أصول الفقه - ج ١

آية الله الشيخ محمد علي الأراكي

أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمد علي الأراكي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٠٤
الجزء ١ الجزء ٢

الإطلاق أيضا بالنسبة إليهما ، بل الطلب متعلّق بذات الفعل مع قطع النظر عنها إطلاقا وتقييدا وهو يقتضي إيجاد الفعل ، ولو لم يوجد يستحقّ العقاب وهذا واضح.

وقد ذكروا وجوها آخر غير ناهضة على المطلوب طوينا ذكرها اقتصارا على ما هو الأهمّ في الباب وهو الهادي إلى الصواب.

الأمر السابع

في بعض من الكلام في مقدّمات الحرام ، وليعلم أوّلا أنّ الالتزام بحرمة مقدّمة الحرام بقصد التوصّل إليه ليس قولا بحرمة مقدّمة الحرام ؛ لأنّ هذا من جزئيات مسألة التّجري ، فعدّ بعض الأساطين حرمة مقدّمات الحرام بقصد التوصّل إلى ذيها من باب مقدّمة الحرام ، واقتضاء النهي المتعلّق بذيها لها ممّا لم يعرف له وجه ؛ لأنّ الجهة المقبحة الموجودة في إتيان المقدّمة بقصد التوصّل إلى الحرام ليست منوطة بوجود محرّم واقعي تكون هذه المأتي بها بقصد التوصّل مقدّمة له ، بل هي بعينها موجودة فيما لو اعتقد حرمة شيء وأتى بمقدماته بقصد التوصّل إليه ولم يكن ذلك الشيء محرّما في الواقع ، أو اعتقد مقدّميّة شيء لمحرّم وأتى به بقصد التوصّل إلى ما اعتقد ترتّبه عليه.

وأعجب من ذلك قياسه بباب مقدّمة الواجب ؛ فإنّ ما تحقّق هناك أنّ إتيان ذات المقدّمة من دون قصد التوصّل إلى ذيها لا يعدّ إطاعة ، لا أنّ موضوع الطلب التبعي هو الفعل المقرون بهذا القصد.

وكيف كان المهمّ في هذا الباب بيان أنّ المقدّمات الخارجيّة للحرام هل تتّصف بالحرمة نظير ما قلنا في المقدمات الخارجيّة للواجب ، أم لا تتّصف أصلا ، أم يجب التفصيل بينها؟.

فنقول : إنّ العناوين المحرّمة على ضربين ، أحدهما : أن يكون العنوان بما هو مبغوضا من دون تقييده بالاختيار وعدمه من حيث المبغوضيّة وإن كان له دخل في استحقاق العقاب ؛ إذ لا عقاب إلّا على الفعل الصادر عن اختيار الفاعل ، والثاني :

١٦١

أن يكون الفعل الصادر عن إرادة واختيار مبغوضا بحيث لو صدر عن غير اختياره لم يكن منافيا لغرض المولى.

فعلى الأوّل علّة الحرام هي المقدّمات الخارجيّة من دون مدخليّة الإرادة بل هي علّة لوجود علّة الحرام ، وعلى الثاني تكون الإرادة من أجزاء العلّة التامّة.

إذا عرفت هذا فنقول : نحن إذا راجعنا وجداننا نجد الملازمة بين كراهة الشيء وكراهة العلّة التامّة له من دون سائر المقدّمات ، كما إذا راجعنا الوجدان في طرف إرادة الشيء نجد الملازمة بينها وبين إرادة كلّ واحد من مقدّماته ، وليس في هذا الباب دليل أمتن وأسدّ منه ، وما سوى ذلك ممّا أقاموه غير نقّي عن المناقشة.

وعلى هذا ففي القسم الأوّل إن كانت العلّة التامّة مركبّة من امور تتّصف المجموع منها بالحرمة وتكون إحدى المقدّمات لا بشخصها محرّمة إلّا إذا وجد باقي الأجزاء وانحصر اختيار المكلّف في واحد منها فيحرم عليه شخصا من باب تعيّن أحد أفراد الواجب التخييري بالعرض فيما إذا تعذّر الباقي ، فإنّ ترك أحد الأجزاء واجب على سبيل التخيير ، فإذا وجد الباقي وانحصر اختيار المكلّف في واحد معيّن يجب تركه معيّنا.

وأمّا القسم الثاني أعني : فيما إذا كان الفعل المقيّد بالإرادة محرّما فلا تتّصف الأجزاء الخارجيّة بالحرمة ، لأنّ العلّة التامّة للحرام هي المجموع المركّب منها ومن الإرادة ، ولا يصحّ استناد الترك إلّا إلى عدم الإرادة ؛ لأنّه أسبق رتبة من سائر المقدمات الخارجيّة.

فقد فهم ممّا ذكرنا أنّ القول بعدم اتّصاف المقدّمات الخارجيّة للحرام بالحرمة مطلقا لسبق رتبة الصارف وعدم استناد الترك إلّا إليه مطلقا ممّا لا وجه له ، بل ينبغي التفصيل ؛ لأنّه في القسم الأوّل لو فرض وجود باقي المقدّمات مع عدم الإرادة تحقّق المبغوض قطعا ، فعدم إحداها علّة لعدم المبغوض فعلا.

وأمّا في القسم الثاني لو فرضنا وجود باقي المقدّمات مع الصارف لم يتحقّق المبغوض لكونه مقيّدا بصدوره عن الإرادة ، فالمقدّمات الخارجيّة من دون انضمامها

١٦٢

إلى الإرادة لا يوجد المبغوض ، ففي طرف العدم يكفي عدم إحدى المقدّمات ، ولمّا كان الصارف أسبق رتبة منها يستند ترك المبغوض إليه دون الباقي ، فيتّصف بالمحبوبيّة دون ترك إحدى المقدّمات الخارجيّة ، فلا يكون فعلها متّصفا بالحرمة.

«فصل»

هل الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه الخاص أم لا؟ أقول : لمّا كانت المسألة مبنيّة على مقدّميّة ترك الضد لفعل ضدّه فاللازم التكلّم فيها ، فنقول : هل ترك الضد مقدّمة لفعل ضدّه ، أو فعله مقدّمة لترك ضدّه ، أو كلّ منهما مقدّمة للآخر أي ترك الضدّ مقدّمة لفعل ضدّه وفعل الضدّ أيضا مقدّمة لترك ضدّه ، أم لا توقّف في البين؟ والمعروف من تلك الاحتمالات هو الأوّل والأخير ، فلا نتعرّض لغيرهما ، وستطلع على بطلانه في أثناء البحث.

والقائل بتوقّف فعل الضد على ترك ضدّه الآخر إمّا أن يقول به مطلقا كما عليه جلّ أرباب هذا القول ، أو تفصيل بين الرفع والدفع ، بمعنى أنّه لو كان الضدّ موجودا وأراد إيجاد الآخر يتوقّف إيجاده على رفع ضدّه ، وإن لم يكن موجودا وأراد إيجاد ضدّه لم يكن موقوفا على ترك الضدّ.

