أصول الفقه - ج ١

آية الله الشيخ محمد علي الأراكي

أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمد علي الأراكي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٠٤
الجزء ١ الجزء ٢

كذلك إسراء الحكم التحريمي المستفاد من النهي إليها بلا فرق.

ولكنّ الحقّ هو الفرق بين وقوع المطلق في حيّز الإثبات ووقوعه في حيّز النفي أو النهي ، ففي الأوّل نحتاج في إسراء حكمه إلى تمام الأفراد إلى المقدّمات المذكورة وفي الثاني لا نحتاج.

وبيانه أنّه لا بدّ في باب الألفاظ بأسرها من المطلقات والألفاظ الدالّة بالوضع من الفراغ عن مقدّمة ، وبعد اشتراكهما في الاحتياج إلى تلك المقدّمة يتفرّد المطلقات بالاحتياج إلى أمر زائد ، وهذه المقدّمة هي أنّ الأصل في كلام كلّ متكلّم أن يكون صادرا بغرض تفهيم المراد وإفادة المقصود لا بغرض آخر كتعلّم اللغة ونحوه ، ففي غير المطلقات يعلم المقصود بعد إجراء هذا الأصل ، ولم تبق حالة منتظرة ، فالشاكّ في مجيء زيد بسبب إجراء الأصل في كلام القائل : جاء زيد ، يستفيد المقصود.

وأمّا المطلقات فليست موضوعة بإزاء المطلق حتّى يعلم المقصود فيها أيضا بمجرّد إجراء الأصل المذكور فيحكم في قوله : اعتق رقبة بمطلوبيّة مطلق الرقبة ، بل إنّما وضعت بإزاء المعنى اللابشرط المقسمي الصالح للإطلاق والتقييد على ما هو المشهور المتصوّر المأثور من سلطان المحقّقين قدس‌سره.

فالذي يستفاد من قوله : أعتق رقبة بحسب الدلالة الوضعيّة ليس إلّا مطلوبيّة عتق هذه الطبيعة المهملة ، وحيث إنّ من المعلوم أنّ المراد اللبّي ومتعلّق الغرض الجدّي النفس الأمري ليس إلّا المطلق أو المقيّد ، فبعد إحراز كون المتكلّم بصدد بيان تمام المراد اللبّي وإثبات عدم إرادة المقيّد بواسطة عدم ذكر القيد يثبت قهرا إرادة المطلق.

وبالجملة الفارق بين المطلقات وغيرها أنّ المدلول الوضعي في غيرها واف بتمام المقصود ، فلا جرم لا حاجة إلى غير الأصل المذكور ، وفيها قاصر عن تمامه ، فلا جرم يحتاج في التتمّة إلى إحراز المقدّمات المذكورة ، بحيث لو لم يحرز تلك المقدّمات لم يمكن إلزام المتكلّم بإرادة المطلق ؛ إذ مع عدم إحراز كونه بصدد البيان له أن يقول : إنّي لست إلّا بصدد بيان هذا المقدار من الغرض ، كما في قول الطبيب : لا بدّ لك من

٢٢١

شرب الدواء ، وهذا بخلاف المطلق الواقع في حيّز النفي أو النهي ، فإنّه يكتفي في إسراء حكمه إلى تمام الأفراد بمجرّد الدلالة الوضعيّة من دون حاجة إلى مقدّمات الحكمة ؛ فإنّ الظاهر من قولك : لا رجل «مثلا» تعلّق النفي بما هو مفاد لفظ الرجل وضعا من الطبيعة المهملة ، ولازمه عقلا انتفاء تمام الأفراد ؛ إذ عدم الكلّي إنّما يكون بعدم كلّ ما له من الأفراد؛ فإنّ الطبيعة لأجل إضافة الوجودات المتعدّدة إليها لا يضاف إليها إلّا عدم واحد وهو عدم تمام تلك الوجودات ، وكذا الكلام في النهي.

ونظير هذه الخدشة مع جوابها يجري في لفظة «كل» مع مدخولها ؛ فإنّه ربّما يقال بأنّ هذه اللفظة وإن كانت موضوعة لاستيعاب جميع الأفراد ، إلّا أنّها سعة وضيقا تابعة لمدخولها ، فإن كان مطلقا كانت لاستيعاب أفراد المطلق ، وإن كان مقيّدا كانت لاستيعاب أفراد المقيّد ، ومن الواضح أنّ إثبات إرادة الإطلاق من المدخول يحتاج إلى مقدّمات الحكمة ، فدلالة هذه اللفظة على استيعاب أفراد الطبيعة أيضا يحتاج إليها.

والجواب أنّ هذه اللفظة موضوعة لاستيعاب كلّ ما لمدخوله من الأفراد ، والطبيعة المهملة حاوية لأفراد الطبيعة المطلقة ، ومع ذلك لا يلزم التجوّز في قولك : كلّ رجل عالم ؛ لما عرفت من كونها موضوعة لاستيعاب ما يكون لمدخوله من الأفراد ، كما لا يلزم التجوّز في النهي فيما لو جعل متعلّقا بالغصب الخاص ، والحاصل أنّ هذه اللفظة وأداة النفي والنهي يكون بمنزلة مقدّمات الحكمة في إعطاء وصف الإطلاق للطبيعة المهملة.

ومنها : أنّ مراعاة جانب الأمر جلب للمنفعة ومراعاة جانب النهي دفع للمفسدة ، ودفع المفسدة أولى من جلب المنفعة.

وأورد عليه في القوانين بأنّه لا فرق في ثبوت المفسدة بين الطرفين ؛ إذ في ترك الواجب أيضا مفسدة.

وأورد عليه في الكفاية بأنّ الواجب لا بدّ وأن يكون في فعله مصلحة لا أن يكون في تركه مفسدة ، كما أنّ الحرام لا بدّ وأن يكون في فعله مفسدة لا في تركه مصلحة.

وفيه أنّا لا نعني بكون الشيء حسنا وذا مصلحة وكونه قبيحا وذا مفسدة إلّا

٢٢٢

مجرّد استحسان العقل إيّاه في الأوّل واشمئزازه منه في الثاني ، من دون لزوم ترتّب شيء عليه يكون هو المنشأ للحسن والقبح ، نظير استحسان الشامّة لبعض الروائح واشمئزازه عن بعضها؛ لوضوح أنّ الموجود ليس إلّا نفس الرائحة من دون أن يكون في البين شيء آخر ورائها يكون هو المنشأ للحسن والقبح عند الشامّة.

فالحسن والقبيح العرضيّان لا بدّ وأن ينتهيا إلى ما يكون بالذات حسنا أو قبيحا وإلّا يلزم التسلسل ، فالظلم قبيح في نفسه لا بمعنى ترتّب شيء عليه ؛ إذ ننقل الكلام في هذا الشيء وهكذا إلى غير النهاية ، بل بمعنى أنّه ممّا يشمئزّ منه العقل وإن لم يرتّب عليه ضرر دنيوي ولا بعد عن ساحة المولى كما عند الدهري.

