أصول الفقه - ج ١

آية الله الشيخ محمد علي الأراكي

أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

آية الله الشيخ محمد علي الأراكي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٠٤
الجزء ١ الجزء ٢

غرض للمولى كما هو الحال في كلّ مقدّمة معلّق عليها الإرادة ، كما لو أوجد المانع من مجيء زيد الذي فرض مطلوبيّة إكرامه على تقدير مجيئه.

فحينئذ نقول : لو كان على الحكم في المسألة نصّ أو إجماع انكشف ذلك بعد عدم إمكان تخلّف القاعدة عن أنّ الشارع جعل القدرة في الوقت كنفس الوقت شرطا للتكليف فلهذا لا يلزم على المكلّف بعد العلم بعدم حصول القدرة الجديدة في الوقت إبقاء القدرة السابقة ، بل له الإبقاء حتّى يصير موردا للتكليف والنقض حتى لا يصير كذلك.

لكن يبقى الكلام حينئذ فيما لو علم بأنّ القدرة في الوقت لا يصير معدومة أيضا ؛ فإنّ مقتضى القاعدة توسعة الوجوب حينئذ بالنسبة إلى ما قبل الوقت وما بعده ، مع أنّ من المسلّم بينهم عدم الوجوب قبله.

وتصحيح ذلك أيضا يمكن بوجهين ، أحدهما رافع لغائلة الإشكال ، ولكنّه مقطوع بخلافه في مسألتنا ، والآخر رافع لها وجار في المسألة.

أمّا الأوّل فهو أنّه كما أنّ الصلاة بوصف وقوعها عقيب الزوال مثلا مطلوبة بحيث لو وقعت قبله لم يكن صلاة ، كذلك يمكن أن يكون مقدّميّة الوضوء للصلاة في نظر الشارع أيضا مقصورة على صورة وقوعه عقيب الزوال بحيث لو وقع قبله لم يكن مقدّمة.

وبعبارة اخرى كان مطلوب الشارع هي الصلاة التي وقع إعمال جميع القدرة عليها في الوقت ، فلو أعمل بعض القدرة عليها قبل الوقت لم يحصل المطلوب ، لكنّا نعلم بأنّ الواقع خلاف ذلك وأنّ حصول جميع المقدّمات للصلاة فضلا عن بعضها قبل الوقت كاف.

وأمّا الثاني فهو أن يقال : إنّ وجوب ذي المقدّمة يقتضي وجوب المقدّمة من حيث الطبع الذي لا يعارض المنع ، فإن كانت المقدّمة منحصرة في فرد واحد فإن كان مقتضى الحرمة التعيينيّة في هذا الفرد موجودا فلا يعقل المنع منه مع محبوبيّة ذي المقدّمة حتّى على قول من جوّز اجتماع الأمر والنهي ؛ فإنّ مورد كلامه صورة ثبوت

١٤١

المندوحة في جانب الأمر ، والمفروض عدمها في المقام ، بل لا بدّ حينئذ من ملاحظة الترجيح بين مفسدة المقدّمة ومصلحة ذيها ، فإن رجّح الاولى صار ذو المقدّمة مبغوضا ، وإن رجّح الثانية صارت المقدّمة محبوبة.

مثال ذلك : كما لو توقّف إنقاذ الغريق على المشي من طريق واحد مغصوب ، فلا بدّ إمّا من ترجيح مفسدة الغصب وإمّا من تقديم مصلحة الإنقاذ.

وإن كانت المقدّمة مردّدة بين أفراد وأبدال بحيث أمكن التوسّل إلى ذيها بكلّ واحد ، فلا شكّ في أنّ قضيّة وجوب ذي المقدّمة ليس بأزيد من وجوب طبيعة المقدّمة الصادقة على كلّ واحد وليس له اقتضاء وجوب الخصوصيّات.

وحينئذ فإن كان في خصوص واحد معيّن من هذه الأفراد مفسدة تعيينيّة فاللازم بحكم العقل تقييد الوجوب المقدّمي بما سوى هذا الفرد ؛ لأنّ مقتضى الجمع بين غرضي الآمر ذلك ، فلو كان للإنقاذ طريقان أحدهما مغصوب والآخر مباح فمقتضى الجمع بين إرادة ترك الغصب وإرادة الإنقاذ قصر الوجوب على الطريق المباح ؛ ولهذا أيضا نقول بفساد الصلاة في الدار الغصبيّة ؛ فإنّ المصلحة الصلاتية لا اقتضاء بالنسبة إلى خصوصيّات الأفراد ، ولكن مفسدة الغصب مقتضية لحرمة كلّ شخص على التعيين ، ولا شكّ في أنّ مسألتنا من القبيل الثاني ، بمعنى أنّ الوضوء الذي هو واجب طبعا مقدّمة للصلاة مردّد بين أفراد متصوّرة قبل الوقت وأفراد متصوّرة بعده.

إذا تقرّر ذلك فنقول : كما أنّ وجود المفسدة التعيينيّة في نفس أحد الأبدال ولو كانت في غاية الضعف يوجب تعيين الوجوب فيما سواه ، كذلك يمكن أن تكون المفسدة في إيجابه به مع كون المصلحة التامّة في نفسه ، كما استفيد ذلك في السواك من قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو لا أن أشقّ الخ ، فيصير ذلك أيضا سببا لتقييد الإيجاب بما عداه من الأبدال لما ذكر من الجمع بين الغرضين.

وحينئذ فإن قام نصّ أو إجماع على صحّة الصلاة بالوضوء الذي اتى به قبل الوقت بوجه صحيح وعلى عدم اتّصاف الوضوء بالوجوب قبله فلا محالة يكون هذا

١٤٢

كاشفا عن عدم الفرق بين الوضوء قبل الوقت وبين الوضوء بعده في أصل المقدّميّة ، كما لم يكن فيها فرق بين الطريق المغصوب والمباح في مسألة الإنقاذ ، وعن ثبوت المفسدة في إيجاب الوضوء قبل الوقت.

فرع

إذا كان الماء مباحا والآنية غصبيّة فالتكليف هو الوضوء أو التّيمم؟ المشهور على تعيّن التيمّم ؛ لأنّ التكليف بالوضوء المستلزم للاغتراف من الآنية الغصبيّة لا يمكن أن يجتمع مع حرمة الغصب ، فلا محالة يقدّم تحريم الغصب لأهميّته ، ومعلوم أنّه ليس مورد هذا الكلام ما إذا تمكّن المكلّف من اغتراف مقدار ما يكفى للوضوء دفعة واحدة ؛ فإنّ التكليف بالوضوء حينئذ على نحو الاشتراط بنفس الاغتراف المذكور لا مانع منه ، كالتكليف بالحجّ مشروطا بنفس ركوب الدابّة الغصبيّة ، وإنّما مورده ما إذا لم يتمكّن إلّا من اغتراف غرفة واحدة بحيث توقّف الاستعمال الوضوئي على اغتراف ثلاث غرفات على التعاقب ؛ فإنّ التكليف بالوضوء حينئذ على وجه الاشتراط أيضا غير ممكن ؛ لأنّه إن كان مشروطا بنفس الغرفة الاولى صار مستلزما للغصب بالنسبة إلى الغرفتين الاخريين ، وإن كان مشروطا بنفس الغرفة الثالثة فهذا باطل ؛ إذ ليس عنده حينئذ من الماء إلّا مقدار غرفة واحدة ، فلا محيص حينئذ عن ارتفاع التكليف بالوضوء.