ثمّ إنّ وجه التوقّف يمكن أن يكون أحد امور ثلاثة ، الأوّل أن يقال : بأنّ ترك الضدّ ابتداء مقدّمة لفعل الضد ، والثاني : أن يكون مقدّميّة الترك من باب مانعيّة الفعل ، والثالث: أن يكون من جهة عدم قابليّة المحلّ ؛ فإنّ المحلّ لمّا لم يكن قابلا لأن يرد عليه كلاهما فصار وجود كلّ منهما متوقّفا على خلوّ المحلّ عن الآخر.

وكيف كان فلنشرع فيما هو المقصود وقبل ذكر أدلّة الطرفين لا بدّ وأن يعلم حكم حال الشكّ لنرجع إليه إذا عجزنا عن القطع بأحد الطرفين.

فنقول : لو شكّ في كون ترك الضدّ مقدّمة بعد علمه بوجوب مقدّمة الواجب وعلمه بوجوب فعل الضدّ الآخر ، فهل الأصل يقتضي الحكم بصحّة العمل إن كان من العبادات أو الفساد؟ قد يقال بالأوّل ؛ لأنّ فعليّة الخطاب مرتفعة بواسطة الشكّ

١٦٣

خصوصا في الشبهة الموضوعيّة التي قد أطبقت على إجراء البراءة فيها كلمة العلماء رضوان الله عليهم من الاصوليين والأخباريين ، وإذا لم يكن الوجوب فعليّا لا مانع لصحّة العمل ؛ لأنّ المانع قد تحقّق في محلّه أنّه الوجوب الفعلي ؛ ولذا أفتى العلماء بصحّة الصلاة في الأرض المغصوبة في صورة نسيان الغصبيّة ، ولو انكشف الخلاف بعد ذلك لم يجب عليه الإعادة والقضاء ، وما نحن فيه من هذا القبيل.

وأوضح من ذلك صورة القطع بعدم المقدّميّة وانكشف بعد ذلك خطاء قطعه ؛ فإنّ الحكم بفساد صلاته موجب لفعليّة الخطاب حين القطع بعدمه.

والحقّ أنّ الشكّ في المقام ليس موردا لأصالة البراءة لا عقلا ولا شرعا ، أمّا الأوّل فلأنّ مقتضاها هو الأمن من العقاب على مخالفة التكليف الواقعي على تقدير ثبوته ولا يمكن جريانها هنا ؛ لأنّ العقاب لا يترتّب على مخالفة التكليف المقدّمي ولا يمكن الحكم بسقوط العقاب عن التكليف النفسي إذا استند تركه إلى هذه المقدّمة المشكوك مقدّميتها ؛ لأنّ التكليف النفسي معلوم ونعلم أنّ الإتيان به ملازم لهذا الترك الذي يحتمل كونه مقدّمة ، إنّما الشكّ في أنّ هذا الترك الذي قد علم كونه ملازما لفعل الواجب المعلوم هل هو مقدّمة أم لا ، وهذا لا يوجب سقوط العقاب عن الواجب النفسي المعلوم كما هو واضح.

وأمّا الثاني فلأنّه على تقدير كون الترك مقدّمة فالوجوب المتعلّق به بحكم العقل على حدّ الوجوب المتعلّق بفعل ضدّه ، فكما أنّه في هذا الحال يكون فعليّا منجّزا ، كذلك مقدّمته ، وعلى هذا الفرض لا يعقل الترخيص ، والمفروض احتمال تحقّق الفرض في نظر الشاك وإلّا لم يكن شاكّا ، ومع هذا الاحتمال نشكّ في إمكان الترخيص وعدمه عقلا ، فلا يمكن القطع بالترخيص ولو في الظاهر.

لا يقال : بعد احتمال كون الترخيص ممكنا لا مانع من التمسّك بعموم الأدلّة الدالّة على إباحة جميع المشكوكات واستكشاف الإمكان بالعموم الدالّ على الفعليّة.

لأنّا نقول : فعلى هذا يلزم من ثبوت هذا الحكم عدمه ؛ إذ لو بنينا على انكشاف الإمكان بعموم الأدلّة فاللازم الالتزام بدلالة العموم على عدم كون ترك الضدّ

١٦٤

مقدّمة ؛ إذ مع بقاء هذا الشكّ لا يمكن انكشاف الإمكان ، فلو علم من عموم الحكم عدم كون ترك الضدّ مقدّمة فلا مجرى له ؛ لأنّ موضوعه الشكّ ، وبالجملة فلا أرى وجها لجريان أصالة الإباحة في المقام ، هذه خلاصة الكلام في حكم الشكّ فلنعد إلى أصل البحث.

فنقول : الحقّ كما ذهب إليه الأساطين من مشايخنا هو عدم التوقّف والمقدّمية لا من جانب الترك ولا من جانب الفعل ، أمّا عدم كون ترك الضدّ مقدّمة لفعل ضدّه فلأنّ مقتضى مقدّميته لزوم ترتّب عدم ذي المقدّمة على عدمه ؛ لأنّه معنى المقدّميّة والتوقّف ، فعلى هذا يتوقّف عدم وجود الضدّ على عدم ذلك الترك المفروض كونه مقدّمة وهو فعل الضدّ الآخر ، والمفروض أنّ فعل الضدّ أيضا يتوقّف على ترك ضدّه الآخر ، ففعل الفعل يتوقّف على ترك ضدّه كما هو المفروض ، وترك الضدّ يتوقّف على فعل ضدّه ، لأنّه مقتضى مقدميّة تركه.

هذا مضافا إلى عدم إمكان تأثير العدم في الوجود وهو من الواضحات وإلّا لأمكن انتهاء سلسلة الموجودات إلى العدم.

وأمّا عدم كون فعل الضدّ علّة ومؤثّرا في ترك ضدّه فلأنّه لو كان كذلك لزم مع عدمه وعدم موجود يصلح لأن يكون علّة لشيء إمّا ارتفاع النقيضين ، أو تحقّق المعلول بلا علّة ، أو استناد الوجود إلى العدم ، بيان ذلك أنّه لو فرضنا عدم الفعل الذي فرضناه علّة لعدم الضد وعدم كلّ شيء من الممكنات ، يصلح لأن يكون علّة لشيء فلا يخلو الواقع من امور؛ لأنّك إمّا أن تقول بوجود ذلك الفعل الذي كان عدمه معلولا أم لا.

فعلى الأوّل يلزم استناد الوجود إلى العدم ؛ إذ المفروض عدم وجود شيء في العالم يصلح لأن يكون علّة ، وعلى الثاني إمّا أن نقول بتحقّق العدم المفروض معلولا أم لا ، فعلى الثاني يلزم ارتفاع النقيضين ، وعلى الأوّل يلزم تحقّق المعلول بلا علّة ، مضافا إلى أنّ مقتضى كون الفعل علّة لترك ضدّه كون تركه مقدّمة لفعل ضدّه الآخر ؛ لأنّ عدم المانع شرط فيلزم الدور.

