أصول الفقه - ج ١

آية الله الشيخ محمد علي الأراكي

أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمد علي الأراكي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٠٤
الجزء ١ الجزء ٢

واخرى ابتنائه على النزاع في تعدّد الجنس والفصل ووحدتهما والأوّل ملازم للجواز والثاني للامتناع.

والحقّ خطاء كلا التوهّمين

أمّا الأوّل فلأنّه لا ريب في أنّ الشيء الواحد كما لا يعقل أن يكون له أزيد من وجود واحد كذلك لا يعقل أن يكون له أزيد من ماهيّة واحدة ؛ فإنّ الماهيّة عبارة عن المقول في جواب ما هو الذي هو سؤال عن حقيقة الشيء ونوعه ، ومن الواضح أنّه لا يمكن أن يكون للشيء الواحد إلّا نوع واحد.

نعم يصحّ حمل العناوين المتعدّدة على موضوع واحد إلّا أنّه لا يمكن أن يكون كلّها ماهيّات له ، بل لا بدّ من كون كلّها أو ما سوى الواحد منها عرضيّات.

وأمّا الثاني فلأنّ العنوانين المجتمعين في موضوع واحد لا دخل لهما بالجنس والفصل ، مثلا الحركة الخاصّة في الدار المغصوبة بأيّ كيفيّة تكيّفت وفي أيّ مكان تحقّقت لها جنس وفصل ، وعنوان الصلاة عرضي قد انتزع من كيفيّاتها الخاصّة مع قصد القربة ، وكذا عنوان الغصب عرضي قد انتزع من اضافتها إلى دار الغير.

إذا عرفت ذلك فلنشرع في برهان كلّ من القولين ، فنقول وعلى الله التوكّل : أقوى ما احتجّ به للقول بالجواز هو أنّ المقتضي موجود والمانع مفقود ، لا نزاع في وجود المقتضي لما عرفت من أنّ محلّ الكلام ما إذا كان ملاك كلّ من الأمر والنهي موجودا في مورد التصادق ، إنّما النزاع في وجود المانع وهو لزوم اجتماع الضدّين من الأمر والنهي ومباديهما من الحبّ والبغض والمصلحة والمفسدة في شيء واحد وهو الوجود الخارجي وعدمه ، والحقّ عدمه.

وبيانه يحتاج إلى مقدّمة وهي : أنّ الأعراض على ما ذكره أهل المعقول منحصرة في ثلاثة أقسام :

الأوّل : ما يكون عروضه واتصافه في الخارج كحرارة النار وبرودة الماء.

والثاني : ما يكون عروضه في الذهن واتّصافه في الخارج ، والمراد بكون العروض في الذهن عدم وجود ما يكون بحذائه في الخارج كالابوّة والبنوّة والفوقيّة

٢٠١

والتحتيّة ؛ فإنّها امور انتزاعيّة متعلّقة في الذهن وليس شيء في الخارج يكون بحذائها ، ولكنّ المتّصف بها هي الذوات الخارجيّة بخلاف الحرارة ونظائرها ؛ فإنّ ما يكون بحذائها موجود في الخارج والمتّصف بها أيضا هو الذوات الخارجيّة ، والعرضي المتّحد من القسم الأوّل كالضارب يحمل على الذات بحمل ذو هو ، فمعنى زيد ضارب زيد ذو الضرب ، والعرضي المتّحد من القسم الثاني كالأب تسمّى بالخارج المحمول.

والثالث ما يكون عروضه واتصافه في الذهن كالكليّة ؛ فإنّها أمر يتعقّل في الذهن ومعروضه الطبائع الجامعة المتعلّقة في الذهن أيضا لا الأمر الخارجي ؛ فإنّ الخارجي لا يكون إلّا جزئيّا.

إذا تمهّد هذا فنقول : لا إشكال في كون الإرادة والطلب من الأعراض ، ولا في عدم كونه من القسم الأوّل ؛ لأنّ وجود هذا القسم في الخارج فرع وجود المعروض فيكون متأخّرا عنه رتبة ، ولا يعقل في الطلب أن يكون وجوده متأخرا في الرتبة عن المعروض ، للزوم طلب الحاصل والزجر عنه وكلاهما محال ، ولا في عدم كونه من القسم الثاني ؛ إذ يعتبر في الاتّصاف الخارجي لشيء بشيء عدم مناقضة الشيء الأوّل لوجود الشيء الثاني ، وعدم كونه علّة لعدمه ؛ إذ لا يعقل اتصاف الشيء بما هو علّة لعدمه ، ولا شكّ في أنّ وجود موردي الأمر والنهي معدم لهما ، فتعيّن كونه من القسم الثالث فيكون حال الطلب [حال] وصف الكليّة ، فكما أنّ وصف الكليّة يعرض على الطبائع في الذهن فكذا الطلب أيضا يعرض عليها في الذهن ، لكنّ الطبيعة من حيث هي لمّا لم يكن إلّا هي فلا بدّ من لحاظ الوجود معها أيضا ، فيكون متعلّق الأمر طبيعة الصلاة باعتبار الوجود مثلا ، ومتعلّق النهي طبيعته الغصب بهذا الاعتبار ، ولا شكّ في أنّهما شيئان متمايزان في الذهن وإن اتّحدا في الوجود الخارجي.

فإن قلت : على ما قرّرت من أنّ متعلّق الطلب هو الطبيعة المقيّدة بالوجود الذهني فالمراد بالوجود الذهني الذي هو القيد المقوّم ما ذا؟ لا يعقل أن يكون المراد ذهن الآمر ، وأمّا ذهن المأمور فلازمه كفاية التصوّر في مقام الامتثال وعدم لزوم

٢٠٢

الإتيان الخارجي.

قلت : الجواب أوّلا : بالنقض بالكلّي الطبيعي فنقول : قد يلحظ الطبيعة في الذهن معرّاتا عن الوجود والعدم فيقال بأنّها ليس إلّا هي ، وقد يلحظ بلحاظ الوجود فيحكم بأنّها كلّي ، فالمراد بالطبيعة التي يحكم عليها بالكليّة ما ذا؟ لا يعقل أن يكون المراد الطبيعة بوجودها الخارجي ؛ إذا الخارجي ليس إلّا جزئيا ، ولا هي بوجودها الذهني ، إذ الوجود الذهني أيضا جزئيّ من الجزئيّات ومباين للخارجيّات فلا ينطبق عليها ، ولا هي معرّاتا عن الوجودين ؛ فإنّها حينئذ لا يكون جزئيا ولا كليّا.

