ، فحينئذ وإن كان يجوز العمل بالعامّ بعد الفحص دائما ؛ لانحلال العلم الإجمالي بعده كذلك ، إلّا أنّه قد يجوز قبل الفحص أيضا ؛ لانحلاله قبله ، كما لو وصلنا في خمسمائة عامّ بخمسمائة مخصّص ، فانحلّ العلم الإجمالي وتبدّل في سائر العمومات التي لم نفحص عن مخصّصاتها بالشكّ البدوي ، فعلى هذا التقدير لا يثبت الكليّة في جانب عدم الجواز قبل الفحص وإن كان يثبت في جانب الجواز بعده.

وربّما يوجّه وجوب الفحص بما ذهب إليه المحقّق القمي قدس‌سره من أنّا نتبع في باب الظهورات للظنون الشخصيّة ولا نكتفي بالظنون النوعيّة ، وليس للظهورات

٣٠١

عنوان مستقلّ للحجيّة وإنّما حجيّتها من باب مطلق الظن ، ولا شكّ أنّا إذا احتملنا احتمالا عقلائيّا أن يكون للعام تخصيص أو تخصيصات لا يحصل لنا الظنّ بمدلوله ، فيتوقّف حصول الظن الشخصي الذي هو المناط للحجيّة على الفحص.

وفيه مضافا إلى أنّ هذه الطريقة مردودة عند الأكثر لا يفيد كليّة الدعوى ، بل يلزم اختلاف الحال بالنسبة إلى الأشخاص ، فربّما لا يجوز العمل بعد الفحص أيضا بالنسبة إلى من لم يحصل له الظن بالمدلول بعده أيضا ، وربّما يجوز قبله بالنسبة إلى من حصل له الظن قبله.

والحقّ أن يقال : إنّ وجه وجوب الفحص أحد أمرين ، وذلك لأنّا إمّا أن نقول في ما إذا كان المخصّص منفصلا عن العام بأنّ العام يصير موضوعا للحجيّة ويستقرّ له الظهور ، وإمّا أن نقول بأنّه في مكالمات من ليس من عادته ذكر المخصّصات بجملتها في مجلس واحد، بل ذكرها في مجالس متفرّقة حاله في تلك المكالمات بالنسبة إلى المخصّصات المنفصلة حال العام في مكالمات غيره بالنسبة إلى المخصّصات المتّصلة ، فكما يجب الصبر هناك ولا يستقرّ الظهور قبل انقضاء الكلام ، كذلك هنا أيضا لا يستقرّ الظهور إلّا بعد عدم وجود ما ينافيه في مجلس متأخّر ، فعلى الثاني يكون من الواضح وجوب الفحص ؛ فإنّه حينئذ لأجل توقّف استقرار الظهور عليه ، وأمّا على الأوّل فلأنّه وإن كان موضوعا للحجيّة ومستقرّ الظهور إلّا أنّه معلّق على عدم وجود الحجّة الأقوى في قباله ، ولا يصدق موضوع عدم مزاحمة حجّة أقوى بمجرّد عدم الوجدان الابتدائي ، كما لا يصدق موضوع قبح العقاب بلا بيان بمجرّد عدم الاطّلاع على البيان قبل الفحص عنه مع احتمال وجوده في الواقع واحتمال أنّه لو فحص لوصل إليه ، فإنّه حينئذ لو كان في الواقع موجودا ولم يفحص عنه لم يكن البيان بالنسبة إليه معدوما ، فالاحتمال هاهنا بمنزلة البيان وإن كان لو فحص ولم يصل إليه ينكشف عدم البيان بالنسبة إليه من الأوّل.

وفيما نحن فيه أيضا مجرّد الاحتمال المذكور بمنزلة الحجّة الأقوى ، فلو كان في الواقع ولم يفحص لم يكن معذورا عند العقلاء ، والفرق بين الفحص في باب الظهورات و

٣٠٢

بينه في باب الاصول هو أنّه في الأوّل يكون لاستعلام وجود حجّة أقوى في قبال حجّة غير أقوى ، وفي الثاني يكون لاستعلام ما يكون هو الحجّة ، وما في قباله يكون لا حجّة مع وجوده ، والفرق بين المبنيين في العام المخصّص بالمنفصل هو أنّه على الأوّل لا نحتاج بعد الفحص وعدم وجدان المخصّص إلى إجراء أصالة عدم التخصيص ؛ إذ لو فرض وجود الحجّة الأقوى في الواقع ولم يصل إليه المكلّف فهو ليس بحجّة على المكلّف ، فالحجّة بالنسبة إليه يكون بلا مزاحم ، بل يكشف الفحص حينئذ أنّ العام كان من الأوّل بلا مزاحم بحجّة اخرى أقوى ، وعلى الثاني نحتاج إلى إجرائه لإحراز عدم ورود مخصّص آخر غير ما ظفر به المكلّف ، فإنّه لا بدّ على هذا من إحراز عدم المخصّص في استقرار الظهور إمّا بالأصل وإمّا بالوجدان والقطع.

«إيقاظ»

قد ردّد الشيخ الأجلّ المرتضى قدس‌سره في موضعين من رسائله في أنّه هل المتّبع في باب ظهور اللفظ هو أصالة الحقيقة أو أصالة عدم القرينة؟ وأورد عليه المحقّق الخراساني قدس‌سره في الحاشية على الرسائل بأنّه لا وجه للترديد بين الشقّين ، بل الحقّ أنّ الشكوك مختلفة ، فربّ شكّ يكون المرجع فيه والرافع له هو الأصل الأوّل ، وربّ شكّ يكون مرجعه الأصل الثاني ، وربّ شكّ يكون مرجعه كلا الأصلين ، فالأوّل هو ما إذا شكّ في مرحلة الإرادة اللبيّة بعد الفراغ عن مرحلة الاستعمال ، والثاني ما إذا كان الأمر بعكس ذلك ، والثالث ما إذا شكّ في كلا الأمرين أعني أنّ اللفظ استعمل في الحقيقي أو المجازي ، وعلى أيّ التقديرين يكون المستعمل فيه مرادا جدّيا أولا.