١٦٥

فإن قلت : إنّ الدور الذي أوردت على القائل بمقدّمية ترك الضدّ لفعل ضدّه الآخر إنّما يتوجّه لو التزم بكون الفعل أيضا علّة للترك وهو لا يلتزم به وإنّما يقول بكون ترك الضدّ مستندا إلى الصارف لكونه أسبق من الفعل رتبة ، ومعلوم أنّ المعلول إذا كانت له علل فهو يستند إلى أسبق علله ، فحينئذ يقول بأنّ فعل الضدّ يتوقّف على ترك ضدّه الآخر ، ولكن ترك الضدّ لا يتوقّف على فعل ضدّه الآخر ، بل يكفي فيه الصارف ، فاندفع بذلك الدور.

قلت : الاستناد الفعلي وإن كان إلى الصارف ليس إلّا لما ذكر من كونه أسبق العلل ، إلّا أنّه يكفي في البطلان وقوع الفعل في مرتبة علّة الترك ؛ لاستلزام ذلك التقدّم عليه مع كون الترك أيضا مقدّما على الفعل بمقتضى مقدّميّته ؛ لأنّ وجه بطلان الدور تقدّم الشيء على نفسه وهذا الوجه موجود هنا بعينه ؛ فإنّ ترك الضدّ بمقتضى المقدّميّة مقدّم طبعا على فعل ضدّه ، وكذلك فعل الضدّ بمقتضى شأنيته للعليّة يجب أن يكون مقدّما على ترك ضدّه ، فترك الضدّ مقدّم على فعل ضدّه الذي هو مقدّم على ذلك الترك ، فيجب أن يكون ترك الضدّ مقدّما على نفسه وكذلك فعل الضدّ.

وممّا ذكرنا يظهر عدم الفرق بين الرفع والدفع ؛ لأنّ البرهان الذي ذكرناه على عدم التوقّف يجري فيهما على نهج واحد ، وأنت إذا تأمّلت فيما ذكرنا لم تجد بدّا من القول بعدم التوقّف ، فلا نطيل المقام بذكر ما أوردوه في بيان المقدّمة والمناقشة فيه. إنّما المهمّ التعرّض للمسألة التي فرّعوها على مقدّميّة ترك الضدّ وعدمها أعني بطلان فعل الضدّ ولو كان عباديّا ـ وقد وجب ضدّه ـ على الأوّل ، وصحّته على الثاني.

فنقول : أمّا بناء على كون ترك الضدّ مقدّمة فلا إشكال في بطلان العمل بناء على بطلان اجتماع الأمر والنهي ، بل قد يقال بالبطلان حتّى على القول بإمكان الاجتماع ؛ لأنّ محلّ النزاع في مسألة جواز اجتماع الأمر والنهي فيما إذا كان هناك عنوانان يتّفق تحقّقهما في وجود واحد ، وليس المقام من هذا القبيل ؛ لأنّ عنوان المقدّميّة ليس ممّا امر به ؛ لأنّه ليس ممّا يتوقّف عليه المطلوب ، بل المطلوب إنّما يتوقّف على نفس ترك الصلاة مثلا إذا كان ضدّه مطلوبا ، فلو جاز تعلّق الأمر بها لزم اجتماع

١٦٦

الأمر والنهي في شيء واحد فيكون ذلك من باب النهي في العبادات ، هذا على القول بكون ترك الضد مقدّمة.

وأمّا على القول بعدم مقدّميته فإن قلنا بكفاية الجهة في صحّة العبادة وإن لم يتعلّق به الأمر لمانع عقليّ كما هو الحق فلا إشكال في الصّحة.

وأمّا لو لم نقل بكفاية الجهة فيشكل الأمر بأنّ الأمر بالضدّ وإن لم يقتض النهي عن ضدّه لعدم المقدميّة ، ولكنّه يقتضي عدم الأمر به ، لامتناع الأمر بإيجاد الضدّين في زمان واحد ، وحيث لا أمر فلا يقع صحيحا ؛ لأنّ المفروض عدم كفاية جهة الأمر في الصحّة ، فالمناص حينئذ منحصر في تصحيح تعلّق الأمر فعلا بالضدّ مع كون ضدّه الآخر مأمورا به ، والذي يمكن أن يكون وجها لذلك أحد أمرين :

الأوّل : ما نقل عن بعض الأساطين قدس‌سره من أنّ الأمر بالضدّ إنّما ينافي الأمر بضدّه الآخر لو كانا مضيّقين ، أمّا لو كان أحدهما مضيّقا والآخر موسّعا فلا مانع من الأمر بكليهما ؛ لأنّ المانع ليس إلّا لزوم التكليف بما لا يطاق ، وهذا المانع منحصر فيما إذا كانا مضيّقيين ؛ إذ لو كان أحدهما موسّعا فلا يلزم ذلك قطعا سواء كان الآخر موسّعا أيضا أم لا ، وأيّ مانع من أن يقول المولى لعبده : اريد منك من أوّل الظهر إلى الغروب إنقاذ هذين الغريقين ، أو يقول : اريد منك إنقاذ هذا الغريق فعلا واريد منك أيضا إنقاذ الغريق الآخر في مجموع الوقت الذي يكون أعمّ من هذا الوقت وغيره.

أقول : تماميّة ما أفاده قدس‌سره مبنيّ على مقدّمتين :

إحداهما : أن يكون الوقت المضروب ظرفا للواجب من قبيل الكلّي الصادق على جزئيات الوقت ، فيصير المحصّل من التكليف بصلاة الظهر إيجاب إيجاد الصلاة في طبيعة الوقت المحدود بحدّين ؛ إذ لو كان التكليف راجعا إلى التخيير الشرعي بين الجزئيات من الأزمنة فلا يصحّ ذلك ؛ لأنّ البعث على غير المقدور قبيح عقلا وإن كان على سبيل التخيير بينه وبين فعل آخر مقدور ، ألا ترى قبح الخطاب التخييري بين الطيران إلى السماء وإكرام زيد مثلا.

١٦٧

والثانية : أنّ الأمر بالطبيعة لا يستلزم السراية إلى الأفراد وإلّا لكان اللازم منه المحذور الأوّل بعينه ، وحيث إنّ عدم السراية إلى الأفراد هو المختار ـ كما يجيء تحقيقه في مسألة اجتماع الأمر والنهي إن شاء الله ولا يبعد صحّة المقدّمة الاولى ـ فلا بأس بالالتزام بتحقّق الأمر الفعلي بالصلاة في مجموع الوقت مع إيجاب ضدّها في أوّل الوقت مضيّقا ، بل يمكن أن يقال : لا مانع من الأمر حتى على القول بالتخيير الشرعي أو على القول بسراية حكم الطبيعة إلى الأفراد ؛ لأنّ المانع من التكليف بما لا يطاق ليس إلّا اللغويّة وهو مسلّم فيما إذا كان نفس الفعل غير مقدور كالطيران إلى السماء.