وثانيا : بالحل وهو مشترك بين المقامين وهو : أنّ الوجود الذهني تارة يعتبر بالمعنى الاسمي وهذا واضح ، واخرى بالمعنى الحرفي أي بأن يكون آلة لرؤية الخارج ؛ فإنّ الذهن صفحة يرى بها الخارج ويحكي عنه ، فالناظر بهذا النظر كأنّه يرى الخارج بنفسه ، فالوجود الذي يوجد قيدا للطبيعة في كلا المقامين أي مقام عروض الكليّة ومقام تعلّق الطلب هو الوجود الذهني الملحوظ باللحاظ الحاكي ، فوجود الإنسان الملحوظ باللحاظ الحاكي يحكم بأنّه موجود في زيد وعمرو وبكر ، وهذا معنى كليّته وإن كان لو لوحظ بما هو موجود في الذهن كان جزئيّا وباين الخارج ، بل الملحوظ للاحظ آخر ، بل لهذا اللاحظ بلحاظ آخر.

وكذلك وجود الصلاة الملحوظ في الذهن باللحاظ المرآتي متعلّق للطلب لا بما هو ملحوظ في الذهن ، وحينئذ فلا جرم لا يحصل امتثاله إلّا بالعمل الخارجي ؛ إذ ملحوظ الآمر بهذا اللحاظ لا ينطبق إلّا عليه ، وعرض هذه الطبيعة وهو المطلوبيّة لا يسري إلى الفرد كما هو الحال في وصف الكليّة.

فإن قلت : إذا كان متعلّق الطلب وجود الطبيعة الملحوظ باللحاظ الحاكي يجب أن يسري المطلوبيّة منها إلى الفرد لمكان العينيّة ؛ فإنّ اللاحظ بهذا اللحاظ يرى الطبيعة عين الأفراد في الخارج.

قلت : الأجزاء التحليليّة المتجزّاة عند العقل التي يحكم باتّحاد بعضها مع بعض في الخارج كما في كلّ واحد ، وهي خصوصيات يجزّئ العقل خصوصياته ويحكم

٢٠٣

باتّحادها في الخارج لا يمكن الحكم بعينيّة بعضها مع بعض إلّا بعد فرض التغاير ، فإنّه لا يعقل الحكم بأنّ هذا عين ذاك إلّا بعد فرض وجود هذا وذاك في البين ، فلا بدّ في مقام الحمل من نظرين طوليين ، تفصيلي واجمالي ، وذلك بأن ينظر الطرفين أوّلا اثنين ، ثمّ ينظرهما واحدا في الخارج فيحكم باتحادهما فيه.

وحينئذ فما يعرض على أحد الطرفين في النظرة الاولى أي النظر التفصيلي التحليلي لا يسري إلى الآخر ؛ لمكان التغاير والبينونة بينهما في هذا النظر ، وذلك مثل وصفي الموضوعيّة والمحموليّة اللاحقين لذاتي الموضوع والمحمول عند ملاحظة كلا منهما منفردا ومنفصلا عن الآخر مقدّمة للحمل والحكم بالاتحاد.

ومثل الجنسيّة والفصليّة العارضين لذاتي الجنس والفصل عند تحليل العقل الشيء الخارجي بحسب الحقيقة بجزءين قبل الحكم باتّحادهما.

ومثل وصف الكليّة العارضة على صرف الوجود المضاف إلى أصل الطبيعة في مقام تجزئة العقل بين الجهة الجامعة بين الأفراد وبين الخصوصيّات المتميّزة لها قبل الحكم بالاتّحاد.

ومثل وصف الكثرة في قولنا : الماء في الدنيا كثير اللاحق بصرف وجود الماء في لحاظ التجريد لا لأصل الطبيعة ولا للأفراد.

وحينئذ فنقول : لا إشكال في أنّ الطالب يحلّل في ذهنه الأجزاء التي لها دخل في غرضه عن الأجزاء الآخر ويعلّق طلبه بماله الدخل في غرضه دون غيره ، فيكون صرف الوجود بالنسبة إلى الخصوصيّات التي لا دخل لها في الغرض معروضا للطلب في عالم تخليته عن تلك الخصوصيّات ، فلهذا لا يسري الطلب منه إلى الأفراد.

وممّا ذكرنا يتّضح وجه الحكم في مسألة فرعيّة وهي أنّ بيع الصاع من الحنطة مثلا يتصوّر على وجهين ، الأوّل : أن يبيع الكلّي في الذمّة ، ولازمه كون التلف من البائع قبل التعيّن ، والثاني : أن يبيع صاعا من الصبرة المشاهدة وهو يتصوّر على ثلاثة وجوه :

الأوّل : أن يكون على وجه النكرة بأن يكون المبيع إحدى الصيعان المشتمل

٢٠٤

عليها الصبرة ولازمه كون التالف مردّدا بين كونه من مال البائع أو المشتري ؛ فإنّ إحدى الصيعان التي هي المبيع كما يحتمل تطبيقه على الموجود كذلك يحتمل تطبيقه على التالف وادّعوا الإجماع على بطلان هذا القسم.

والثاني : أن يكون على وجه الإشاعة ولازمه كون التلف بينهما بالنسبة.

والثالث : أن يكون على وجه الكلّي في الخارج ، ولازمه كون التلف من مال البائع ما بقي من الصبرة مقدار صاع ؛ فإنّ وجه هذا الأخير أنّ البائع قد باع الصاع الكلّي من المشتري ، غاية الأمر مقيّدا بوجوده في الخارج وهو مع هذا القيد وإن كان ملازما للاتّحاد مع خصوصيّة من الخصوصيّات ، إلّا أنّه في عالم تجريده عن الخصوصيّات وقع متعلّقا للملكيّة ، فلا تسري منه الملكيّة إلى الخصوصيّات بل هي باقية على ملك البائع ، ولهذا يكون تلفها من ماله ما بقي منها خصوصيّته واحدة ؛ فإنّ تلف الكلّي إنّما يكون بتلف تمام خصوصيّاته ولا يصدق بتلف بعضها.

فإن قلت : إنّ المفاهيم المتعقّلة لا واقعيّة لها بل هي صرف إدراكات للعقل ، وإنّما الواقعيّة للموجود الخارجي ، وما جعلته متعلّقا للطلب أعني : صرف وجود أصل الطبيعة ، مجردا لمفهوم التعقّلي ، ومتعلّق الطلب لا بدّ وأن يكون منشئا للآثار ، فلا محالة يكون مما له الواقعيّة وهو الوجود الخارجي ، ولا ريب في كونه واحدا إلّا بعد وقته فيعود المحذور.

قلت : إن أردت بعدم الواقعيّة لصرف الوجود عدم وجوده في الخارج بما هو عليه في الذهن من وصف الجامعيّة والتجرّد عن الخصوصيّات فهو مسلّم ، وإن أردت عدم وجوده من الأصل ولو بكيفيّة اخرى مغايرة لكيفيته في الذهن فهو ممنوع بل هو موجود في الخارج ، غاية الأمر وصف اتّحاده مع الأفراد واندماجه فيها على خلاف ما هو عليه في الذهن من وصف تجرّده منها.

والحاصل أنّ الطبيعي ليس مجرّد المفهوم التعقّلي ، بل له حظّ من الوجود الخارجي ، فالوجود كما يضاف إلى الفرد أعني : الخصوصيّة المميّزة كذلك يضاف إلى الطبيعي أيضا على الحقيقة ، غاية الأمر أنّ الوجود المضاف إليهما وجود واحد.