والحقّ أن يقال : إنّ الكلام في هذا المقام يكون مع قطع النظر عن مرحلة تطابق الإرادتين وبعد الفراغ عن أنّ الأصل الجاري في كلام كلّ متكلّم شاعر قاصد أن يكون مريدا لظاهر كلامه فيشكّ في أنّ ظاهر كلامه ما ذا؟

فحينئذ إمّا أن نقول بأنّ ذات اللفظ التي هو المقسم لما يكون مع القرينة ولما

٣٠٣

يكون بدونها في الألفاظ التي يكون لها معنى موضوع له يكون حجّة وظاهرا من دون حاجة إلى إحراز قيد آخر ، فتكون القرينة المخالفة من باب تعارض الحجّتين ، أو أنّ دائرة موضوع الظاهر والحجّة يكون ضيقا وهو اللفظ المقيّد بالتجرّد عن القرينة ، فلا يكفي مجرّد اللفظ بدون إحراز تجرّده ، وليس له ظهور لا في الحقيقي ولا في المجازي ، بل متى احرز قيد التجرّد يصير ظاهرا في الحقيقي ، كما أنّه متى احرز قيد الاقتران مع القرينة يكون ظاهرا في المجازي ، فالمرجع عند الشكّ على الأوّل هو أصالة الحقيقة وعلى الثاني أصالة عدم القرينة ، وكذلك الحال بعينه في أصالة العموم وأصالة عدم التخصيص.

وتظهر ثمرة هذا النزاع في مواضع :

منها : ما إذا كان في الكلام ما يصلح للقرينيّة ، وبعبارة اخرى كان الشّك في قرينيّة الموجود ، فعلى الأوّل يكون الأصل جاريا ؛ إذ الحجّة وهو نفس اللفظ موجود بالفرض ، ولم يعلم الحجّة الأقوى في قباله بل يعلم بعدمه ؛ إذ ليس في البين إلّا المشكوك القرينيّة وهو غير حجّة لإجماله ، وعلى الثاني لا يجري الأصل ؛ إذ لا بدّ من إحراز عدم القرينة أو التخصيص على هذا إمّا بالأصل وإمّا بالقطع ، والقطع منتف بالفرض ، وأمّا الأصل فالقدر المتيقّن من مورده ما إذا كان الشكّ في أصل وجود القرينة لا في قرينيّة ما يقطع بوجوده.

ومنها : أنّه على الأوّل لا بدّ من ملاحظة العام القطعي السند مع الخاصّ الظنّي السند والترجيح بينهما ؛ إذ يقع التعارض بين ظهور العام وبين دليل اعتبار سند الخاص ، وظهور العام يكون أقوى من ظهور دليل السند ، والحاصل لا بدّ من ملاحظة مرجّحات باب التعارض فيما بين العام والخاص لا تقديم الخاص مطلقا ، بخلافه على الثاني فإنّ الخاص بعد الفراغ عن سنده بمعنى دخوله في موضوع الحجيّة وإن كان ضعيفا يكون مقدّما على العام وإن كان بحسب السند أقوى ؛ إذ قد عرفت أنّ العام لا يستقرّ له ظهور ولا يندرج في موضوع الحجيّة إلّا بعد ملاحظة الخاص.

ومنها : أنّه على الأوّل لا يسري الإجمال من المخصّص المنفصل المجمل إلى العام ،

٣٠٤

بل يكون العام متّبعا بعمومه لكونه في نفسه حجّة وعدم وجدان حجّة أقوى في قباله ؛ فإنّ المجمل ليس بحجّة ، وعلى الثاني يسري الإجمال منه إلى العام كما مرّ بيانه فيما تقدّم فراجع.

والحقّ أن يقال : إنّه ينبغي القطع بالشقّ الثاني وهو حجيّة أصالة عدم القرينة فيما يكون من القرائن والقيود والمخصّصات متّصلة بالكلام ، حيث إنّ المجموع كلام واحد ، فلا يستقرّ لبعض أجزائه ظهور في معنى إلّا بعد إحراز عدم وجود ظهور أقوى منه في لو احق هذا الكلام يكون قرينة على صرف ذلك الظهور البدوي عن مقتضاه ، وأمّا فيما يكون منها منفصلا عن الكلام فينبغي التفصيل بين متكلّم يكون غرضه مقصورا على تحصيل الأغراض الشخصيّة وبين من يتكلّم في تأسيس القوانين لإصلاح امور العامّة ، ففي الأوّل تكون المتّبع أصالة الحقيقة وأصالة العموم ، وفي الثاني هو أصالة عدم القرينة وعدم التخصيص ، ووجه الفرق هو استقرار الظهور في الأوّل بمجرّد انقضاء الكلام بدون انتظار شيء آخر وعدم استقراره في الثاني وكونه مراعى إلى أن يظهر عدم القرينة.

«فصل»

في جواز تخصيص العام الكتابي بخبر الواحد ، لا إشكال في أنّ حال هذا المخصّص بالنسبة إلى هذا العام حال سائر المخصّصات المنفصلة بالنسبة إلى سائر العمومات في أنّه لو قلنا بأنّ الإجمال لا يسري منها إلى العام لو كانت مجملة وأنّ المعتبر أصالة العموم ولا يلزم إحراز عدم التخصيص ، وتقديم المخصّص المنفصل يكون من باب تقديم الحجّة الأقوى.

فحينئذ لا بدّ فيما إذا كان العام قطعيّ الصدور سواء كان كتابيا أم متواترا أم آحاديّا محفوفا بالقرينة القطعيّة والخاص ظنيّة من ملاحظة دليل اعتبار الظهور في العام مع دليل اعتبار السند في الخاص وملاحظة الأقوى منهما وترجيحه.

لا يقال : السند والدلالة ليسا في عرض واحد ، فلا معارضة بينهما ؛ إذ الدلالة فرع

٣٠٥

الصدور من المعصوم عليه‌السلام ومتأخّر عنه ، فأوّلا لا بدّ من إثبات الصدور ثمّ من إثبات الدلالة.

وبعبارة اخرى : موضوع الدلالة هو اللفظ الصادر عن المعصوم عليه‌السلام فقد اخذ الصدور في موضوع الدلالة ، فهنا امور أربعة : دلالة العام وسنده ، ودلالة الخاص وسنده ، ولا معارضة بين الدلالتين بالفرض ، لفرض كون دلالة العام ظهورا ، ودلالة الخاص على نحو النصوصيّة ، وكذا بين السندين لإمكان أن يكون كلا اللفظين صادرا.

نعم بين سند الخاص ودلالة العام المعارضة ثابتة ، لكنّهما ليسا في عرض واحد ، بل لا بدّ من ملاحظة دليل السند أوّلا ، وفي هذه المرتبة لا معارض له بالفرض ، ثمّ ملاحظة الدلالة ، وحينئذ فلا محيص من تقديم الخاص وإن فرض كون دلالة العام على العموم أقوى من دلالة دليل سند الخاص على اعتبار هذا الخاص.