وحينئذ فلا شكّ أنّ العقل النيّر لمّا يشمئز من فعل الحرام كذلك من ترك الواجب بلا فرق ، ألا ترى أنّك كما تبتهج بإنقاذ أحد متعلّقيك من الأخ والابن ونحوهما ، كذلك يسوء حالك من ترك إنقاذه.

ويرد على الوجه المذكور أيضا أنّ محلّ هذه القاعدة ما إذا دار الأمر بين جلب المنفعة ودفع المفسدة ولم يمكن الجمع بينهما ، لا ما إذا أمكن الجمع كما فيما نحن فيه حيث إنّ المكلّف متمكّن من جلب المنفعة ودفع المفسدة معا بإتيان المأمور به في غير الفرد المنهيّ عنه، مع أنّ الأوّلية في مورد الدوران مطلقا ممنوعة ؛ إذ هي تابعة للأهمّية وربّما تكون في جانب المصلحة.

ويرد أيضا أنّ القاعدة المذكورة أجنبيّة عن المقام ؛ إذ الكلام فيه في أنّ الحكم الشرعي لمحلّ الاجتماع ما ذا يكون من الوجوب أو الحرمة بحسب الواقع ، ومن الواضح كون ذلك دائرا مدار غالبيّة كلّ من المناطين واقعا ، وهذه القاعدة نافعة بحال المكلّف الجاهل بالواقع ، فيرجّح الفعل على الترك بقضيّة أنّ المفسدة الآتية من قبل النهي دفعها أولى من جلب المنفعة الآتية من قبل الأمر.

ومنها : أنّ استقراء حكم الشارع في مواضع التعارض بين الوجوب والحرمة كحرمة صلاة الحائض في أيّام الاستظهار وعدم جواز الوضوء من الإناءين المشتبهين بل الأمر بإهراق مائهما يعطي قاعدة كلّية هي : أنّ كلّ موضع تعارض فيه

٢٢٣

الوجوب والحرمة فحكم الشارع فيه تغليب الحرمة.

وفيه أوّلا : أنّ الاستقراء لا يحصل بهذا المقدار ، وثانيا : أنّ المسألة الثانية ليست ممّا تعارض فيه الوجوب والحرمة ؛ إذ لا حرمة فيها في البين أصلا ، وذلك لعدم حرمة استعمال الماء النجس في الوضوء وعدم حرمة الدخول معه في الصلاة ، غاية الأمر عدم الإجزاء في المقامين ، وكذا المسألة الاولى لو قلنا بعدم الحرمة الذاتيّة لصلاة الحائض وكون النهي للإرشاد إلى فقدان شرطها وهو الطهارة ، كما عليه المشهور ، كما يظهر من حكمهم في موارد اشتباه حال الدم وعدم الفتوى بالاحتياط بالجمع بين تروك الحائض وأفعال المستحاضة ؛ إذ لا يمكن الاحتياط على القول بالحرمة الذاتيّة ؛ لدوران أمر الصلاة بين الوجوب والحرمة.

وأمّا لو قلنا بالحرمة الذاتيّة فالصلاة المذكورة وإن كانت ممّا تعارض فيه الوجوب والحرمة ، إلّا أنّ تغليب الحرمة فيها لم يعلم كونه من جهة مراعاة نفس الحرمة ؛ لاحتمال أن يكون لأجل وجود الأصل الموضوعي في طرفيها أعني : الاستصحاب وقاعدة الطهارة ، فلو فرض وجود هذا الأصل في طرف الوجوب كان هو المقدّم كما في الصلاة في أوّل زمان رؤية الدم قبل استقرار العادة لو قلنا بعدم جريان قاعدة الإمكان هنا واختصاصها بما بعد استقرار الحيضيّة بمضيّ الثلاثة ، فيحكم فيها بالوجوب ؛ لوجود الأصل الموضوعي في طرفه وهو استصحاب الطهارة.

بقي الكلام في أنّ الحكم في مسألة التوضؤ من الإنائين بعد عدم الحرمة ما ذا وإن كان أجنبيّا عن المقام ، فنقول : في بعض الأخبار أنّه «يهريقهما ويتيمّم» فيحتمل أن يكون مورد هذا الأخبار أعمّ ممّا إذا كان كلّ من الماءين بقدر الوضوء فقط وممّا إذا كان الماء الثاني بقدر التطهير والوضوء أو كان كرّا.

وحينئذ يكون الحكم بإهراق الماءين والتيمّم تعبديّا ، ويحتمل أن يكون خصوص ما إذا كان كلّ منهما بقدر الوضوء خاصّة ، فيكون الحكم حينئذ على وفق القاعدة ، إذ مقتضي القاعدة رفع اليد من هذين الإنائين ؛ إذ يلزم من استعمالهما القطع

٢٢٤

بابتلاء البدن بالنجاسة مع عدم رفع الحدث إلّا احتمالا ، ويكون الأمر بالإهراق كناية عن عدم نفعهما في رفع شيء من الحدث والخبث لا أن يكون حكما تعبديّا.

وحينئذ يبقى الموردان الآخران تحت القاعدة ، فالمشهور على أنّ مقتضي القاعدة فيهما هو التوضؤ من الأوّل ثمّ تطهير مواضع الملاقاة بالثاني ثمّ التوضؤ منه ؛ فإنّه لو فعل ذلك لقطع بحصول رفع الحدث كما هو واضح ، وأمّا الخبث فيتعارض الأصلان فيه ؛ وذلك لأنّه يعلم بحدوث التنجّس عند ملاقاة الماءين ويشكّ في بقائه ، وكذا يعلم بحصول الطهارة عند ملاقاة أحدهما ويشكّ في بقائهما ، فالاستصحابان متعارضان فيرجع إلى قاعدة الطهارة، فيصير المكلّف واجدا للطهارة من الحدث ومن الخبث ظاهرا ، فيجوز له الدخول في الصلاة.

وذهب المحقّق الخراساني قدس‌سره إلى عدم جريان شيء من الاستصحابين ليكونا متعارضين لأنّه يعتبر في الاستصحاب إحراز اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين لو لوحظت الأزمنة بطريق القهقرى وهذا مفقود في المقام ؛ لأنّ زمان اليقين بالطهارة هو زمان الفراغ عن استعمال الماء الطاهر ، وزمان اليقين بالنجاسة زمان الفراغ عن استعمال الماء النجس وكلاهما مردّد بين الزمانين ، وزمان الشكّ في الطهارة والنجاسة هو الأزمنة المتأخّرة وهي متّصلة بزمان الفراغ عن استعمال الماء الثاني ولم يحرز كونه زمان اليقين بالطهارة ولا زمان القطع بالنجاسة. هذا إذا كان الماء الثاني كرّا ليكون بمجرّد إصابته مطهّرا لمواضع الملاقاة على تقدير تنجّسها بالماء الأوّل.

