تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام - ج ٣٩

شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذّهبي

الجمل (١) حتّى أبركته في المحجّة العظمى وعقلته ، وبعدت عنه بحيث أشاهده ، حتّى مرّت قافلة ، فأقاموا البعير وساقوه. فلمّا أصبح النّاس إذا صائح ينشد الضّالّة ، ويبذل لمن ردّها مائة دينار. وإذا هما امرأتان لبعض أكابر أهل زبيد.

وكانت عادة الحرّة أن تمشي في السّاقة ، فمن نام أيقظته ، وكان لها مائة بعير برسم حمل المنقطعين.

وحين تنصّفت اللّيلة الثّانية تأخّرت حتّى مرّ بي محملها ، فبادر الغلمان إليّ وقالوا : لك حاجة؟ فقلت : الحديث مع الحرّة. ففعلوا ذلك ، فأخرجت رأسها من سجف الهودج.

قال : فناولتها الزّوجين ، وبلغني أنّ وزنهما ألف مثقال ، فقالت : ما اسمك؟ ومن تكون؟ فقد وجب حقّك.

فأعلمتها ، وحصل لي منها جانب قويّ وصورة وتقدّم ، وتسهّل الوصول إليها في كلّ وقت. وبذلك حصلت معرفة بالوزير القائد أبي محمد سرور الفاتكيّ. وكسبت بمعرفتها مالا جزيلا (٢). وتجرت لها بألوف من المال ، وتردّدت إلى عدن ، وحصلت لي صحبة أهل عدن. وقضى ذلك باتّساع الحال وذهاب الصّيت ، حتّى كان القاضي أبو عبد الله محمد بن أبي عقامة الحفائليّ (٣) رأس أهل العلم والأدب بزبيد يقول لي : أنت خارجيّ هذا الوقت وسعيده ، لأنّك أصحبت تعدّ من جملة أكابر التّجّار وأهل الثّروة ، ومن أعيان الفقهاء الّذين أفتوا ، ومن أفضل أهل الأدب. فأمّا الوجاهة عند أهل الدّول ، ونعمة خدّك بالطّيب واللّباس وكثرة السّراري ، فو الله ما أعرف من يعشرك فيه ، فهنيئا لك.

__________________

(١) في الأصل : «الحمل».

(٢) النكت العصرية ٢٦.

(٣) في الأصل : «قتامة المنائلي» ، والتصحيح من النكت ٢٨.

٣٦١

فكأنّه والله بهذا القول نعى إليّ حالي وذهاب مالي. وذلك أنّ كتاب الدّاعي محمد بن سبإ صاحب عدن [جاءني] (١) من ذي الحجّة يستدعي وصولي إليه ، فاستأذنت أهل زبيد ، فأذنوا لي على غشّ. وكانت للدّاعي بيدي خمسة آلاف دينار سيّرها معي أتباع له ، بها أمتعة من مكّة وزبيد ، فلمّا قدمت إلى ذي جبلة وجدته قد دخل عروسا على ابنة السّلطان عبد الله (٢). وكان جماعة من أكابر التّجّار والأعيان ، مثل بركات ابن المقرئ ، وحسن ابن الحمّار (٣) ، ومرجّى (٤) الحرّانيّ ، وعليّ بن محمد النّيليّ ، والفقيه أبي الحسن بن مهديّ القائم الّذي قام باليمن ، وأزال دولة أهل زبيد ، وكانوا قد سبقوني ولم يصلوا إلى الدّاعي. فلمّا وصلت إلى ذي جبلة كتبت إليه قول أبي الطّيب :

كن حيث شئت تصل إليك ركابنا

فالأرض واحدة وأنت الأوحد (٥)

ثمّ أتبعت ذلك برقعة أطلب الإذن بالاجتماع به ، فكتب بخطّه على ظهرها :

مرحبا مرحبا قدومك بالسّعد

فقد أشرقت بك الآفاق

لو فرشنا الأحداق حتّى تطأهنّ

لقلّت في حقّك الأحداق

وكان هذان البيتان ممّا حفظه عن جارية مغنيّة كنت أهديتها إليه ، واتّفق أنّ الرّقعة وصلت مفتوحة بيد غلام جاهل ، فلم تقع في يدي حتّى وقف عليها الجماعة كلّهم ، وركبت إليه فأقمت عنده في المستنزه أربعة أيّام ، فما من الجماعة إلّا من كتب إلى (٦) أهل زبيد بما يوجب سفك دمي ، ولا علم لي ،

__________________

(١) إضافة من النكت العصرية ٢٨.