وأمّا إذا كان نفسه مقدورا كما في ما نحن فيه ـ غاية الأمر يجب عليه بحكم العقل امتثال أمر آخر من المولى ولا يقدر مع الامتثال إتيان فعل آخر ـ فلا يلزم اللغويّة ؛ إذ يكفي في ثمرة وجود الأمر أنّه لو أراد المكلّف عصيان الواجب المعيّن يقدر على إطاعة هذا الأمر ، ومن ذلك يظهر أنّ قياس مقامنا هذا بمثال الطيران إلى السماء ليس في محلّه.

والوجه الثاني ؛ ما أفاده سيّد مشايخ عصرنا الميرزا الشيرازي «قدّس الله تربته الطاهرة» ، وشيّد أركانه وأقام برهانه تلميذه الجليل والنحرير الذي ليس له بديل سيّدنا الاستاذ السيّد محمّد الاصفهاني جزاهما الله عن الإسلام وأهله أفضل الجزاء وهو : أن يتعلّق الأمر أوّلا بالضدّ الذي يكون أهمّ في نظر الآمر مطلقا من غير التقييد بشيء ثمّ يتعلّق أمر آخر بضدّه متفرّعا على عصيان ذلك الأمر الأوّل.

توضيح هذا المطلب وتنقيحه يستدعي رسم مقدّمات :

الاولى ولعلّها العمدة في هذه المسألة توضيح الواجب المشروط ، وهو وإن مرّ في مبحث مقدّمة الواجب مفصّلا إلّا أنّه لا بدّ من أن نشير إليه ثانيا توضيحا لهذه المسألة التي نحن بصددها.

فنقول وعلى الله التوكّل : إنّ الإرادة المنقدحة في النفس المتعلّقة بالعناوين على ضربين، تارة يكون على نحو تقتضي إيجاد متعلّقها بجميع ما يتوقّف عليه من دون

١٦٨

إناطتها بوجود شيء أو عدمه ، واخرى على نحو لا يقتضي إيجاد متعلّقها إلّا بعد تحقّق شيء آخر وجودي أو عدمي ، مثلا إرادة إكرام الضيف تارة يكون على نحو يوجب تحريك المريد إلى تحصيل الضيف وإكرامه ، واخرى على نحو لا يوجب تحريكه إلى تحصيل الضيف ، بل يقتضي إكرامه على تقدير مجيئه.

ثمّ إنّ الثاني على أنحاء ، تارة يقتضي إيجاد متعلّقها بعد تحقّق ذلك الشيء المفروض وجوده في الخارج ، كما في مثال أكرم زيدا إن جاءك ، واخرى يقتضي إيجاده مقارنا له ، كما في إرادة الصوم مقارنا للفجر إلى غروب الشمس ، وكما في إرادة الوقوف في العرفات مقارنا لأوّل الزوال إلى الغروب وأمثال ذلك ، وتارة يقتضي إيجاده قبل تحقّق ذلك الشيء كما لو أراد استقبال زيد في اليوم على تقدير مجيئه غدا.

وهذه الأنحاء الثلاثة كلّها مشتركة في أنّها مع عدم العلم بتحقّق ذلك المفروض تحقّقه لا تؤثّر الإرادة في نفس الفاعل ، كما أنّها مشتركة في أنّه على تقدير العلم بذلك يؤثّر في الجملة ، إنّما الاختلاف في أنّه على تقدير الأوّل العلم بتحقق ذلك في الزمن الآتي لا يوجب تحريك الفاعل إلى نحو المراد ؛ لأنّ المقصود إيجاد الفعل بعد تحقّق ذلك الشيء لا قبله.

نعم لو توقّف الفعل في زمان تحقّق ذلك الشيء على مقدّمات قبل ذلك اقتضت الإرادة المتعلقة بذلك الفعل على تقدير وجود شيء خاص إيجاد تلك المقدّمات قبل تحقّق ذلك الشيء ، كما نرى من أنفسنا أنّ الإنسان لو أراد إكرام زيد على تقدير مجيئه وعلم بمجيئه في الغد وتوقّف إكرامه في الغد على مقدّمات قبله يهيّئ تلك المقدّمات ، وهكذا حال إرادات الآمر ، فلو أمر المولى بإكرام زيد على تقدير مجيئه ويعلم العبد بتحقّق مجيئه غدا ويتوقّف إكرامه غدا على إيجاد مقدّمات في اليوم يجب عليه إيجادها ، ولا عذر له عند العقل لو ترك تلك المقدّمات ، وهذا واضح لا ستر عليه.

وعلى التقدير الثاني باعثيّة الإرادة بالنسبة إلى الفاعل إنّما يكون بالعلم بتحقّق ذلك الشيء المفروض وجوده في الآن الملاصق للآن الذي هو فيه ، كما أنّه على

١٦٩

الثالث تؤثّر إذا علم بتحقّقه في الزمن الآتي.

وإن شئت قلت : هذه الإرادة المعلّقة على وجود شيء إذا انضمّ إليها العلم بتحقّق ذلك الشيء يقتضي إيجاد كلّ من الفعل ومقدّماته في محلّه ، فمحلّ الإكرام في الفرض الأوّل بعد تحقّق المجيء ، ومحلّ مقدّماته قبله ، ومحلّ الفعل في المثال الثاني مقارن للشرط ، ومحلّ مقدّماته قبله ، كما في الوقوف في العرفات مقارنا للزوال ، ومحلّ الفعل في المثال الثالث قبل تحقّق الشرط.

والحاصل أنّه لا نعني بالواجب المشروط إلّا الإرادة المتعلّقة بالشيء مبتنية على تحقّق أمر في الخارج ، وهذه الإرادة لا يعقل أن تؤثّر في نفس الفاعل إلّا بعد الفراغ من حصول ذلك الأمر. وبعبارة اخرى : هذه الإرادة من قبيل جزء العلّة لوجود متعلّقها ؛ وإذا انضمّ إليها العلم بتحقّق ذلك الشيء تؤثّر في كلّ من الفعل ومقدّماته في محلّه كما عرفت ، فالإرادة المبتنية على أمر مقدّر ـ سواء علم بتحقّق ذلك الأمر أم لم يعلم بل ولو علم عدمه ـ موجودة ولكن تأثيرها في الفاعل يتوقّف على العلم بتحقّق ذلك الأمر.

المقدّمة الثانية : أنّ الإرادة المبتنية على تقدير أمر في الخارج لا يعقل أن تقتضي إيجاد متعلّقها على الإطلاق ، أي سواء تحقّق ذلك المقدّر أم لا ، وإلّا خرجت عن كونها مشروطة بوجود شيء ، فمتى ترك الفعل بترك الأمر المقدّر لا يوجب مخالفة لمقتضي الإرادة ، نعم المخالفة إنّما تتحقّق فيما إذا ترك مع وجود ذلك المقدّر ، وهذه المقدّمة في الوضوح بمثابة لا تحتاج إلى البرهان.

المقدّمة الثالثة : أنّ الإرادة المتعلّقة بشيء من الأشياء لا يمنع وجودها كون المأمور بحيث يترك في الواقع أو يفعل ؛ إذ لا مدخليّة لهذين الكونين في قدرة المكلّف ، فالإرادة مع كلّ من هذين الكونين موجودة ، ولكن لا يمكن أن يلاحظ الآمر كلّا من تقديري الفعل والترك في المأمور به لا إطلاقا ولا تقييدا.