وصاحب الفصول قدس‌سره حاول تصحيح الوضوء في الفرض مع حرمة الاغتراف بدون المنافاة بناء على ما ذكره في تصوير الوجوب التعليقي ببيان : أنّ الوجوب التعليقي على ما عرفت مشروط بالوصف الانتزاعي ، مثلا التكليف بالصوم المتوجّه من أوّل الليل مشروط بكون المكلّف ممّن يدرك اليوم ، فنقول فيما نحن فيه أيضا : إنّ التكليف بالوضوء المتوجّه من أوّل الوقت مشروط بكون المكلّف ممّن يغترف في الاستقبال ، فيكون تعلّق الطلب بالوضوء الحاصل في ظرف الاغتراف قبل حصول الاغتراف.

١٤٣

وعلى هذا فالتكليف بالوضوء غير متوجّه إلى جميع المكلّفين ، بل هم على صنفين ، فمنهم من لا يغترف ومنهم من يغترف ، فالتكليف به متوجّه إلى الصنف الثاني دون الأوّل ، ومن المعلوم أنّ التكليف بالوضوء بهذا الوجه لا يقتضي الاغتراف ولا عدمه ، بل المكلّف بالخيار ، فإن شاء اغترف حتّى يدخل في صنف من يغترف وإن شاء لم يغترف حتّى يدخل في الصنف الآخر.

ويمكن الخدشة فيه بأنّه لا شكّ في أنّ كون المكلّف متّصفا بالعنوان الانتزاعي أعني : كونه ممّن يغترف لا يوجب رفع التكليف عن منشأ الانتزاع أعني : نفس الاغتراف في حقّه ؛ ضرورة أنّه لم يسلب عنه في تلك الحال الاختيار بالنسبة إلى الاغتراف وعدمه ، وإنّما يسلب بعد حصول الاغتراف ، فقبله يكون التكليف بتركه ثابتا في حقّه على وجه الإطلاق ، ثمّ التكليف بالوضوء المفروض اشتراطه بالوصف الانتزاعي الحاصل بالفعل ثابت في عرض ذلك التكليف أيضا على وجه الإطلاق ؛ لحصول شرطه ، فيعود إشكال اجتماع الضدّين والتكليف بما لا يطاق.

نعم يمكن تصحيح الوضوء مع حرمة الاغتراف بدون التنافي على القول بالترتّب في باب تزاحم الواجبين الذين أحدهما أهمّ من الآخر ، والمراد بالترتّب تعلّق أمرين بشيئين لا يمكن جمعهما على وجه يكون أحدهما في طول الآخر بأن يتوجّه التكليف بالأهمّ على وجه الإطلاق ، وبغير الأهمّ على وجه الاشتراط بمخالفة التكليف الأوّل ، لا بمعني أن يكون التكليف الثاني ثابتا بعد ارتفاع التكليف الأوّل بعصيانه ، بل بمعنى اشتراطه بفرض مخالفة التكليف الأوّل.

مثلا من يتمكّن من إنقاذ أحد الغريقين من عالم وجاهل في خمس دقائق يتوجّه إليه التكليف بإنقاذ العالم في هذه الدقائق الخمس بلا شرط ، وبإنقاذ الجاهل في نفس هذه الدقائق أيضا مشروطا بفرض ترك إنقاذ العالم.

وكذا فيما نحن فيه يتوجّه التكليف بترك الاغتراف بلا شرط ، وبالوضوء مشروطا بفرض حصول الاغتراف ، وهذا من المواضع التي يكون الشرط فيها مقارنا للعمل كمثال العدو المتقدّم ، وعلى هذا فيرتفع التنافي من بين التكليفين بحيث

١٤٤

لو أمكن محالا الجمع بين ترك الاغتراف وفعل الوضوء لم يحصل امتثال التكليفين معا ، بل التكليف الأوّل دون الثاني ؛ لعدم تحقّق ظرف وجوبه.

ولكن يمكن الخدشة في ذلك أيضا بأنّ غاية ما أفاده هذا الوجه إمكان ثبوت التكليف بالوضوء عقلا ، ولكن لا دليل على ثبوته بهذا الوجه شرعا ، بل الدليل على خلافه؛ وذلك لأنّ المستفاد من دليل وجوب الوضوء يقسّم المكلّف إلى واجد الماء وفاقده وأنّ مطلوبيّة الوضوء مقصورة على الأوّل ، كما أنّ مطلوبيّة التّيمم مقصورة على الثاني ، وقد فسّر الفقهاء رضوان الله عليهم فاقد الماء بمن لا يتمكّن من استعمال الماء إمّا لفقده رأسا ، وإمّا لعدم التمكّن من استعماله عقلا ، وإمّا لعدم التمكّن منه شرعا ، ومن قبيل الاخير عدم التمكّن من استعماله لكونه مستلزما للتصرّف في الغصب.

وهذا بخلاف باب التزاحم ؛ فإنّ الحامل على ذلك هنا هو العقل ؛ وذلك لأنّ المقتضي في كلّ من الواجبين في حدّ نفسه تامّ ، والمانع لا يقتضي أزيد من ارتفاع وجود التكليفين معا على وجه الإطلاق ، وأمّا وجودهما على النحو المزبور فالمقتضي بالنسبة إليه موجود بالفرض ، والمانع منه مفقود.

ومن هنا يظهر الخدشة في تصحيح الوضوء وحرمة الاغتراف على قول من لم يصحّح الأمر الطولي بغير الأهمّ في باب التزاحم ، ولكن يقول بأنّه إذا كان غير الأهمّ عبادة كالصلاة في سعة الوقت مع التّمكن من الإزالة أو من أداء الدين المضيّق وأتى به المكلّف بداعي حسنه الذاتي تقع صحيحة ، ولا يعتبر في صحّة العبادة وجود الأمر بها بأن يقال : إنّ الوضوء وإن لم يتعلّق به التكليف الطولي لكن إذا أتى به المكلّف بداعي حسنه يقع صحيحا؛ فإنّ هذا أيضا يتوقّف على وجود المقتضي أعني : الحسن الذاتي في الوضوء في الفرض المزبور وقد عرفت عدمه.

فتلخّص أنّه لو كان وجود المقتضي للوضوء في الفرض محرزا أمكن تصحيحه على القول بالترتّب في باب التزاحم بالأمر الطولي به على وجه التقييد ، وعلى القول بعدمه بالإتيان به بداعي حسنه الذاتي ، ولكن حيث إنّ المستفاد من الدليل نقصان المقتضي فلا محيص عن البطلان وفاقا للمشهور.