٢٠٥

والدليل على وجود الطبيعي أنّه لو توجّه شبح من بعيد وتيقنّا بأنّه حيوان وشككنا في أنّه بعير أو فرس وكان بعيرا في الواقع فلا ريب أنّ وصف المعلوميّة مختص بحصّة وجود الحيوان والمشكوكيّة بحصّة وجود البعير ، ولا يسري معلوميّة الأوّل إلى الثاني ولا مشكوكيّة الثاني إلى الأوّل ، ولو لم يكن هاهنا شيء وواقعيّة إلّا وجود البعير لما كان لنا إلّا شيء واحد مشكوك ولم يكن في البين شيء تعلّق به المعلوميّة.

وأيضا من المعلوم بالوجدان أنّ الإنسان قد يصير طالبا لنفس الكلّي الطبيعي من دون أن يسري طلبه إلى الخصوصيّات ، كما في طلب شرب الماء وكما في طلب وجود الإنسان إذا كان لأجل الكراهة من الانفراد في البيت ، فلو لم يكن للطبيعي حظّ من الوجود لما وقع متعلّقا للطلب.

فثبت أنّه يمكن أن يشير الآمر في عالم اللحاظ إلى نفس الطبيعي ويوجّه الطلب نحوه من دون لزوم الإشكال.

فإن قلت : ما ذكرت من جعل متعلّق الطلب صرف الوجود إنّما يتمّ في الماهيّات المتأصّلة ، وأمّا العناوين المنتزعة فلا وجود لها في الخارج حتى يمكن اعتبار صرف الوجود معها، وذلك لأنّ موطنها هو الذهن ، والخارج إنّما هو ظرف لمنشا انتزاعها ، فلا بدّ من صرف الأوامر والنواهي المتعلّقة بتلك العناوين ظاهرا إلى الوجودات الخارجيّة التي هي منشأ لانتزاعها ، وجعل تلك العناوين إشارة إليها وحاكية عنها ، وحينئذ فيلزم المحذور من اجتماع الأمر والنهي في الواحد.

قلت : نحن إذا تعقّلنا صرف الوجود في الماهيّات المتأصّلة نتعقّله بهتا في جانب منشأ الانتزاع ، مثلا عنوان الضارب والقاعد لا مدخل في منشأ انتزاعهما إلّا لذات ما واتّصافهما بحقيقة الضرب والقعود ، من دون مدخليّة لخصوصيّات الفاعل أو الفعل فيه.

فإذا جعلنا الأمر بالصلاة والنهي عن الغصب متعلّقين بمنشإ انتزاعهما نقول : لا مدخل في منشأ انتزاع الصلاة إلّا لمطلق الحركة بالهيئة الخاصّة المتلبّسة بقصد القربة

٢٠٦

من دون مدخلية للوقوع في دار الغير فيه ، وكذا لا مدخل في منشأ انتزاع الغصب إلّا لمطلق الحركة في دار الغير بدون رضاه من دون مدخليّة للوقوع بالهيئة الخاصّة والتلبّس بنيّة القربة فيه، فيتعقّل هنا صرف وجود يكون منشأ لانتزاع الصلاة وهو متعلّق للأمر ، وصرف وجود آخر يكون منشئا لانتزاع الغصب وهو متعلّق للنهي. هذا خلاصة الكلام في حجّة المجوّز.

ومنه يظهر فساد ما قيل في حجّة المنع ، وحاصله أنّ تعدّد العنوان في محلّ النزاع لا يوجب تعدّد المعنون ، بل هو يتّحد حقيقة ووجودا من غير فرق بين القول بأصالة الماهيّة أو الوجود.

ووجه فساده هو أنّ الطلب كما عرفت ليس من الأعراض الخارجيّة كالبياض حتّى يقال بأنّه لا يمكن التكليف في عروضه بين حيثيّة دون اخرى لاندماج الحيثيّات واتّحادها في الخارج ، بل هو من الأعراض التي يكون عروضها واتّصافها في الذهن ، والتفكيك بين الحيثيّات في الذهن ممكن ، فيقع الكلام حينئذ في أنّ لهذه الحيثيّات التحليليّة العقليّة واقعيّة في الخارج أولا ، وقد أثبتنا الواقعيّة لها.

ثمّ إنّه قد استدلّ للجواز بوجوه أخر ، منها أنّه لو امتنع اجتماع الوجوب والحرمة في واحد بوجهين لما وقع نظيره ، وقد وقع في الشرع كما في العبادات المكروهة كالصلاة في الحمّام ، والمستحبّة كالفريضة في المسجد ، والمباحة كالصلاة في البيت ، وذلك لأنّ الأحكام الخمسة متضادّة بأسرها.

ويمكن الجواب عنه على القول بالامتناع بأنّ الحال في تلك الموارد مختلفة ؛ لأنّ الحكم المخالف للأمر العبادي فيها إمّا أن يكون متعلّقا بأمر خارج عن العبادة متّحد معها في الوجود أحيانا ، كما في الصلاة في موضع التهمة ؛ فإنّ النهي التنزيهي متعلّق بالكون في الموضع المذكور المتّحد مع الصلاة في الخارج أحيانا أو يكون متعلّقا بنفسها ، وهذا على قسمين :

إمّا أن يكون في البين مندوحة وذلك بأن يكون الأمر العبادي متعلّقا بصرف الوجود، أولا يكون وذلك بأن يتعلّق الأمر العبادي بالوجود الساري الاستغراقي ،

٢٠٧

فالأوّل كما في الصلاة في الحمام ، فإنّ الصلاة خارج الحمّام بدل عن الصلاة فيه ، والثاني كما في صوم يوم العاشوراء والنافلة المبتدأة عند طلوع الشمس ؛ فإنّ الاستحباب فيها متعلّق بالطبيعة باعتبار الوجود الساري ، فيكون صوم كلّ يوم ونافلة كلّ زمان مستحبّين على الاستقلال لا بما هما فردان للطبيعة ، فلا يقع صوم غير يوم العاشوراء بدلا عن صومه ونافلة غير زمان الطلوع بدلا عن نافلته ، بل هما مستحبّان مستقلان.

أمّا القسم الأوّل فلا إشكال فيه على القول بالجواز مطلقا ، وأمّا على القول بالامتناع فينبغي التكلّم في حكم اجتماع الوجوب مع الكراهة ، ويظهر منه وممّا تقدّم حكم غيره من باقي صور اجتماع حكمين تكليفيين في واحد بوجهين ، فنقول على هذا القول هذه الصورة بعد اشتراكها مع الصورة السابقة في بقاء الملاكين وعدم التزاحم بين الجهتين أعني : المصلحة الوجوبيّة والحزازة هنا وفي عدم إمكان بقاء الأمر والنهي الفعليين بحالهما وعدم ورود التقييد على شيء منهما يفرق بينهما بلزوم تقييد الأمر هناك مع بقاء ملاكه وهو المصلحة بحكم العقل ، ولزوم تقييد الكراهة الفعليّة هنا مع بقاء ملاكها وهو الحزازة بحكمه أيضا.