وأمّا لو كان قليلا وكافيا للتطهير والوضوء فحيث إنّ التطهير به حينئذ على تقدير نجاسة الماء الأوّل يتوقّف على التعدّد تكون النجاسة عند الفراغ عن الغسلة الاولى بالماء الثاني منتفية ؛ لدوران الأمر بين أن تكون النجاسة حادثة بالماء الأوّل وباقية إلى هذا الحين وأن تكون حادثة بالماء الثاني ، وعلى أيّ حال يكون المحلّ متنجّسا في هذا الحال ، فيكون زمان الشكّ في النجاسة وهو الأزمنة المتأخّرة عن هذا الحين متّصلا بزمان اليقين بها ، بخلاف زمان الشكّ في الطهارة ؛ فإنّه لم يحرز

٢٢٥

اتّصاله بزمان اليقين بها ، لدوران الأمر بين أن يكون زمان اليقين بها زمان الفراغ عن الغسلة الثانية بالماء الثاني وأن يكون زمان الفراغ من استعمال الماء الأوّل ، فلهذا يكون استصحاب النجاسة حينئذ جاريا بدون استصحاب الطهارة.

وحينئذ يصير المكلّف بواسطة العمل المذكور طاهرا من الحدث واقعا ومبتلى بالخبث ظاهرا ، فيدور الحكم مدار أهميّة الطهارة المائيّة بنظر الشارع أو طهارة البدن عن الخبث ، فإن قيل بأهميّة الثاني ـ كما يظهر من حكمهم بصرف الماء في رفع الخبث عند دوران الأمر بينه وبين الصرف في رفع الحدث ـ كان المتعيّن هو التيمّم.

والحاصل أنّ التوضّؤ من الإنائين المشتبهين له صور ، أحدها : أن يكون كلّ من الماءين بقدر الوضوء ، وهذا هو المتيقّن من مورد الأخبار ، والثانية : أن يكون الثاني بقدر التطهير والوضوء قليلا كان أو كرّا ، والثالثة : أن يكون كلّ منهما بقدر الوضوء والتطهير ، فيتوضّأ بالأوّل ثمّ يطهر بالثاني ، ثمّ يتوضّأ به ثمّ يطهر بالأوّل ، فإن قلنا بشمول الأخبار لجميع هذه الصور كان الحكم تعبّديا ، والأمر بالإهراق إمّا نفسيّ ، وإمّا كناية عن عدم الاعتناء بالماءين ، وإن قلنا بانصرافها إلى الصورة الاولى فلا بدّ في الصورتين الأخيرتين من المشي على القواعد ، وقد مضى الكلام في أدلتها وأنّ مختار المشهور فيها متّحد مع مختار المحقّق المذكور نتيجة مع كرّية الماء الثاني ، ومختلف معه فيها مع كونه قليلا ، وبقي الكلام في الثانية.

فنقول : القائل في الصورة الثانية بجريان الاستصحابين وتعارضهما يقول به هنا بلا فرق ، وأمّا القائل هناك بجريان استصحاب النجاسة بلا معارض مع كون الماء الثاني قليلا فلا بدّ أن يقول هنا بعدم جريانه ، مع أنّ هذه الصورة مشتركة مع الصورة السابقة في إحراز اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين ، غاية الأمر أنّ زمان اليقين هنا زمان الفراغ عن الغسلة الاولى بالماء الأوّل في المرّة الثالثة لا زمان الفراغ عن الغسلة الاولى بالماء الثاني ؛ إذ النجاسة فيه مقطوع الارتفاع ؛ إذ لو كانت هي الباقية فقد ارتفع بالغسلة الثانية بالماء الثاني ، وإن كانت هي الحادثة فقد ارتفعت بالغسلة الثانية بالماء الأوّل ، بخلاف النجاسة في زمان الفراغ عن الغسلة الاولى بالماء

٢٢٦

الأوّل ؛ فإنّها لو كانت هي الباقية كانت زائلة بالغسلة الثانية ، ولو كانت هي الحادثة كانت باقية بعدها.

ولكنّه مع ذلك لا يمكن جريان الاستصحاب فيها ؛ لأنّ نقض اليقين فيها شبهة مصداقيّة لنقض اليقين بالشكّ ، لاحتمال أن يكون نقضا لليقين باليقين ، توضيحه أنّه لا شكّ في أنّا قاطعين في هذه الصورة بوجود الطهارة والنجاسة المقطوعتي الارتفاع ، والطهارة المقطوعة الارتفاع هي السابقة على الاستعمال ، والنجاسة المقطوعة الارتفاع يحتمل أن يكون هي نفس هذا الذي نستصحبه إن كان الماء الثاني نجسا ، وأن يكون غيره إن كان الماء الأوّل نجسا ، فعلى الأوّل لا يكون نقض المستصحب في الآن اللاحق إلّا نقضا لليقين باليقين أي نقضا لوجوده المتيقّن في الزمان السابق بعدمه ، المتيقّن في الزمان اللاحق.

بقي الكلام في أنّه هل يعتبر في الاستصحاب اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين كما ذهب إليه المحقّق المذكور أولا؟ فنقول : الظاهر أنّه غير معتبر ؛ لعدم مساعدة الدليل عليه ، ولكن هنا مطلبا لازمه عدم جريان الاستصحاب في جميع مواضع عدم إحراز الاتصال وفي بعض مواضع إحرازه ، وهو أنّ ما هو وظيفة الاستصحاب وشأنه ليس إلّا توسعة زمان المستصحب وجعله طويلا ، وإضافة الزمان المشكوك إلى الزمان المقطوع ، وليس من وظيفته تطبيق الزمان المتيقّن على زمان خارجيّ

مثلا لو استعمل الماء الأوّل ، ثمّ استعمل بعد انقضاء ساعة الماء الثاني في مدّة أربع دقائق ، ثمّ غسل مواضع الملاقاة بعد انقضاء ساعة بكرّ طاهر ، وهاتان الساعتان زمان الشكّ ، والدقائق الأربعة المتوسطة يقطع فيها بالنجاسة ، والزمان المتيقّن للنجاسة ساعة وأربعة دقائق ، وهذه الساعة مردّدة بين الساعة الاولى والثانية ، فاستصحاب النجاسة في الساعة الأخير معيّن لتلك الساعة في هذه الساعة الخارجيّة من دون أن يزداد أو ينقص بذلك زمان النجاسة.

ولا فرق بين هذا المثال وغيره كما إذا كانت النجاسة مردّدة بين التحقّق في دقيقتين والتحقّق في ساعات كثيرة إلى أيّ حدّ بلغت ؛ فإنّ الاستصحاب في الأزمنة

٢٢٧

المتأخّرة حينئذ وإن كان يوجب زيادة زمان النجاسة ، إلّا أنّه لا يجري في هذه الأزمنة إلّا بعد صحّة جريانه في أوائل أزمنة الشكّ ، فننقل الكلام في الدقيقة الاولى من ازمنته.

فنقول : هنا ثلاث دقائق ، فالوسطى منها نقطع فيها بالنجاسة وطرفاها زمان الشكّ، والمتيقّن تحقّق النجاسة في دقيقتين ونشكّ في أنّ حدوثها في الدقيقة الاولى وبقائها وانتهائها في الوسطى ، أو أنّ حدوثها في الوسطى وبقائها في الأخيرة؟.

