تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام - ج ٣٩

شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذّهبي

[تدريس ابن الجوزي تحت منظرة الخليفة]

وفي رجب تكلم ابن الجوزيّ ، قال (١) : تقدّم إليّ بالجلوس تحت منظرة أمير المؤمنين ، فتكلّمت بعد العصر ، وحضر السّلطان ، واكترى النّاس الدّكاكين ، وكان موضع كلّ رجل بقيراط ، حتّى إنّه اكتريت دكّان بثمانية عشر قيراطا. ثمّ جاء رجل فأعطاهم ستّة قراريط حتّى جلس معهم. ودرّست بالمدرسة الّتي وقفتها أمّ الخليفة ، وحضر قاضي القضاة ، وخلعت عليّ خلعة ، وألقيت يومئذ دروسا كثيرة من الأصول والفروع. ووقف أهل باب النّوبي إلى باب هذه المدرسة كما يكون العيد وأكثر. وعلى باب المدرسة ألوف ، وكان يوما مشهودا ، لم ير مثله. ودخل على قلوب أرباب المذاهب غمّ عظيم. وتقدّم ببناء دكّة لنا في جامع القصر ، فانزعجوا ، وقالوا : ما جرت عادة الحنابلة بدكّة ، فبنيت وجلست فيها (٢).

[فتنة الأمير تتامش]

وكان الأمير تتامش قد بعث إلى بلد الغرّاف (٣) من نهبهم وآذاهم ، ونجا منهم جماعة ، فاستغاثوا ، ومنعوا الخطيب أن يخطب ، وفاتت الصّلاة أكثر النّاس ، فأنكر أمير المؤمنين ما جرى ، وأمر تتامش وزوج أخته قايماز ، فلم يحفلا بالإنكار ، وأصرّا على الخلاف ، وجرت بينهما وبين ابن العطّار منابذات ، ثمّ أصلح بينهم. فلمّا كان الغد ، أظهروا الخلاف ، وضربوا النّار في دار ابن العطّار ، وطلبوه فاختفى. فطلب الخليفة قايماز فأبى ، وبارز بالعناد.

وكان قد حلّف الأمراء ، وخرج هو وتتامش وجماعة من الأمراء من بغداد ، فنهبت العوامّ دورهم ، وأخذوا أموالا زائدة عن الحدّ (٤).

__________________

(١) في المنتظم ١٠ / ٢٥٢ ، ٢٥٣ (١٨ / ٢١٤ ، ٢١٥).

(٢) مرآة الزمان ٨ / ٣٢٦ ، البداية والنهاية ١٢ / ٢٩١.

(٣) الغرّاف : بالتشديد ، على وزن فعّال. وهو نهر كبير تحت واسط بينها وبين البصرة ، وعلى هذا النهر كورة فيها قرى كثيرة وهي بطائح. (معجم البلدان ٤ / ١٩٠).

(٤) المنتظم ١٠ / ٢٥٣ ، ٢٥٤ (١٨ / ٢١٥).

٦١

وقال ابن الأثير (١) : ودخل بعض الصّعاليك فأخذ أكياس دنانير ، وفزع لا يؤخذ منه ، فدخل إلى مطبخ الدّار ، فأخذ قدرة مملوءة طبيخا ، فألقى فيها الأكياس ، وحملها على رأسه ، فضحك النّاس منه فقال : دعوني أطعم عيالي ثمّ استغنى بعد ذلك ، ولم يبق من نعمة قطب الدّين في ساعة واحدة لا قليل ولا كثير (٢).

وأمّا العامّة فثاروا بأعوان قطب الدّين ، وأحرقوا من دورهم مواضع كثيرة ، وبقي أهلها في جزع وحيرة ، وقصدوا الحلّة ، ثمّ طلبوا الشّام وقد تقلّل جمعهم ، وبقي مع قايماز عدد يسير.

[إعادة ابن رئيس الرؤساء إلى الوزارة]

ثمّ خلع على الوزير ابن رئيس الرؤساء ، وأعيد إلى الوزارة (٣).

[وفاة قايماز]

وكتب الفقهاء فتاويهم أنّ قايماز مارق ، وذلك في ذي القعدة.

ثمّ جاء الخبر في ذي الحجّة أنّ قايماز توفّي ، وأنّ أكثر أصحابه مرضى ، فسبحان مزيل النّعم عن المتمرّدين (٤).

[امتلاك صلاح الدين دمشق]

وفيها ملك صلاح الدّين دمشق بلا قتال ، وكتب إلى مصر رجل من بصرى في الرابع والعشرين من ربيع الأوّل ، وقد توجّه صاحبها في الخدمة :

ثمّ لقينا ناصر الدّين بن المولى أسد الدّين والأمير سعد الدّين بن أنر (٥) ، ونزلنا في الثّامن والعشرين بجسر الخشب ، والأجناد إلينا متوافية من دمشق.

__________________

(١) في الكامل.

(٢) في الأصل : «لا قليلا ولا كثيرا».

(٣) المنتظم ١٠ / ٢٥٤ (١٨ / ٢١٥).

(٤) المنتظم ١٠ / ٢٥٤ (١٨ / ٢١٥) ، البداية والنهاية ١٢ / ٢٩١.

(٥) في الأصل : «أنز» بالزاي ، والتحرير من : الروضتين ج ١ ق ٢ / ٦٠٣.

٦٢

وأصبحنا ركبنا على خيرة الله ، فعرض دون الدّخول عدد من الرجال ، فدعستهم (١) عساكرنا المنصورة وصدمتهم ، ودخلنا البلد ، واستقرّت بنا دار ولدنا ، وأذعنا في أرجاء البلد النّداء بإطابة النّفوس وإزالة المكوس ، وكانت الولاية فيهم قد ساءت وأسرفت وأجحفت ، فشرعنا في امتثالنا أمر الشّرع (٢).

[هدم قلعة حمص]

ثمّ نازل صلاح الدّين بحمص ، ونصبت المجانيق على قلعتها حتّى دكّتها (٣).

[أخذ حماه]

وسار إلى حماه ، فملكها في جمادى الآخرة (٤).

[محاصرة حلب واستغاثة صاحبها بالباطنية]

ثمّ سار إلى حلب ، وحاصرها إلى آخر الشّهر ، واشتدّ على الصّالح إسماعيل بن نور الدّين بها الحصار ، وأساء صلاح الدّين العشرة في حقّه ، واستغاث الصّالح بالباطنيّة ، ووعدهم بالأموال ، فقتلوا الأمير ناصح الدّين خمارتكين وجماعة ، ثمّ قتلوا عن آخرهم (٥).

__________________

(١) الدّعس : الطعن ، كالتدعيس ، والمدعس : الرمح يدعس به أي يطعن. (القاموس المحيط).