وذلك لأنّ الصورتين وإن كانا مشتركين في ثبوت المندوحة من جانب الأمر وعدم ثبوتها من جانب النهي بمعنى كون الأمر لا مقتضى بالنسبة إلى الخصوصيّة وكون النهي مقتضى بالنسبة إليها ، إلّا أنّ الاقتضاء من جانب النهي التحريمي شديد ملزم مانع من النقيض طارد للوجود ، فيكون بضميمة ثبوت المندوحة من جانب الأمر مزاحما للأمر ومعاندا له ومقيّدا له وإن كان مصلحته أشدّ وأقوى.

وهذا بخلاف الاقتضاء في جانب النهي التنزيهي ، فإنّه ليس بشديد بحيث يكون ملزما للترك ومانعا من النقيض طاردا للوجود ، بل اقتضاؤه للترك مشوب بالترخيص في الفعل، فلهذا لا يزاحم الأمر ولا يعانده وإن كان فيه المندوحة ، فإذا صار الأمر بلا مانع يلزم قهرا انعدام الكراهة الفعليّة من البين مع بقاء الحزازة ، فيكون الصادر من المكلّف بناء على هذا عبادة مشتملة على الحزازة ، فلهذا يكون

٢٠٨

أقل ثوابا بالنسبة إلى الفرد الخالي عن تلك الحزازة.

فإن قلت : ينافي هذا الذي ذكرت من ارتفاع الكراهة الفعليّة من البين إطلاق المكروه على هذه العبادة.

قلت : حال الكراهة هاهنا حال الحليّة في الغنم ، فكما أنّ حليّة الغنم حكم اقتضائي متعلّق بحيث الغنميّة لو خلّي وطبعه مع قطع النظر عن الطواري والحالات ، بمعنى أنّ الغنم لو لوحظ في قبال الكلب والخنزير حكم الشارع بحليّته ، فلهذا لا منافاة بينهما أصلا ، وبين أن يكون الحكم الشرعي الفعلي للغنم بسبب العوارض حرمة أشدّ من حرمة الكلب والخنزير فكذا الكراهة هاهنا ؛ فإنّ جعل الشارع حكم الكراهة في موضوع يكون على نحوين :

الأوّل : أن يكون حكما فعليّا ناظرا إلى جميع الأحوال والطواري.

والثاني : أن يكون حكما اقتضائيّا متعلّقا بالحيثيّة مع قطع النظر عن جميع الطواري ، فهذا القسم لا منافاة أصلا بينها ، وبين أن يكون الحكم الشرعي الفعلي لهذا الموضوع بسبب العوارض الخارجيّة هو الوجوب أو حكما آخر مضادّا للكراهة ، ونظيره في الإخبارات قولنا : الرجل خير من المرأة ، فإنّه إخبار عن خيريّة حيثية الرجل مع قطع النظر عن الطواري من حيثيّة المرأة كذلك ، ولهذا تكون هذه القضيّة صادقة حتّى في مورد صارت المرأة بسبب الضمائم الخارجيّة خيرا من الرجل فعلا.

ومن هنا ظهر أنّ لفظ الكراهة في هذا المقام يكون بمعناه في سائر المقامات ، غاية الأمر أنّ لازم اجتماع الحزازة مع ملاك الأمر أهليّة الثواب ، لا أنّ للفقهاء في هذا المقام في هذا اللفظ اصطلاحا جديدا.

أمّا القسم الثاني فامتناع الاجتماع فيه غير مختص بالقول بالامتناع ، بل هو ثابت على القول بالجواز أيضا ؛ وذلك لما عرفت سابقا من خروج المطلق والمقيّد المفهوميين والمصداقيين عن محلّ النزاع ، فلو تعلّق النهي بالمقيّد وجب تقييد المطلق وإن كان النهي تنزيهيّا.

٢٠٩

وكيف كان فعلى القول بالجواز فمثل الصلاة في الحمام ممّا تعلّق النهي فيه ظاهرا بالمقيّد لا بالأمر الخارج كالكون في الحمام ولم يوجب ذلك تقييد في المطلق يلزم بحكم العقل إرجاع النهي المتعلّق به إلى التقيّد والخصوصيّة ، والقول بأنّ نفس الصلاة في الحمّام مثلا لا نقص في مطلوبيتها أصلا ، بل في إيقاع هذا المطلوب النفيس في الحمام ركاكة وحزازة نظير وضع الدر الثمين في الخزف ، والتقيّد وإن كان ليس له في الخارج وجود على حده ، إلّا أنّه في الذهن قابل للانفكاك عن الطبيعة ، فحال هذا القسم عند المجوّز حال القسم السابق في محفوظيّة الأمر والنهي الفعليين ، غاية الأمر أنّه اجتمع مورداهما هناك بحسب الصدق وهنا بحسب المورد دون الصدق ، وأمّا على الامتناع فيمكن أن يكون النهي متعلّقا بالتقيّد واقتضائيّا يعني أنّ هذا التقيّد من حيث هو ولو خلّي والطبع مكروه ، وهذا النهي لا يصير فعليّا لوجود المانع معه أبدا وأن يكون متعلّقا بالمقيّد وإرشاديّا للإرشاد إلى ما ليس فيه حزازة من سائر الأفراد.

وأمّا القسم الأخير فالحال فيه أشكل من سابقه ، وذلك لما ادّعوا عليه الإجماع من كون الفعل في هذا القسم عبادة ومع ذلك يكون الترك أرجح كما يظهر من هذا ومنهمعليهم‌السلام عليه ؛ فإنّ مقتضى الأوّل رجحان الفعل ومرجوحيّة الترك ، ومقتضي الثاني العكس ، وهذا محال حتّى عند المجوّز لوجهين ، اتّحاد الوجه وعدم المندوحة ، فيلزم التفصّي عليه أيضا.

وما يمكن أن يتفصّى به كلّ من المجوّز والمانع من هذا الإشكال أحد أمرين ، الأوّل : أن يقال : إنّ للعبادة ضدّا لا يمكن الجمع بينه وبينها وهو ارجح منها ، ولكن لمّا كانت عقولنا قاصرة عن إدراكه علّق الطلب المتعلّق به حقيقة إلى ترك العبادة ونسب إليه بالعرض والمجاز ، نظير طلب ترك الحركة عند تعلّق الغرض بالسكون أو عكسه.

والحاصل أنّ الترك من حيث إنّه ترك العبادة مرجوح ولم يحدث فيه من قبل هذا القيد رجحان أصلا وإنّما نسب إليه الطلب بالعرض والمجاز وإلّا فهو متعلّق في

٢١٠

الحقيقة بذلك الضد ، ثمّ إنّه ربّما يحتمل أن يكون هذا الضد منطبقا على الترك وأن يكون ملازما له ، وأنت خبير بعدم معقوليّة الأوّل ؛ لعدم تعقّل انطباق الوجودي على العدمي ، فتعيّن أن يكون ملازما له.