(٢) في النكت ٢٩ «عبد الله بن أسعد بن وائل».

(٣) في الأصل : «الخمار».

(٤) في الأصل : «مرجّا».

(٥) النكت ٢٩.

(٦) في الأصل : «إليّ».

٣٦٢

حسدا منهم وبغيا. وكان ممّا تمّموا به المكيدة عليّ ونسبوه إليّ ، أنّ عليّ بن مهديّ صاحب الدّولة اليوم باليمن التمس من الدّاعي محمد بن سبإ أن ينصره على أهل زبيد ، فسألني الدّاعي أن أعتذر عنه إلى عليّ بن مهديّ لما كان بيني وبين ابن مهديّ من أكيد الصّحبة في مبادي أمره ، لأنّي لم أفارقه إلّا بعد أن استفحل أمره ، وكشف القناع في عداوة أهل زبيد ، فتركته خوفا على مالي وأولادي لأنّي مقيم بينهم. وحين رجعت إلى زبيد من تلك السّفرة وجدت القوم قد كتبوا إلى أهل زبيد في حقّي كتبا مضمونها : إنّ فلانا كان الواسطة بين الدّاعي وبين ابن مهديّ على حربكم وزوال ملككم فاقتلوه. فحدّثني الشّيخ جيّاش (١) قال : أجمع رأيهم على قتلك في ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين. فجاءهم باللّيل خبر محمد بن الأغرّ (٢) ونفاقه وزحفه على تهامة ، فانزعجوا واشتغلوا ، وخرجت حاجّا بل هاجّا إلى مكّة سنة تسع. فمات أمير مكّة هاشم بن فليتة ، وولّي الحرمين ابنه قاسم ، فألزمني السّفارة عنه إلى الدّولة المصريّة ، فقدمتها في ربيع الأوّل سنة خمسين ، والخليفة بها الفائز ، والوزير الملك الصّالح طلائع بن رزّيك. فلمّا أحضرت للسّلام عليهما في قاعة الذّهب أنشدتهما :

الحمد للعيس بعد العزم والهمم

حمدا يقوم بما أولت من النّعم

إلى آخرها (٣).

وعهدي بالصّالح يستعيدها في حال النّشيد ، والأستاذون وأعيان الأمراء والكبراء يذهبون في الاستحسان كلّ مذهب ، ثمّ أفيضت عليّ خلع من ثياب الخلافة مذهّبة ، ودفع لي الصّالح خمسمائة دينار ، وإذا ببعض الأستاذين خرج لي من عند السّيدة بنت الإمام الحافظ بخمسمائة دينار أخرى. وأطلقت لي رسوم لم تطلق لأحد قبلي. وتهادتني أمراء الدّولة إلى منازلهم ، واستحضرني

__________________

(١) في النكت ٣١ «جيّاش بن إسماعيل».

(٢) في الأصل : «الأعز» ، والمثبت عن : النكت.

(٣) تقدّمت الأبيات في أول الترجمة.

٣٦٣

الصّالح للمجالسة ، وانثالت عليّ صلاته ، ووجدت بحضرته أعيان أهل الأدب الجليس أبا المعالي بن الحباب ، والموفّق بن الخلّال صاحب ديوان الإنشاء ، وأبا الفتح محمود بن قادوس ، والمهذّب حسن بن الزّبير. وما من هذه الجلّة أحد إلّا ويضرب في الفضائل النّفسانيّة والرّئاسة الإنسانية بأوفر نصيب.

وأمّا جلساؤه من أهل السّيوف فولده مجد الإسلام ، وصهره سيف الدّين حسين ، وأخوه فارس الإسلام بدر ، وعزّ الدّين حسام ، وعليّ بن الزّبد (١) ، ويحيى بن الخيّاط ، ورضوان (٢) ، وعلي هوشات ، ومحمد بن شمس الخلافة (٣).