(٢) الكامل ١١ / ٤١٥ ـ ٤١٧ ، النوادر السلطانية ٥٠ ، الروضتين ج ١ ق ٢ / ٦٠٣ ، ٦٠٤ ، سنا البرق الشامي ١ / ١٧٦ ، ١٧٧ ، مرآة الزمان ٨ / ٣٢٦ ـ ٣٢٨ ، البداية والنهاية ١٢ / ٢٨٨.

(٣) الكامل ١١ / ٤١٧ ، النوادر السلطانية ٥٠ ، الروضتين ج ١ ق ٢ / ٦٠٧ ، تاريخ الزمان ١٩٠ ، سنا البرق الشامي ١ / ١٨٠ ، مفرّج الكروب ٢ / ٢٢ ، ٢٣ ، زبدة الحلب ٣ / ٢٠ ، ٢١ ، مسالك الأبصار (مخطوط) ٢٧ / ٣٢ ب ، عقد الجمان (مخطوط) ١٢ / ١٩٦ ب ، المغرب في حلى المغرب ١٤٥ ، المختصر في أخبار البشر ٣ / ٥٦ ، العبر ٤ / ٢١٠ ، البداية والنهاية ١٢ / ٢٨٨ ، ٢٨٩.

(٤) الكامل ١١ / ٤١٨ ، التاريخ الباهر ١٧٦ ، سنا البرق الشامي ١ / ١٧٦ ـ ١٨٣ ، مفرّج الكروب ٢ / ١٧ ـ ٢٠ ، زبدة الحلب ٣ / ١٤ ـ ٢٢ ، النوادر السلطانية ٥٠ ـ ٥٢ ، الروضتين ج ١ ق ٢ / ٦٠٢ ـ ٦١٤ ، تاريخ مختصر الدول ٢١٦ ، تاريخ الزمان ١٩٠ ، المغرب في حلى المغرب ١٤٤ ـ ١٤٦ ، المختصر في أخبار البشر ٣ / ٥٦ ، ٥٧ ، العبر ٤ / ٢١٠ ، دول الإسلام ٢ / ٨٤ ، تاريخ ابن الوردي ٢ / ٨٣ ، ٨٤ ، البداية والنهاية ١٢ / ٢٨٧ ـ ٢٩٠ ، مرآة الجنان ٣ / ٣٩٢ ، تاريخ ابن خلدون ٥ / ٢٥٥ ، ٢٥٦ ، السلوك ج ١ / ٥٨ ، ٥٩ ، تاريخ ابن سباط ١ / ١٤٠ ، شفاء القلوب ٨٤ ـ ٨٧.

(٥) الكامل ١١ / ٤١٨ ، ٤١٩ ، الروضتين ج ١ ق ٢ / ٦١٣ ، ٦١٤ ، سنا البرق الشامي ١ / ١٨١ ،

٦٣

[تسلّم حمص]

ورجع النّاصر صلاح الدّين إلى حمص ، فحاصرها بقيّة رجب ، وتسلّمها بالأمان في شعبان (١).

[تسلّم بعلبكّ]

ثمّ عطف على بعلبكّ فتسلّمها (٢).

[كسرة عسكر حلب والموصل عند حماه]

ثمّ ردّ إلى حمص ، وقد اجتمع عسكر حلب ، وكتبوا إلى صاحب لموصل ، فجهّز جيشه ، وأمدّهم بأخيه عزّ الدّين مسعود بن مودود بن زنكيّ ، فأقبل الكلّ إلى حماه ، فحاصروا البلد ، فسار صلاح الدّين فالتقاهم على قرون حماه (٣) ، فانكسروا أقبح كسرة. ثمّ سار إلى جهة حلب (٤).

__________________

= مفرّج الكروب ٢ / ٢٤ ، المغرب في حلى المغرب ١٤٥ ، مرآة الزمان ٨ / ٣٢٨.

(١) الكامل ١١ / ٤١٩ ، سنا البرق الشامي ١ / ١٨١ ، ١٨٢ ، المختصر في أخبار البشر ٣ / ٥٧ ، نهاية الأرب ٢٨ / ٣٧٦ ، مرآة الجنان ٣ / ٣٩٢.

(٢) الكامل ١١ / ٤٢٠ ، الروضتين ج ١ ق ٢ / ٦٣١ ، سنا البرق الشامي ١ / ١٨٣ ، مفرّج الكروب ٢ / ٢٩ ، ٣٠ ، زبدة الحلب ٢ / ٢٢ ، ٢٣ ، المختصر في أخبار البشر ٣ / ٥٧ ، نهاية الأرب ٢٨ / ٣٧٦ ، العبر ٤ / ٢١٠ ، مرآة الجنان ٣ / ٣٩٢.

(٣) قرون حماه : قلّتان متقابلتان ، جبل يشرف عليهما ، ونهر العاصي ، وبين كل واحد من حماه وحمص والمعرة وسلمية وبين صاحبه يوم ، وبينها وبين شيزر نصف يوم. (معجم البلدان).

(٤) سنا البرق الشامي ١ / ١٨٦ ـ ١٨٣ ، مفرّج الكروب ٢ / ١٧ ـ ٢٠ ، زبدة الحلب ٣ / ١٤ ـ ٢٢ ، النوادر السلطانية ٥٠ ـ ٥٢ ، الروضتين ج ١ ق ٢ / ٦٠٢ ـ ٦١٤ و ٦٣٧ ، تاريخ مختصر الدول ٢١٦ ، تاريخ الزمان ١٩٠ ، المغرب ١٤٤ ـ ١٤٦ ، المختصر في أخبار البشر ٣ / ٥٦ ، ٥٧ ، العبر ٤ / ٢١٠ ، دول الإسلام ٢ / ٨٤ ، تاريخ ابن الوردي ٢ / ٨٣ ، ٨٤ ، مرآة الجنان ٣ / ٣٩٢ ، البداية والنهاية ١٢ / ٢٨٧ ـ ٢٩٠ ، تاريخ ابن خلدون ٥ / ٢٥٥ ، ٢٥٦ ، السلوك ج ١ ق ١ / ٥٨ ، ٥٩ ، تاريخ ابن سباط ١ / ١٣٩ ، ١٤٠ ، شفاء القلوب ٨٤ ـ ٨٧ ، مسالك الأبصار (مخطوط) ٢٧ / ٣٣ أ ، ب ، عقد الجمان (مخطوط) ١٢ / ١٩٧ أ ـ ١٩٨ ب.

٦٤

[مصالحة صلاح الدين لصاحب حلب]

ثمّ وقع الصّلح بينه وبين زنكيّ ، على أن يكون له إلى آخر بلد حماه والمعرّة ، وأن يكون لابن نور الدّين حلب وجميع أنحائها. وتحالفوا وردّ إلى حماه. فجاءه رسل المستضيء بالهدايا والتّشريفات والتّهنئة بالملك (١)

[أخذ حصن بارين]

ثمّ سار إلى حصن بارين ، فحاصره ثمّ أخذه (٢).