١٤٥

الأمر الثالث

افترق القائلون بوجوب مقدّمة الواجب على ثلاثة أقوال :

الأوّل : أنّ الواجب ذات المقدّمة بلا قيد.

الثاني : أنّه هي مقيّدة بالإيصال إلى ذي المقدّمة وترتّبه عليها ، فإن لم توصل لم تكن مطلوبة وإن قصد بها التوصل.

الثالث : أنّه هي مقيّدة بالاقتران بقصد التوصّل بها إلى ذي المقدّمة ، وإن لم توصل إليه ، فإن وقعت مجرّدة عن هذا القصد لم يتّصف بالوجوب وإن أوصلت إلى ذيها.

وليعلم أنّ القائل بوجوب ذات المقدّمة يحتاج في بعض الموارد إلى تقييد الوجوب بصورة وقوع المقدّمة عن قصد التوصّل بها إلى ذيها لداع خارجي ، وهو ما إذا تعيّن مقدّمة الواجب في الحرام ؛ فإنّه حينئذ يحتاج إلى التقييد المذكور ، والداعي له إلى ذلك هو التحرّز عن الوقوع في الحرام مهما أمكن والاكتفاء في تسويغه بقدر الضرورة ؛ فإنّه لا شكّ في أنّ صورة الإتيان بالمقدّمة المذكورة لا عن القصد المزبور أشدّ قبحا من صورة الإتيان بها معه بالبديهة الوجدانيّة ، والتزام القائل المذكور بهذا التقييد في المورد لا يوجب التزامه به في سائر الموارد التي ليس فيها الداعي المذكور ، كما أنّ التزامه بالتقييد بوصف الإجابة لداعي الجمع بين غرضي الآمر فيما إذا تردّد المقدّمة بين مباح وحرام لا يوجب التزامه به في سائر الموارد.

ومن هنا ظهر اندفاع ما أورده على هذا القول ، القائل بوجوب المقدّمة الموصلة ، وهو أنّه يلزم على هذا القول أنّه لو توقّف فعل واجب على فعل حرام صار هذا الحرام بمجرّد ذلك جائزا بل واجبا بأيّ وجه اتّفق ولو بأن يأتي به المكلّف بدواعيه النفسانيّة من دون أن يتوصّل به إلى ذلك الواجب ، وبطلان هذا معلوم بصريح الوجدان ، وأنت عرفت أنّ القائل المذكور ملتزم في هذا المورد بالتقييد بقصد

١٤٦

التوصّل لا بالإيصال ، لما يأتي من عدم إمكان التقييد به من دون أن يصير هذا ملزما له على ذلك في سائر الموارد ، هذا.

ولنتكلّم أوّلا في القول بوجوب المقدّمة الموصلة فنقول : المراد من قيد الموصل إمّا أن يكون مصداقه ، يعني ما لا ينفكّ وجودها عن وجود ذيها إمّا بإرادة خصوص المؤثّر أعني العلّة التامّة ، أو الأعمّ منه ومن ملازم المؤثّر أعني الجزء الأخير من العلّة التامّة ، فيكون القيد إشارة إلى التفصيل بين المقدّمات بأحد النحوين ، وإمّا أن يكون نفس عنوانه.

وحينئذ إمّا يكون المراد الأمر المنتزع الاستقبالي يعني كون المقدّمة ممّا توصل ، وإمّا يكون نفس الإيصال الخارجي ، وعلى التقديرين إمّا أن يكون قيدا للطلب أو للمطلوب ، فهذه أربعة احتمالات :

الأوّل : أن يكون المراد الأمر المنتزع ويكون قيدا للطلب.

الثاني : هذا الفرض لكن يكون قيدا للمطلوب.

الثالث : أن يكون المراد نفس الإيصال الخارجي ويكون قيدا للطلب.

الرابع : هذا الفرض ويكون قيدا للمطلوب ، فتصير هذه مع الاحتمالين السابقين ستّة يلزم من بطلان جميعها بطلان القول المذكور لا محالة.

فنقول : أمّا كون القيد إشارة إلى التفصيل بين المقدّمات بأحد النحوين ففيه : أنّه غير نافع بحال قائله أوّلا ؛ إذ الوجوب يسري من الجزء الأخير إلى سابقه ومنه إلى سابقه وهكذا إلى الجزء الأوّل ، يسري الوجوب من كلّ لاحق إلى سابقه ؛ إذ يصدق على كلّ سابق بالنسبة إلى لاحقه أنّه مقدّمة غير منفكّة لواجب ، غاية الأمر أنّ الواجب هنا مقدّمي وقد كان المقصود هو التفصيل بين الجزء الأخير وسائر الاجزاء ، وكذلك تعلّق الوجوب بمجموع الأجزاء في العلّة التامّة يوجب تعلّقه بذات كلّ واحد من الأجزاء لا محالة ، وغير ملائم بمذاق هذا القائل ثانيا ؛ لأنّه لا يقول بالتفصيل بين المقدّمات بل يردّه.

وأمّا كون الإيصال الانتزاعي قيدا للطلب فهو غير معقول ؛ لأنّ التكليف

١٤٧

المشروط لا بدّ وأن يكون متعلّقه مع حفظ عنوان الشرط ممكن الوقوع واللاوقوع ، مثلا الصلاة في الوقت مع حفظ عنوان كونها في الوقت ممكن الطرفين ، وإذا كان الشرط هو الإيصال الذي هو في معنى إتيان ذي المقدّمة المستلزم لإتيان المقدّمة فلا يمكن التكليف بذي المقدّمة ولا بالمقدّمة ؛ لأنّهما مع حفظ عنوان هذا الشرط متحقّق الوقوع في الاستقبال لا محالة.

مثلا مع حفظ عنوان كون المكلّف ممّن يضرب لا يتوجّه إليه التكليف بالضرب ولا بمقدّماته ، نعم لو كان صورة التكليف هكذا : ايت بالمقدّمة إن كنت ممّن تنتهي إلى ذي المقدّمة على تقدير إتيان المقدّمة سلم من هذا الإشكال ؛ لأنّ المقدّمة مع حفظ هذا العنوان ممكن الوقوع واللاوقوع معا كما هو واضح.

لكن يرد عليه أنّه يلزم على هذا عدم توجّه التكليف بالمقدّمة إلى من لا ينتهي إلى ذي المقدّمة على تقدير الإتيان بالمقدّمة في علم الله كالعصاة ، والقائل المذكور لا يلتزم بذلك؛ فإنّه لا يفرّق في وجوب المقدّمة بين الأشخاص.

وأمّا كون الإيصال الانتزاعي قيدا للمطلوب ، ففيه : أنّ نحو تحقّق هذا الأمر الانتزاعي ثابت من الأزل ؛ فإنّ من معلومات الباري تعالى كون زيد مثلا سيولد ويكثر ويفعل كذا وكذا ، فلا يكون مستندا إلى اختيار المكلّف فيمتنع أخذه قيدا للمطلوب ، نعم الامور الانتزاعيّة التي تتحقّق بعد تحقّق منشأ انتزاعها كالفوقيّة والتحتيّة بالنسبة إلى جعل الهيئة الخاصّة وكالاتّصال والانفصال بالنسبة إلى الوصل والفصل تكون مقدورة بالواسطة.