قلت : وعمل عمارة في الصّالح عدّة قصائد ، وتوجّه إلى مكّة مع الحجّاج ، ثمّ ذكر أنّه قدم في الرّسليّة أيضا من أمير مكّة (٤). وذكر أنّه حضر مجلس الصّالح طلائع ، قال (٥) : فكانت تجري بحضرته مسائل ومذاكرات ويأمرني بالخوض فيها ، وأنا منعزل عن ذلك لا أنطق ، حتّى جرى من بعض الأمراء ذكر بعض السّلف ، فاعتمدت قوله تعالى : (فَلا تَقْعُدُوا (٦) مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) (٧) ونهضت ، فأدركني الغلمان ، فقلت : حصاة يعتادني وجعها. وانقطعت ثلاثة أيّام ، ورسوله في كلّ يوم والطّبيب معه.

ثمّ ركبت بالنّهار ، فوجدته في بستان وقلت : إنّي لم يكن بي وجع ، وإنّما كرهت ما جرى في حقّ السّلف ، فإن أمر السّلطان بقطع ذلك حضرت ، وإلّا فلا ، وكان [لي] (٨) في الأرض سعة ، وفي الملوك كثرة ، فتعجّب من هذا

__________________

(١) في الأصل : «الرند» ، والمثبت عن النكت ٣٥.

(٢) هو : رضوان بن جلب راغب ، كما في النكت.

(٣) النكت ٣٥.

(٤) النكت العصرية ٤١ ، ٤٢.

(٥) في النكت العصرية ٤٣ ، ٤٤.

(٦) في الأصل : «تفقد».

(٧) سورة النساء ، الآية ١٣٩.

(٨) من النكت ٤٤.

٣٦٤

وقال : سألتك ما الّذي تعتقد في أبي بكر وعمر؟ قلت : أعتقد أنّه لولاهما لم يبق الإسلام علينا ولا عليكم ، وأنّ محبّتهما واجبة.

فضحك ، وكان مرتاضا حصيفا قد لقي في ولايته فقهاء السّنّة وسمع كلامهم ، وقد جاءتني منه مرّة أبيات معها ثلاثة أكياس ذهب ، وهي قوله :

قل للفقيه عمارة يا خير من

أضحى يؤلّف خطبة وخطابا

اقبل نصيحة من دعاك إلى الهدى

قل حطّة وادخل إلينا البابا

تلق الأئمّة شافعين ولا تجد

إلّا لدينا سنّة وكتابا

وعليّ إن يعلو محلّك في الورى

وإذا شفعت إليّ كنت مجابا

وتعجّل الآلاف ديني (١) ثلاثة

صلة وحقّك لا تعدّ ثوابا (٢)

فأجبته مع رسوله :

حاشاك من هذا الخطاب خطابا

يا خير أملاك الزّمان نصابا

فاشدد يديك على صفاء محبّتي

وامنن عليّ وسدّ هذا البابا (٣)

ومن مليح قول عمارة اليمنيّ من قصيدة :

لو لم يكن يدري (٤) بما جهل الورى

من الفضل لم تبق (٥) عليه الفضائل

لئن كان منّا قاب قوس فبيننا

فراسخ من إجلاله ومراحل (٦)

وله يرثي الصّالح بن رزّيك لمّا قتل :

أفي أهل ذا النّادي عليم أسائله

فإنّي لما بي ذاهب اللّبّ ذاهله

سمعت حديثا أحسد الصمّ عنده

ويذهل واعيه ويخرس قائله

وقد رابني من شاهد الحال أنّني

أرى الدّست منصوبا وما فيه كافله

 __________________

(١) في النكت : «وحي».

(٢) النكت ٤٥.

(٣) النكت ٤٥ ، ٤٦ وفيه بيتان آخران.

(٤) في النكت : «أدرى».

(٥) في النكت : «لم تنفق».

(٦) النكت ٤٧.