[الإنعام بحمص والإنابة بقلعة دمشق]

وأنعم بحمص على ابن عمّه الملك ناصر الدّين محمد بن أسد الدّين شيركوه ، واستناب بقلعة دمشق أخاه سيف الإسلام ظهير الدّين طغتكين (٣).

[أخذ بعلبكّ وعصيان ابن المقدّم بها]

ورجع من حمص ، فنازل بعلبكّ وأخذها من الخادم يمن الرّيحانيّ ثمّ أعطاها للأمير شمس الدّين محمد ابن المقدّم ، فعصى عليه في سنة أربع وسبعين ، فسار إليه ، ثمّ حاصره أشهرا (٤).

__________________

(١) الكامل ١١ / ٤٢٢ ، الروضتين ج ١ ق ٢ / ٦٣٩ ، تاريخ الزمان ١٩١ ، المختصر في أخبار البشر ٣ / ٥٧ ، زبدة الحلب ٣ / ٢٤ ، الدرّ المطلوب ٤٣ و ٥٨ و ٥٩ ، دول الإسلام ٢ / ٨٤ ، ٨٥ ، السلوك ج ١ ق ١ / ٦٠.

(٢) الكامل ١١ / ٤٢٢ ، ٤٢٣ ، سنا البرق الشامي ١ / ١٩٢ ، مفرّج الكروب ٢ / ٣٤ ، الروضتين ج ١ ق ٢ / ٦٤٠ ، زبدة الحلب ٣ / ٢٤ ، نهاية الأرب ٢٨ / ٣٧٨ ، مرآة الزمان ٨ / ٣٢٩ ، المختصر في أخبار البشر ٣ / ٥٧ ، دول الإسلام ٢ / ٨٥ ، المغرب ١٤٦ ، تاريخ ابن الوردي ٢ / ٨٤ ، تاريخ ابن خلدون ٥٦ / ٢٥٦ ، السلوك ج ١ ق ١ / ٦٠ ، تاريخ ابن سباط ١ / ١٤١ ، شفاء القلوب ٨٧ ويقال : بارين ، وبعرين.

(٣) الروضتين ج ١ ق ٢ / ٦١٣ ، سنا البرق الشامي ١ / ١٩٣ ، مفرّج الكروب ٢ / ٣٥ ، دول الإسلام ٢ / ٨٥.

(٤) الروضتين ج ١ ق ٢ / ٦٣١ ، مفرّج الكروب ٢ / ٣٠ ، نهاية الأرب ٢٨ / ٣٧٦ ، زبدة الحلب

٦٥

[نصوص بعض الكتاب من إنشاء القاضي الفاضل]

ومن كتاب فاضليّ إلى العادل نائب مصر ، عن أخيه صلاح الدّين : «قد أعلمنا المجلس أنّ العدوّ المخذول ، كان الحلبيّون قد استنجدوا بصلبانهم ، واستطالوا على الإسلام بعدوانهم ، وأنّه خرج إلى حمص (١) ، فردنا حماه ، وترتّبنا للّقاء (٢) ، فسار العدوّ إلى حصن الأكراد متعلّقا بحبله ، مفتضحا بحيله ، وهذا فتح تفتح له القلوب (٣) ، قد كفى الله فيه القتال المحسوب» (٤).

ومن كتاب فاضليّ إلى الدّيوان العزيز من السّلطان مضمونه تعداد ما للسّلطان من الفتوحات ، ومن جهاد الفرنج مع نور الدّين ، ثمّ فتح مصر ، واليمن ، وأطراف المغرب ، وإقامة الخطبة العبّاسيّة بها.

ويقول في كتابه : «ومنها قلعة بثغر أيلة ، بناها العدوّ في البحر (٥) ، ومنه المسلك إلى الحرمين ، فغزوا ساحل الحرم ، وقتلوا وسبوا ، وكادت القبلة أن يستولى على أصلها ، والمشاعر أن يسكنها غير أهلها ، ومضجع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتطرّق إليه الكفّار.

وكان باليمن ما علم من الخارج ابن مهديّ الملحد ، الّذي سبى الشّرائف الصّالحات ، وباعهنّ بالثّمن البخس ، واستباحهنّ ، ودعا إلى قبر أبيه ، وسمّاه كعبة ، وأخذ الأموال ، فأنهضنا إليه أخانا بعسكرنا ، فأخذه ، والكلمة هناك ـ بمشيئة الله ـ إلى الهند سامية.

ولنا في المغرب أثر أغرب ، وفي أعماله أعمال دون مطلبها مهالك ، كالمهلك دون المطلب ، وذلك أنّ بني عبد المؤمن قد اشتهر أنّ أمرهم قد

__________________

(٣) / ٢٢ ، مرآة الزمان ٨ / ٣٢٨ ، ٣٢٩.

(١) في الروضتين : «إلى بلد حمص».

(٢) في الروضتين : «وأخذنا في ترتيب الأطلاب لطلبه ولقاه».

(٣) في الروضتين : «تفتح له أبواب القلوب».

(٤) الروضتين ج ١ ق ٢ / ٦١٤.

(٥) في الروضتين ج ١ ق ٢ / ٦١٩ «قد بناها في بحر الهند».

٦٦

أمر ، وملكهم قد عمر ، وجيوشهم لا تطاق ، وأمرهم لا يشاقّ ، ونحن فتملّكنا ما يجاورنا منه بلادا تزيد مسافتها على شهر ، وسيّرنا إليه عسكرا بعد عسكر ، فرجع بنصر بعد نصر ، ومن ذلك برقة ، قفصة ، قسطيلية ، توزر ، كلّ هذه تقام فيها الخطبة لأمير المؤمنين ، ولا عهد لإقامتها من دهر (١).

وفي هذه السّنة كان عندنا وفد ، نحو سبعين [راكبا] (٢) ، كلّهم يطلب السّلطان بلده تقليدا ، ويرجو منّا وعدا ، ويخاف وعيدا. وسيّرنا الخلع والمناشير والألوية. فأمّا الأعداء الّذين يقاتلوننا ، فمنهم صاحب قسطنطينية ، وهو الطّاغية الأكبر ، والجالوت الأكفر ، جرت لنا معه غزوات بحريّة ، ولم نخرج من مصر إلى (٣) أن وصلتنا رسالة في جمعة واحدة نوبتين بكتابين ، يظهر خفض الجناح والانتقال من معاداة إلى مهاداة ، ومن مفاضحة إلى مناصحة ، حتّى أندر بصاحب صقلّيّة وأساطيله ، وهو من الأعداء ، فكان حين علم بأنّ صاحب الشّام وصاحب قسطنطينيّة قد اجتمعا في نوبة دمياط فكسرا ، أراد أن يظهر قوّته المستقلة ، فعمّر أسطولا ، استوعب فيه ماله وزمانه ، فله الآن خمس سنين يكثر عدّته ، وينتخب عدّته ، إلى أن وصل منها في السّنة الخالية إلى الإسكندريّة أمر رائع ، وخطب هائل ، ما أثقل ظهر البحر مثل حمله ، ولا ملأ صدره مثل خيله ورجله ، وما هو إلّا إقليم نقله ، وجيش ما احتفل ملك قطّ بنظيره ، لو لا أنّ الله خذله (٤).