والثاني أن يكون النهي إرشاديّا للإرشاد إلى أرجحيّة هذا الضدّ وللوصلة إلى درك ما فيه من الفضيلة الزائدة ، وعلى هذا يكون النهي متعلّقا بالترك على الحقيقة ، وعلى أيّ حال فيكون المقام من باب المزاحمة والدوران ؛ إذ كما أنّ طلب شيئين لا يمكن الجمع بينهما ـ في زمان وجوبا ـ محال ، فكذلك طلبهما استحبابا ، فالأمر بالعبادة بواسطة مزاحمة الضدّ الأهمّ قد زال وبقي ملاكه ، فلهذا لو أتى المكلّف فقد أتى بالعبادة ؛ لكفاية الملاك في صحّتها ، ولو تركها فقد أدرك الأهمّ.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا أنّ الاستدلال بتلك العبادات لا يجدي للمجوّز شيئا لعدم كونه ملزما للخصم ، وذلك لما عرفت من لزوم التفصّي على المانع خاصّة في بعض الأقسام ، وعليه وعلى المجوّز أيضا في بعض آخر.

وينبغي التنبيه على امور :

الأوّل : أنّ من توسّط أرض مغصوبة فلا شبهة في أنّ مقدارا من الغصب لا بدّ من أن يصدر منه وهو مقدار الخروج بأسرع وجه يمكن ؛ لأنّه إن بقي فيها صدر منه هذا المقدار مع الزيادة ، وإلّا فهذا المقدار فقط ، وهذا واضح ، إنّما الكلام في حكم هذا الخروج فقيل بأنّه مأمور به ومنهي عنه ، واختاره المحقّق القمّي ناسبا له إلى أكثر المتأخّرين وظاهر الفقهاء وصحّته يبتني على مقدّمتين :

الاولى : كفاية تعدّد الجهة في اجتماع الأمر والنهي وقد مضى الكلام فيه.

والثانية صحّة التكليف لغير المقدور إذا كان عدم القدرة ناشئا من اختيار المكلّف وهذا ممنوع ؛ لاستقلال العقل بقبح التكليف بما لا يطاق مطلقا ، وأمّا ما اشتهر من أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، فالمراد به دفع ما زعمه الأشاعرة من عدم الفعل الاختياري رأسا ، والمعنيّ بهذا الكلام أنّ الامتناع بمقدّمة اختياريّة

٢١١

لا ينافي الاختيار ، يعني إنّه يصحّ العقاب عليه لا أنّه يصحّ التكليف.

وهنا ثلاثة أقوال أخر : أحدها : وهو لصاحب الفصول قدس‌سره : أنّ المكلّف منهي قبل الدخول عن جميع أنحاء الغصب لكونه قادرا على ترك جميعها حتّى الخروج ، بمعنى أنّه يتمكّن من ترك الخروج وترك الدخول ، وبعد الدخول يسقط النهي من الخروج ويبقى أثره وهو ترتّب العقاب ، ويصير مأمورا به مقدّمة لترك الغصب الزائد فلم يجتمع الأمر والنهي في زمان واحد

الثاني : أنّ الخروج مأمور به ولم يكن منهيّا عنه من أوّل الأمر

الثالث : أنّه ليس بمأمور به ولا منهي عنه.

والتحقيق أنّه لو منعنا مقدّميّة الخروج لترك الغصب الزائد كما هو الحقّ لا سببا ، والترك إلى الصارف لا إلى الخروج ، نعم هو مقترن معه وملازم له ، لكن الملازمين في الوجود غير متلازمين في الحكم فحينئذ لا بدّ من الالتزام بعدم كونه مأمورا به ولا منهيّا عنه مع ترتّب العقاب كما هو القول الثالث. أمّا عدم الأمر فلعدم الملاك ، وأمّا عدم النهي فلمكان الاضطرار ، وأمّا ترتّب العقاب فلكون الاضطرار بمقدّمة اختياريّة.

ولو قلنا بالمقدّميّة فالحقّ ما ذكره صاحب الفصول قدس‌سره ويبقى الإشكال حينئذ في أنّه كيف يمكن تعلّق الطلب المقدّمي بما هو مبغوض فعلا أعني الخروج ، ولذا يعاقب عليه.

بل نقول : يستلزم ذلك اجتماع الحبّ والبغض في الشيء الواحد بوجه واحد ، فيكون ممتنعا حتى على القول بالجواز ، وذلك لأنّ متعلّق الأمر المقدّمي ليس عنوان المقدّميّة بل ذات الخروج ؛ إذ هو الذي يتوقّف عليه الواجب دون هذا العنوان.

ويمكن الجواب عنه أوّلا بالنقض بما لو وقع في هذه الأرض بغير الاختيار ، فإنّ الخروج مأمور به بناء على المقدّميّة قطعا مع أنّه متّصف بالمبغوضيّة الذاتيّة بلا إشكال ، غاية الأمر أنّ الفاعل معذور ، ولا يعقل تأثير معذوريّة الفاعل في رفع المتضادّين المحبوبيّة والمبغوضيّة.

٢١٢

وثانيا بالحلّ وهو أنّ الفعل لو كان في غاية المبغوضيّة وكان واقعا لا محالة بحيث لا يمكن المخالفة من وجوده في الخارج فلا إشكال في عدم صحّة الزجر عنه وإن صحّ العقاب عليه ، وإذا كان الاضطرار إليه بمقدّمة اختيارية ، فحينئذ لو كان مقدّمة لمطلوب فلا مانع من طلبه مقدّمة لهذا المطلوب ؛ إذ كما أنّ المبغوض الذي سقط عن تأثير الزجر في نفس الآمر لأجل مزاحمة المحبوب الأهم لا يزاحم هذا المحبوب في التأثير كما لو غرق إحدى محارم الشخص في الماء ولم يتمكّن بنفسه من إنقاذها فإنّك هل تجد من نفسك أنّ هذا الشخص لا يأمر أحدا بإنقاذها وتركها حتى يغرق لأجل كراهته من وصول يد هذا الأجنبي إليها ، أو أنّه يرضى بذلك لكون ملاكها أشدّ كراهة عنده من وصول يد هذا الأجنبي إليها ، فكذا المبغوض الساقط عن تأثير الزجر بواسطة لا بدّية وقوعه أيضا لا يزاحم المحبوب وإن كان المحبوب أضعف منه بمراتب.

مثلا لو فرضنا أنّ جميع تصرّفات العبد وأكوانه في مكان مخصوص مبغوض للمولى فوقع فيه إمّا بسوء اختياره أو بدون الاختيار ، ولم يتمكّن من الخروج أبدا فحينئذ لو أمره المولى بخياطة جبّة له في هذا المكان ومع ذلك عاقبه على مطلق التصرّف في هذا المكان إذا كان الوقوع بسوء اختياره ، فهل ترى أنّه فعل قبيحا.