٣٦٥

وإنّي أرى فوق الوجوه كآبة

تدلّ على أنّ الوجوه تواكله

دعوني فما هذا بوقت بكائه

سيأتيكم ظلّ البكاء وذابله (١)

وله من قصيدة :

أفاعيلهم في الجود أفعال سنّة

وإن خالفوني في اعتقاد التّشيّع (٢)

ومن شعره الفائق :

لي في هوى (٣) الرشأ العذريّ إعذار (٤)

لم يبق مذ أقرّ (٥) الدّمع إنكار

لي في القدود وفي لثم الخدود (٦) وفي

ضمّ النّهود (٧) لبانات وأوطار

لمني جزافا وسامحني مصارفة

فالنّاس في درجات الحبّ أطوار

وغرّ غيري ففي أسري (٨) ودائرتي

في المها درّة قلبي لها دار (٩)

ومن كتاب فاضليّ إلى نور الدّين عن صلاح الدّين في أمر المصلّبين ، وفي جملتهم عمارة اليمنيّ : «قصر هذه الخدمة على متجدّد سارّ في الإسلام (١٠) ، والمملوك لم يزل يتوسّم من جند مصر وأهل القصر (١١) أنّهم أعداء وإن قعدت (١٢) بهم الأيّام (١٣) ، ولم تزل عيونه بمقاصدهم موكلة ،

__________________

(١) في الأصل : «ذايله» ، والمثبت من : النكت العصرية ٥٠.

(٢) النكت العصرية ٢٨٨ والقصيدة من ٦٤ بيتا ، وقد كتب بها إلى الملك الناصر (صلاح الدين) ولم ينشدها وترجمها بشكاية المتظلّم ونكاية المتألّم.

(٣) في النكت : «ما عن هوى».

(٤) في البداية والنهاية : «اعدار».

(٥) في البداية : «لم يبق لي مداقسر».

(٦) في النكت : «وفي ضمّ النهود».

(٧) في النكت : «لثم الخدود».

(٨) في الأصل : «سري». وفي الروضتين : «وخلّ عذلي ففي داري». (٥٧٢) وفي الصفحة التالية ٥٧٣ ورد البيت كما هو أعلاه.

(٩) الأبيات من قصيدة في النكت العصرية ٢٦٥ ، والكامل لابن الأثير ١١ / ٢٦٤ ، والروضتين ج ١ ق ٢ / ٥٧٢ ، ومنها بيتان في : سنا البرق الشامي ١ / ١٤٩.

(١٠) في الروضتين : «سار للإسلام وأهله» ، وبعد فقرة حذفها المؤلّف ـ رحمه‌الله ـ.

(١١) في الروضتين زيادة بعدها.

(١٢) في الروضتين : «تعدّت».

(١٣) في الروضتين زيادة.

٣٦٦

وخطراته في التّحرّز منهم مستعملة ، لا يخلو شهر من مكر (١) يجتمعون عليه ، وحيلة يبرمونها. وكان أكثر ما يستروحون (٢) إليه المكاتبات إلى الفرنج ، فسيّر ملك الفرنج كاتبه ، «جرج» رسولا إلينا ظاهرا ، وإليهم باطنا (٣).

والمولى عالم أنّ عادة أوليائه المستفادة من أدبه أن لا يبسطوا عقابا مؤلما ، وإذا طال لهم الاعتقاد خلّى سبيلهم. ولا يزيدهم العفو إلّا ضراوة ، ولا الرّقّة عليهم إلّا قساوة. وعند وصول «جرج» ورد إلينا كتاب ممّن لا نرتاب به من قومه يذكرون أنّه رسول مخاتلة لا رسول مجاملة ، [و] حامل بليّة ، لا حامل هديّة. فأوهمناه الإغفال ، فتوصّل مرّة بالخروج إلى الكنيسة إلى الاجتماع بحاشية القصر وأعوانهم ، فتنقّلت إلينا أحوالهم فأمسكنا جماعة متمرّدة قد اشتملت على الاعتقادات المارقة ، وكلّا أخذ الله بذنبه ، فمنهم من أقرّ طائعا ، ومنهم أقرّ بعد الضّرب ، وانكشفت المكتومات ، وعيّنوا خليفة ووزيرا (٤).

وكانوا فأما تقدّم ، والمملوك بالعسكر على الكرك والشوبك ، قد كاتبوهم ، وقالوا إنّه بعيد ، والفرصة قد أمكنت (٥).