فاستصحاب النجاسة في الدقيقة الأخيرة معيّن لمبدا الحدوث في الوسطى وزمان البقاء في الأخيرة من دون أن يزيد أو ينقص بذلك زمان النجاسة ، وهذا الكلام جار أيضا في استصحاب النجاسة في الصورة الثالثة ، أعني ما إذا كان كلّ من الماءين قليلا وكافيا للتطهير والوضوء.

مثلا لو فرضنا كون النجاسة حينئذ بعد التطهير بالماء الأوّل مردّدة بين التحقّق في ثلاث دقائق أو ساعات كثيرة فننقل الكلام في الدقيقة الاولى من أزمنة الشكّ ونقول : هنا أربع دقائق نقطع في ثالثتها بالنجاسة ونشكّ في أوّليهما وهما دقيقتا التطهير والوضوء بالماء الثاني واخيرتهما وهي ما بعد الغسلة الثانية بالماء الأوّل مع العلم بتحقّق النجاسة في دقيقتين، فاستصحاب النجاسة في الأخيرة معيّن لها بين الدقيقتين في الثالثة والأخيرة.

الأمر الثالث : ومن جملة ما تمسّك به المجوّزون باب الأسباب ؛ فإنّ الغسل الواحد مثلا يكفي للجنابة والجمعة ، مع أنّ الأوّل سبب للوجوب والثاني للاستحباب ، وكذا الكلام في منزوحات البئر ؛ فإنّ وقوع الكلب سبب لوجوب نزح الأربعين ، وكذا وقوع الهرّة ، فإذا وقع كلبان أو كلب وهرّة وجب أربعين واحد ، فيجتمع في نزحها وجوبان ، فيعلم من ذلك أنّ تعدّد الجهة كاف في جواز اجتماع حكمين متضادّين أو متماثلين في شيء واحد.

أقول : الكلام في باب الأسباب يقع في مقامين :

أحدهما أنّ مقتضى القاعدة هل هو كفاية الفعل الواحد لسببين أو أسباب ، أو

٢٢٨

لزوم تعدّده بتعدّد سببه ، وبعبارة اخرى مقتضى القاعدة هو التداخل إلّا ما خرج بالدليل أو عدمه كذلك؟

والثاني أنّه هل يصحّ التمسّك بهذا الباب للقول بالجواز أو أنّه غير مرتبط بمبحث الاجتماع رأسا؟.

أمّا المقام الأوّل فنقول : جعل طبيعة سببا لفعل باتلائها لإن وإذا ونحوهما كما في قولك : إذا نمت فتوضّأ يتصوّر على وجوه ، أحدها : أن يكون الطبيعة في جانب السبب مأخوذة باعتبار صرف الوجود في مقابل العدم الأصلي بحيث كان السبب نقض عدمها وتبدّله بالوجود ، والثاني : أن يكون مأخوذة باعتبار الوجود الساري ، فعلى الأوّل يكون السبب واحدا ، لأنّ صرف الوجود لا يقبل التكرار ويتعيّن في الوجود الأوّل للطبيعة ؛ إذ به يحصل النقض دون سائر الوجودات ، وعلى الثاني يكون متعدّدا ، فكلّ وجود سبب مستقل.

وعلى التقديرين يمكن أخذ الطبيعة في جانب المسبّب لكلّ من الاعتبارين ، فإن احدث في جانب المسبّب باعتبار الوجود الساري وفي جانب السبب باعتبار صرف الوجود، فالمسبّب لا يتكرّر بتكرّر الفرد من هذا السبب ، فإنّه وإن كان قابلا لأن يتكرّر بتكرّر السبب ، إلّا أنّ السبب لا يتكرّر ، نعم يتكرّر بتكرّر الفرد من هذا السبب ومن سبب آخر.

وإن احدث في جانب السبب أيضا باعتبار الوجود الساري فالمسبّب يتكرّر بتكرّر الفرد من هذا السبب ، ومنه ومن سبب آخر ، ولو احدث في جانب المسبّب باعتبار صرف الوجود فلا يفرق الحال بين أن يؤخذ في جانب السبب أيضا بهذا الاعتبار أو باعتبار الوجود الساري.

فعلى التقديرين لا يتكرّر المسبّب لا لفردين من هذا السبب ولا لفردين منه ومن غيره، فالسبب وإن كان متعدّدا وقابلا للتكرار إلّا أنّ المسبّب واحد لا يقبل التكرار أصلا ، هذا هو الوجوه المتصوّرة في هذا الباب ولا إشكال في إمكان كلّ منهما عقلا ولا في الآثار المترتبة على كلّ منها على تقدير القطع به ، إنما الكلام والإشكال في أنّ

٢٢٩

المستفاد من الأدلّة أيّ منها؟.

فذهب شيخنا المرتضى قدس‌سره إلى أنّ ما يستفاد من الأدلّة ويكون قاعدة كلّية هو عدم التداخل ويكون معمولا به في مورد الشكّ كباب المنزوحات ، لا في مورد القطع بالتداخل من جهة النصّ الخاص كما في باب الأحداث ، لقوله عليه‌السلام : «إذا اجتمعت لله عليك حقوق أجزأك غسل واحد».

والدليل على هذه الدعوى وإن كان أصله مأخوذا من كلماته قدس‌سره في مواضع عديدة من كتبه ، إلّا أنّا نذكره مع زيادة تنقيح ليست في كلامه قدس‌سره وهو : أنّ القضيّة المبدوّة بإن وإذا ونحوهما على ما هو المعروف أو المجمع عليه ظاهرة في عليّة الشرط للجزاء وكونه علّة منحصرة ، فيكون منطوقها بمقتضى الأوّل الثبوت عند الثبوت ، ومفهومها بمقتضى الثاني الانتفاء عند الانتفاء ، ولا يخفي أنّ مقتضى إطلاق القضيّة تحقّق العليّة التامّة لجميع مصاديق الطبيعة التالية لأداة الشرط ، فكما أنّ الموجود أوّلا من مصاديقها يكون مؤثّرا تامّا فكذا الموجود منها ثانيا وثالثا وهكذا أيضا يكون مؤثرا تامّا مستقلا كالأوّل بلا فرق ، لتحقّق الطبيعة في جميعها ، فقوله : إذا نمت فتوضّأ مثلا وإن كان رفع اليد عن ظهوره في المنحصريّة للقطع بعدمها لقوله : إذا بلت فتوضّأ ، إلّا أنّ ظهوره في عليّة النوم للوضوء محفوظة ، ومقتضى إطلاقه عدم الفرق بين ما وجد من مصاديق النوم أوّلا وما وجد منها ثانيا وثالثا وهكذا ، وتخصيص العليّة بالموجود منها أوّلا تقييد للنوم في القضية بأوّل الوجودات أو بالوجود الغير المسبوق بالوجود من دون مقيّد.