أمّا الثاني فواضح ؛ لأنّ إرادة الفعل على تقدير الترك طلب المحال ، وإرادة الفعل على تقدير الفعل طلب الحاصل ، وأمّا الأوّل فلأنّ ملاحظة الإطلاق فرع إمكان

١٧٠

التقييد ، وحيث يستحيل الثاني يستحيل الأوّل ، فالإرادة تقتضي إيجاد ذات متعلّقها لا أنّها تقتضي إيجاده في ظرف عدمه ولا إيجاده في ظرف وجوده ولا إيجاده في كلا الحالين ؛ لأنّ هذا النحو من الاقتضاء يرجع إلى طلب الشيء مع نقيضه أو مع حصوله ، فظهر أنّ الأمر يقتضي وجود ذات الفعل من دون ملاحظة تقييد الفعل بالنسبة إلى الحالتين المذكورتين ، ولا إطلاقه بالنسبة إليهما.

نعم الأمر المتعلّق بذات الفعل موجود سواء كان المكلّف ممّن يترك أو يفعل ولكن هذا الأمر الموجود يقتضي عدم تحقّق الترك وتحقّق الوجود لا أنّه يقتضي الوجود على تقدير الترك، وبعبارة اخرى : الأمر يقتضي عدم تحقّق هذا المقدّر لا أنّه يقتضي وجود الفعل في فرض وقوعه ؛ لأنّ الثاني يرجع إلى اقتضاء اجتماع النقيضين دون الأوّل ، فافهم فإنّه لا يخلو عن دقة.

المقدّمة الرابعة : أنّه لم يرد في خبر ولا في آية بطلان تعلّق الأمرين بالضدّين في زمان واحد حتّى نتمسّك بإطلاق ذلك الخبر أو تلك الآية في بطلانه حتّى في المقام ، إنّما المانع حكم العقل بقبح التكليف بما لا يطاق وهو منحصر فيما إذا كان الطلبان بحيث يقتضي كلّ واحد منهما سلب قدرة المكلّف عن الإتيان بمقتضى الآخر لو أراد الإتيان بما يقتضيه ، أمّا لو كانا بحيث لا يوجب ذلك فلا مانع أصلا.

إذا عرفت المقدّمات المذكورة فنقول : لو أمر الآمر بإيجاد فعل مقارنا لترك ضدّه الآخر فهذا الأمر باعث في نفس المأمور لو علم بتحقّق ذلك الترك في الآن المتّصل بالآن الذي هو فيه ؛ إذ لو صبر إلى أن يتحقّق ذلك الترك لم يقع المأمور به بالعنوان الذي امر به وهو المقارنة، فمحلّ تأثير هذا الأمر في نفس المأمور إنّما يكون مقارنا لوقوع الترك ، فيجب أن يؤثّر في ذلك المحلّ بمقتضى المقدّمة الاولى ، وهذا الأمر المبتني على ترك الضدّ لا يوجب التأثير في المتعلّق مطلقا حتّى يستلزم لا بدّية المكلّف من ترك الضدّ بحكم المقدّمة الثانية ، والأمر المتعلّق بالضد الآخر الذي فرضناه مطلقا لا يقتضي إيجاد المتعلّق في ظرف عدمه بحكم المقدّمة الثالثة حتّى يلزم منه وجود التكليف بالضدّين في ظرف تحقّق هذا الغرض ، بل الأمر بالأهمّ يقتضي عدم

١٧١

تحقّق هذا الغرض ، والأمر بالمهم يقتضي إيجاده على تقدير تحقّق الغرض.

ومن هنا يتّضح عدم تحقّق المانع العقلي في مثل هذين الأمرين ؛ لأنّ المانع كما عرفت ليس إلّا لزوم التكليف بما لا يطاق ؛ لأنّ ذلك إنّما يلزم من الخطابين لو كانا بحيث يلزم من امتثال كلّ منهما معصية الآخر ، وقد عرفت أنّه لا يلزم منهما فيما نحن فيه ذلك ؛ لأنّ المكلّف لو امتثل الأمر الأهمّ لم يعص الأمر الآخر الذي تعلّق بالمهم ، إنّما ترتّب على هذا الامتثال انتفاء ما كان شرطا للأمر المهم ، وقد عرفت أنّ عدم إتيان الواجب المشروط بترك شرطه ليس مخالفة للواجب.

والحاصل أنّه لا يقتضي وجود الخطابين بعث المكلّف على الجمع بين الضدّين ، وممّا يدلّك على هذا أنّه لو فرضنا محالا صدور الضدّين من المكلّف لم يقع كلاهما على صفة المطلوبيّة ، بل المطلوب هو الأعمّ لا غير ، لعدم تحقّق ما هو شرط لوجوب المهمّ.

فإن قلت : سلّمنا إمكان الأمر بالضدّين على نحو قرّرته ولكن بم يستدلّ على الوقوع فيما إذا وجب الإزالة عن المسجد مطلقا وكان في وقت الصلاة ؛ فإنّ حمل دليل الصلاة على وجوب المعلّق على ترك إزالة النجاسة يحتاج إلى دليل.

قلت : المفروض أنّ المقتضي لوجوب الصلاة محقّق بقول مطلق وليس المانع إلّا حكم العقل بعدم جواز التكليف بما لا يطاق ، وبعد ما علمنا عدم كون هذا النحو من التكليف تكليفا بما لا يطاق يجب بحكم العقل تأثير المقتضي ، هذا غاية ما يمكن أن يقال في المقام وعليك بالتأمّل التامّ ؛ فإنّ المقام من مزالّ الأقدام.

حجّة المانع أنّ الضدّين ممّا لا يمكن إيجادهما في زمان واحد عقلا ، وجعلهما في زمان واحد متعلّقا للطلب المطلق تكليف بما لا يطاق ، وهاتان المقدمتان ممّا لا يقبل الإنكار ، إنّما الشأن بيان أنّ تعلّق الطلبين بالضدّين في زمان واحد ولو على نحو الترتّب يرجع إلى الطلب المطلق بهذا والطلب المطلق بذاك في زمان واحد.

وبيانه : أنّ الأمر بإيجاد الضدّ مع الأمر بايجاد ضدّه الآخر لا يخلو حاله من أنّه إمّا أمر بإيجاده مطلقا في زمان الأمر بضدّه كذلك ، وإمّا أمر بإيجاده مشروطا بترك الآخر ، والثاني على قسمين ؛ لأنّه إمّا أن يجعل الشرط هو الترك الخارجي للضدّ

١٧٢

الآخر ، أو يجعل الشرط كون المكلّف بحيث يترك في علم الله.

أمّا الأوّل فلا يلتزم به كلّ من أحال التكليف بما لا يطاق ، وأمّا الأوّل من الأخيرين فلا مانع منه ، إلّا أنّه عليه لا يصير الأمر مطلقا إلّا بعد تحقّق الترك ومضيّ زمانه ، وهذا وإن كان صحيحا لكنّه خارج عن فرض القائل بالترتّب ؛ لأنّه يدّعي تحقّق الأمرين في زمان واحد.