وأمّا كون الايصال الخارجي قيدا للطلب فهو أوضح فسادا من أن يخفى ؛ فإنّ مرجع التكليف على هذا يصير إلى أنّه : إذا أتيت بالمقدّمة وذيها فأت بالمقدّمة

وأمّا كون الإيصال الخارجي قيدا للمطلوب ففيه ثلاثة إشكالات :

الأوّل : يلزم أن لا تقع الصلاة مثلا مع الطهارة أبدا ؛ وذلك لأنّ الطهارة من آثار امتثال الأمر بالوضوء وهو لا يحصل إلّا بعد الإتيان بالصلاة ؛ لأنّ الموصليّة في الخارج التي هي قيد المطلوب لا تحصل إلّا بإتيانها.

١٤٨

ثمّ وجود الطهارة بعد الصلاة أيضا مستلزم للدور ؛ لأنّ صحّة الصلاة متوقفة على وجود الطهارة كما هو واضح ، وعلى هذا الفرض يكون وجود الطهارة أيضا متوقّفا على صحّة الصلاة ، لأنّ قيد الموصليّة الخارجيّة لا يحصل إلّا بترتّب الصلاة الصحيحة على الوضوء مثلا.

الثاني : يلزم تعلّق التكليف المقدّمي بذي المقدّمة ؛ وذلك لأنّ الموصليّة في الخارج التي هي قيد المطلوب يتوقّف على وجود ذي المقدّمة ، فيجب إتيانه تحصيلا لهذا القيد ، فيلزم أن يكون الواجب النفسي واجبا مقدّميا لمقدّمته ، وهذا وإن كان لا يمتنع عقلا لكنّه ممّا يضحك به الثكلى.

الثالث : توضيحه يتوقّف على مقدّمة وهي : أنّ كلّ قيد له دخل في المطلوب لا يمكن عقلا أن يكون خارجا من قسمين ، الأوّل : أن يكون أخذه لأجل أنّ المصلحة لا يحصل بدونه كما في أخذ وصف الإيمان في الرقبة المأمور بعتقها ، الثاني : أن يكون لا لأجل هذا ، بل لأجل غرض آخر كالجمع بين غرضي الآمر كما في المقدّمة إذا تردّدت بين الحرام وغير الحرام ؛ فإنّ تقييد الوجوب حينئذ بالمقدّمة المباحة ليس لأجل دخل هذا القيد أعني وصف الإباحة في مقتضى الوجوب أعني المقدّميّة ؛ لوضوح اشتراك الحرام مع المباح في المقدّميّة ، بل إنّما هو لأجل الجمع بين غرضي الآمر.

وكما في الصلاة في الأرض الغصبيّة على القول بعدم جواز اجتماع الأمر والنهي ؛ فإنّ الحكم بفسادها وتقييد الوجوب بالصلاة في الأرض المباحة ليس لأجل دخل هذا القيد أعني : إباحة المكان في حصول المصلحة الصلاتيّة ، كما هو الحال في قيد الطهارة ؛ ضرورة اشتراك الصلاة معه والصلاة بدونه في وجدان تلك المصلحة ، فالموجب للتقييد هو الجمع بين الغرضين ؛ ولهذا يجب إعادة الصلاة مع نسيان الطهارة ولا يجب مع إيقاعها في المكان الغصبي نسيانا.

إذا تقرّر ذلك فنقول فيما نحن فيه : إنّ أخذ قيد الإيصال الخارجي في مطلوبيّة المقدّمة لا بدّ وأن يكون إمّا لأجل دخله في اقتضاء المقتضي ، وإمّا لأجل غرض

١٤٩

آخر ، والمفروض عدم غرض آخر في البين ؛ لأنّ محلّ الكلام ما إذا لم يكن في البين سوى المقدّمة وذيها ، فيتعيّن أن يكون لأجل دخله في اقتضاء المقتضي وإلّا لزم لغويّته.

وحينئذ فنقول : المقتضي لوجوب المقدّمة ليس إلّا المقدّميّة وتوقّف الواجب النفسي عليها ، ودخل القيد المذكور في المقدّميّة مستلزم للدور ؛ لأنّ وجود ذي المقدّمة يتوقّف على وجود المقدّميّة وتحقّقها كما هو واضح ، فلو كان وجود المقدّميّة متوقّفا على الإيصال الذي هو في معني وجود ذي المقدّمة لزم الدور.

ويمكن الذبّ عن الكلّ ،

أمّا عن الأوّل فبإمكان أن تكون الطهارة أثرا لجزء المطلوب أعني الغسلتين والمسحتين مثلا لا لامتثال تمام المطلوب ،

وأمّا عن الثاني فبأنّه مجرّد استبعاد لا يعتنى به في مقابل حكم الوجدان باعتبار قيد الإيصال.

وأمّا عن الثالث فبالتزام أنّ أخذ قيد الإيصال يكون لأجل دخله في اقتضاء المقتضي، لكن نقول : إنّ المقتضي لوجوب المقدّمة على حسب مدّعى هذا القائل هو المقدّميّة ووصف الإيصال معا ، لا المقدّميّة فقط كما هو مدّعى غيره ، وبالجملة ، فجعل المقتضي هو المقدّميّة فقط ثمّ الإشكال بلزوم الدور ذهول عن مدّعى القائل المذكور.

فينحصر وجه بطلان هذا الوجه الأخير في أنّ الوجدان حاكم بأنّ المقتضي لوجوب المقدّمة ليس إلّا المقدّميّة والتوقّف ؛ إذ على هذا لا محيص عن إشكال الدور أو اللغويّة كما عرفت ، ومن هنا يتّضح فساد القول باعتبار قصد الإيصال ؛ فإنّ اعتباره بعد وضوح عدم مدخليّته في المقدّميّة وعدم غرض آخر في البين لغو.

فقد تلخّص ممّا ذكرنا أنّ التقييد بالإيصال غير ممكن على بعض الوجوه ، وخلاف الوجدان على بعض آخر ، لكنّ القول بأنّ ذات المقدّمة على وجه الإطلاق مطلوبة أيضا غير ممكن ؛ لعدم إمكان الإطلاق بعد عدم إمكان التقييد ، وأيضا

١٥٠

الوجدان حاكم بأنّ المقدّمة المنفردة غير مطلوبة ، فاللازم اختيار وجه لم يخالف هذا الوجدان مع سلامته عن إشكالات التقييد بالإيصال.