ثمّ عدّد أشياء ، إلى أن قال : والمراد الآن تقليد جامع بمصر ، واليمن ، والمغرب ، والشّام ، وكلّ ما تشتمل عليه الولاية النّوريّة ، وكلّ ما يفتحه الله للدّولة العبّاسيّة بسيوفنا ، ولمن يقيم من أخ وولد من بعدنا ، تقليدا يضمن للنّعمة تخليدا ، وللدعوة تجديدا ، مع ما تنعم عليه من السّمات الّتي فيها الملك ، والفرنج فهم يعرفون منّا خصما لا يملّ ، حتّى يملّوا ، وقرنا لا يزال

__________________

(١) الروضتين ج ١ ق ٢ / ٦٢٠ بتصرّف.

(٢) في الأصل بياض ، والمستدرك من : الروضتين ج ١ ق ٢ / ٦٢١.

(٣) في الأصل : «إلا».

(٤) الروضتين ج ١ ق ٢ / ٦٢٠ ، ٦٢١.

٦٧

محرم (١) السّيف حتّى يحلّوا ، وإذا شدّ رأينا حسن الرأي ضربنا بسيف يقطع في غمده ، وبلغنا المنى بمشيئة الله. ويد كلّ مؤمن تحت برده. واستنفذنا أسيرا من المسجد الأقصى الّذي أسرى الله إليه بعبده (٢).

[ملك البهلوان مدينة توريز]

وفيها ملك البهلوان بن إلدكز مدينة توريز بالأمان ، واستعمل عليها أخاه قرا رسلان. وتسلم مراغة (٣).

[رواية ابن الأثير عن فتنة قايماز]

قال ابن الأثير (٤) في فتنة قطب الدّين قايماز : ولمّا أقام قايماز بالحلّة ، امتنع النّاس من السّفر ، فتأخّروا إلى أن رحل ، فبادروا ورحلوا من الكوفة إلى عرفات في ثمانية عشر يوما ، وهذا ما لم يسمع بمثله ، ومات كثير منهم (٥).

__________________

(١) في الأصل : «يحرم».

(٢) الروضتين ج ١ ق ٢ / ٦٢٣.

(٣) الكامل ١١ / ٤٢٣ ، المختصر في أخبار البشر ٣ / ٥٧ ، وانظر : دول الإسلام ٢ / ٨٥.

(٤) في الكامل ١١ / ٤٢٦.

(٥) المختصر في أخبار البشر ٣ / ٥٧ ، ٥٨.

٦٨

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً

تراجم رجال هذه الطبقة

سنة إحدى وستين وخمسمائة

ـ حرف الألف ـ

١ ـ أحمد بن الحسين بن الحسين بن الحسين بن زينة.

أبو عاصم الأصبهانيّ ، أخو أبي غانم محمد.

عدل ، زاهد ، فاضل ، من أولاد المحدّثين.

سمع : أبا مطيع ، وأبا الفتح الحدّاد ، وأبا العبّاس أحمد بن الحسين بن بحوكة ، وأبا سعد المطرّز ، وطائفة.

وعنه جماعة من الأصبهانيّين.

توفّي في ربيع الأوّل وله تسع وستّون سنة.

٢ ـ أحمد بن يحيى بن عبد الباقي بن عبد الواحد (١).

أبو الفضائل (٢) الزّهريّ البغداديّ الفقيه ، ويعرف بابن شقران (٣).

كان إماما ، واعظا ، صوفيّا ، متعبّدا ، معيدا بالنّظاميّة.

سمع : أبا الحسن بن العلّاف (٤) ، وأبا الغنائم بن المهتدي بالله.

روى عنه : إبراهيم الشّعّار ، وأحمد بن منصور الكازرونيّ (٥).

__________________

(١) انظر عن (أحمد بن يحيى أبي الفضائل) في : الوافي بالوفيات ٨ / ٢٤٦ رقم ٣٦٨٠ ، وطبقات الشافعية الكبرى للسبكي ٤ / ٥٧.

(٢) في طبقات السبكي : «أبو الفضل».

(٣) في الوافي بالوفيات : «سعدان».

(٤) في طبقات السبكي : «العلّان».

(٥) الكازروني : بفتح الكاف وسكون الزاي وضمّ الراء وفي آخرها النون. هذه النسبة إلى كازرون ، وهي إحدى بلاد فارس. (الأنساب ١٠ / ٣١٨) وفي (اللباب) بفتح الزاي.

٦٩

وتوفّي في المحرّم (١).

* * *

وأخوه :

٣ ـ أحمد (٢) أسنّ منه ، ولا أعلم متى توفّي (٣).

سمع من : ثابت بن بندار.

روى عنه : عمر بن عليّ القرشيّ.

ولهما أخ أخر.

٤ ـ إبراهيم بن الحسن بن طاهر (٤).

الفقيه أبو طاهر بن الحصنيّ ، الحمويّ ، الشّافعيّ ، من فقهاء دمشق.

روى عن : أبي عليّ بن نبهان ، ومحمد بن محمد بن المهديّ ، وأبي طالب الزّينبيّ ، وأبي طالب اليوسفيّ ، وأبي طاهر الحنّائيّ ، وابن الموازينيّ.

روى عنه : ابن السّمعانيّ ، وابن عساكر ، وابنه القاسم ، وأبو القاسم بن صصريّ ، وأبو نصر بن الشّيرازيّ.

وتوفّي بدمشق في صفر. وولد بحماه في سنة خمس وثمانين (٥).

__________________

(١) ورّخ السبكي وفاته في سنة ٥٦١ وقال : وكانت ولادته سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة.

(٢) انظر عن (أحمد بن يحيى) في : الوافي بالوفيات ٨ / ٢٤٦ رقم ٣٦٧٩ ، وطبقات الشافعية الكبرى للسبكي ٤ / ٧٥.

(٣) كنيته في الوافي بالوفيات : «أبو المظفر». وفي الترجمتين خلط بحيث تبدو ان ترجمة لواحد ، ففي الوافي ترجمتان ، وفي طبقات السبكي ترجمة واحدة.

فالأول : أبو الفضائل ، ولد سنة ٤٩٩ ه‍.

والثاني : أبو المظفر ، ولد سنة ٤٨٣ ه‍. حسب الصفدي في الوافي.

بينما جعل السبكي ولادة أبي الفضائل سنة ٤٨٣ ه‍. ووفاته في أول ٥٦١ ه‍. والاثنان عند الصفدي حدّثا باليسير.