وأمّا الأخير منهما فلازمه القول بإطلاق الأمر المتعلّق بالمهمّ في ظرف تحقّق شرطه والمفروض وجود الأمر بالأهمّ أيضا ؛ لأنّه مطلق ، ففي زمان تحقّق شرط المهمّ يجتمع الأمران المتعلّقان بالضدّين وكلّ واحد منهما مطلق ، أمّا الأمر المتعلّق بالأهمّ فواضح ، وأمّا الأمر المتعلّق بالمهمّ فلأنّ الأمر المشروط بعد تحقّق شرطه يصير مطلقا.

والجواب يظهر ممّا قدّمناه في المقدّمات وحاصله : أنّ الأمر بالأهمّ مطلق والأمر بالمهمّ مشروط ، أمّا قولك بأنّ الشرط إمّا هو الترك الخارجي أو العنوان المنتزع منه فنقول : إنّه هو الترك الخارجي ، وقولك إنّه على هذا يلزم تأخّر الطلب عن زمان الترك ، مدفوع بما عرفت من عدم لزوم اقتضاء الطلب المشروط إيجاد متعلّقه بعد تحقّق الشرط ، بل قد يقتضيه كذلك وقد يقتضي مقارنة الفعل للشرط كما عرفت ذلك كلّه مشروحا.

فإن قلت : سلّمنا كون الشرط نفس الترك الخارجي للضدّ ولا يلزم من ذلك تأخّر الطلب عن مضيّ زمان الترك ولكن نقول : في ظرف فعليّة الطلب المشروط إمّا تقول ببقاء الطلب المطلق أولا ، والثاني خلاف الفرض ، والأوّل التزام بالأمر بما لا يطاق.

قلت : نختار الشقّ الأوّل ولكن لا يقتضي الطلب الموجود حينئذ إلّا عدم تحقّق الترك الذي هو شرط لوجوب الآخر ، لا أنّه يقتضي إيجاد الفعل في ظرف تحقّق هذا الترك كما أوضحناه في المقدّمات ، فليتأمّل في المقام ؛ فإنّه ممّا ينبغي أن يصرف لأجله الليالي والأيّام.

١٧٣

المقصد الثاني في النواهي

«فصل»

في جواز اجتماع الأمر والنهي وامتناعه ، وليعلم أوّلا أنّ النزاع المذكور إنّما يكون بعد فرض وجود المندوحة وتمكّن المكلّف من إيجاد عنوان المأمور به في غير مورد النهي ، وإلّا فالمسلّم عند الكل عدم الجواز لقبح التكليف بما لا يطاق ، نعم ذهب المحقّق القمّى قدس‌سره إلى التفصيل بين ما إذا كان العجز مستندا إلى سوء اختيار المكلّف وعدمه ، فخصّ القبح بالثاني ، ومن هنا حكم بأنّ المتوسّط في الأرض المغصوبة منهي عن الغصب فعلا ومأمور بالخروج كذلك. ولكنّك خبير بأنّ هذا التفصيل يأبى عنه العقل ، بل لعلّ قبح التكليف بما لا يطاق مطلقا من البديهيّات الأوّليّة.

وكيف كان فقبل الشروع في المقصود ينبغي رسم امور :

أحدها : قد يتوهّم ابتناء المسألة على كون متعلّق التكاليف هو الطبيعة أو الفرد ، فينبغي التكلّم في مقامين :

أحدهما في تشخيص مرادهم في هذه المسألة

والثاني في أنّه هل يبتني النزاع في مسألتنا هذه عليها بمعنى أنّه لو اخذ بأحد طرفي النزاع فيها لزم الأخذ بأحد طرفي المسألة فيما نحن فيه أم لا؟

أمّا المقام الأوّل فنقول : يمكن أن يكون مرادهم أنّه بعد فرض لزوم اعتبار الوجود في متعلّق الطلب فهل الوجود المعتبر هو وجود الطبيعة أو وجود الفرد ، ويمكن أن يكون مرادهم أنّه بعد فرض اعتبار الوجود هل المعتبر أشخاص الوجودات الخاصّة أو المعنى الواحد الجامع بين الوجودات؟.

أمّا المقام الثاني فالحقّ عدم ابتناء مسألة جواز اجتماع الأمر والنهي وعدمه عليه ؛ إذ يمكن القول بأنّ متعلّق الأحكام هو الطبائع بكلا المعنيين الذين

١٧٤

احتملنا في مرادهم ، ومع ذلك نمنع جواز اجتماع الأمر والنهي ، إمّا لما ذكره صاحب الفصول قدس‌سره من أنّ متعلّق الطّلب إنّما يكون الوجودات الخاصّة لعدم جامع لها في البين ، وإمّا لأنّه على تقدير تعلّق الطلب بالجامع يلزم سرايته إليها لمكان الاتّحاد والعينيّة.

وكذلك يمكن القول بتعلّق الطلب بالفرد بكلا الاحتمالين أيضا والالتزام بجواز الاجتماع ؛ لأنّ الفرد الموجود في الخارج يمكن تعريته في الذهن عن بعض الخصوصيات ومع ذلك لا يخرج عن كونه فردا ، مثلا الصلاة في الدار المغصوبة الموجودة بحركة واحدة شخصيّة لو لوحظت تلك الحركة الشخصيّة من حيث إنّها مصداق للصلاة وجرّد النظر عن كونها واقعة في الدار المغصوبة لم تخرج عن كونها حركة شخصيّة ، فللمجوّز بعد اختياره أنّ متعلّق التكاليف هو الأفراد أن يقول : إنّ هذه الحركة من حيث كونها مصداقا للصلاة محبوبة ومأمور بها ، ومن حيث إنّها مصداق للغصب منهيّ عنها.

الأمر الثاني : أنّ الموجود الخارجي ـ من أيّ طبيعة كان ـ أمر وحدانيّ محدود بحدّ خاص ، سواء قلنا بأصالة الوجود أم قلنا بأصالة الماهيّة ، غاية الأمر أنّه على الأوّل يكون الثاني منتزعا ، وعلى الثاني يكون الأوّل منتزعا ، نعم يمكن أن ينحلّ في الذهن إلى ماهيّة ووجود ، وإضافة الوجود إلى الماهيّة.

فحينئذ لو قلنا بأنّ الوحدة في الخارج مانعة عن اجتماع الأمر والنهي فاللازم أن نقول بالامتناع ، سواء قلنا بأصالة الوجود أو الماهيّة ، ولو قلنا بعدم كونه مانعا ويكفي تعدّد المتعلّق في الذهن فاللازم القول بالجواز سواء قلنا أيضا بأصالة الوجود أو الماهيّة.