فإن قلت : ما وجه الفرق بين قولنا : النوم واجب والنوم سبب ، حيث نقول في الأوّل بكون مقتضى الإطلاق اختصاص الوجوب بأوّل الوجودات وفي الثاني بكون مقتضاه سراية السببية إلى جميع الوجودات؟

قلت : الأسباب العادية الدنيويّة المعلومة عند العرف يكون السببيّة فيها متعلّقة بالوجود الساري كحرارة النار السارية إلى كلّ فرد منها ، وحينئذ فالأسباب الشرعيّة وإن كان العرف جاهلا بأصل سببيّتها لو لا إعلام الشرع ، ولكن إذا أعلم

٢٣٠

الشرع بها وسكت عن بيان كيفيّة سببيّتها كان إطلاق كلامه محمولا على الكيفيّة المرسومة المتعارفة عند العرف ، أعني السببيّة بلحاظ الوجود الساري ، فمرسوميّة هذا النحو من السببيّة أعني سببيّة الوجود الساري وتعارفها عند العرف قرينة عامّة موجبة لحمل إطلاق الكلام الدالّ على السببيّة عليه.

فهذا نظير استفادة كيفيّة تأثير النجاسات في التنجيس وأنّه يكون على وجه الملاقاة دون المجاورة وغيرها من كون الغالب في التأثيرات العاديّة كونها على هذا الوجه ، فقولهعليه‌السلام : «إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء» مفهومه أنّ الماء القليل ينجّسه النجاسات ، وأمّا كيفيّة تنجّسها له فهذا الكلام ساكت عنها ، فيحمل على كونه بوجه الملاقاة بقرينة أنّ الغالب في التاثيرات العاديّة ذلك ، وهذا بخلاف وصف الوجوب ؛ فإنّ تعلّقه بالطبيعة باعتبار صرف الوجود شائع في العرف والعادة.

فإن قلت : سلّمنا ظهور إطلاق القضيّة المبدوّة بإن وإذا في تعدّد السبب بالقرينة المذكورة ، لكنّا نقول : إنّ الأسباب المتعدّدة المتعاقبة في الوجود يختصّ أوّلها بالتأثير ويلغو الثاني لو كان المسبّب غير قابل للتعدّد والتكرار ، والمسبّب في باب الأسباب الشرعيّة هو الطبيعة المأمور بها كالتوضّؤ في قوله : إذا نمت فتوضّأ ، وهي غير قابلة للتكرار ؛ لأنّها باعترافكم مأخوذة بلحاظ صرف الوجود الخارق للعدم ، وخرق العدم لا يمكن إلّا مرّة واحدة، فالأفراد المتعدّدة المتعاقبة من النوم مثلا لا تأثير إلّا لأوّلها ؛ لعدم قابليّة المحلّ إلّا لتأثير واحد ، نظير عدم تأثير النار في إحراق المحلّ بعد احتراقه بنار اخرى ، والحاصل أنّ السبب وإن كان متعدّدا إلّا أنّ المسبّب والتأثير واحدان.

قلت : أخذ الطبيعة في جانب الوجوب بلحاظ صرف الوجود إنّما يكون من

٢٣١

باب الأخذ بالقدر المتيقّن ، وبيانه أنّ الطبيعة المهملة من حيث الوجود والعدم لمّا لم يكن وقوعها متعلّقا للطلب كان اللازم بحكم العقل اعتبار الوجود معها ، والوجود المعتبر يمكن أن يكون هو الوجود المخصوص ، وأن يكون هو الوجود الساري ، وأن يكون صرف الوجود ، والأوّلان مشتملان على الأخير مع الزيادة ، وحينئذ فحيثما كان المتكلّم في مقام البيان ولم يقم في البين قرينة على اعتبار الخصوصيّة أو السريان فإطلاق كلامه محمول على اعتبار صرف الوجود ، فعلم أنّ ظهور طلب الطبيعة في مطلوبيّة صرف الوجود إنّما يكون ناشئا من جهة الإطلاق وكونه قدرا متيقّنا.

وحينئذ فلو قام دليل على أنّ المعتبر هو الوجود بقيد السريان كان له الورود على الظهور المذكور ، وعلى هذا فإذا كان ظاهر القضيّة المبدوّة بإن وإذا على ما قرّرنا سببيّة كلّ وجود وتأثيره الفعلي المستقل ـ ومن المعلوم عدم إمكان تعدّد السبب الفعلي إلّا مع قابليّته المسبّب للتكرار ـ كان هذا دليلا على أنّ الوجود المعتبر في جانب المسبّب مع كونه مأمورا به هو الوجود الساري القابل للتكرار دون صرف الوجود الغير القابل له.

فإن قلت : سلّمنا تعدّد السبب وتعدّد التأثير لكن نقول : المسبّب للأسباب الشرعيّة هل هو الوجود أو الوجوب؟ لا إشكال في عدم كونه هو الوجود وإلّا لزم تحقّق الوضوء عقيب النوم مثلا ، فتعيّن أن يكون هو الوجوب ، وحينئذ فتعدّد السبب يقضي بتعدّد الوجوب وهو لا يقضي بتعدّد الوجود ، لإمكان اجتماع الوجوبات المتعدّدة في وجود واحد وصيرورتها وجودا واحدا متأكّدا ، كما لو قال : أكرم عالما وأكرم هاشميّا ؛ فإنّ إتيان المجمع حينئذ متّصف بالوجوب المتأكّد ، وبعد هذا القول لا يخفى أنّ الوجوب في دليل سببيّة هذه الأسباب متعلّق بعنوان واحد كالتوضّؤ ونزح الأربعين من دون تقييد بما يقيّد بعدد الوجود بتعدّد الوجوب ، فيكون ظاهرا في اجتماع الوجوبات في الوجود الواحد وصيرورتها وجوبا واحدا متأكّدا نظير قول المولى : اضرب اضرب ، فإنّه بإطلاقه وعدم تقييد الضرب الثاني بالمرّة الاخرى ظاهر في كون المطلوب ضربا واحدا وكون طلبه شديدا.

٢٣٢

قلت : المسبّب للأسباب الجعليّة التشريعيّة يكون هو الوجود لكن لا على نحو مسببيّته للأسباب العقليّة التكوينية ؛ فإنّها فيها تكون على وجه يلزم من وجود السبب وجود المسبّب ، وأمّا في التشريعيّات فوجود الأسباب أيضا مقتض لوجود المسبّبات لكن بجعل الآمر في نظره ، وأمره بإيجاد المسبب ناش من قبل هذا الاقتضاء ، فكأنّه يجعل المكلّف حادثا للمقتضي ويأمره بانفاذ اقتضائه وإجرائه وترتيب مقتضاه عليه ، ونظيره قول القائل : البيت صار كثيفا ويقتضي الكنس ، فيثبت الاقتضاء لنفس كثافة البيت ، غاية الأمر أنّه لمّا يرى المقتضي قاصرا يأمر الغير بإنفاد اقتضائه ، فعلم أنّ تعدّد السبب في الأسباب الشرعيّة قاض بتعدّد الوجود.