(٤) انظر عن (إبراهيم بن الحسن) في : الإعلام بوفيات الأعلام ٢٣١ ، وسير أعلام النبلاء ٢٠ / ٤٥٠ (دون ترجمة) ، وطبقات الشافعية الكبرى للسبكي ٤ / ١٩٩ ، ٢٠٠ ، والوافي بالوفيات ٥ / ٣٤٤ ، وطبقات الشافعية للإسنويّ ١ / ٤٣٩ ، والنجوم الزاهرة ٥ / ٣٧٢.

(٥) اجتمع بالملك العادل نور الدين وحكى عن نفسه أنه كان عنده يوما بقلعة دمشق وأن نور الدين التفت إلى كاتبه وقال : اكتب إلى نائبنا بمعرّة النعمان ليقبض على جميع أملاك

٧٠

٥ ـ إسماعيل بن سلطان بن عليّ بن مقلّد بن نصر بن منقذ (١).

شرف الدّولة أبو الفضل الكنانيّ الشّيزريّ ، الأمير.

أديب فاضل ، وشاعر كامل. كان أبوه صاحب شيزر وابن صاحبها ، فلمّا مات أبوه وليها أخوه تاج الدّولة ، وأقام هو تحت كنف أخيه إلى أن خرّبتها الزّلزلة ، ومات أخوه وطائفة تحت الرّدم. وتوجّه نور الدّين فتسلّمها ، وكان إسماعيل غائبا عنها. فانتقل إلى دمشق وسكنها.

وكانت الزّلزلة في سنة اثنتين وخمسين. ولمّا سقطت القلعة على أخيه وأولاده وزوجة أخيه خاتون بنت بوري أخت شمس الملوك ، سلمت خاتون وحدها ، وأخرجت من تحت الرّدم. وجاء نور الدّين فطلب منها أن تعلمه بالمال ، وهدّدها ، فذكرت له أنّ الرّدم سقط عليها وعليهم ، ولا تعلم شيئا (٢) وإن كان شيء فهو تحت الرّدم.

فلما حضر إسماعيل وشاهد ما جرى عمل :

نزلت على رغم الزّمان ولو حوت

عيناك قائم سبقها لم تنزل

 __________________

= أهلها ، فقد صحّ عندي أن أهل المعرّة يتقارضون الشهادة ، فيشهد بعضهم لصاحبه في ملك ليشهد له ذلك في ملك آخر ، فجميع ما في أيديهم بهذا الطريق. قال : فقلت له : اتّق الله ، فإنه لا يتصوّر أن يتمالأ أهل بلد على شهادة الزور. فقال : صحّ عندي ذلك. فكتب الكاتب الكتاب ودفعه إليه ليعلّم عليه ، وإذا بصبيّ راكب بهيمة على نهر بردي وهو ينشد هذه الأبيات :

اعدلوا ما دام أمركم

نافذا في النفع والضرر

واحفظوا أيام دولتكم

إنكم منها على خطر

إنما الدنيا وزينتها

حسن ما يبقى من الخبر

قال : فاستدار إلى القبلة وسجد واستغفر الله ، ثم مزّق الكتاب وتلا قوله تعالى (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ). (سورة البقرة ، الآية ٢٧٥).

(١) انظر عن (إسماعيل بن سلطان) في : تاريخ دمشق ، وخريدة القصر (قسم شعراء الشام) ١ / ٥٦٤ ـ ٥٦٦ ، ومعجم الأدباء ٥ / ٢٣٤ ـ ٢٣٧ ، ومرآة الزمان ٨ / ٢١٨ ، وفوات الوفيات ١ / ٢٦ ، والوافي بالوفيات ٩ / ١١٨ ، ١١٩ رقم ٤٠٣٤ ، وتهذيب تاريخ دمشق ١ / ٢٥٧ ـ ٢٦٢.

(٢) في الأصل : «شيء».

٧١

فتبدّلت عن كبرها بتواضع

وتعوّضت عن عزّها بتذلّل

ومن شعره :

ومهفهف كتب الجمال بخدّه

سطرا يدلّه (١) ناظر المتأمّل

بالغت في استخراجه فوجدته

لا رأي إلّا رأي أهل الموصل (٢)

٦ ـ إسماعيل بن عليّ بن زيد بن عليّ بن شهريار (٣).

أبو المحاسن الأصبهانيّ.

سمع : رزق التّميميّ ، وغيره.

وأجاز في هذا العام لأبي المنجّا ابن اللّتّيّ.

محفوظ المعدّل ، وأبو النّجم زاهر بن محمد ، وغيرهم.

ـ حرف الجيم ـ

٧ ـ جيّاش بن عبد الله الحبشيّ.

عبد ابن عفّان الواعظ.

روى عن : أبي الحسن بن العلّاف.

وعنه : ابن سكينة ، والحسن بن المبارك بن الزّبيديّ.

لعلّه مات أوّل العام ، فإنّ ابن الحصريّ سمع منه في شوّال سنة ستّين.

ـ حرف الحاء ـ

٨ ـ الحسن بن سهل بن المؤمّل.

__________________

(١) في المصادر : «يحيّر».

(٢) خريدة القصر ١ / ٥٦٤ ، معجم الأدباء ٥ / ٢٣٤ ، فوات الوفيات ١ / ٢٦.

وله قصيدة من مائة بيت جمع فيها محاسن دمشق التي ذكرها غيره من الشعراء ، فأجملها هو وأتى بها مستقصاة وفصّلها فشرّفها بما قال فيها وجمّلها ، وأولها :

يا زائرا يزجي القروم البزلا

دع قصد بغداد وخلّ الموصلا

وهي في تاريخ دمشق.

(٣) انظر عن (إسماعيل بن علي) في : سير أعلام النبلاء ٢٠ / ٤٥٠ (دون رقم).

٧٢

أبو المظفّر البغداديّ الكاتب.

سمع بواسط من : أبي نعيم محمد بن إبراهيم الجماريّ.

وحدّث ببغداد بمسند مسدّد.

سمع منه : إبراهيم الشّعّار ، وعليّ بن أحمد الزّيديّ ، وعمر بن عليّ ، وأحمد بن طارق في هذه السّنة.

ثمّ رجع ومات بعدها بيسير.

وكان مولده في شوّال سنة خمس وثمانين وأربعمائة.

٩ ـ الحسن بن العبّاس بن عليّ بن الحسن بن عليّ بن الحسن بن محمد بن الحسن بن عليّ بن رستم (١).

العلّامة أبو عبد الله بن أبي الطّيّب الرّستميّ ، الأصبهانيّ ، الفقيه الشّافعيّ.

ولد في صفر سنة ثمان وستّين وأربعمائة.