الأمر الثالث : أنّ الظاهر من العنوان الذي يجعلونه محلا للنزاع أنّ الخلاف في جواز اجتماع الأمر والنهي وعدمه ، وغير خفيّ أنّه غير قابل للنزاع ؛ إذ من البديهيّات كون التضاد بين الأحكام وملاكاتها إنّما النزاع في أنّه هل يلزم على القول ببقاء إطلاق دليل وجوب الصلاة مثلا بحاله ، وكذا إطلاق دليل الغصب في مورد

١٧٥

اجتماعهما اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد حتى يجب عقلا تقييد أحدهما بغير مورد الآخر ، أو لا يلزم ، بل يمكن أن يتعقّل للأمر محلّ وللنهي محلّ آخر ولو اجتمعا في مصداق واحد؟ فهذا النزاع في الحقيقة راجع إلى الصغرى نظير النزاع في حجيّة المفاهيم.

الأمر الرابع : لا إشكال في خروج المتبانيين عن محلّ النزاع بمعنى عدم الإشكال في إمكان أن يتعلّق الأمر بأحدهما والنهي بالآخر إلّا على تقدير التلازم بينهما في الوجود كما لا إشكال في خروج المتساويين في الصدق ؛ لما عرفت من اعتبار وجود المندوحة ، كما لا إشكال في دخول العامّين من وجه في محلّ النزاع.

إنّما النزاع في أنّ العام المطلق والخاص أيضا يمكن أن يجري فيه النزاع المذكور أم لا؟ قال المحقّق القمّي قدس‌سره : إنّ العامّ المطلق خارج عن محلّ النزاع بل هو مورد للنزاع في النهي في العبادات.

واعترض عليه المحقّق الجليل صاحب الفصول قدس‌سره بأنّه ليس بين العامين من وجه والمطلق من حيث هاتين الجهتين فرق ، بل الملاك أنّه لو كان بين العنوان المأمور به والعنوان المنهيّ عنه مغايرة يجري فيه النزاع ، وإن كان بينهما عموم مطلق كالحيوان والضاحك ، وإن اتّحد العنوانان وتغايرا ببعض القيود لم يجر النزاع فيهما وإن كان بينهما عموم من وجه نحو : صلّ الصبح ولا تصلّ في الأرض المغصوبة ، هذا.

ويشكل بأنّه لو اكتفى المجوّز بتغاير المفهومين ووجود المندوحة فلا فرق بين أن يكون بينهما عموم من وجه أو مطلق ، وأن يكون العنوان المأخوذ في النهي عين العنوان المأخوذ في الأمر مع زيادة قيد من القيود أو غيره ، ضرورة كون المفاهيم متعدّدة في الذهن في الجميع ، ولو لم يكتف بذلك فليس له لتجويز الاجتماع في العامين من وجه أيضا مجال ، فاللازم على من يدّعي الفرق بيان الفارق.

قال شيخنا المرتضى قدس‌سره في التقريرات المنسوبة إليه بعد نقل كلام المحقّق القمّي وصاحب الفصول قدّس الله روحهما ما هذا لفظه : أقول : إنّ ظاهر هذه الكلمات يعطي انحصار الفرق بين المسألتين في اختصاص إحداهما بمورد دون

١٧٦

اختها ، وليس كذلك ، بل التحقيق أنّ المسئول عنه في إحداهما غير مرتبط بالاخرى.

وتوضيحه أنّ المسئول عنه في هذه المسألة هو إمكان اجتماع الطلبين فيما هو الجامع لتلك الماهيّة المطلوبة فعلها والماهيّة المطلوبة تركها من غير فرق في ذلك بين موارد الأمر والنهي ؛ فإنّه كما يصحّ السؤال عن هذه القضية فيما إذا كان بين المتعلّقين عموم من وجه ، فكذا يصحّ فيما إذا كان عموم مطلق ، سواء كان من قبيل قولك : صلّ ولا تصلّ في الدار المغصوبة أو لم يكن كذلك.

والمسئول عنه في المسألة الآتية هو أنّ النهي المتعلّق بشيء هل يستفاد منه أنّ ذلك الشيء ممّا لا يقع به الامتثال ، حيث إنّ المستفاد من إطلاق الأمر حصول الامتثال بأيّ فرد كان ، فالمطلوب فيها هو استعلام أنّ النهي المتعلّق بفرد من أفراد المأمور به هل يقتضي رفع ذلك الترخيص المستفاد من إطلاق الأمر أولا؟ ولا ريب أنّ هذه القضيّة كما يصحّ الاستفسار عنها فيما إذا كان بين المتعلّقين إطلاق وتقييد فكذلك يصح فيما إذا كان بينهما عموم من وجه كما إذا كان بينهما عموم مطلق ، وبالجملة فالظاهر أنّ اختلاف المورد لا يصير وجها لاختلاف المسألتين كما زعموا ، بل لا بدّ من اختلاف جهة الكلام ، انتهى موضع الحاجة من كلامه قدس‌سره.

أقول : والحقّ أنّ العنوانين لو كانا بحيث اخذ أحدهما في الآخر وكان بينهما عموم مطلق أيضا لا يطرق فيهما هذا النزاع. وتوضيحه أنّه : لا إشكال في تغاير المفاهيم بعضها مع الآخر في الذهن سواء كان بينهما عموم مطلق أم من وجه أو غيرهما ، وسواء كان أحدهما مأخوذا في الآخر أم لا ، إلّا أنّه لا يمكن أن يقال فيما إذا كان بين المفهومين عموم مطلق وكان أحدهما مشتملا على الآخر أنّ المطلق يقتضي الأمر والمقيّد يقتضي النهي ؛ لأنّ معنى اقتضاء الإطلاق شيئا ليس إلّا اقتضاء نفس الطبيعة ؛ إذ لا يعقل الاقتضاء لصفة الإطلاق ، والمقيّد ليس إلّا نفس تلك الطبيعة منضمّة إلى بعض الاعتبارات ، ولو اقتضى المقيّد شيئا منافيا للمطلق لزم أن يقتضي نفس الطبيعة أمرين متنافيين.

١٧٧

وبعبارة اخرى : بعد العلم بأنّ صفة الإطلاق لا يقتضي تعلّق الحبّ بالطبيعة ، فالمقتضي له نفسها ، وهي متّحدة في عالم الذهن مع المقيّد ؛ لأنّها مقسم له وللمطلق ، فلو اقتضى المقيّد الكراهة لزم أن يكون المحبوب والمبغوض شيئا واحدا حتّى في الذهن وهذا غير معقول ، بخلاف مثل مفهوم الصلاة والغصب مثلا ؛ لعدم الاتّحاد بينهما في الذهن أصلا.

الأمر الخامس : قد يتراءى تهافت بين الكلمات حيث عنونوا مسألة جواز اجتماع الأمر والنهي ومثلوا له بالعامين من وجه ، واختار جمع منهم الجواز وأنّه لا تعارض بين الأمر والنهي في مورد الاجتماع ، وفي باب تعارض الأدلّة جعلوا أحد وجوه التعارض التعارض بالعموم من وجه ، وجعلوا علاج التعارض الأخذ بالأظهر إن كان في البين وإلّا التوقّف أو الرجوع إلى المرجّحات السنديّة على الخلاف. وكيف كان ما تمسّك أحد لدفع المنافاة بجواز اجتماع الأمر والنهي.