لأنّا نقول : نعم بين دليل اعتبار السند ودليل اعتبار الظهور ترتّب والثاني في طول الأوّل لكن بالنسبة إلى لفظ واحد ، فاللفظ الواحد لا يلاحظ فيه دليل السند ودليل الظهور في عرض واحد ، بل الأوّل مقدّم على الثاني رتبة ، وأمّا بالنسبة إلى اللفظين المنفصلين فلا ، فليس سند أحدهما واقعا في طول دلالة الآخر ، فإذا قال : أكرم العلماء ثمّ أخبر العادل بعدم وجوب إكرام زيد العالم وكان خبر العادل لازم الاتّباع بقوله : اعمل بكلّ ما أخبر به العدل ، فحينئذ يقع التعارض في وجوب إكرام زيد وعدمه بين دلالة أكرم ودلالة اعمل ، فكلّ منهما كان أظهر كان مقدّما ومع التساوي يرجع إلى الأصل.

ولو قلنا بأنّ المتّبع هو أصالة عدم التخصيص المنفصل في كلام من كان عادته عدم ذكر المخصّصات والمقيّدات للعمومات والإطلاقات الواقعة في كلامه في مجلس واحد وأنّه لا يستقرّ ظهور العام في كلام هذا المتكلّم في العموم إلّا بعد إحراز عدم التخصيص متّصلا ومنفصلا بالقطع أو بالأصل ، فحينئذ لا محيص من تقديم الخاص وإن كان سنده في أدنى مرتبة الاعتبار على العام وإن كان في أقصى مرتبة من

٣٠٦

اعتبار السند ، إذ الخاص على هذا يكون واردا على العام بحسب الحجيّة فيكون خارجا من باب تعارض الدليلين ؛ لثبوت الجمع العرفي في البين وهو تقديم الخاص.

فتحصّل أنّ مقتضى القاعدة على المبنى الأوّل ملاحظة سند الخاص مع دلالة العام ، وعلى الثاني ترجيح الخاص مطلقا.

لكن هنا شيء في خصوص الخبر الواحد بالنسبة إلى عموم الكتاب وهو أنّه قد وصل إلى حدّ اليقين من أخبار المعصومين عليهم‌السلام هذا المضمون وهو أنّهم عليهم‌السلام لم يقولوا بما خالف الكتاب وأنّ كلّ ما وجدتموه مخالفا له فاضربوه على الجدار ، نعم الأخبار مختلفة في خصوص المخالفة وعدم الموافقة ، ففي بعضها التصريح بالأوّل وفي الآخر التصريح بالثاني وهو أعمّ من الأوّل ، فالتواتر بالنسبة إلى المخالفة متحقّق ، هذا مع حصول القطع بورود الأخبار الكثيرة منهم عليهم‌السلام بتخصيص عمومات الكتاب وتقييد مطلقاته كما في ما ورد باختصاص الحبوة بالكبير من الأولاد ، وعدم إرث الزوجة مطلقا أو خصوص غير ذات الولد من العقار بالنسبة إلى عموم آية الإرث الشاملة بعمومها للكبير والصغير الظاهرة في تساويهم فيما ترك ، وعموم آية ارث كلّ من الزوجين من الآخر الغير الفارق بين العقار وغيره ، وكما في ما دلّ على عدم صحّة البيع الغرري من قوله نهى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن بيع الغرر بالنسبة إلى عموم آية (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) إلى غير ذلك.

فجعل هذه الموارد خارجة عن عموم تلك الأخبار خلاف الإنصاف ؛ فإنّ مضمونها آب عن التخصيص ، فالقدر المعلوم أنّ هذه الموارد خارجة عن مدلول تلك الأخبار إمّا ببيان أنّ مخالفة العموم والخصوص ليست من أنحاء المخالفة عرفا وأنّها مختصّة بالمخالفة على وجه التباين ، أو يكون المراد نفي المخالفة لما هو المراد من الآية واقعا وإن كان مخالفا لما هو الظاهر عندنا من الآية بحسب مدلولها اللغوي ، أو نلتزم بأنّ لهذه الأخبار معنى لا نفهمها ، وعلى أيّ حال فالقطع حاصل بأنّ مدلولها ما ليس شاملا للتخصيص والتقييد ، وحينئذ فحال الخبر الواحد حال سائر المخصّصات المنفصلة.

٣٠٧

«فصل»

العام والخاص قد يكونان متعاقبين بتقديم الأوّل على الثاني أو العكس ، وقد يكونان متقارنين ، فإن كان العام مقدّما على الخاص فإمّا أن يكون الخاص واردا بعد حضور العمل بالعام ، وإمّا أن يكون واردا قبله ، فالخاص المتأخّر سواء ورد عقيب وقت الحاجة إلى العمل بالعام أم قبله يكون تخصيصا أو ما هو كالتخصيص.

بيان ذلك : إنّا نشاهد كثيرا من الأحكام جرت بلسان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في القرآن أو السنّة أو واحد من الأوصياء عليهم‌السلام على وجه العموم ، ثمّ ورد بعد أزمنة متمادية ما يدل على خلاف الحكم في بعض أفراد العام على لسان الإمام المتأخّر عليه‌السلام ، ومثل هذا كثير في الأحكام جدّا.

فإن قلنا بأنّ ذلك من قبيل النسخ وأنّ الخصوصيّات المتأخّرة الجارية على لسان المتأخّر نواسخ للعمومات الجارية على لسان النبي أو الوصيّ المتقدّم بالنسبة إلى الفرد الخاص، فهذا وإن كان سليما ممّا توهّم كونه إشكالا على النسخ من استحالته ، من جهة استلزامه إمّا الإيقاع في المفسدة أو تفويت المصلحة ـ لإمكان أن تكون المصلحة مقيّدة ببرهة من الزمان ففي الحقيقة واللب يكون النسخ إظهارا لانقضاء أمد المصلحة الموجبة للحكم السابق وانقلابه بالقيد ، لا أنّه رفع لما كان ثابتا وإن كان هو كذلك بحسب مقام الظاهر والإثبات ؛ إذ الرفع لا يتحقّق إلّا بالنسبة إلى غير العالم بالعواقب الجائز في حقّه البداء بأن يلتفت في اللاحق بمصلحة لم يكن ملتفتا لها في السابق فرجع عن حكمه السابق ورفعه في اللاحق وبدّله بالضدّ لا بالنسبة إلى الحكيم تعالى. وكذا لا يرد على هذا الوجه مخالفته لقوله عليه‌السلام : «حلال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة» ؛ إذ مفاد القضيّة أنّ الأحكام التي جاء بها النبي من قبل الله باقية إلى يوم القيامة من دون أن يبدّلها شريعة جديدة كما في الشرائع السابقة. والفرق بين هذا النسخ وبين نسخ الشرائع أنّ الأوّل يكون ناسخه ومنسوخه ممّا جاء به النبي ، غاية الأمر أنّه أوكل

٣٠٨

بيان الناسخ إلى وصيّه ومن هو قائم مقامه ، فكأنّه جرى بيان الناسخ والمنسوخ على لسان نفس النبي صلّى الله على وآله ؛ إذ الوصي وجود تنزيلي للنبي ، وهذا بخلاف نسخ الشرائع ؛ فإنّ الناسخ فيه جاء به نبيّ آخر من قبل الله سبحانه ، لا أنّه كان نائبا من النبي السابق في بيانه ؛ إذ النبي السابق لم يكن مأمورا من الله بأزيد من المنسوخ ، والمأمور بالناسخ هو النبي اللاحق ، والقضيّة نافية للثاني دون الأوّل كما لا تنفى ما إذا كان الناسخ أيضا جاريا على لسان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ إلّا أنّه مع ذلك لا يمكن الالتزام بهذا الوجه للقطع بندرة النسخ وعدم تكثّره إلى هذه الغاية.