وسمع : أبا عمرو بن مندة ، ومحمود بن جعفر الكوسج ، والمطهّر بن عبد الواحد البزانيّ ، وإبراهيم بن محمد القفّال الطّيّان ، وأبا بكر محمد بن أحمد السّمسار ، والفضل بن عبد الواحد بن سهلان ، وعبد الكريم بن عبد الواحد الصّحّاف ، وأبا عيسى عبد الرحمن بن محمد بن زياد ، وسليمان بن إبراهيم الحافظ ، وأبا منصور محمد بن أحمد بن شكرويه ، وأحمد بن عبد الرحمن الذّكوانيّ ، وسهل بن عبد الله الغازي ، وأبا الخير محمد بن أحمد بن ررا ، والقاسم بن الفضل الثّقفيّ ، ورزق الله التّميميّ ، وطراد الزّينبيّ ، وطائفة سواهم.

__________________

(١) انظر عن (الحسن بن العباس) في : الأنساب ٦ / ١١٥ ـ ١١٧ ، والمنتظم ١٠ / ٢١٩ رقم ٣٠٧ (١٨ / ١٧٢ ، ١٧٢ رقم ٤٢٥٨) ، والكامل في التاريخ ١١ / ٣٢٣ ، واللباب ٢ / ٥٢ ، ومرآة الزمان ٨ / ٢٦٣ ، والعبر ٤ / ١٧٤ ، والإعلام بوفيات الأعلام ٢٣١ ، ودول الإسلام ٢ / ٧٥ ، والمعين في طبقات المحدّثين ١٦٨ رقم ١٨٠٨ ، وسير أعلام النبلاء ٢٠ / ٤٣٢ ـ ٤٣٥ رقم ٢٨٣ ، والوافي بالوفيات ١٢ / ٦١ ، وطبقات الشافعية الكبرى للسبكي ٧ / ٦٤ ، ٦٥ ، وطبقات الشافعية للإسنويّ ١ / ٥٨٧ ، ٥٨٨ ، ومرآة الجنان ٣ / ٣٤٧ ، والبداية والنهاية ١٢ / ٢٥١ ، والنجوم الزاهرة ٥ / ٣٧٢ ، وشذرات الذهب ٤ / ١٩٨. وجزء فيه وفيات جماعة من المحدّثين ، لابن أبي الوفاء الأصبهاني ٩٠ رقم ١٨٨.

٧٣

روى عنه : ابن السّمعانيّ ، وابن عساكر ، وشرف بن أبي هاشم البغداديّ ، وأحمد بن سعيد الخرقيّ ، وأبو موسى المدينيّ وقال فيه : أستاذي الإمام أبو عبد الله ، ثمّ ساق نسبه كما تقدّم.

وروى عنه جماعة كبيرة منهم : الحافظ عبد القادر الرّهاويّ وقال : كان فقيها ، زاهدا ، ورعا ، بكّاء عاش نيّفا وتسعين سنة ، ومات سنة ستّين. كذا قال.

قال : وحضرته يوم موته ، وخرج النّاس إلى قبره أفواجا. وأملى شيخنا الحافظ أبو موسى عند قبره مجلسا في مناقبه. وكان عامّة فقهاء أصبهان تلاميذه ، حتّى شيخنا أبو موسى عليه تفقّه.

وروى عنه أبو موسى الحديث. وكان أهل أصبهان لا يثقون إلّا بفتواه.

وسألني شيخنا السّلفيّ عن شيوخ أصبهان ، فذكرته له فقال : أعرفه فقيها متنسّكا.

قال أبو سعد السّمعانيّ : إمام ، متديّن ، ورع ، يزجي أكثر أوقاته في نشر العلم والفتيا ، وهو متواضع على طريقة السّلف. وكان مفتي الشّافعيّة.

قال عبد القادر : سمعت أبا موسى شيخنا يقول : قرأ المذهب كذا كذا سنة ، وكان من الشّداد في السّنّة.

وسمعت بعض أصحابنا الأصبهانيّين يحكي عنه أنّه كان في كلّ جمعة ينفرد في موضع يبكي فيه ، فبكى حتّى ذهبت عيناه.

وكنّا نسمع عليه وهو في رثاثة من الملبس والمفرش ، لا يساوي طائلا ، وكذلك الدّار الّتي كان فيها.

وكانت الفرق مجتمعة على محبّته.

قلت : وروى عنه : أبو الوفاء محمود بن مندة ، وبالإجازة أبو المنجّا بن اللّتّيّ ، وكريمة وأختها صفيّة ، وعاشت إلى سنة ستّ وأربعين وستّمائة ، وآخر من روى عنه بالإجازة عجيبة بنت الباقداريّ.

٧٤

قال أبو موسى. توفّي مساء يوم الأربعاء ثاني صفر سنة إحدى وستّين.

وقال أبو مسعود الحاجّيّ : توفّي عشيّة يوم الأربعاء غرّة صفر سنة إحدى وستّين.

وقال : أبو سعد السّمعانيّ : إمام فاضل ، مفتي الشّافعيّة ، وهو على طريقة السّلف ، له زاوية بجامع أصبهان ، أكثر أوقاته يلازمها. ورد بغداد حاجّا بعد العشرين ، وحدّث بها.

قال ابن الجوزيّ في «المنتظم» (١) ، قال : الشّيخ عبد الله الجبّائيّ (٢) ما رأيت أكثر بكاء منه. قال الجبّائيّ : وسمعت محمد بن سالار (٣) وهو يتكلّم على النّاس ، فلمّا كان في اللّيل ، رأيت ربّ العزّة في المنام ، وهو يقول لي : يا حسن ، وقفت على مبتدع ، ونظرت إليه ، وسمعت كلامه ، لأحرمنّك النّظر في الدّنيا. فاستيقظت كما ترى.

قال الجبّائيّ : وكانت عيناه مفتوحتين وهو لا ينظر بهما (٤).

١٠ ـ الحسن بن عليّ بن الرّشيد أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن الحسين بن الزّبير (٥).

__________________

(١) ج ١٠ / ٢١٩ (١٨ / ١٧٣).

(٢) هو أبو محمد عبد الله بن أبي الحسن بن أبي الفرج الجبّائي الطرابلسي الشامي. أصله نصراني من جبّة بشريّ بجبل لبنان من معاملة طرابلس. توفي سنة ٦٠٥ ه‍. (انظر ترجمته مفصّلة مع مصادرها في كتابنا : موسوعة علماء المسلمين في تاريخ لبنان الإسلامي ق ٢ ج ٢ / ٢٣٩ ـ ٢٤٩ رقم ٥٨٦).

(٣) هنا عبارة ناقصة ، والصحيح : «قال الجبّائي : سمعت محمد بن سالار ، سمعت أبا عبد الله الرستمي يقول : وقفت على ابن ماشاذة وهو يتكلّم».

(٤) مرآة الزمان ٨ / ٢٦٣.