والجواب أنّ النزاع في مسألتنا هذه مبنيّ على إحراز وجود الجهة والمناط في كلا العنوانين وأنّ المناطين هل هما متكاسران عند العقل إذا اجتمع العنوانان في مورد واحد كما يقوله المانع أم لا كما يقوله المجوّز؟ ولا إشكال في أنّ الحاكم في هذا المقام ليس إلّا العقل ، وباب تعارض الدليلين مبنيّ على وحدة المناط والملاك في الواقع ، ولكن لا يعلم أنّ الملاك الموجود في البين هل هو ملاك الأمر أو النهي مثلا ، فلا بدّ من أن يستكشف ذلك من الشارع بواسطة الأظهريّة إن كان أحد الدليلين أظهر ، وإلّا التوقّف أو الرجوع إلى المرجّحات السندية حسب ما قرّر في محلّه ، نعم يبقي سؤال أنّ طريق استكشاف ما هو من قبيل الأوّل وما هو من قبيل الثاني ما ذا؟ وهذا خارج عن المقام.

إذا عرفت ذلك فلنشرع فيما هو المقصود من ذكر حجج المجوّزين والمانعين.

فنقول وعلى الله التوكّل : أحسن ما قيل في تقريب احتجاج المجوّزين هو أنّ المقتضي موجود والمانع مفقود ، أمّا الأوّل : فلما عرفت من أنّ فرض الكلام ليس إلّا فيما يكون المقتضي موجودا ، وأمّا الثاني : فلأنّ المانع ليس إلّا ما تخيّله الخصم من

١٧٨

لزوم اجتماع المتضادّين من الحكمين والحبّ والبغض والمصلحة والمفسدة في شيء واحد ، وليس كما زعمه.

وتوضيحه يحتاج إلى مقدّمة وهي أنّ الأعراض على ثلاثة أقسام :

منها : ما يكون عروضه واتّصاف المحلّ به في الخارج كالحرارة العارضة للنار والبرودة العارضة للماء وأمثالهما من الأعراض القائمة بالمحالّ في الخارج.

ومنها : ما يكون عروضه في الذهن واتّصاف المحلّ به في الخارج كالابوّة والبنوّة والفوقيّة والتحتيّة وأمثالها.

ومنها : ما يكون عروضه في الذهن واتّصاف المحلّ به فيه أيضا كالكليّة العارضة للإنسان ، حيث إنّ الإنسان لا يصير متّصفا بالكليّة في الخارج قطعا ، فالعروض في الذهن؛ لأنّ الكليّة إنّما تنتزع من الماهيّة المتصوّرة في الذهن ، واتّصاف تلك الماهيّة بها أيضا فيه ؛ لأنّها لا تقبل الكليّة في الخارج.

فنقول حينئذ : لا إشكال في أنّ عروض الطلب سواء كان أمرا أم نهيا لمتعلّقه ليس من قبيل الأوّل ، وإلّا لزم أن لا يتعلّق إلّا بعد وجود متعلّقه ، كما أنّ الحرارة والبرودة لا يتحقّقان إلّا بعد تحقّق النار والماء ، فيلزم البعث على الفعل الحاصل والزجر عنه وهو غير معقول ، ولا من قبيل الثاني ؛ لأنّ متعلّق الطلب إذا وجد في الخارج مسقط للطلب ومعدم له ، ولا يعقل أن يتّصف في الخارج بما هو يعدم بسببه ، فانحصر الأمر في الثالث ، فيكون عروض الأمر والنهي لمتعلّقاتهما كعروض الكليّة للماهيّات.

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّ طبيعة الصلاة والغصب وإن كانتا موجودتين بوجود واحد وهو الحركة الشخصيّة المتحقّقة في الدار المغصوبة ، إلّا أنّه ليس متعلّق الأمر والنهي الطبائع الموجودة في الخارج ، لما عرفت من لزوم تحصيل الحاصل ، بل هي بوجوداتها الذهنية ، ولا شكّ أنّ طبيعة الصلاة في الذهن غير طبيعة الغصب كذلك ، فلا يلزم من وجود الأمر والنهي حينئذ اجتماعهما في محلّ واحد.

فإن قلت : لا معنى لتعلّق الطلب بالطبائع الموجودة في الذهن ؛ لأنّها إن قيّدت بما

١٧٩

هي في ذهن الآمر فلا يتمكّن المكلّف من الامتثال ، وإن قيّدت بما هي في ذهن المأمور لزم حصول الامتثال بتصوّرها في الذهن ولا يجب إيجادها في الخارج ، وهو معلوم البطلان.

قلت : نظير هذا الإشكال يجري في عروض الكليّة للماهيّات ؛ لأنّ بعد ما فرضنا أنّ الماهيّة الخارجيّة لا تقبل أن تتّصف بالكليّة ولا هي من حيث هى ؛ لأنّها ليست إلّا هي ، فينحصر معروض الكليّة في الماهيّة الموجودة في الذهن ، فيتوجّه الإشكال بأنّه كيف يمكن أن يتّصف بالكليّة مع أنّها جزئيّة من الجزئيّات ولا يكاد أن ينطبق على الأفراد الخارجيّة ضرورة اعتبار الاتّحاد في الحمل ولا اتّحاد بين الماهيّة المقيّدة بالوجود الذهني وبين الأفراد الخارجيّة.

وحلّ هذا الإشكال في كلا المقامين أنّ بعد ما فرضنا أنّ الماهيّة من حيث هي مع قطع النظر عن اعتبار الوجود ليست إلّا هي ولا تتّصف بالكليّة والجزئيّة ولا بشيء من الأشياء ، فلا بدّ من القول بأنّ اتّصافها بوصف من الأوصاف يتوقّف على الوجود ، وذلك الوجود قد يكون وجودا خارجيّا كما في اتّصاف الماء والنار بالحرارة والبرودة ، وقد يكون وجودا ذهنيّا ، لكن لا من حيث ملاحظة كونه كذلك بل من حيث كونه حاكيا عن الخارج ، مثلا ماهيّة الإنسان يلاحظ في الذهن ويعتبر لها وجود مجرّد عن الخصوصيّات حاك عن الخارج فيحكم عليها بالكليّة ، فمورد الكليّة في نفس الأمر ليس إلّا الماهيّة المأخوذة في الذهن ، لكن لا بملاحظة كونها كذلك بل باعتبار حكايتها عن الخارج.

فنقول : موضوع الكليّة وموضوع التكاليف المتعلّقة بالطبائع واحد بمعنى أنّ الطبيعة بالاعتبار الذي صارت موردا لعروض وصف الكليّة يكون موضوعا للتكاليف من دون تفاوت أصلا.

فإن قلت : سلّمنا ذلك كلّه لكن مقتضى كون الوجود حاكيا عن الخارج بلحاظ المعتبر أن يحكم باتّحاده مع الوجودات الخارجيّة ، فاللازم من تعلّق إرادته بهذا الوجود السعي تعلّقها أيضا بالوجودات ، لمكان الاتّحاد الذي يحكم به اللاحظ.

١٨٠