وهو بأن يقال : إنّ الآمر والطالب يلاحظ ذوات مقدّمات مطلوبه بدون تقييدها بالإيصال ، ولا على وجه الإطلاق ، بل على وجه الإهمال ، لكنّها متّصفة في ذهنه بترتّب بعضها على بعض وعدم انفكاك البعض عن البعض المستلزم للإيصال إلى ذيها ، فالطلب يتعلّق بالذات المهملة لكن في ظرف ترتّب البعض على البعض ، وهذا يوجب أن لا يتّصف بالمطلوبيّة في الخارج إلّا المقدّمة التي يرتّب عليها وجود ذيها ؛ لأنّها المنطبقة على ما في ذهن الآمر ، وأمّا المقدّمة المنفردة فهي مضادّة له في وصف الانفراد وإن كانت مصداقا للذات المهملة.

والحاصل أنّ الطلب يتعلّق في الحقيقة بالمقيّد بالإيصال ، وإن لم يكن الملحوظ إلّا الذات المهملة فلا حاجة إلى التقييد ، لحصول القيد لبّا ، فهذا نظير الأعراض الذهنيّة المتقوّمة باللحاظ الخاصّ كعرض الكليّة ؛ فإنّه يعرض على الطبيعة في ظرف التجريد لكن مع قطع النظر عن وصف تجريده ؛ إذ لو لوحظ معها هذا الوصف باينت الخارجيّات ومع ذلك لا يسري منها الكليّة إلى الأفراد لما هي عليه من الاحتفاف بالخصوصيّات وعدم الاتّصاف بالتجريد ، ولازم هذا الوجه عدم حصول امتثال الأمر بالمقدّمة إلّا مقارنا لحصول امتثال الأمر بذيها.

ويشهد لما ذكرنا أنّ المقدّمات العباديّة المعتبر وقوعها على وجه العباديّة كالوضوء قد اتفق الكلّ على أنّه يعتبر فيها إتيانها بقصد غاية من الغايات التي تطلب هي لأجلها ، مع أنّه لو كان الأمر متعلّقا بذات المقدّمة بأيّ وجه اتفقت لكفى في عباديّتها الإتيان بها بداعي الأمر المقدّمي بها ولو مع العزم على عدم إتيان ذيها.

وأمّا على ما ذكرنا فطريق حصول القرب بها وجعلها عبادة هو أن يقصد بإتيانها التّوصل إلى غاية من غاياتها ، وحينئذ فإن اتّفق عدم التوصّل حصل القرب من باب الانقياد وإن لم يحصل امتثال تمام المطلوب ، وعلى هذا فنقول : إنّ الطهارة تحصل بالغسلتين والمسحتين مع اقترانها بحصول القرب ولو من باب الانقياد.

١٥١

ويتفرّع على هذا الوجه أنّه بناء على القول بكون ترك أحد الضدّين مقدّمة لوجود الآخر يرتفع إشكال اجتماع الضدّين في العبادة الموسّعة المزاحمة بواجب مضيّق لو كانت مطلوبة ، فإن ترك الصلاة مثلا إنّما يطلب مقدّمة للإزالة إذا ترتّب عليه فعل الإزالة ، وأمّا الترك المنفرد عنها فليس محبوبا ، فلا يمتنع أن يصير مبغوضا ، ففعل الصلاة بالإضافة إلى الترك المتوصّل به مبغوض لا محالة ، وأمّا بالإضافة إلى الترك الغير المتوصّل به فيمكن أن يصير مطلوبا من دون أن يلزم اجتماع الضدّين.

نعم يبقى إشكال التكليف بما لا يطاق اللازم من اجتماع الأمر بالصلاة والأمر بالإزالة في زمان واحد ، فيدفعه بأنّ الأمر بالإزالة متوجّه على وجه الإطلاق ، وبالصلاة متوجّه مشروطا بترك الإزالة ، واجتماعهما بهذا النحو لا يقتضي الجمع بينهما.

الامر الرابع

هل الأمر المتعلّق بالمسبّب يجب إرجاعه إلى السبب عقلا ، أم هو حقيقة متعلّقة بنفس المسبّب ، والسبب إنّما يجب من باب المقدّمة؟ الوجوه المتصوّرة في المقام ثلاثة ، أحدها أن يقال : إنّ الأمر بالمسبّب مطلقا راجع إلى السبب عقلا ، والثاني أن يقال : إنّ الأمر بالمسبّب متعلّق بنفسه مطلقا ، والثالث : التفصيل بين ما إذا كانت الواسطة من قبيل الآلات مثل انكسار الخشبة المتحقّق باتصال الآلة قوّة الإنسان إليها ، وبين ما إذا لم تكن كذلك ، كما لو كان في البين فاعل آخر كما في إلقاء نفس إلى السبع فيتلفه أو إلقاء شخص في النار فيحرقه.

احتجّ للأوّل بأنّ متعلّق الإرادة والتكليف إنّما هو فعل المكلّف ؛ إذ لا معنى للأمر بما ليس من فعله ، والأفعال المرتّبة على أسباب خارجيّة ليست من فعله بل هي من فعل تلك الأسباب والوسائط ؛ لانفكاكها عن المكلّف في بعض الأحيان ، كما إذا رمى سهما فمات فأصاب زيدا بعد موت الرامي ، فلو كان الفاعل هو الرامي لما جاز وجود القتل في ظرف عدم الرامي ؛ لامتناع انفكاك المعلول عن علّته زمانا ، فيكشف

١٥٢

ذلك عن عدم كون الفاعل في المثال هو الرامي بل هو السهم ، غاية الأمر لم يكن فاعلا بالطبع ، وإنّما يكون فاعليّته من جهة إحداث الرامي القوّة فيه ، وقس على ذلك سائر الأمثلة.

واجيب عنه بأنّا نسلّم أنّ التكليف لا يتعلّق إلّا بما يعدّ فعلا للمكلّف ، إلّا أن نقول: إنّ الفعل الصادر عنه له عنوان أوّلي وعناوين ثانويّة متّحدة معه بواسطة ترتّب الآثار عليه ، مثلا حركة اليد المؤثّرة في حركة المفتاح لها عنوان أوّلي وهو حركة اليد ، وتحريك اليد وبملاحظة تأثيرها في حركة المفتاح ينطبق عليها تحريك المفتاح ، وبملاحظة تأثيرها في انفتاح الباب ينطبق عليها فتح الباب ولا إشكال في أنّه كما أنّ حركة اليد ، التي هي الفعل الأوّل للفاعل فعل له ، كذلك العناوين المتّحدة معها ؛ لمكان اتّحادها مع فعله الأوّل في الخارج ، وحينئذ لو تعلّق التكليف بتحريك المفتاح التي يتّحد مع تحريك اليد الذي هو فعل للمكلّف فلا موجب لإرجاعه إلى التعلّق بتحريك اليد ، إذ كما أنّه فعل اختياري له كذلك ما يتّحد معه.

وقد يناقش في هذا الجواب بأنّ تحريك المفتاح في المثال لا يمكن أن ينطبق على تحريك اليد ؛ لأنّه عين حركة المفتاح في الخارج لما تقرّر من وحدتهما في الخارج ، وإنّما الفرق من حيث الاعتبار وهي غير حركة اليد المتّحدة مع تحريكها ، فيجب أن يكون تحريك المفتاح أيضا غير تحريك اليد ، وإلّا لزم كون حركة اليد وحركة المفتاح متّحدين أيضا ، والمفروض خلافه.