وكاتبوا «سنانا» صاحب الحشيشيّة بأن الدّعوة واحدة ، والكلمة جامعة ، واستدعوا منه من يغتال المملوك. وكان الرسول خال ابن فرجلة ، فقتل الله تعالى بسيف الشّرع والفتاوى جماعة من الغواة الدّعاة إلى النّار ، وشنقوا على أبواب قصورهم ، وصلبوا على الجذوع المواجهة لدورهم ، ووقع التّتبّع لأتباعهم ، وشرّدت الإسماعيليّة ، ونودي بأن يرحل كافّة الأجناد وحاشية القصر إلى أقصى الصّعيد ، وثغر الإسكندريّة ، فظهر به داعية يسمّى «قديد

__________________

(١) في الروضتين : «لا تخلو سنة تمرّ ، ولا شهر يكرّ ، من مكر يجتمعون عليه».

(٢) في الروضتين : «يستريحون».

(٣) يختصر المؤلّف ـ رحمه‌الله ـ بعض الجمل من النص. انظر : الروضتين ج ١ ق ٢ / ٥٦٣ ، ومفرّج الكروب ١ / ٢٤٨.

(٤) انظر الروضتين ففيه زيادة.

(٥) انظر الروضتين ففيه زيادة.

٣٦٧

القفاص» ، ومع خموله بمصر ، قد فشت بالشّام دعوته ، وطبّقت مصر فتنته ، وإنّ أرباب المعايش يحملون إليه جزءا من كسبهم. ووجدت في منزله بالإسكندريّة عند القبض عليه كتب فيها خلع العذار ، وصرح الكفر الّذي ما عنه اعتذار. وكان يدّعى النّسب إلى أهل القصر ، وأنّه خرج منه صغيرا ، ونشأ على الضّلالة كبيرا ، فقد صرعة كفره ، وحاق به مكره. والحمد لله وحده» (١).

ـ حرف الفاء ـ

٣٣٤ ـ [فوارس] (٢) بن موهوب بن عبد الله (٣).

ابن الشّباكيّة الخفّاف أبو الهيجا.

روى عن : إسماعيل بن ملّة.

روى عنه : مكّيّ الفرّا ، وأبو محمد بن قدامة ، وجماعة (٤).

ـ حرف الميم ـ

٣٣٥ ـ محمد بن أحمد بن محرز بن عبد الله (٥).

أبو بكر البطليوسيّ ، عرف بالمنتانجشيّ ، نزيل إشبيلية.

سمع من : أبيه ، ومن أبي الوليد العتبيّ ، وأبي محمد بن عتّاب ، وأبي القاسم بن النّخّاس (٦).

وأخذ عن ابن النّخّاس القراءات ، وعن : أبي عبد الله بن مزاحم ، وابن طريف.

__________________

(١) انظر : الروضتين ج ١ ق ٢ / ٥٦٣ ـ ٥٦٦ ، ومفرّج الكروب ١ / ٢٤٨.

(٢) في الأصل بياض.

(٣) انظر عن (فوارس بن موهوب) في : المختصر المحتاج إليه ٣ / ١٥٩ رقم ١١٠٣.

(٤) مولده سنة ٤٨٧ تقريبا.

(٥) انظر عن (محمد بن أحمد بن محرز) في : تكملة الصلة لابن الأبّار ٢ / ٥١٢ ، ٥١٣ ، والذيل والتكملة لكتاب الموصول والصلة للمراكشي ٥ / ٦٧٧ و ٦ / ٦٥ ، ومعرفة القراء الكبار ٢ / ٥٤٩ رقم ٤٩٧ ، وغاية النهاية ٢ / ٨٠ رقم ٢٧٧٨.

(٦) في الأصل وغاية النهاية : «النحاس» بالحاء المهملة. والمثبت عن معرفة القراء الكبار.

٣٦٨

وأخذ العربيّة والأدب عن : أبي عبد الله بن أبي العافية.

قال الأبّار (١) : كان فقيها ، مشاورا ، حافظا ، أديبا ، حافلا ، كاتبا.

روى عنه : أبو بكر بن خير ، وأبو عمر بن عيّاد ، وأبو الخطّاب بن واجب شيخنا ، وغيرهم.

توفّي في آخر السّنة.

قال : وفي هذه السّنة كان غزوة السّبطاط وفتح قنطرة السّيف عنوة.