والحاصل أنّ المستحيل هو اجتماع المبغوض المؤثّر للزجر مع المحبوب المؤثّر للبعث في فعل واحد ؛ لمكان التناقض بين نقيضيهما وهما الوجود والعدم ، وأمّا المبغوض الساقط عن تأثير الزجر فلا استحالة في اجتماعه مع المحبوب المؤثّر أصلا ؛ إذ مرجع هذا إلى أنّ الشيء من حيث الذات مبغوض وصار بعد سقوط مبغوضيّة الذاتيّة عن التأثير محبوبا بالعرض ، فلم يجتمع المحبوبيّة والمبغوضيّة فيه في عرض واحد ، بل تعلّق المحبوبيّة بعد سقوط المبغوضيّة عن التأثير.

وأمّا قولكم : يستلزم ذلك اجتماع الحبّ والبغض في الشيء الواحد بوجه واحد ، فلم نفهم معناه ؛ فإنّ الفعل فيما نحن فيه بعنوان أنّه غصب متعلّق للبغض ، وبعنوان أنّه خروج متعلّق للحبّ ، فلم يتّحد متعلّقهما.

٢١٣

واستدلّ للقول الثاني بأنّ الفعل الواحد الذي يكون حسنا بالذات أو بالعنوان الطاري إذا اعتبر فيه جميع ما له دخل في صلاحه وحسنه فمجرّد الاختلاف الزماني لا يعقل أن يوجب تغيير حسنه وقبحه.

نعم يوجب اختلاف الزمان اختلاف الحكم إذا كان لخصوصيّة الزمان مدخل فيه فيكون الفعل في زمان حسنا وفي زمان قبيحا كما في الصوم ، لكن هذا راجع إلى تعدّد الموضوع ، فالخروج الذي هو فعل واحد ولا يتعدّد بتعدّد الزمان ـ بمعنى أنّه ليس هنا خروجان كان أحدهما بطيئا والآخر سريعا ، مثلا إذا كان أحدهما قبل الدخول والآخر بعده ـ لا يعقل أن يكون قبيحا قبل الدخول وحسنا بعده إذا فرض كونه حسنا بعد الدخول لأجل التخلّص به عن الحرام ، فلا بدّ من الحكم به في سائر الأزمان بلا فرق.

والجواب أنّ صيرورة الشيء متعلّقا للحسن والصلاح يكون بأحد نحوين ، الأوّل : أن يكون بنحو الإطلاق ، والثاني : أن يكون بنحو الاشتراط ، فعلى الأوّل يلزم تحصيل القيود ، وعلى الثاني لا يلزم ، بل ربّما يكون مبغوضا كما في الكفارة عقيب إفطار الصوم.

وحينئذ من المعلوم بالوجدان أنّه يمكن أن يكون الشيء الواحد قبيحا مطلقا ، ولذا لزم السعي في المنع من حصول قيده ، ولكن بعد حصول القيد صار حسنا بالعرض كما في التفرّد بضيافة زيد ؛ فإنّه ربّما يكون مبغوضا مطلقا فيسعى في عدم حصول مجيئه حتّى الإمكان ، ولكن بعد حصول المجيء يصير حسنا دفعا للمحذور الأشدّ المترتّب على ترك التفرّد بالضيافة.

وما نحن فيه من هذا القبيل ؛ فإنّ الخروج يكون قبيحا مطلقا ولذا يلزم السعي في عدم حصول قيده وهو الدخول ، وبعد حصوله يصير حسنا بالعرض ، والحاصل أنّ الممتنع هو اجتماع القبح المطلق مع الحسن المطلق في الشيء الواحد ولو في زمانين إلّا في حقّ غيره تعالى الممكن منه النسخ والبداء ، وأمّا اجتماع القبح المطلق مع الحسن المشروط فلا محذور فيه ، وإن شئت قلت : لا استحالة في اجتماع القبح المطلق

٢١٤

مع الحسن المشروط بتقدير عدم تأثير القبح إمّا بمزاحمة الأهمّ أو بلا بدّية حصول متعلّقة.

ومحصّل الكلام في المقام أنّ للمكلّف هنا حالتين ، حالة القدرة بالنسبة إلى الخروج ، وبعبارة اخرى بالنسبة إلى أصل الغصب إيجادا وتركا ، وهي ما قبل الدخول ، وحالة العجز بالنسبة إلى مقدار الخروج وهي ما بعده ، وللخروج أيضا باعتبار هاتين الحالتين حالتان ، ففي الحالة الاولى لا يكون مقدّمة لترك الغصب ، ولذا لا يجب تحصيل مقدّمته وهو الدخول، كما هو شأن مقدّمات الواجب الثابت لها المقدّميّة في جميع الأحوال ؛ فإنّ مقدّمات ومقدّمات مقدّماتها واجبة ، وفي الحالة الثانية يكون مقدّمة له ، وهذا من أوائل البديهيّات. فيكون النهي في الحالة الثانية ساقطا كسقوط النهي عن الفعل بعد الإلقاء من الشاهق ، وفي الحالة الاولى يكون موجودا لعدم المانع منه أصلا.

ثمّ في الحالة الثانية يكون قبحه الذاتي باقيا ، والمدّعى إمكان تعلّق الأمر مع ذلك على القول بالامتناع أيضا ، وذلك لأنّ المانع المتصوّر على هذا القول أمران ، أحدهما تزاحم الجهتين وحصول الكسر والانكسار بينهما في مقام التأثير في نفس الآمر ، والثاني التزاحم والكسر والانكسار بينهما في مقام تبعيد الفاعل وتقريبه ، وكلاهما مفقود في المقام ، أمّا الأوّل فلأنّه لا يعقل أن يصير جهة القبح الغير الموجبة لانقداح الانبعاث في نفس الآمر مزاحمة لجهة الحسن ، وأمّا الثاني فلأنّ الذي يسلم من القائل بالامتناع هو عدم إمكان صيرورة الوجود المبعّد مقرّبا فيما إذا كان ناشئا من اختيار واحد ، كما في الصلاة في الدار المغصوبة ، حيث إنّ الطبيعة الحسنة والخصوصيّة السيّئة فيها مستندتان إلى اختيار واحد ، فالمصلّي باختيار واحد يختار الصلاة والغصب ، وهذا الاختيار يكون سوءا بالفرض ، فلا يكون الوجود المستند إليه إلّا مبعّدا ، لا فيما إذا كان ناشئا من اختيارين أحدهما سوء والآخر خير ، كأن يكون أصل الجامع لهذا الوجود مستندا إلى اختيار سوء والخصوصيّة إلى اختيار آخر خير كما في المقام ؛ فإنّ أصل حقيقة الغصبيّة مستند إلى الاختيار السابق الذي

٢١٥

كان سوء فيكون واجب الوجود لوجود علّته ، وخصوصيّة إيجاد هذا الغصب في موضوع الخروج والتخلّص دون البقاء مستندة إلى اختيار جديد وهو اختيار خير بالوجدان ، فمبعّديّة هذا الوجود باعتبار الاختيار الأوّل ومقرّبيّته باعتبار الاختيار الثاني ، وذلك لوضوح إناطة القرب والبعد على الاختيار ، فالفعل الغير الاختياري لا يكون مقرّبا ولا مبعدا.