وإن قلنا بأنّ ذلك من قبيل التخصيص فهذا وإن كان سالما عن إشكال لزوم تأخير البيان عن وقت الحاجة ـ إذ لا نسلّم أن يكون تأخير البيان إلى ما بعد وقت الحاجة من العناوين الغير المنفكّة عن القبح التي هي علّة تامّة له كعنوان الظلم ، بل هو من قبيل بعض العناوين التي قبحها اقتضائي معلّق على عدم طروّ جهة حسن عليها كضرب اليتيم ، فمن الممكن أن يكون مصلحة في البين اقتضت التأخير وبذلك صار التأخير راجحا حسنا ، غاية ما في البين أن يقال : إنّ التأخير وعدم البيان كان فيه المصلحة ، فما وجه بيان الخلاف ، وهذا أيضا مردود بأنّا نقطع بأنّ كثيرا من الأحكام لم يكن المصلحة في بيانها ، بل بعض الموضوعات لم يبيّن حكمها إلى زمان ظهور القائم عجّل الله تعالى فرجه كحكم شرب التتن ولا بدّ أن نلتزم في أمثال ذلك بأنّ المصلحة اقتضت عدم البيان ، فكما نلتزم في هذه الأحكام بكون المصلحة في عدم البيان نلتزم في ما نحن فيه بكون المصلحة متعلّقة ببيان الخلاف ـ إلّا أنّه مع ذلك لا يخلو عن ركاكة وحزازة ؛ إذ يلزم على هذا سلب الوثوق عن عامّة العمومات ؛ لاحتمال أن لا يكون بصدد بيان الحكم الواقعي وأنّ المصلحة اقتضت بيان الخلاف.

فما يكون هو الوجه في هذا لمقام هو أن يقال : إنّا تصوّرنا في أحكام الشارع قسمين من الحكم ـ وإن لم نجدهما في أحكام غيره ـ كلاهما صحيح تام سالم من الإشكال ، الأوّل: جعل الحكم في موضوع الواقع وهو المسمّى بالواقعي ، والثاني :

٣٠٩

جعله في موضوع المشكوك وهو المسمّى بالظاهري ودفعنا ما أورده ابن قبة على هذا الحكم من تفويت المصلحة أو الإيقاع في المفسدة أو اجتماع الضدّين بأنّهما حكمان طوليّان ، فليس بينهما التنافي وكلّ منهما في موضوع نفسه حكم واقعي.

وحينئذ نقول : من الممكن أن يكون الحكم الذي تكفّله تلك العمومات بالنسبة إلى بعض الأفراد حكما واقعيّا وبالنسبة إلى بعضها ظاهريّا ، غاية الأمر أنّه لم يصرّح في هذا البعض باسم الشكّ لأجل كونه حاصلا ؛ إذ المكلّف كان شاكّا في حكم هذا الفرد ولم يرتفع شكّه بمجرّد ورود العام لاحتمال التخصيص ، بل هو باق إلى أن يظهر الخاص ، فبظهوره يرتفع ويكون الخاص بيانا للحكم الواقعي لهذا الفرد.

وحينئذ يرتفع الإشكال بحذافيره ، أمّا عدم البيان للحكم الواقعي لهذا الفرد وتأخيره إلى زمان ورود الخاص فهو نظير عدم بيان حكم سائر الموضوعات الغير المبيّنة حكمها كشرب التتن ، وأمّا بيان الخلاف فلأنّه حكم واقعي متعلّق بموضوع الشاك وهو موضوع آخر غير مرتبط بنفس الواقع ، فليس فيه إغراء بالجهل وإيقاع في المفسدة ، وهذا الوجه يكون كالتخصيص في النتيجة والثمرة ، وأمّا إذا كان الخاص واردا قبل الحضور فهو تخصيص حقيقي بلا كلام كالخاص المقارن.

وملخّص الكلام في المقام أنّ المخصّص المنفصل قد يكون متقدّما على العامّ وقد يكون متأخّرا ، وعلى التقديرين قد يكون المتأخّر واردا قبل حضور وقت العمل بالمتقدّم وقد يكون واردا بعده ، فهذه أربع صور ، وقد يكون التاريخان مشكوكين ، فصورة العلم بتأخّر الخاص سواء كان قبل حضور وقت العمل بالعام أم بعده حيث أن لا ثمر بحسب العمل للخلاف في كونه نسخا أو تخصيصا بالنسبة إلينا لكوننا واقعين في هذه الأزمنة التي هي زمان العمل بالخاص وظهور الثمر بالنسبة إلى المكلّفين الواقعين بعد زمان ورود العام وقبل ورود الخاص لا يوجب الجدوى في البحث بالنسبة إلينا.

وإذن فعدّ هذه الصورة في باب تعارض الأحوال والكلام في أنّ مقتضى

٣١٠

الاصول العقلائيّة تعيين أيّ الحالتين لعلّه في غير محلّه ؛ إذ الاصول العقلائيّة كالشرعيّة إنّما يجري في ما إذا ترتّب عليها أثر عملي.

نعم اللائق بالبحث هو الأمر الحكمي العقلي وهو تصوير عدم لزوم القبح على الحكيم تعالى على تقدير النسخ وعدم مخالفته للقضيّة المشهورة «حلال محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله الخ» وتصوير ذلك على تقدير التخصيص من جهة قبح تأخير البيان ، وقد عرفت تصويره على كلا التقديرين ، وأمّا الخاص المتقدّم ففيه يظهر الثمر العملي بين التخصيص والنسخ ؛ إذ الأمر فيه دائر بين أن يكون الخاص تخصيصا فرديّا للعام وبين أن يكون العام تخصيصا زمانيّا للخاص ، فعلى الأوّل يكون الفرد الخاص بعد ورد العام محكوما بحكم الخاص ، وعلى الثاني يكون محكوما بحكم العام.