٣٣٦ ـ محمد بن الحسين بن أحمد بن عمر (٢).

أبو شجاع المادرائيّ (٣) ، أحد الحجّاب الأعيان بالدّيوان العزيز.

سمع من : طراد الزّينبيّ ، وأبي عبد الله بن طلحة النّعاليّ ، وغيرهما.

سمع منه : المبارك بن كامل مع تقدّمه ، وعمر بن عليّ القرشيّ.

وحدّث عنه : أحمد بن أحمد الأزجيّ ، وعبد اللّطيف بن القبّيطيّ ، وموفّق الدّين بن قدامة ، وغيرهم.

وكان مولده في سنة ثمانين وأربعمائة ، وتوفّي في صفر.

أخبرنا عبد الحافظ بنابلس ، أنا عبد الله بن أحمد ، أنا محمد بن الحسين المادرائيّ بقراءتي : أنا طراد بن محمد ، أنا محمد بن أحمد بن محمد بن حسنون النّرسيّ : ثنا محمد بن عمرو ، ثنا محمد بن عبد الملك الدّقيقيّ ، ثنا بكر بن عمر ، ثنا شعبة : أنا سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عبّاس ، عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ من الشّعر حكما ، وإنّ من البيان سحرا» (٤).

__________________

(١) في تكملة الصلة ٢ / ٥١٢.

(٢) انظر عن (محمد بن الحسين) في : سير أعلام النبلاء ٢١ / ٤٦ (دون ترجمة).

(٣) المادرائي : بفتح الميم والدال المهملة بعد الألف ، وبعدها الراء. نسبة إلى مادرايا من أعمال البصرة. (الأنساب ١١ / ٦٤).

(٤) الحديث صحيح ، رواه أكثر من صحابيّ ، أخرجه البخاري في الأدب ١٠ / ٤٤٨ باب ما يجوز من الشعر والرجز والحداء ، وفي فضائل أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، باب : أيام الجاهلية ، وفي الرقاق ، باب : الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله ، ومسلم في الشعر (٢٢٥٦) ، وروى أبو داود في الأدب (٥٠١١) باب : ما جاء في الشعر قال : جاء أعرابيّ إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجعل يتكلم بكلام ، فقال : «إن من البيان سحرا ، وإن من الشعر حكما» ،

٣٦٩

٣٣٧ ـ محمد بن عبد الملك بن مسعود (١).

أبو بكر الدّينوريّ ، أحد العدول ببغداد.

كان متساهلا في الشّهادة فعزل. وكان غير محمود الطّريقة. ثمّ أعيد إلى العدالة في أواخر أيّامه.

سمع من : أبي سعد بن الطّيوريّ ، وعبد القادر بن يوسف.

روى عنه : أبو سعد السّمعانيّ ، ومات قبله.

توفّي سنة تسع في شعبان.

٣٣٨ ـ محمود بن أبي سعيد زنكي بن آق سنقر التّركيّ (٢).

__________________

= وأخرجه الترمذي في الأدب (٢٨٤٨) باب : ما جاء إن من الشعر حكمة.

ومن طريق هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة رضي‌الله‌عنها في : الجليس الصالح للجريري ١ / ٢١٧ ، ومعجم الشيوخ لابن جميع الصيداوي (بتحقيقنا) ٢٩٤ رقم ٢٥٥ ، ومسند الشهاب للقضاعي ٢ / ٩٩ رقم ٩٦٤ و ٩٦٥.

(١) انظر عن (محمد بن عبد الملك) في : ذيل تاريخ مدينة السلام بغداد لابن الدبيثي ٢ / ٥١ رقم ٢٥٨ ، والمختصر المحتاج إليه ١ / ٧٠.