والجواب إنّا لا نقول بانطباق العنوانين في عرض واحد بل نقول : إنّ الفعل الذي يكون عنوانه تحريك اليد في الآن الأوّل ينقلب عنوانه إلى تحريك المفتاح في الآن الثاني فافهم، هذا ، ولكن لا يخفى أنّ هذا إنّما يصحّ فيما إذا كانت الواسطة من قبيل الآلة ، وأمّا إذا كان هناك فاعل آخر يصدر عنه الفعل فلا يمكن القول باتّحاد الفعل الصادر عنه مع الفعل الصادر عن الفاعل الأوّل ، وهذا واضح.

وقد يجاب أيضا عن أصل الدليل بأنّا لا نسلّم لزوم تعلّق الإرادة بالفعل الصادر عن الفاعل ، بل يكفي في قابليّة تعلّق الحكم بشيء كونه مستندا إلى المكلّف بنحو من

١٥٣

الإسناد ، سواء كان بنحو الفاعليّة أو على نحو تأثير الشرط في وجود المشروط أو غير ذلك.

وبعبارة اخرى : الكلام في المقام إنّما هو في أنّ متعلّق الإرادة بحسب حكم العقل ما ذا؟ فنقول : ما يقطع العقل باعتباره في متعلّق الطلب هو ارتباط المطلوب بالمكلّف بنحو من أنحاء الارتباط ، فخرج به ما ليس للمكلّف تأثير فيه بنحو من الأنحاء ، وأمّا لو كان له ربط بالمكلّف بوجه بحيث يكون وجوده منوطا باختياره بحيث لو شاء يوجد ولو لم يشأ لم يوجد ، فنمنع استحالة تعلّق التكليف به عقلا.

وفيه أنّه لو أراد أنّ التكليف فيما ليس بيد المكلّف إلّا إيجاد شرطه كالإحراق بالنار مثلا متعلّق بما هو شأن الواسطة ، كما إذا تعلّق التكليف بما هو شأن النار في المثال فهذا غير معقول ، وإن أراد أنّ التكليف متعلّق بما هو شأن المكلّف فهو راجع إلى الأمر بإيجاد الواسطة.

توضيح المقام على وجه يرفع الإبهام عن وجه المرام أنّ الأعراض باعتبار النسبة إلى محالّها تختلف تارة بكون نسبتها إليها بمجرّد كونها حالة بها من دون أن تكون صادرة عن محالّها كالموت والحياة والسواد والبياض ، واخرى يكون نسبتها إليها من جهة أنّها صادرة عنها كالضرب والقيام.

أمّا ما كان من قبيل الأوّل فلا إشكال في عدم قابليّة تعلّق الطلب به ؛ ضرورة أنّ الطلب يقتضي صدور الفعل من الفاعل ، وما ليس من مقولة الحركة والفعل لا يمكن تعلّق الطلب به ؛ لأنّ إرادة الآمر مثل إرادة الفاعل في كونها موجبة لتحريك العضلات ، غاية الأمر أنّ الأوّل موجب لتحريك عضلات المأمور والثاني موجب لتحريك عضلات المريد ، وظاهر أنّ ما ليس من قبيل الحركة لا يمكن تعلّق إرادة الفاعل به ، فكذلك إرادة الآمر ، فلو تعلّق الطلب بحسب الصورة بمثل ما ذكر يجب إرجاعه إلى ما يرجع إلى فعل المأمور.

والحاصل أنّ متعلّق الطلب لا بدّ وأن يكون معنى مصدريّا صادرا عن المخاطب بالخطاب ، فلو لم يكن كذلك بأن لم يكن من معنى المصدر ، أو كان ولم يكن صادرا

١٥٤

من المأمور لم يمكن تعلّق الأمر به ، أمّا الأوّل فلما عرفت ، وأمّا الثاني فلما مضى من أنّ الإرادة ما يوجب تحريك عضلات الفاعل إلى الفعل ولا يمكن تحريكها إلّا إلى فعل نفسه.

فتحصّل ممّا ذكرنا أنّ الطلب إذا تعلّق صورة بما ليس من الفعل الصادر من الفاعل يجب توجيهه بما يرجع إلى ذلك ، ومن هنا يقوي التفصيل بين ما إذا تعلّق التكليف بما ليس بينه وبين المكلّف إلّا آلة توصل قوّة الفاعل إلى القابل ، وما إذا تعلّق بالأفعال التي ليس فعلا له ، بل هي أفعال للواسطة ، ففي الأوّل التكليف متعلّق بنفس ذلك الفعل وفي الثاني يجب إرجاعه إلى السبب فليتأمّل جيّدا.

الأمر الخامس

لو بنينا على وجوب المقدّمة فهل أجزاء المركّب المتّصف بالوجوب النفسي يتّصف به أو بالوجوب المقدّمي ، والحق هو الثاني ، فهنا دعويان ، إحداهما : عدم اتّصاف الأجزاء بالوجوب النفسي ، والثانية : اتّصافها بالوجوب المقدّمي.

لنا على الاولى أنّ الأوامر يتعلّق بالموجودة في الذهن باعتبار حكايتها عن الخارج ، فالشيء ما لم يوجد في الذهن لا يعقل تعلّق الأمر به وهذه المقدّمة في الوضوح ممّا يستغنى عن البرهان ، فحينئذ الأجزاء الموجودة في ذهن الآمر لا يخلو من أنّها إمّا أن لوحظ كلّ واحد منها بوجوداتها المستقلّة الغير المرتبط بعضها مع بعض نظير العام الافرادي ، وإمّا أن لوحظ المجموع منها على هيئتها الاجتماعيّة.

فعلى الأوّل لا بدّ وأن ينحلّ الإرادة بإرادات متعدّدة كما في العام الأفرادي ؛ إذ الإرادة أمر قائم بنفس المريد متعلّق بالأفعال ، فكما أنّه يتعدّد بتعدّد المريد كذلك يتعدّد بتعدّد المراد ؛ إذ لا يعقل وحدة العرض مع تعدّد المعروض ، وعلى الثاني أي على تقدير كون الملحوظ الأجزاء على نحو الاجتماع فالملحوظ بهذا الاعتبار أمر واحد ، ولا يعقل أن يشير اللاحظ في هذا اللحاظ إلى امور متعدّدة ، فوجود الأجزاء بهذا الاعتبار في ذهن الآمر نظير وجود المطلق في ذهن من لاحظ المقيّد في أنّه وإن كان موجودا ، إلّا أنّه لا على وجه يشاء الله ، بل هو موجود تبعا للمقيّد ومندكّا فيه.

١٥٥

والحاصل أنّ الموجود بهذا الاعتبار ليس إلّا الكلّ ، والأجزاء بوجوداتها الخاصّة لا وجود لها ، فمتعلّق الأمر النفسي لا يعقل إلّا أن يكون الكلّ الموجود في ذهن الآمر مستقلّا ، والأجزاء لعدم وجودها في الذهن بهذا اللحاظ لا يمكن أن تكون متعلقة للأمر ، نعم يمكن استناد الأمر إليها بالعرض ، نظير استناد الأمر المتعلّق بالمقيّد إلى ذات المطلق أعني الطبيعة المهملة.