وملخّص الكلام فيه أنّ العام لو كان واردا قبل حضور العمل به فالظاهر عدم الإشكال في كونه مخصّصا للعام ، ولو كان واردا بعد ذلك فإن حصل لنا من كثرة وقوع التخصيص وشيوعه وندرة وقوع النسخ الظنّ الاطميناني بالتخصيص الذي هو عند العقلاء بمنزلة العلم ، ويكون احتمال خلافه في حكم العدم فنعم المطلوب ، وإن لم يحصل من ذلك إلّا الظن الغير البالغ حدّ الاطمئنان فحيث لا دليل على اعتبار هذا الظنّ وحجيّته لعدم كونه لفظيّا فنرجع إلى دلالة اللفظين ، وقد عرفت معارضة أصالة العموم الأزماني في الخاص لأصالة العموم الأفرادي في العام.

وتوهّم أنّ الأوّل إطلاقي حاصل بمقدّمات الحكمة والظهور في الثاني وضعي فيكون له الورود على الأوّل مدفوع ، مضافا إلى أنّ العموم الأفرادى أيضا قد يكون إطلاقيّا ، ومحلّ الكلام عام للقسمين بأنّ ما يمنع من انعقاد مقدّمات الحكمة هو البيان المتّصل ، فعند عدم البيان المتّصل ينعقد الظهور الإطلاقي للكلام ، فلو وجد بعد ذلك ظهور مخالف كان معارضا له وإن كان وضعيّا.

وكيف كان فإن كان أحد هذين الظهورين أقوى من الآخر كان هو المقدّم وإلّا فالمرجع هو الأصل العملي ، وهو دائما يكون استصحاب حكم الخاص.

فتحصّل أنّ الخاص المتأخّر بكلا قسميه لا يليق بالبحث إلّا من الجهة العقليّة ، و

٣١١

الخاص المتقدّم لو كان العام واردا قبل حضور العمل به كان تخصيصا ، ولو كان العام واردا بعد حضور العمل به فمع حصول الاطمئنان المذكور يكون تخصيصا أيضا ، ومع عدم حصوله وعدم الأظهر يكون تخصيصا بحكم الأصل ، هذا ملخّص الكلام في الصور الأربعة للعلم بالتاريخين.

وقد اتّضح منه الحال في صور الشكّ ؛ فإنّ الحكم هو التخصيص ؛ إذ قد علم أنّ الخاص على تقدير تأخّره يكون تخصيصا ، وعلى تقدير تقدّمه أيضا يكون كذلك إمّا بالاطمينان ، وعلى تقدير عدمه فإمّا أن يكون أصالة العموم الأزماني في الخاص أظهر أو يكون هو مساويا لأصالة العموم الأفرادي في العام فيرجع إلى الأصل ومقتضاه أيضا هو التخصيص ، وأمّا أظهريّة أصالة العموم الأفرادي فلعلّه لم يكن له مورد إلّا فيما لو فرض مساعدة القرائن المقاميّة ، وهذا الفرض أيضا في غاية الندرة وفي حكم العدم.

٣١٢

«المقصد الخامس»

«في المطلق والمقيّد والمجمل والمبيّن»

«فصل»

ما يطلب التكلّم فيه في هذا الباب ويبحث عمّا وضع هو له أقسام ويطلق على بعضها اسم المطلق.

منها : أسماء الأجناس أعمّ ممّا يكون موضوعا للجواهر كلفظ الإنسان أو للأعراض كلفظ البياض أو للعرضيّات كلفظ الأبيض.

والمحكي عن سلطان العلماء هو القول بكونها موضوعة للطبيعة المهملة والمعنى اللابشرط المقسمي ؛ وذلك لوضوح تقسيم الإنسان مثلا إلى ثلاثة أقسام بحسب عالم اللحاظ ، الأوّل أن يلحظ الإنسان ولم يكن قيد معه ملحوظا ، والثاني أن يلحظ مع قيد وجودي ، والثالث أن يلحظ مع قيد عدمي ، والأوّل هو المسمّى بالمطلقة والأخيران مسمّيان بالمقيّدة ويسمّى الأوّل أيضا باللابشرط القسمي ، والثاني بالمعنى بشرط شيء ، والثالث بشرط لا ، وكذا الكلام في سائر الألفاظ.

وقد يستشكل على هذا القول بأنّه إن اريد باللابشرط القسمي الماهيّة التي لم يلحظ معها قيد يعني يكون اللابشرطيّة حالة لها ، لا أن يكون مأخوذة قيدا ووصفا لها ، فما الفرق بينها وبين المقسم ، وإن اريد أنّ اللابشرطيّة قيد فيها ، وبعبارة اخرى لوحظ وصف التجرّد عن كلّ قيد قيدا لها ، فيفترق عن المقسم بأنّ المقسم ما يكون خاليا عن هذا القيد أيضا ، فيرد عليه أنّ الطبيعة بهذا القيد لا ينطبق على الخارجيات ؛ إذ هي في الخارج لا ينفكّ عن التقيّد بالخصوصيّات الفرديّة ، فيلزم أن يمتنع امتثال مثل جئني بإنسان ، مع أنّهم يحملون متعلّقات التكاليف على هذا القسم بمقدّمات الحكمة.

والتحقيق أن يقال : إنّا نجد بحسب عالم التصوّر واللحاظ ثلاثة أنحاء من الملاحظة والتصوّر لمفهوم الإنسان ، فقد يتصوّر بانضمام قيد وجودي وإن كان هو الإرسال والسيلان بأن يلحظ هذا المفهوم مقيّدا بكونه في أيّ وجود تحقّقت لم يكن منافيا له ، وقد يتصوّر بانضمام خصوصيّة عدميّة ، وقد يتصوّر هو ولا يتصوّر معه

٣١٣

خصوصيّة وجوديّة ولا عدميّة ، فهذا القسم يكون قسيما للأوّلين وبقبالهما باعتبار أنّه في الواقع يكون مقيّدا بقيد التجرّد ويكون له حالة التجرّد عن كلّ ضميمة وقيد ، وهما يكونان منضمّين إلى ضميمة وإن لم يكن حال التجرّد في الأوّل ملحوظا لكنّه واقعا موجود ، فلا يرد أنّه غير منطبق على الخارج وأنّه كلّي عقلي لا موطن له سوى الذهن ؛ إذ ذلك إنّما يلزم لو لوحظ وصف التجرّد معه قيدا وحالا ، وليس كذلك.