(٥) انظر عن (الحسن بن علي بن الرشيد) في : النكت العصرية ٣٥ ، وخريدة القصر (قسم شعراء مصر) ١ / ٢٠٤ ـ ٢٢٥ ، ومعجم الأدباء ٩ / ٤٧ ـ ٧٠ ، وكتاب الروضتين ج ١ ق ١ / ١٤٧ ، ووفيات الأعيان ١ / ١٦١ ، (في ترجمة أخيه رقم ٦٥) ، وسير أعلام النبلاء ٢٠ / ٤٥٠ (دون ترجمة) و ٤٩٠ ، ٤٩١ (في ترجمة أخيه أحمد رقم ٣٠٨) ، والطالع السعيد للأدفوي ١٩ ـ ٢٠٣ رقم ١٢٧ ، والوافي بالوفيات ١٢ / ١٣١ ـ ١٣٨ ، وفوات الوفيات=

٧٥

القاضي مهذّب الدّين ، أبو محمد الغسّانيّ الأسوانيّ ، أخو القاضي الرشيد أبي الحسين أحمد. وسيأتي في سنة ثلاث.

ولأبي محمد ديوان شعر ، وهو أشعر من أخيه.

توفّي بالقاهرة في رجب. وأوّل شعر قاله في سنة ستّ وعشرين وخمسمائة (١).

وله في العاضد خليفة مصر :

وإنّ أمير المؤمنين وذكره

قريبان للآي المنزّل في الذّكر

لقول رسول الله : تلقون عترتي

معا وكتاب الله في مورد الحشر

إذا ما إمام العصر لاح لناظر

فوا العصر إنّ الجاحدين لفي خسر

 __________________

(١) / ٣٣٧ ـ ٣٤٢ ، وحسن المحاضرة ١ / ٢٤٢ ، وتاريخ الدولتين الموحّدية والحفصيّة للزركشي ٩٥ ، وطبقات المفسّرين للداوديّ ١ / ١٣٥ ، وشذرات الذهب ٤ / ١٩٧ ، وأعيان الشيعة ٢٢ / ١٨١ ، والأعلام ٢ / ٢٢٠ ، ومعجم المؤلفين ٣ / ٢٤٧.

(١) وقال ياقوت : وكان كاتبا مليح الخط ، فصيحا ، جيّد العبارة .. اختصّ بالصالح بن رزّيك وزير المصريين ، وقيل إنّ أكثر الشعر الّذي في ديوان الصالح إنما هو من عمل المهذّب بن الزبير ، وحصل له من الصالح مال جمّ ، ولم ينفق عنده أحد مثله ، وكان القاضي عبد العزيز بن الحبّاب المعروف بالجليس هو الّذي قرّظه عند الصالح حتى قدّمه فلما مات الجليس شمت به ابن الزبير ولبس في جنازته ثيابا مذهّبة ، فنقّص بهذا السبب واستقبحوا فعله ، ولم يع ٥ بعد الجليس إلا شهرا واحدا. وصنّف المهذّب كتاب «الأنساب» وهو كتاب كبير أكثر من عشرين مجلّدا ، كل مجلّد عشرون كرّاسا ، رأيت بعضه فوجدته مع تحقّقي هذا العلم وبحثي عن كتبه غاية في معناه لا مزيد عليه ، يدلّ على جودة قريحة مؤلّفه ، وكثرة اطّلاعه ، إلّا أنه حذا فيه حذو أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري ، وأوجز في بعض أخباره عن البلاذري ، إلّا أنه إذا ذكر رجلا ممن يقتضي الكتاب ذكره ، لا يتركه حتى يعرّفه بجهده من إيراد شيء من شعره وخبره. وكان المهذّب قد مضى إلى بلاد اليمن في رسالة من بعض ملوك مصر ، واجتهد هناك في تحصيل كتب النسب ، وجمع منها ما لم يجتمع عند أحد ، حتى صحّ له تأليف هذا الكتاب. (معجم الأدباء).

وقال العماد : سألت قاضي القضاة ابن عين الدولة عنه وعن أخيه الرشيد أيّهما أفضل؟ فقال : المهذّب في الشعر والأدب ، وذاك في فنون ، قال : وقال ابن عين الدولة : وله تفسير في خمسين مجلّدة ، وقفت منها على نيّف وثلاثين جزءا. قال : وله شعر كثير ، ومحلّ في الفضل أثير. (خريدة القصر).

٧٦

ويكفي الورى منه يتيمة تاجه

وما قد حوته من بهاء ومن فخر

ولم تر عيني قبلا قطّ كوكبا

يلوح مع الشّمس المنيرة في الظّهر

وما هو إلّا البحر ليس بمنكر

إذا ما تحلّى بالجواهر والدّرر

على أنّه لا يقتنيها لحاجة

وشمس الضّحى تغني عن الأنجم الزّهر

وقد قابلتها للمظلّة هالة

به أبدا تسمو على هالة البدر

وما هي إلّا بعض سحب يمينه

وما زال منشئا السّحب من لجّة البحر

ومن شعره :

لا تغررنّي بمرأى أو بمسمع

فما أصدّق لا سمعي ولا بصري

وكيف آمن غيري عند نائبة

يوما إذا كنت من نفسي لأغرر

وهو القائل :

وما لي إلى ماء سوى النّيل غلّة

ولو أنّه ، أستغفر الله ، زمزم (١)

١١ ـ الحسين بن عبد الرحمن بن محبوب.

أبو عبد الله البغداديّ.

توفّي في شعبان عن ستّ وسبعين سنة.

أصله من غزّة ، من كبار الشّافعيّة.

سمع من : أبي الحسين بن الطّيوريّ ، وأبي الحسين بن العلّاف ، وأبي غالب الباقلّانيّ.

وعنه : ابن الأخضر ، وداود بن معمّر ، وابن الحصريّ ، وآخرون.

١٢ ـ الحسين بن عليّ بن محمد بن عليّ.

أبو عليّ ابن قاضي القضاة أبي عبد الله الدّامغانيّ.

سمع : أبيّا النّرسيّ.

روى عنه : عمر بن عليّ القرشيّ.

وتوفّي في رجب.

__________________

(١) وفيات الأعيان ١ / ١٦١ ، الوافي بالوفيات ١٢ / ١٣٥ ، فوات الوفيات ١ / ٣٣٩.

٧٧

ـ حرف الزاي ـ

١٣ ـ زيد بن عليّ بن زيد بن عليّ.

أبو الحسين السّلميّ ، الدّمشقيّ ، الدّواجيّ ، الفقيه.

سمع : أباه ، وأبا محمد بن الأكفانيّ ، وجماعة.

وتفقّه على : جمال الإسلام.

ورحل إلى بغداد فلقي أبا الفضل الأرمويّ وطبقته.

ومات كهلا في المحرّم.

ـ حرف السين ـ

١٤ ـ سعيدة بنت أبي غالب أحمد بن الحسن بن البنّاء.