فإن قلت : سلّمنا تعدّد السبب وتعدّد التأثير وكون المسبب هو الوجود دون الوجوب، لكن نقول هذا لا يقتضي تعدّد الوجود ؛ وذلك لأنّ كلّ فرد من أفراد هذه الأسباب يقتضي وجود عنوان ، والعناوين التي تكون مسبّبات لها متصادقة في وجود واحد ، فيحصل امتثال أوامرها بإتيان وجود واحد كما يحصل أكرم العالم وأكرم الهاشمي بإكرام المجمع.

قلت أوّلا : إن المفروض اتحاد عنوان المسبّب لهذه الأسباب كعنوان التوضّؤ ونزح الأربعين ، ومع فرض اتّحاد العنوان يكون تعدّد السبب قاضيا بتعدّد الوجود بلا إشكال.

وثانيا : لو شككنا في مقام في أنّ المسبّب عنوان واحد أو عناوين متعدّدة فالمرجع هو الاشتغال دون البراءة ؛ إذ بعد اليقين بأنّ تحقّق كلّ سبب اقتضى تحقّق شيء واشتغال الذمّة والتعهّد به نشكّ في أنّ المشتغل به يكون عنوانا واحدا أو عناوين متعدّدة غير متصادقة في فرد أصلا ، حتى لا يحصل الفراغ بالوجود الأوّل ، أو يكون عناوين متعدّدة متصادقة في الوجود الأوّل حتّى يحصل الفراغ به ، فنحكم بوجوب تعدّد الوجود وليحصل الفراغ اليقيني بعد الاشتغال اليقيني ، فالشكّ إنّما هو في حصول الامتثال والخروج عن العهدة بعد العلم بثبوت التكليفين لا في التكليف

٢٣٣

الزائد حتى يكون مرجعا للبراءة ، كما هو واضح.

ثمّ إنّ هذا الدليل كما يجري في الفردين من نوع واحد كوقوع الكلبين كذلك يجري في النوعين كوقوع الكلب والهرّة بتقريب أنّ تخصيص السببيّة بالنوع الأوّل تقييد لدليل سببيّة النوع الثاني ؛ لعدم مسبوقيّة وقوعه لوقوع النوع المقتضي لنزح المساوي أو الأكثر ، فيكون مدفوعا بالإطلاق ، ويمكن هنا إيراد الإشكالات الثلاثة الأخيرة مع دفعها بمثل ما مرّ من الأجوبة ، هذا محصّل كلامه قدس‌سره مع تنقيحه.

والحقّ أن يقال : إنّه ليس لنا في باب الأسباب الشرعيّة لفظ كان معناه السببيّة والعليّة العقليّة ، وأمّا أدوات الشرط فإن قلنا فيها بمقالته قدس‌سره من أنّ مفادها بحسب الظهور الوضعي أو العرفي عليّة تاليها للجزاء بالعليّة التامّة العقليّة غاية الأمر مع زيادة قيد الانحصار ، لصحّة أخذ المفهوم ، كان ما ذكره قدس‌سره هنا حقّا لا محيص عنه.

وأمّا لو أنكرنا ذلك وقلنا بأنّ المستفاد منها عرفا ليس إلّا مجرّد كون تحقّق تاليها ملازما لتحقّق الجزاء بعده من دون استفادة العليّة [فلا] ، نعم يستفاد عدم كونهما غير مرتبطين أصلا ، بل يكونان مرتبطين بنحو من الربط إمّا لعليّة الأوّل للثاني ، أو بكونه جزءا أخيرا لعلّته ، أو بتلازمهما في الوجود وكونهما معلولين لعلّة ثالثه كما هو الحقّ ، والدليل عليه شهادة الوجدان بصحّة استعمال القضيّة الشرطيّة في المقامات الثلاثة على حدّ سواء.

ألا ترى صحّة قولنا : إن جاءك زيد فأكرمه فيما إذا فرض كون العلّة لإكرامه هو العلم والسيادة والمجيء من حيث المجموع ، وفرض العلم بالأوّلين من دون أن يكون استعمالا للقضيّة الشرطيّة في غير محلّها.

وكذلك قولنا : إن جاء زيد جاء عمرو فيما إذا فرض كون المجيئين متلازمين في الوجود ، وهذا هو المبنى للنزاع الواقع بين العلمين الجليلين في مفهوم قوله عليه‌السلام : «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء» حيث جعله أحدهما موجبة جزئيّة مستندا إلى أنّ مفاد المنطوق تعليق السبب الكلّي بالكرّية ؛ فيلزم من انتفاء الكريّة

٢٣٤

انتفاء السلب الكلّي الحاصل بالإيجاب الجزئي واستقرب قول المخالف ، وجعله الآخر موجبة كليّة مستندا إلى أنّ مفاد المنطوق كون الكريّة علّة منحصرة للسلب الكلّي ، ومرجعه إلى أنّ الكريّة علّة منحصرة لعدم تنجيس كلّ واحد من أفراد النجاسات ، فيلزم من انتفائها تنجيس جميع النجاسات ؛ فإنّه لو قلنا في القضيّة الشرطيّة بالمقالة الاولى كان ما ذكره الثاني حقّا ؛ إذ لو كان عدم تنجّس بعض النجاسات مستندا إلى عدم قابليّتها وعدم تنجيس بعض آخر إلى الكرّية لم يصدق كون الكريّة علّة تامّة منحصرة لعدم تنجيس جميع النجاسات بل لعدم تنجيس بعضها.

ولو قلنا بالمقالة الثانية كان ما ذكره الأوّل حقّا ، فلو فرض كون شيء سببا متمّما لعموم بحيث كان بعض هذا العموم متحقّقا ومستندا إلى غير هذا الشيء وتتمّته مستندة إليه صحّ أن يقال : لو تحقّق هذا الشيء تحقّق هذا العموم ، مثلا لو فرض كون عدم خوف المخاطب من أحد على الوجه الكلّي مستندا بالنسبة إلى بعض الأشخاص إلى عدم تسلّط هذا البعض عليه ، وبالنسبة إلى بعض آخر مستندا إلى مصاحبة المخاطب مع زيد صحّ أن يقال : إذا كنت مع زيد فلا تخف أحدا.

وحينئذ فمفاد منطوق الرواية ليس إلّا مجرّد تعليق السلب الكلّي بالكريّة من دون إشعار بكونه علّة منحصرة له ، فلا جرم يلزم من انتفاء الكريّة انتفاء هذا السلب الحاصل بالإيجاب الجزئي.

وكيف كان فلو قلنا بالمقالة الثانية نقول في باب الأسباب الشرعيّة : إنّ المستفاد من الدليل ليس بأزيد من أنّه متى تحقّق واحد من الأحداث وجب تحقّق الوضوء بعده ، أو أنّه متى تحقّق وقوع الكلب أو الهرّة مثلا وجب تحقّق نزح الأربعين بعده ، ولا شكّ في أنّ هذا المعنى يصدق فيما إذا احدث أحداث متعدّدة وتحقّق عقيبها وضوء واحد ، أو تحقّق وقوع كلاب متعدّدة أو كلب وهرّة وتحقّق نزح الأربعين مرّة واحدة بعده ، فيصدق تعقّب الوضوء بالنسبة إلى كلّ واحد من الأحداث ، وتعقّب النزح بالنسبة إلى كلّ واحد من الوقوعات.