ثمّ إنّ الشخص الآخر إذا لاحظ هذه الأقسام الموجودة في ذهن لاحظ آخر أو نفس هذا اللاحظ إذا لاحظ بعد ملاحظة تلك الأقسام في ذهنه إيّاها بملاحظة ثانويّة ينتزع من هذه الموجودات الذهنيّة جامعا ، كما ينتزع من الخارجيّات جامع ، والفرق بين هذا الجامع والقسم الأخير أنّ التجرّد مقوّم للثاني ، والأوّل يناسب معه ومع الخصوصيّة الوجوديّة أو العدميّة ، والموجود في ذهن هذا الشخص المنتزع للجامع لما في الذهن وإن كان ليس خارجا من أحد الأقسام ـ يعنى أنّ واقع ما يلاحظه ويجعله مقسما وجامعا يكون هو المفهوم اللابشرط فإنّ التجرّد ثابت له واقعا وليس بملحوظ ـ لكنّه يشير به ويجعله حاكيا ومرآتا لما هو المقسم والجامع بين الأقسام المذكورة.

إذا عرفت ذلك فنقول : المدّعى هو أنّ أسماء الأجناس موضوعة لهذا الجامع ، والدليل عليه أنّها لو كانت موضوعة للمفهوم اللابشرط القسمي أعني ما يكون قيد التجرّد مقوّما له يلزم أن يكون الاستعمال في مثل الإنسان الأبيض فيما إذا استعمل اسم الجنس في الماهيّة منضمّة إلى خصوصيّة وجوديّة أو عدميّة مجازيا ؛ فإنّه استعمال في غير ما وضع له ؛ إذ المفروض أنّه متقوّم بالتجرّد وعدم لحاظ الضميمة والخصوصيّة ، والمقطوع بالوجدان خلاف ذلك وأنّ الاستعمال المذكور يكون على وجه الحقيقة كصورة عدم ذكر القيد ، فيكون دليلا على أنّ اللفظ موضوع لما هو الجامع بين القسمين.

نعم يلزم على هذا أن يكون حال معاني تلك الأسماء حال معاني الحروف ؛ إذ كما أنّ معاني الحروف محتاجة إلى الغير وتكون مندكّة في الغير ولا بدّ عند وضعها أو استعمالها من لحاظ معنى هو واقعا مفهوم مستقل باللحاظ ويشار به إلى ما هو قائم بالغير ووصف وحالة له ، كأن يشار بمفهوم الابتداء الملحوظ حالة للغير إلى حقيقة معنى «من» كذلك معاني هذه الأسماء أيضا تكون محتاجة في التصوّر واللحاظ إلى

٣١٤

غيرها ؛ فإنّ مقسم الأقسام المذكورة لا يوجد في الذهن إلّا مندكّا في أحد تلك الأقسام ولا يمكن لحاظه بدون لحاظ واحد منها ، ولا بدّ عند الوضع أو الاستعمال من ملاحظة أحد الأقسام والإشارة به إلى الجامع.

وبالجملة كما أنّ معاني الحروف متّصفة بالاحتياج والافتقار في الوجود الذهني إلى المتعلّقات ويكون معان آلية عاجزة مستندة إلى الغير ومربوطة به كاستناد معنى من البصرة إلى مفهوم السير والبصرة وارتباطه بهما ، ولا يكون له وجود إلّا مندكّا في المتعلّقات ، كذلك معاني أسماء الأجناس أيضا تكون متّصفة بالاحتياج والافتقار في الوجود الذهني إلى واحد من الأقسام ولا يوجد إلّا مندكّا في أحدها ، ولكن لا ضير في الالتزام بذلك إذا ساعده الوجدان.

فيمتاز تلك المعاني عن معاني الحروف بأنّ المعنى الحرفي يحتاج إلى محلّ يقوم به ويكون عرضا وحالة له وخصوصيّة من خصوصيّاته ككون معنى من البصرة خصوصيّة لمفهوم السير ، وهذه المعاني تكون مفتقرة إلى شيء آخر يكون هذا الشيء الآخر قائما بتلك المعاني ومن خصوصيّاتها ، وهو إمّا وصف التجرّد أو الاقتران بخصوصيّة وجوديّة أو عدميّة ، فمفهوم من البصرة يحتاج إلى أن تكون خصوصيّة لمفهوم السير ، ومفهوم السير الذي هو معنى للفظ السير يحتاج إلى كون هذه الخصوصيّة خصوصيّة له.

وبالجملة الفرق بين الحروف وهذه الأسماء هو أنّ الاولى موضوعة لمعان يكون أبدا أعراضا في الذهن لغيرها ، والثانية لمعان يكون أبدا معروضات لغيرها ، فيكون حال معاني أسماء الأجناس في الذهن حال معاني أعلام الأشخاص في الخارج ، فكما أنّ موضوعات الأعلام لا ينفكّ في الخارج عن العوارض والحالات الطارئة ، كذلك موضوعات هذه الأسماء لا ينفكّ في الذهن عن الخصوصيّات المقسمة.

ومنها : علم الجنس ، والمعروف بين أهل الأدبيّة أنّ الفرق بينه وبين اسم الجنس أنّ الثاني موضوع لذات الطبيعة فقط ، والأوّل له مع قيد الحضور في الذهن ، والحضور وإن كان من لوازم استعمال اللفظ في المعنى ولا يمكن بدونه إلّا أنّه في اسم الجنس يكون من اللوازم العقليّة للاستعمال ، وفي علم الجنس يكون مدلولا عليه بجوهر اللفظ.

واستشكل عليه في الكفاية بأنّ الحضور لو كان قيدا في المعنى لما صحّ الحمل على

٣١٥

الخارجيّات ؛ لوضوح أنّ الطبيعة بقيد حضورها في الذهن كلّي عقلي لا موطن له سوى الذهن فيمتنع حمله على الخارج إلّا مع التجريد عن خصوصيّة هذا القيد والتجوّز باستعمال اللفظ في جزء معناه ، والحال أنّا نرى صحّة الحمل في قولنا : هذه اسامة بدون عناية وتجريد وملاحظة علاقة ، وقال بمثل ذلك في اسم الجنس أيضا ردّا على قول من قال بوضعه للمطلق اللابشرط القسمي دون المقسمي.

فاستشكل عليه بأنّ التّجرد عن القيد ووصف اللابشرطيّة ملحوظ قيدا في الماهيّة اللابشرط القسمي ، فلو كان اسم الجنس موضوعا لها لما صحّ حمله على الخارجيّات ؛ لامتناع حمل الكلّي العقلي على الخارجي ؛ إذ لا موطن له سوى الذهن وكان الحمل محتاجا إلى التجوّز وتجريد المعنى عن هذه الخصوصيّة ، فيلزم التجوّز في عامّة استعمالات اسم الجنس ، وهذا مناف لحكمة الوضع ، وقال نظير ذلك في القسم الآتي كما يأتي ذكره إن شاء الله.