ثمّ إنّه ذكر في الكفاية ما حاصله : أنّ الاضطرار إلى الحرام لو كان بمقدّمة غير اختياريّة يوجب لأن يكون ملاك الوجوب على تقدير ثبوته فيه مؤثّرا ، كما كان مباحا من الأصل بلا كلام حتّى على القول بالامتناع إلى أن قال ما حاصله : إنّما الكلام فيما إذا كان الاضطرار إليه بمقدّمة اختياريّة وصار المضطرّ إليه مقدّمة منحصرة للواجب ، فيه أقوال ، واختار بعد ذكرها أنّه منهي عنه بالنهي السابق وليس بمأمور به ،

وقد ذكر قدس‌سره عند ذكر الثمرات بين الأقوال ما حاصله : أنّه لو اضطر المكلّف بسوء اختياره إلى التصرّف في مكان مغصوب فصلاته فيه حال الخروج صحيحة حتّى على القول بعدم كون نفس الخروج مأمورا به ؛ فإنّ هذا لو لا عروض مثل وجه الصلاتي عليه ؛ إذ المفروض غلبة ملاك أمره على ملاك النهي عن الغصب.

وأنت خبير بأنّ المستفاد من هذا الكلام قاعدة كلّية وهي أنّ كلّ فعل غلب فيه ملاك الأمر على ملاك النهي فهو مأمور به ولو كان حراما مضطرّا إليه بسوء الاختيار ، ولا يخفى أنّ جميع موارد الاضطرار إلى أحد محذورين والدوران بين قبيحين أحدهما أخفّ سواء كان من قبيل الأقلّ والأكثر ، كما في مثال من توسّط أرضا مغصوبة ـ حيث دار أمره بين الغصب بمقدار أربع دقائق أو أزيد ـ أم من قبيل المتبانيين كما في من ألقى نفسه في مكان يضطرّ فيه إلى شرب الخمر أو قتل النفس يكون من هذا القبيل ، يعنى يكون ملاك الأمر في الاخفّ وهو كونه سببا للتخلّص عن المحذور الأشدّ أقوى من ملاك النهي الموجود في ذات الأخفّ ، فلا بدّ من القول بكون الأخفّ مأمورا به مطلقا ولو كان الاضطرار بسوء الاختيار.

٢١٦

وحينئذ فما وجه الكلام الأوّل الفارق بين صورتي كون الاضطرار بمقدّمة غير اختيارية وكونه بمقدّمة اختياريّة بالقول في الاولى بوجود الأمر وتخصيص الثانية بالاشكال ثمّ اختيار عدم الأمر؟.

فإن قلت : إثبات الأمر لغلبة ملاكه في مثال من صلّى حال الخروج إنّما هو بالنسبة إلى حيث الصلاتي ، ونفيه لمكان سوء الاختيار إنّما هو بالنسبة إلى حيث الخروجي ، فلا نقض.

قلت : لا يجدي تعدّد الحيثيّة على القول بالامتناع ، والمفروض أنّه قدس‌سره قائل به ، فيقول الخروج المتّحد مع الصلاة في الخروج يكون مأمورا به من أوّل الأمر لغلبة ملاك الأمر ، فكذا شرب الخمر في المثال المذكور.

ثمّ أنّه قدس‌سره في صدر هذا الأمر قسّم الاضطرار إلى الحرام إلى ما كان بمقدّمة غير اختياريّة وما كان بمقدّمة اختياريّة ، وقسّم الثاني إلى ما إذا كان المضطرّ إليه مقدّمة غير منحصرة للواجب ، وما إذا كان مقدّمة منحصرة له ، فجزم في القسم الأوّل بتأثير ملاك الأمر ، وفي الأوّل من قسمي القسم الثاني بعدم تأثيره ، واستشكل في ثانيهما ، ثمّ اختار عدم التأثير ، ومقتضى إطلاق كلامه في القسم الأوّل عدم الفرق بين ما إذا كان المضطرّ إليه مقدّمة منحصرة وما إذا كان مقدّمة غير منحصرة.

وأنت خبير بأنّه في صورة كونه مقدّمة غير منحصرة للواجب يتعيّن الوجوب في المقدّمة الاخرى بلا إشكال ، مثاله من وقع في الأرض المغصوبة بغير اختياره وكان لخروجه منها طريقان أحدهما مباح والآخر مغصوب ؛ فإنّ المتعيّن حينئذ اختيار الطريق المباح.

هذا كلّه على تقدير أن يكون المراد الاضطرار الابتدائي ، وأمّا لو كان المراد الاضطرار حين العمل والارتكاب فيرد على تقسيمه قدس‌سره ـ المضطرّ إليه في القسم الثاني إلى المقدّمة المنحصرة وغيرها ـ أنّه كيف يتصوّر كون الفعل المتّصف بالاضطرار حين وقوعه غير منحصر فيه؟.

٢١٧

فإن قلت : لعلّ التقسيم بالنسبة إلى المقدّميّة وعدمها ، لا بالنسبة إلى الانحصار وعدمه بعد فرض المقدّميّة.

قلت : عدم المقدّميّة ليس إلّا في الاضطرار العقلي ، نظير إهراق الطعام في الفم وهو غير مراد ؛ لعدم صحّة التكليف معه ، وإنّما المراد الاضطرار العرفي الغير المنافي للاختيار المصحّح للتكليف وهو ليس إلّا فيما إذا كان الاضطرار إلى أحد محذورين أو محذورات كان أحدها أخفّ ، وهذا ملازم للمقدّميّة.

ثمّ إنّه قدس‌سره ذكر من جملة الفروع التي ذكرها عند بيان الثمرة أنّ الصلاة في الأرض المغصوبة في سعة الوقت صحيحة على القول بالامتناع ؛ لغلبة ملاكها على ملاك النهي وكون الباقي من ملاكها ملزما ، والصلاة في الأرض المباحة وإن كانت أهمّ لاشتمالها على مصلحتين ملزمتين وهذا موجب لعدم الأمر بهذه الصلاة وإن كان لا يوجب النهي عنها ؛ لكنّ الحقّ كفاية الملاك في صحّة العبادة ، أمّا كون الباقي من ملاكها بعد الغلبة ملزما فللإجماع على تعيّن الصلاة في ضيق الوقت المستكشف منه كون الباقي مصلحة لازمة الاستيفاء ، وأمّا كون الذاهب بالمزاحمة ملزما فإنّ مزاحمة المفسدة الملزمة لا تتأتّى إلّا من المصلحة الملزمة ، وحينئذ فالصلاة المذكورة صحيحة وإن كان المكلّف معاقبا على ترك درك الأهمّ.