امرأة صالحة.

سمعت : عبد الواحد بن فهد العلّاف.

وعنها : السّمعانيّ ، وابن الحصريّ.

ماتت في صفر.

ـ حرف الشين ـ

١٥ ـ شعيب بن أبي الحسن عليّ بن عبد الواحد.

الدّينوريّ ، ثمّ البغداديّ أبو الفتوح الخيّاط.

سمع من : أبيه.

روى عنه : عمر القرشيّ.

توفّي في ربيع الأوّل.

ـ حرف العين ـ

١٦ ـ عبد الله بن جابر بن عبد الله بن محمد بن عليّ.

أبو إسماعيل بن أبي عطيّة ابن شيخ الإسلام. الأنصاريّ ، الهرويّ.

انتهت إليه رئاسة الصّوفيّة بهراة وتقدّمهم. وكان ذا قعدد في النّسب.

٧٨

قال أبو سعد السّمعانيّ : كان فيه سلامة ، وحجّ بعد الأربعين وخمسمائة ، فسافر بها على سمت الصّوفيّة وأهل العلم. كتبت عنه ، وكان يعقد المجالس في الأشهر الثّلاثة.

سمع : أبا الفتح نصر بن أحمد بن محمد الحنفيّ ، وطبقته.

وكان يحضر مجلسه عالم لا يحصون اعتقادا في جدّه وتبرّكا بمكانه.

ولد سنة خمس وخمسمائة. وتوفّي في جمادى الآخرة بهراة.

١٧ ـ عبد الله بن الحسين بن رواحة بن إبراهيم بن رواحة (١).

أبو محمد الأنصاريّ ، الحمويّ.

ولد بحماه سنة ستّ وثمانين وأربعمائة. وكان شاعرا مجوّدا.

قال ابن عساكر (٢) : له يد في القراءات وتهجّد في الخلوات. دخل بغداد ، ومدح المقتفي لأمر الله مرارا ، وخلع عليه ثياب الخطابة ، وقلّده إيّاها بحماه. وقد أسر ولده في البحر ، فمات قبل أن يراه. وولد لابنه الحسين بالبحر ولده أبا القاسم عبد الله. ثمّ خلّصه الله تعالى ، وأتى بابنه إلى الإسكندريّة وسمعا الكثير من السّلفيّ.

وتوفّي هذا الخطيب في المحرّم بحماه (٣).

وآخر ما قال :

إلهي ليس لي مولى سواكا

فهب من فضل فضلك لي رضاكا (٤)

 __________________

(١) انظر عن (عبد الله بن الحسين بن رواحة) في : تاريخ دمشق (تراجم حرف العين ـ عبد الله بن جابر ـ عبد الله بن زيد) ١٨٥ رقم ٢٤٨ ، ومعجم الأدباء ١٠ / ٤٨ ـ ٥٥ ، ومرآة الزمان ٨ / ٢٦٣ ، وخريدة القصر (قسم الشام) ١ / ٤٨١ ، وميزان الاعتدال ٢ / ٤٠٩ رقم ٤٢٧١ ، وسير أعلام النبلاء ٢٠ / ٤٥٠ ، ٤٥١ (دون ترجمة) والوافي بالوفيات ١٧ / ١٤٢ ـ ١٤٤ رقم ١٢٧ ، وتهذيب تاريخ دمشق ٧ / ٣٧٠.

(٢) في تاريخه ١٨٥.

(٣) وكان يصلّي بالناس التراويح في شهر رمضان. (تاريخ دمشق).

(٤) في الأصل : «سواكا» ، وما أثبتناه عن المصادر.

٧٩

وإن لا (١) ترضى عنّي فاعف عنّي

لعلّي أن أحوز به حماكا

فقد يهب الكريم وليس يرضى

وأنت محكّم في ذا وذاكا (٢)

١٨ ـ عبد الله بن رفاعة بن غدير بن عليّ بن أبي عمر بن الذّيّال بن ثابت ابن نعيم (٣).

أبو محمد السّعديّ ، المصريّ ، الفقيه الشّافعيّ ، الفرضيّ.

كان فقيها ، ديّنا ، بارعا في الفرائض والحساب. ولّي القضاء بمصر بالجيزة مدّة ، ثمّ استعفى فأعفي ، واشتغل بالعبادة.

وكان مولده في ذي القعدة سنة سبع وستّين وأربعمائة. ولزم القاضي الخلعيّ ، وسمع منه الكثير وقدّمه ، وتفقّه عليه ، وسمع منه «السّنن» لأبي داود ، و «السّيرة» والأجزاء العشرين ، وغير ذلك. وهو آخر من حدّث عنه.

__________________

(١) هكذا في الأصل ، وفي المصادر : «وإلّا» ، وفي مرآة الزمان ٨ / ٣٦٣ «وإن لم».

(٢) وله وقد كتب إلى ابنه الفقيه أبي علي الحسين بن عبد الله وهو يتفقّه بدمشق :

بنيّ تيقّظ واستمع ما أقوله

ولا تك محتاجا إلى وعظ واعظ

فما أحد في الخلق أشفق من أب

عليك ولا يرعاك مثل مواعظي

إذا كنت في شرح الشبيبة ناسيا

فلست إذا عند المشيب بحافظ

وكتب إليه وهو غائب عنه بديار مصر أبياتا منها :

إنّما هذه الحياة أحاظ

بيننا والممات قسمة عدل

فتوخّ الوحي ولا يك ريث

فالليالي تمحو لما أنت تملي

قد توكّلت فيك يا بني على الله

وحسبي به سبيلا لفضل

غير أني أخاف أن لا يراني

فأجازيك حرّ ثكل بثكل

(تاريخ دمشق)

(٣) انظر عن (عبد الله بن رفاعة) في : العبر ٤ / ١٧٤ ، ودول الإسلام ٢ / ٧٥ ، والإعلام بوفيات الأعلام ٢٣١ ، وسير أعلام النبلاء ٢٠ / ٤٣٥ ـ ٤٣٨ رقم ٢٨٤ ، والمعين في طبقات المحدّثين ١٦٨ رقم ١٨٠٩ ، والوافي بالوفيات ١٧ / ١٦٧ رقم ١٥٥ ، وطبقات الشافعية الكبرى للسبكي ٧ / ١٢٤ رقم ٨٢٠ ، وطبقات الشافعية للإسنويّ ٢ / ٥٤ ، رقم ٦٣٩ ، وذيل التقييد لقاضي مكة ٢ / ٣٧ رقم ١١١٨ ، والمقفّى الكبير للمقريزي ٤ / ٤٠٠ ، ٤٠١ رقم ١٤٩٤ ، والنجوم الزاهرة ٥ / ٣٧٢ ، وحسن المحاضرة ١ / ٤٠٦ ، وشذرات الذهب ٤ / ١٩٨.

٨٠