وهذا هو المراد من كلام شيخنا المرتضى قدس‌سره الشريف في التقريرات أنّ الجزء إذا لوحظلا بشرط فهو عين الكلّ ، وإذا لوحظ بشرط لا فهو غيره ومقدّمة لوجوده ، والمراد من قوله قدس‌سره : لا بشرط ، عدم اشتراط أن يكون في ذهن الآمر معه شيء أم لا وهو الصالح لأن يتّحد مع الكل ، ومن قوله : بشرط لا ، عدم ملاحظة الآمر معه شيئا أعني ملاحظته مستقلا ، ولا إشكال في أنّ الجزء بهذا اللحاظ لا يصلح أن يتّحد مع الكلّ ويحمل عليه ؛ إذ لا يصدق على الحمد ولا على غيره من أجزاء الصلاة أنّه صلاة.

ولنا على الثانية أنّ الآمر إذا لاحظ الجزء بوجوده الاستقلالي أي غير ملحوظ معه شيء يرى أنّه ممّا يحتاج إليه تلك الهيئة الملتئمة من اجتماع الأجزاء ، فحاله حال سائر المقدّمات الخارجيّة من دون تفاوت أصلا ، هذه خلاصة الكلام في المقام وعليك بالتأمّل التام.

الأمر السادس

في ذكر حجج القائلين بوجوب المقدّمة.

أقول : ما تمسّك به في هذا المقام وجوه اسدّها وامتنها ما احتجّ به شيخنا المرتضىقدس‌سره من شهادة الوجدان ؛ فإنّ من راجع وجدانه وأنصف من نفسه يقطع بثبوت الملازمة بين الطلب المتعلّق بالفعل والمتعلّق بمقدّماته ، لا نقول بتعلّق الطلب الفعلي بها كيف والبداهة قاضية بعدمه ، لجواز غفلة الطالب عن المقدّمة ؛ إذ ليس النزاع منحصرا في الطلب الصادر من الشارع حتّى لا يتصوّر في حقّه ذلك ، بل

١٥٦

المقصود أنّ الطالب للشيء لو التفت إلى مقدّمات مطلوبه يجد من نفسه حالة الإرادة على نحو الإرادة المتعلّقة بذيها ، كما قد يتّفق هذا النحو من الطلب النفسي أيضا فيما إذا غرق ابن المولى ولم يلتفت إلى ذلك أو لم يلتفت بكونه ابنه ؛ فإنّ الطلب الفعلي في مثله غير متحقّق ؛ لابتنائه على الالتفات ، لكنّ المعلوم من حاله أنّه لو التفت إلى ذلك لأراد من عنده الإنقاذ ، وهذه الحالة وإن لم يكن طلبا فعليّا إلّا أنّها تشترك معه في الآثار ، ولهذا نرى بالوجدان في المثال المذكور أنّه لو لم ينقذ العبد ابن المولى عدّ عاصيا ويستحقّ العقاب.

ومنها اتفاق أرباب العقول كافّة عليه على وجه يكشف عن ثبوت ذلك عند العقل نظير الإجماع الذي ادّعي في علم الكلام على وجود الصانع أو على حدوث العالم ؛ فإنّ اتّفاق أرباب العقول كاشف قطعي إجمالا عن حكم العقل ، فلا يرد على المستدلّ أنّ المسألة لكونها عقليّة لا يجوز التمسّك لها بالإجماع ، لعدم كشفه عن رأي المعصوم عليه‌السلام ؛ لأنّ الإيراد متوجّه لو أراد من الإجماع المستدلّ به الإجماع الاصطلاحي ، أمّا على الوجه الذي قرّرناه فلا مجال للإيراد ، هذا ولكن الشأن في إثبات مثل هذا الاتّفاق.

ومنها أنّ المقدّمة لو لم تكن واجبة لجاز تركها ، فحينئذ فإن بقي الواجب على وجوبه يلزم التكليف بالمحال وإلّا يلزم خروج الواجب المطلق عن كونه واجبا مطلقا ، وبطلان اللازمين ممّا لا كلام فيه فكذا الملزوم.

والجواب أنّ ما اضيف إليه الطرف في قوله فحينئذ إن كان الجواز ، نختار الشقّ الأوّل أعني : بقاء الواجب على وجوبه ولا يلزم المحذور قطعا ؛ لعدم معقوليّة تأثير الوجوب في القدرة ، وإن كان الترك مع كونه جائزا ، فإن فرض إمكان ايجاد المقدّمة عند ذلك بأن كان الوقت موسّعا فنختار أيضا الشقّ الأوّل ولا يلزم التكليف بالمحال وهو واضح ، وإلّا بأن انقضى زمان الإتيان بها فنختار الشق الثاني ، وقوله : يلزم خروج الواجب المطلق عن كونه كذلك فإن أراد خروجه من أوّل الأمر عن كونه كذلك كما هو ظاهر عبارته فنمنع الملازمة ، وإن أراد خروجه بعد ترك المقدّمة و

١٥٧

انقضاء زمانها فليس اللازم باطلا ؛ لأنّ الوجوب قد يسقط بالإطاعة وقد يسقط بالعصيان.

ومنها ما حكي عن المحقّق السبزواري قدس‌سره وهو أنّها لو لم تكن واجبة يلزم عدم كون تارك الواجب المطلق مستحقّا للعقاب ، بيان الملازمة أنّه إذا كلّف الشارع بالحجّ ولم يصرّح بإيجاب المقدّمات فتارك الحجّ بترك قطع المسافة الجالس في بلده إمّا أن يكون مستحقّا للعقاب في زمان ترك المشي أو في زمان ترك الحج في موسمه المعلوم ، لا سبيل إلى الأوّل ؛ لأنّه لم يصدر منه في ذلك الزمان إلّا ترك الحركة ، والمفروض أنّها غير واجبة عليه ، ولا إلى الثاني ؛ لأنّ الإتيان بأفعال الحجّ في ذي الحجّة ممتنع بالنسبة إليه ، فكيف يكون مستحقّا للعقاب بما يمتنع صدوره عنه.

ألا ترى أنّ الإنسان إذا أمر عبده بفعل معيّن في زمان معيّن في بلد بعيد والعبد ترك المشي إلى ذلك البلد ، فإن ضربه المولى عند حضور ذلك الزمان معترفا بأنّه لم يصدر إلى الآن عنه فعل قبيح يستحقّ به التعذيب ، لكنّ القبيح أنّه لم يفعل في هذه الساعة هذا الفعل في ذلك البلد ، لنسبه العقلاء إلى سخافة الرأي وركاكة العقل ، بل لا يصحّ إلّا للاستحقاق السابق قطعا.