وفيه أنّ التزاحم ليس بين الملاكين نفسهما حتّى يحتاج إلى الموازنة بينهما وإنّما هو في مقام تأثيرهما في نفس الأمر ، والموازنة بينهما في هذا المقام إنّما يحتاج إليها إذا كان رفع اليد من أحد الغرضين متحتّما ، وأمّا إذا كان الجمع بينهما ممكنا فاللازم تقييد ذي المندوحة وإن كان أهمّ ، فيكون الصلاة في الأرض المغصوبة في سعة الوقت على هذا باطلة على القول بالامتناع.

الأمر الثاني : قد عرفت أنّ محلّ الكلام ما إذا كان المقتضي في كلا العنوانين محرزا في مورد التصادق وأنّ الواجب بحكم العقل بناء على الامتناع تقييد ذي المندوحة من المقتضيين في مقام الإرادة وإن كان أهمّ. وإذن فلا تفاوت أصلا بين أن يكون الدليلان متعرّضين للحكم الاقتضائي أو أحدهما له والآخر للفعلي أو كلاهما

٢١٨

للفعلي ، فالواجب عقلا في جميع الصور تقييد ذي المندوحة وإن كان دليل غيره متعرّضا للفعليّة وكان أظهر ، وكذا على مبنى صاحب الكفاية قدس‌سره من ترجيح الأقوى والأهمّ مع معلوميّة الأهمّ.

وأمّا لو لم يكن معلوما فإن كان الدليلان متعرضين للحكم الفعلي وكان أحدهما أظهر، فمقتضى الجمع العرفي تحكيم الأظهر على الظاهر وجعله قرينة صارفة له في مورد التصادق ، فيكون مدلول الأظهر فعليّا ، فيستكشف من ذلك أقوائيّته بطريق الإنّ ، ولو تساويا في الظهور فهل يرجع إلى المرجّحات السنديّة ومع فقدها يؤخذ بأحدهما تخييرا اصوليّا، أو يتوقّف من أوّل الأمر ويرجع إلى مقتضي الأصل؟

قولان مبنيّان على أنّ العامّين من وجه في مورد تصادقهما بعد تساويهما في الظهور هل هما مشمولان للأخبار العلاجيّة أو لا ، بل مورد تلك الأخبار ما إذا كان بين مضموني الخبر التباين الكلّي ولم يمكن العمل بكليهما معا أصلا ، والحقّ هو الثاني ، فيكون المرجع هو الأصل ، وعلى تقدير القول بالأوّل يحكم تعبّدا بأقوائيّة ما كان دليله أرجح سندا أو مأخوذا طريقا.

ولو كان الدليلان متعرضين للحكم الاقتضائي فالمرجع هو الأصل بلا كلام ، وهل هو ما ذا؟ فنقول : إمّا أن يكون الشكّ في أصل وجود الأقوى سواء كان على تقدير وجوده معلوم الوجود في أحد الطرفين بعينه أو مشكوكا أيضا ، وإمّا أن يكون في تعيينه مع العلم بأصل وجوده ، ففي الأوّل مقتضى أصالة البراءة عن التكليف الايجابي والتحريمي تساوي الملاكين ، فيكون الفعل مباحا ، ولكن يكون عبادة ومسقطا للأمر ؛ لفرض وجود ملاك الأمر فيه مع عدم كونه مبعّدا بمقتضى الأصل المزبور ، وفي الثاني مقتضى الأصل في جانب النهي عدم العقاب على هذا الفعل الخاص ، وفي جانب الأمر الاجتزاء بهذا الفرد ؛ لرجوع الشكّ في الأوّل إلى أنّ التحريم هل يسري إلى هذا الخاص أولا ، وفي الثاني إلى أنّ المطلوب هل هو المطلق أو المقيّد بالوقوع في غير المكان المغصوب ، فيكون طرفا الشك من قبيل الأقلّ والأكثر الارتباطيين ، والمرجع فيهما البراءة.

٢١٩

وكيف كان لمّا بنوا في هذا الباب على ما هو المبنى في باب الدوران بين المتزاحمين من ترجيح أقوى المناطين احتاجوا إلى ذكر وجوه لتعيين الأقوى :

فمنها : أظهريّة دلالة دليل الحرمة من دليل الوجوب ، فيستكشف بطريق الإنّ أقوائيّة مناط الحرمة دائما فيما إذا كان الدليل على كلّ واحد من الوجوب والحرمة لفظيّا ومتكفّلا للحكم العقلي.

وتوضيحه أنّ دلالة النهي على سراية الحرمة إلى جميع أفراد الطبيعة أقوى من دلالة الأمر على سريان الوجوب إلى جميعها ، وذلك لأنّ الاولى مسبّبة عن الوضع ، والثانية مستندة إلى الإطلاق بمعونة مقدّمات الحكمة ، والظهور الوضعي يقدّم على الظهور الإطلاقي عند التعارض.

ووجهه على ما قرّره شيخنا المرتضى قدس‌سره في مبحث التعادل والتراجيح من الرسائل أنّ انعقاد الظهور الإطلاقي متقوّم ومتوقّف على مقدّمات تسمّى بمقدّمات الحكمة ، ومن جملتها عدم البيان ، ولا شكّ أنّ الظهور الوضعي هو البيان فيكون له الورود على الإطلاقي بمعنى أنّه ينتفي بسببه موضوع الإطلاقي.

وفيه نظر ؛ لأنّ الظهور الإطلاقي إنّما يتقوّم بعدم البيان المتّصل لا بعدم البيان المطلق ولو كان منفصلا ، بمعنى أنّ المتكلّم ما دام مشتغلا بالكلام لو لم يذكر ما يصلح للقيديّة ثمّ فرغ وكان سائر مقدّمات الحكمة موجودة انعقد من هذا الحين الظهور الإطلاقي ، لا أنّ انعقاده مشروط بعدم ورود البيان ولو بعد أزمان ، فلو ورد بعد ذلك ظهور وضعي مناف له كان من باب التعارض بين الظهورين ، فلا بدّ من مراعاة الأقوى بينهما وربّما كان هو الإطلاقي ، وبالجملة فالحكم بتقديم الوضعي على الإطلاقي بمجرّد كونه إطلاقيّا وبطريق الكليّة ممنوع.

وقد يخدش في أصل الدليل بأنّ الطبيعة كما يصلح للإطلاق كذلك يصلح للتقييد ، فدلالة اللفظ الموضوع لها على خصوص الإطلاق يحتاج إلى معونة مقدّمات الحكمة ، من غير فرق في ذلك بين وقوعه في حيّز الإثبات أو النهي ، فكما أنّ إسراء الحكم الوجوبي المستفاد من الأمر إلى جميع أفراد الطبيعة يحتاج إلى تلك المقدّمات ،

٢٢٠