والحقّ أنّه غير تام في الكلّ وإن كان أصل المطلب حقّا في اسم الجنس بحكومة التبادر وشهادة الوجدان ، وذلك لأنّ مدّعي الحضور في علم الجنس ليس مراده معنى الحضور بعنوان الاستقلال وبالمعني الاسمي ، بل مراده هو الحضور بالمعنى الحرفي الآلي أي الآلة الحاكية لذات الطبيعة ، وقد تصوّرنا في الحروف كون المعنى الحكائي المرآتي تمام المعنى ، فيمكن كونه جزء من المعنى أيضا ، ولا ريب في صحّة الحمل حينئذ ، إذا للاحظ حينئذ لا يلحظ إلّا ذات الطبيعة.

ونظيره في المحاورات العرفيّة قولك فيما إذا كان بينك وبين المخاطب صورة إنسان مثلا معهودة ، فرأيت هذا الإنسان فتقول : هذا ذاك الرجل ، فتشير بهذه الإشارة إلى معقوليّته في ذهنك وذهن مخاطبك سابقا ، فهذه الإشارة حاكية عن ذاك التعقّل والحضور الذهني وهو لمّا كان مأخوذا مرآتا صحّ الحمل ، فهنا أيضا نقول : هذه اسامة ونشير إلى المعنى المتعقّل المركوز في الأذهان ، وأمّا قولك : هذا أسد فحال عن هذه الإشارة ، والدال على هذه الإشارة في الفارسيّة ليس هو اللفظ بل الوضع الخاص لليد والعين ، وفي العربيّة وضع له لفظ خاص ، وكذلك الكلام في اسم الجنس على القول بالوضع للماهيّة اللابشرط القسمي التي هي المسمّى بالمطلق ، بأن يقال : إنّ التسوية بين الحالات الطارئة على الطبيعة لا بدّ أن يلحظ قيدا ، فلفظ «رجل» يفيد معاني ألفاظ رجل ، سواء كان كذا أو كذا أو كذا ، فلو استعمل في ماهيّة

٣١٦

الرجل مع قيد كان مجازا ، فإنّا نعلم بالوجدان صحّة الحمل مع هذه الملاحظة يعني ملاحظة التسوية بين الحالات والخصوصيات.

ووجهه أنّ التعرية والتجريد لم يلحظ قيدا بالمعنى الاسمي الاستقلالي ، بل بالمعنى الحرفي على وجه لم يخرج عن حكاية ذات الطبيعة بأن يكون هذا الوصف ثابتا واقعا في الذهن ولم يكن قيدا في اللحاظ ، فللقائل المذكور أن يجعله بهذا النحو جزء لما وضع له اسم الجنس لا بالنحو الأوّل حتّى يتوجّه عليه الإيراد.

ويشهد لما ذكرنا أنّ القضايا المطلقة هي ما كان الموضوع فيها هو الطبيعة المطلقة ، فإن لم يمكن حمل المطلق على الخارج فكيف يمكن جعله موضوعا للأحكام المحمولة على الخارجيّات ، وعلى ما ذكره قدس‌سره لا بدّ من جعل عامّة القضايا مهملة ، فنحن لا بدّ وأن نتصوّر صحّة حمل هذا المعنى وتطبيقه على الخارج حتّى يصحّ ترتيب القضيّة المطلقة ، غاية الأمر أنّا نقول في هذه القضايا أنّ اللفظ مستعمل في المهملة ، والإطلاق دلّ عليه مقدّمات الحكمة وصار مجموع الطبيعة مع قيد الإطلاق موضوعا للحكم ، والقائل المذكور يقول بأنّ المجموع من الطبيعة ووصف الإطلاق مدلول لفظ المطلق.

ومنها : المفرد المحلّى بالألف واللام ، والمعروف بين أهل الأدبيّة أنّ اللام أو الهيئة الحاصلة منه ومن المدخول موضوعة لتعريف الجنس أو للعهد بأقسامه الثلاثة من الذهني والذكري والحضوري وللاستغراق ، والظاهر أنّ أقسام العهد ليس معاني مختلفة ، بل هي راجعة إلى معنى واحد وهو المعهوديّة في الذهن ، غاية الأمر أنّ منشأ المعهوديّة في الذهن قد يكون الذكر في الكلام ، وقد يكون الحضور ، وقد يكون غيرهما ، بل نقول : مرجع الجنس والاستغراق أيضا إلى هذا.

وبيانه أن يقال : إنّ اللام أو الهيئة موضوعة للإشارة إلى المعهود في الذهن ؛ فإن كان هو الشخص الخاص كان إشارة إليه ، وإن كان هو نفس الطبيعة والجنس كان الإشارة إلى نفس الطبيعة والجنس ، فيصير الإشارة هنا من قبيل الإشارة الذهنيّة في علم الجنس ، وإن كان هو الاستغراق ـ كما في «أحلّ الله البيع» ـ كان إشارة إلى

٣١٧

الاستغراق ، ثمّ إن كان الاستغراق مستفادا من المقدّمات كما في المثال فالحال كما ذكر ، وإن كان مستفادا من اللفظ كما في الجمع المعرّف باللام فحيث إنّ المتعيّن في الذهن حينئذ ليس هو الاستغراق ، بل هو مردّد بينه وبين أقلّ ما يدّل عليه الجمع بالوضع فليس في الذهن أمر متعيّن منهما حتى يكون اللام إشارة إليه ، ومن هنا يجيء القول بعدم إفادة الجمع المحلّى للعموم.

ثمّ التعريف باللام كما ذكرنا من قبيل التعريف الذهني في علم الجنس سواء كان داخلا على المفرد أو الجمع ، فكما لا يكون هذا التعريف الذهني مانعا هناك عن الحمل على الخارج فكذا هنا بالتفصيل المتقدّم.

وفي الكفاية أورد هنا أيضا الكلام المتقدّم ولهذا جعل الألف واللام مطلقا للتزئين كما في الحسن والحسين فرارا من المحذور الذي تخيّله من امتناع الحمل لو قيل بكون اللام إشارة إلى التعيين الذهني خلافا لعامّة علماء الأدب.

ومحصّل الكلام في المقام أمّا في مقام الثبوت فهو أنّا نتصوّر تعريف الجنس كما في علم الجنس وفي اسم الجنس سواء في المفرد أو في الجمع كما في : فلان يركب الخيل ، وإنّما الصدقات للفقراء» الآية.