ثمّ نقول : إذا فرضنا أنّ العبد بعد ترك المقدّمات كان نائما في زمان الفعل فإمّا أن يكون مستحقّا للعقاب أولا ، لا وجه للثاني ؛ لأنّه ترك المأمور به مع كونه مقدورا فثبت الأوّل ، فإمّا أن يحدث استحقاق العقاب في حالة النوم أو حدث قبل ذلك ، لا وجه للأوّل؛ لأنّ استحقاق العقاب إنّما يكون لفعل القبيح ، وفعل النائم والساهي لا يتّصف بالحسن والقبح بالاتّفاق ولا وجه للثاني ؛ لأنّ السابق على النوم لم يكن إلّا ترك المقدّمة والمفروض عدم وجوبها ، هذا حاصل ما أفاده وقد نقلناه ملخّصا.

والجواب أنّه لا محذور في اختيار كلّ واحد من الشقّين ، فلنا أن نختار الشقّ الأوّل وهو استحقاق العقاب في زمان ترك المشي لا على ترك المشي ، بل على ترك الحجّ المستند إلى ترك المقدّمة اختيارا ؛ فإنّ طريقة الإطاعة والمعصية مأخوذة من العقلاء وهم يحكمون بحسن عقاب العبد التارك للمقدّمة في زمن تركها ولا يلزمون

١٥٨

على المولى انتظار زمن الفعل ، وليس هذا التزاما بترتّب العقاب على تلك المقدّمة ، بل المقصود إثبات العقاب المترتّب على ترك ذيها في زمن ترك المقدّمة وامتناع ذيها اختيارا.

ولنا أن نختار الشقّ الثاني ونقول : إنّ تارك المقدّمة مستحقّ للعقاب في زمان الحج ، وقوله قدس‌سره : إنّ فعل الحجّ هناك غير مقدور فلا يمكن اتّصافه بالقبح ، غير وجيه ؛ لأنّا نقول : يكفي في اتّصافه بالمقدوريّة كون المكلّف قادرا على إتيان مقدّمته في زمانها ، فاتّصاف مثل هذا الفعل المقدور بواسطة مقدوريّة مقدّماته بالقبح لا مانع له ، وأىّ قبح أعظم من ترك الواجب مع الاقتدار عليه.

وأمّا ما ذكره قدس‌سره أخيرا من فرض كون تارك المقدّمة نائما في زمن الفعل ، فالجواب عنه أنّ ما لا يمكن أن يتّصف بالحسن والقبح من فعل النائم إنّما يكون فيما استند إلى النوم مثل ما إذا ترك الصلاة مستندا إلى النوم ، وليس هذا الترك فيما نحن فيه مستندا إلى النوم حتّى لا يمكن اتصافه بالقبح ، بل هو مستند إلى ترك المقدّمة في زمانها اختيارا ، وهذا النوم المفروض وقوعه زمن امتناع الفعل وجوده وعدمه سيّان وهذا واضح.

ومنها : ما حكي عن المحقّق المذكور أيضا وهو أنّها لو لم تكن واجبة لزم أن لا يستحقّ تارك الفعل العقاب أصلا ، وبيانه أنّ المريد للشيء إذا تصوّر أحوالا مختلفة يمكن وقوع كلّ واحد منها ، فإمّا أن يريد الإتيان بذلك على أيّ تقدير من تلك التقادير أو يريد الإتيان به على بعض تلك التقادير ، وهذا ممّا لا إشكال فيه.

وحينئذ نقول : إذا أمر أحد بالإتيان بالواجب في زمانه ، وفي ذلك الزمان يمكن وجود المقدّمات ويمكن عدمها ، فإمّا أن يريد الإتيان به على أيّ تقدير من تقديري الوجود والعدم، فيكون في قوّة قولنا : إن وجدت المقدّمة فافعل وإن عدمت فافعل ، وإمّا أن يريد الاتيان به على تقدير الوجود ، والأوّل محال ؛ لأنّه يستلزم التكليف بما لا يطاق فثبت الثاني ، فيكون وجوبه مقيّدا بحضور المقدّمة فلا يكون تاركه بترك المقدّمة مستحقّا للعقاب ؛ لفقدان شرط الوجوب ، والمفروض عدم وجوب المقدّمة

١٥٩

فينتفي استحقاق العقاب رأسا.

والجواب أمّا أوّلا : فبأنّه لو تمّ ما ذكره هنا لزم أن لا يقع الكذب في الأخبار المستقبلة، بيان الملازمة أنّه لو أخبر المخبر بأنّي غدا أشتري اللحم ، فعلى تقدير عدم الشراء لا وجه لتكذيبه ؛ إذ له أن يقول : إنّ الإخبار بشراء اللحم إمّا أن يكون على تقدير ايجاد جميع المقدّمات أو الأعمّ من ذلك وعدمها ، لا سبيل إلى الثاني لأوله إلى الإخبار عن الممتنع، فثبت الأوّل فيئول إلى الإخبار بشراء اللحم على تقدير وجود جميع المقدّمات ، والمفروض عدم وجود واحدة منها أو لا أقلّ من ذلك ، فلا يكون كذبا ؛ إذ عدم تحقّق اللازم في صورة عدم تحقّق الملزوم ليس كذبا في القضيّة الشرطيّة الخبريّة.

وأمّا ثانيا : فبأن اللازم على ما ذكره عدم استحقاق العقاب على ترك واجب أصلا ؛ لرجوع الواجبات بأجمعها إلى الواجب المشروط ، بيان ذلك أنّ كلّ واجب لا بدّ له من مقدّمة ولا أقلّ من إرادة الفاعل ، فحينئذ نقول : إمّا أن يريد ذلك الفعل في حالتي وجود المقدّمة وعدمها أو في حالة وجودها فقط ، والأوّل مستلزم للتكليف بما لا يطاق ، والثاني مستلزم لعدم استحقاق العقاب على ترك واجب من الواجبات ؛ إذ ترك الواجب المشروط بترك شرطه ليس موجبا للعقاب ، وليت شعري هل ينفعه وجوب المقدّمة في دفع هذا الإشكال؟.

وأمّا ثالثا : فبأنّ الحالات التي تؤخذ في موضوع الطلب إطلاقا أو تقييدا هي ما يمكن تعلّق الطلب بالموضوع معه ويجوز كونه في تلك الحالة باعثا للمكلّف نحو الفعل ، وأمّا ما لم يكن كذلك بأن لا يمكن معه أن يكون الطلب باعثا للمكلّف نحو الفعل فلا يعقل تقييد الطلب به ولا إطلاقه.

أمّا الأوّل فللزوم لغويّة الطلب ، وأمّا الثاني فلأنّه تابع لإمكان التقييد ، وحالتا وجود المقدّمة وعدمها من قبيل الثاني ، لأنّه على الأوّل يصير الفعل واجبا فلا يمكن تعلّق الطلب به على تقدير وجوبه ، وعلى الثاني يصير ممتنعا ، فلا يمكن أيضا تعلّق الطلب به على هذا التقدير ، وبعد عدم إمكان تقييد الطلب بأحدهما لا يمكن ملاحظة

١٦٠