٢٣٥

نعم لو تخلّل الوضوء أو النزح بين حدثين أو وقوعين لم يجز الاكتفاء بهما لما وقع عقيبهما ؛ لأنّ المستفاد من الدليل لزوم تحقّقهما عقيب هذا الأشياء هذا هو الكلام في المقام الأوّل.

وأمّا المقام الثاني فالحقّ أنّ باب الأسباب غير مرتبط بمبحث الاجتماع رأسا ، وبيانه أنّه لو قلنا بكون السبب صرف الوجود لزم لغوية الفرد الثاني وكون الوجوب واحدا ، فلم يجتمع وجوبان حتى يلزم تداخلهما ، وكذا لو قلنا بكون المسبّب صرف الوجود ، ولو قلنا بأنّ هنا سببين ومسبّبين تعلّق بكلّ منهما وجوب فحينئذ وإن كان في البين وجوبان ، لكن لم يلزم اجتماعهما في موضوع واحد ، بل لكلّ منهما موضوع مستقل.

نعم لو قلنا بتعدّد الأسباب وتعدّد المسبّبات وتداخل المسبّبات في فعل واحد كما لو قلنا بأنّ حدث الجنابة موجب لوجوب غسل وحدث الحيض لوجوب غسل آخر مغاير للأوّل في الحقيقة ، والجمعة لاستحباب غسل آخر مغاير للأوّل في الحقيقة ، والجمعة لاستحباب غسل آخر مغاير للأول في الحقيقة والجمعة لاستحباب غسل آخر مغاير للأوّلين فيها ، ولكن هذه الأغسال المختلفة الحقائق يتحقّق في عمل واحد كان لهذا العمل المتداخل فيه ربط بهذا المبحث في الجملة ، ولكنّه مع ذلك لا يصلح للاستشهاد ؛ إذ للمانع أن يقول: لم يجتمع في هذا العمل وجوبان أو وجوب واستحباب ، بل يحصل من اجتماع الأوّلين وجوب واحد متأكّد ، وكذا من اجتماع الأخيرين إلّا أنّ التأكّد هنا ليس بمثابته في الأوّل ، كما أنّ هذا هو الحال في مثل الصلاة وفيما تصادق فيه عنوانان واجبان كما في إكرام شخص كان عالما هاشميّا بعد ورود : أكرم عالما وأكرم هاشميّا.

«فصل في اقتضاء النهي للفساد وعدمه»

وقبل الخوض في المقصود نقدّم امورا.

الأوّل : قد مرّ في المبحث المتقدّم بيان الفرق بينه وبين هذا المبحث وأنّه يفترق عن هذا المبحث سؤالا وجوابا بأنّ المسئول عنه هناك أنّه هل يمكن إبقاء الأمر و

٢٣٦

النهي المتعلّقين بعنوانين مجتمعين في وجود واحد ، أو لا بدّ عقلا من تقييد أحدهما ، وهنا أنّ التحريم هل هو ملازم للفساد أولا.

وموردا (١) بأنّه لو كان بين العنوانين عموم وخصوص مطلقا مفهوما وخارجا يجري فيهما هذا النزاع دون النزاع المتقدّم وقد مرّ وجهه ، وأمّا غير هذا المورد فالقول بالامتناع وتقييد جانب الأمر بجعله من مبادي هذا النزاع ، وأمّا على القول بالجواز فلم يتعلّق نهي بالعبادة أصلا.

الثاني : أنّ هذا النزاع هل هو عقلي او لفظي؟ الظاهر الأوّل ؛ إذ لا إشكال في أنّ هذا النزاع ليس راجعا إلى أنّ معنى النهي المتعلّق بالعبادة أو المعاملة هل هو الإرشاد إلى الفساد أو التحريم ، بل هو راجع إلى أنّ التحريم التكليفي سواء كان مستفادا من اللفظ أو من غيره ملازم للفساد أولا؟ ويشهد لذلك ظاهر الكلمات والعنوانات.

أمّا الأوّل ، فلأنّ استدلالهم على الفساد في العبادات بأنّ الوجود المبعّد لا يمكن أن يكون مقرّبا ظاهر في كون النزاع في أمر عقلي لا لفظي ، ومن هذا السنخ أيضا استدلالاتهم في جانب المعاملات ، وأمّا الثاني فلأنّ تقرير العنوان بأنّ النهي هل هو موجب للفساد أو لا ، ظاهر في ذلك ؛ إذ الموجب بمعنى العلّة ، ولا يقال : إنّ اللفظ علّة لمعناه ، بل يقال : إنّه دالّ عليه ، فلو كان النزاع في أمر لفظي لكان حقّ العبارة في العنوان أن يقال : هل النهي دالّ على الفساد أولا ، فمعنى العبارة المذكورة أنّ العنوان من حيث نفسه تام لا مانع فيه بحيث لو لا المانعيّة من قبل النهي كان صحيحا بلا كلام ، فليس حاله حال الصلاة في اللباس النجس أو في جزء غير المأكول اللحم ، حيث إنّها في حدّ نفسها فاسدة ، فالنهي فيها دالّ على الفساد ولا علّة له.

وأمّا مجرّد وجود القائل بإنكار الملازمة عقلا وإثبات الدلالة الالتزاميّة لفظا في المعاملات فلا يوجب كون النزاع في أمر لفظي ، بل لا بدّ من إبطال هذا القول كما

__________________

(١) عطف على سؤالا وجوابا ، أي يفترق عن هذا المبحث موردا.

٢٣٧

أبطلنا القول بالجواز عقلا والامتناع عرفا في المبحث المتقدّم.

الثالث : ربّما يقال بتعميم ملاك النزاع للنهي التحريمي والتنزيهي والنفسي والغيري والأصلي والتبعي ، والمراد بالأصلي ما كان مدلولا بالدلالة الاستقلالية المطابقيّة ، وبالتبعي ما كان مدلولا بتبع الدلالة على شيء آخر كما يستفاد من قوله : انصب السلّم ، مطلوبيّة الكون على السطح انتقالا من المعلول إلى العلّة.

أقول : الحقّ عدم كون التنزيهي محلّا للنزاع ، ووجهه أنّ المفروض كون العنوان من حيث الذات مشتملا على المصلحة الوجوبيّة المانعة من النقيض ، وهذه المصلحة لا تزاحمها إلّا المفسدة التحريميّة المانعة من النقيض أيضا ، لا المفسدة الكراهيّة الغير المانعة عنه المشوبة بالرخصة في الفعل ؛ فإنّ هذه لا يعقل أن تصير مزاحمة للجهة الوجوبيّة ومسقطة لها عن التأثير.