وتعريف العهد الخارجي حضوريا كان كما في يا أيّها الرجلان وأيّها الرجال ، أو ذكريّا كما في «وأرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول» وجاءني رجلان أو رجال فأكرمت الرجلين أو الرجال ، أو غيرهما كما في جاءني الرجل الذي كان معنا أمس أو الرجلان اللذان كانا أو الرجال الذين كانوا معنا أمس.

وتعريف العموم البدلي ـ كما في اشتر اللحم ـ الذي يسمّى بالعهد الذهني في قبال الثلاثة المتقدّمة المسمّاة بالعهد الخارجي ، وحقيقة هذا التعريف هي الإشارة إلى الطبيعة الملحوظة في ضمن أحد الوجودات باعتبار تعيّنها في الذهن بهذه الكيفيّة لمعهوديّتها في ذهن المتخاطبين ، كذلك في المثال.

وتعريف استغراق الجنس في المفرد كما في «أحلّ الله البيع» وهو الإشارة إلى الماهيّة المتعلّقة في الذهن بلحاظ كونها في ضمن كلّ وجود ؛ فإنّ هذا نوع تعيّن

٣١٨

للطبيعة في عالم الذهن يصلح الإشارة بسببه إلى الطبيعة الملحوظة بهذا النحو.

والفرق بين استغراق الجنس في المفرد واستغراق الأفراد في الجمع أنّ الملحوظ في الأوّل هو الطبيعة باعتبار سريانها في كلّ وجود ، فيجري الحكم أوّلا على الطبيعة وبتبعها على الأفراد ، وكذا الإشارة أوّلا تكون إلى الطبيعة وثانيا إلى الأفراد ، وفي الثاني يكون الملحوظ من الابتداء كلّ فرد بنحو الاستيعاب ، والحكم والإشارة متعلّقان من الأوّل إلى الأفراد.

فالتعريف بجميع هذه الأنحاء معقول متصوّر ولا يستلزم القول بوضع اللام له امتناع صدق المعرّف به على الخارج قطعا كما ذكر في علم الجنس.

وعلم ممّا ذكرنا أنّ التعريف في جميع الأقسام معنى وحداني وهو الإشارة إلى المتعيّن في الذهن ، فالقول بالاشتراك اللفظي أو المعنوي أو الحقيقة في البعض والمجازيّة في الآخر لو قلنا بوضع اللام لهذا المعنى باطل جدّا.

وأمّا في مقام الإثبات فالظاهر ثبوت الظهور للّام في التعريف في العهد الخارجي بأقسامه الثلاثة ، وأمّا أنّه حيث لا عهد يكون اللام في المفرد للجنس بمعنى أنّ المفرد المعرّف حيث لا عهد مفيد لمعنى علم الجنس بلا فرق ويتضمّن الإشارة إلى الطبيعة المعقولة المتعيّنة في الأذهان ، أو أنّه خالية عن هذه الإشارة ومتّحد مع اسم الجنس في المعنى ، فعلى الأوّل معرفة حقيقته معنويّة ، وعلى الثاني لفظيّة ، كلّ محتمل ، وكذا في مقام لا عهد ولا جنس بل يقتضي المقام استغراق الجنس كما في «أحلّ الله البيع» و «خلق الله الماء طهورا» هل اللام ظاهرة في الإشارة إلى الطبيعة السارية باعتبار تعيّنها الذهني أو اللفظ المعرّف الواقع في هذا المقام متّحد معنى مع المنكّر الواقع فيه كما في «علمت نفس ما أحضرت» و «نمرة خير من جرادة» «وأنزلنا من السماء ماء طهورا» ، فكما أنّ مفاد الثاني هو الطبيعة السارية بدون الإشارة إليه فكذا الأوّل ، كلّ محتمل.

بقي الكلام في الجمع المعرّف باللام هل هو ـ حيث ليست جملة من الأفراد معهودة حتّى يكون اللام إشارة إليها كما في الامثلة المتقدّمة ـ مفيد للعموم

٣١٩

الاستغراقي أولا؟ ، الظاهر الأوّل ؛ فإنّ استعماله حينئذ في الجنس وإن كان صحيحا واقعا كما في : فلان يركب الخيل ، و (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ) الآية ، إلّا أنّ الظاهر الأوّلي منه عند الإطلاق هو الاستغراق ، وهل هذا بواسطة وضع اللام للاستغراق أو المركّب منه ومن الجميع أو أنّه مستفاد بمعونة دلالة اللام على الإشارة؟ لكل قائل.

والثالث لصاحبي التعليقة والفصول قدس‌سرهما ، فذهبا إلى أنّ إفادة الجمع المعرّف للعموم ليست من جهة وضعه له بالخصوص ، بل من جهة دلالة اللام على الإشارة ، ومن المعلوم اقتضائها لمشار إليه معيّن ، فلا محالة تكون عند انتفاء القرائن ظاهرة في الإشارة إلى ما دلّ عليه صريح مدخوله ، ولمّا كان وضع الجمع بإزاء خصوص المراتب من الثالثة إلى ما فوقها وليس شيء من المراتب ممّا دون الجميع بمتعيّن ، بل كلّ منها يتطرّق فيه الاختلاف الكثير من جهة صدقه على كثيرين مختلفين ، وأمّا الجميع فهو كالشخص الواحد متعيّن لا اختلاف فيه ، كانت الإشارة إلى الجميع لا محالة لتعيّنه وعدم الإبهام فيه المنافي للتعيين والتعريف دون غيره من المراتب ؛ إذ لا معروفيّة لها عند العقل حتّى يشار إليها.

ومنها : النكرة ، ولها استعمالان ، فتارة يستعمل في معنى له تعيين في الواقع كما في «وجاء رجل من أقصى المدينة» غاية الأمر أنّ هذا المعنى تارة يكون عند المتكلّم معلوما ويخفيه على المخاطب ، واخرى يكون عنده أيضا مردّدا ، كما لو رأى الشبح من بعيد ولم يعلم أنّه زيد أو عمرو أو غيرهما من أفراد الرجل ، وثالثة يكون عنده وعند المخاطب جميعا معلوما والمقصود إخفائه على ثالث ، وهذا المعنى له احتمال الصدق على كثيرين ، لكن على البدليّة لا في عرض واحد ، بمعنى أنّه في حال يحتمل صدقه على زيد غير صادق على غيره ، وفي حال يحتمل كونه عمروا أيضا لا يصدق على غيره ، وهكذا إلى آخر الأفراد ، فلا يصدق في حال الصدق الاحتمالي على كلّ على غيره ، فهذا المعنى جزئي بلا إشكال.

واخرى يستعمل في معنى صادق على كثيرين في عرض واحد كما في جئني

٣٢٠