وبعبارة اخرى : الجهة الكراهيّة تقتضي كون الفعل خلاف الأولى وهو غير مناف للعباديّة ، وإنّما المنافي لها كونه معصية ، ولهذا تراهم يسمّون العبادات التي تعلّق بها النهي التنزيهي بالعبادات المكروهة ؛ فإنّ معنى ذلك أنّها صحيحة ، غاية الأمر كونها أقلّ ثوابا ، ولم يعهد القول بفسادها من أحد حتّى من القائلين بأنّ النهي في العبادات موجب للفساد ، فهذا دليل على خروج النهي التنزيهي عن تحت هذا النزاع.

وأمّا النهي النفسي التبعي فلا إشكال في دخوله في حريم النزاع كالأصلي بلا فرق ، وكذا الغيري أصليّا كان أو تبعيّا ، وإن كان ربّما يتوّهم خروجه استنادا إلى أنّه لا عقاب على مخالفة مقدّمات الواجب وأنّها لا توجب البعد عن ساحة المولى ، فمبغوضيّتها غير مؤثّرة ، فليست بمانعة عن العباديّة.

ولكنّه مندفع بأنّ مقدّمة الواجب وإن كان لا يوجب مخالفتها عقابا مستقلا عليها بمعنى أنّه لو كان لواجب مقدّمات عديدة ، فترك تلك المقدّمات لا يوجب عقابات متعدّدة بعددها ، إلّا أنّه لا شبهة في إيجابها العقاب والبعد عن ساحة المولى من جهة ترك ذيها.

٢٣٨

وبعبارة اخرى : لا شكّ في اتّصاف المقدّمة باللابديّة العقليّة ؛ إذ معنى المقدّميّة ذلك، فيكون ترك ذيها مسبّبا عن تركها ، فيكون ترتّب العقاب والبعد على ترك ذي المقدّمة معلولا في الحقيقة لترك المقدّمة ، وما هو علّة لترتّب العقاب والبعد ولو على غيره يكون اختياره قبيحا لا محالة ، فيكون الحسن الفاعلي المعتبر في العبادة منتفيا فيه ، فلهذا يمتنع عباديّة الفعل الذي يكون تركه مقدّمة لواجب.

ومن هنا ظهر أنّ جريان ملاك النزاع في المقدّمة التي تكون علّة للحرام غير مبنيّ على القول بوجوب مقدّمة الواجب ، بل يجري ولو على القول بعدم وجوبها ، وذلك لما عرفت من كفاية المقدّميّة واللابدّية العقليّة في ذلك ، فمن قال في مبحث الضّد بعدم الاقتضاء لا لمنع مقدّميّة ترك الضدّ لفعل ضدّه بل لمنع الوجوب مع تسليم المقدّميّة كان له أن يقول بفساد الضدّ لو كان عبادة ، فيشترك هذا القول مع القول بالاقتضاء نتيجة.

الرابع : لا إشكال في أنّ المراد بالعبادة في المقام ليس ما يكون عبادة فعليّة تامّة من جميع الجهات ؛ ضرورة عدم إمكان وقوعه متعلّقا للنهي وإن كان الظاهر من المحكيّ أبي حنيفة من القول بإيجاب النهي في العبادة للصّحة ذلك ، بل المراد ـ على ما عرفت من أنّ النزاع إنّما هو في ثبوت العليّة والملازمة العقليّة بين النهي والفساد حتّى باعتراف من يجعل النزاع في الدلالة اللفظيّة الالتزاميّة كصاحب الكفاية ـ هو ما يكون اقتضاء العباديّة والقرب فيه في حدّ ذاته ولو لا النهي تامّا حتى ينحصر الكلام فيه في أنّه هل يحدث من جهة النهي مانع من عباديّة هذا الذي يكون في حدّ ذاته تامّا في اقتضاء العباديّة أولا.

وأمّا ما ليس كذلك بأن كانت المصلحة العباديّة مقيّدة بغيره وقاصرة عن أن تشمله كما في الصلاة في اللباس النجس أو في جزء غير المأكول فليس محلا لهذا الكلام ؛ لعدم استناد الفساد فيه إلى النهي ، بل إلى قصور المصلحة.

ومن هنا ظهر ما فيما ذكر في الكفاية ممّا حاصله : أنّ المراد بالعبادة هنا إمّا ما يكون عبادة في ذاته ، أو ما لو تعلّق الأمر به كان أمره تعبّديا لا توصّليّا ، ومثّل له

٢٣٩

بصوم العيدين ؛ فإنّ الأخير بإطلاقه غير صحيح ، وإنّما يصحّ مع التقييد بإحراز وجود المصلحة ، فصوم العيدين إنّما يصحّ جعله من محلّ الكلام لو استفيد من دليل حرمته مجرّد الحرمة لا هي مع تقييد المصلحة بغير هذا الصوم ، وكذا الكلام في صوم الحائض وصلاتها على القول بحرمتهما الذاتية ، ومجرّد تسميتهما بالصوم والصلاة لا يوجب كونهما من محلّ الكلام مطلقا.

وبالجملة ، فحال هذا المبحث حال المبحث المتقدّم في لزوم إحراز وجود المقتضي في نفس العنوان ، وبعد إحرازه يقع الكلام هناك في إمكان بقاء الحكمين الفعليّين وعدمه ، وهنا في منافاة التحريم للصّحة والعباديّة وعدمها.

الخامس : من الواضح أنّ النزاع في أنّ النهي في العبادة أو المعاملة موجب لفسادهما أولا إنّما هو فيما إذا كان طروّ الفساد ممكنا بأن يتّصف العمل بالصحّة تارة وبالفساد اخرى ، فما لا يمكن فيه طروّ الفساد ولا ينفكّ عن أثر لكونه علّة تامّة له لا يجري فيه هذا النزاع.

السادس : صحّة كلّ موضوع وفساده عبارتان عن تماميّته وعدم تماميته بلحاظ الأغراض المتعلّقة به والفوائد المنظورة منه ، فتماميته بحسب الأجزاء والقيود مستلزم لترتّب الفوائد وعدم تماميته مستلزم لعدم ترتبها فكلّ منهما أمر وحداني في جميع الموارد وهو التماميّة أو عدمها بلحاظ الأثر المنظور إليه.

نعم يتّصف العمل الواحد بالتماميّة بملاحظة أثر وبعدمها بملاحظة آخر ، وكذا يختلف حاله باختلاف الأنظار ، واختلاف الفقيه والمتكلّم في تفسير الصحّة في العبادة من هذا القبيل وليس من باب الاختلاف في المفهوم ؛ فإنّ نظر الأوّل في باب العبادة مقصور على سقوط الإعادة والقضاء ووجوبهما ، ونظر الثاني على حصول المثوبة والقرب للعبد ، وكلاهما لازم تماميّة العبادة ، فعبّر كلّ منهما بالصحّة عن لازمها المنظور إليه ، غاية الأمر أنّ هذا اللازم يختلف باختلاف نظرهما.

وكذا قد يختلف حال العمل الواحد من حيث الصحّة والفساد باختلاف الملاحظات ، مثلا لو بنينا على عدم إجزاء موافقة الأمر الظاهري عن الواقعي وقام

٢٤٠