(٢) انظر عن (محمود بن زنكي) في : المنتظم ١٠ / ٢٤٨ ، ٢٤٩ رقم ٣٤٨ (١٨ / ٢٠٩ ، ٢١٠ رقم ٤٣٠٢) ، والكامل في التاريخ ١١ / ٤٠٢ ـ ٤٠٥ ، وسنا البرق الشامي ١ / ١٥٣ ـ ١٥٥ ، والتاريخ الباهر ١٦١ ـ ١٧٥ ، والنوادر السلطانية ٤٧ ، والإشارات إلى معرفة الزيارات للهروي ١٦ ، وبغية الطلب (تراجم السلاجقة) انظر فهرس الأعلام ٤٠٥ ، وزبدة الحلب ٢ / ٣٤٠ ، ٣٤١ و ٣ / ٩ ، ١٠ ، ومفرّج الكروب ١ / ٢٦٣ ، والروضتين ج ١ ق ١ / ٥٧٧ ـ ٥٨٨ ، ومختصر تاريخ دمشق لابن منظور ٢٤ / ١٢١ ـ ١٢٨ رقم ٩٧ ، وآثار الأول في ترتيب الدول للعباسي ١٢٨ و ١٨٥ ، وأخبار الدول المنقطعة ١١٤ ، وتاريخ مختصر الدول ٢١٥ ، ٢١٦ ، وتاريخ الزمان ١٨٩ ، ومنتخبات من كتاب التاريخ لشاهنشاه ٢٦٨٥ ، وذيل تاريخ دمشق (انظر فهرس الأعلام) ، وكتابنا : ديوان ابن منير الطرابلسي (انظر فهرس الأعلام) ٣٣١ ، ووفيات الأعيان ٥ / ١٨٤ ـ ١٨٩ ، ومرآة الزمان ٨ / ١٨٧ و ٣٠٥ ـ ٣٤٥ ، والمختصر في أخبار البشر ٣ / ٥٥ ، والنجوم الزاهرة في حلى حضرة القاهرة ١٤٣ ، ونهاية الأرب ٢٧ / ١٦٣ ـ ١٦٨ ، والعبر ٤ / ٢٠٨ ، ٢٠٩ ، وسير أعلام النبلاء ٢٠ / ٥٣١ ـ ٥٣٩ رقم ٣٤٠ ، ودول الإسلام ٢ / ٨٣ ، والإعلام بوفيات الأعلام ٢٣٥ ، وتاريخ ابن الوردي ٢ / ٨٣ ، ومرآة الجنان ٣ / ٣٨٦ ـ ٣٨٩ ، والبداية والنهاية ١٢ / ٢٧٧ ، ٢٧٨ ، والإعتبار لأسامة بن منقذ (انظر فهرس الأعلام) ٢٣٩ ، والجوهر الثمين ٢ / ١٤ ، والكواكب الدريّة ٢٢٨ ، وتاريخ ابن خلدون ٥ / ٢٥٣ ، ومآثر الإنافة للقلقشندي ٢ / ٣٤

٣٧٠

الملك العادل نور الدّين ، ناصر أمير المؤمنين أبو القاسم.

قال ابن عساكر : كان آق سنقر قد ولّي ناية حلب للسّلطان ملك شاه بن ألب رسلان ، وولّي غيرها من بلاد الشّام.

ونشأ قسيم الدّولة زنكي بالعراق ، وندبه السّلطان محمود بن محمد بن ملك شاه بن ألب رسلان برأي الخليفة المسترشد بالله لولاية الموصل ، وديار بكر ، والبلاد الشّاميّة ، بعد قتل آق سنقر البرسقيّ ، وموت ابنه مسعود. فظهرت كفاية زنكي ، وعرفت شهامته وثباته عند ظهور ملك الروم ، ونزوله على شيزر ، حتّى رجع إلى بلاده خائبا : وقد حاصر ابن قسيم الدّولة زنكي دمشق مرّتين ، فلم يفتحها ، وافتتح الرّها ، والمعرّة ، وكفرطاب وغيرها من أيدي الكفّار. وتوفّي ، وقام مقامه في ولاية الشّام ابنه الملك نور الدّين.

ولد في شوال سنة إحدى عشرة وخمسمائة ، ودخل قلعة حلب بعد قتل والده على جعبر في ربيع الأوّل سنة إحدى وأربعين ، فخلع على الأمراء.

قلت : تملّك وله ثلاثون سنة. وكان أعدل ملوك زمانه بالإجماع ، وأكثرهم جهادا ، وأحرصهم على الخير ، وأدينهم وأتقاهم لله.

قال ابن عساكر (١) : ظهر منه بذل الاجتهاد في قيام الجهاد ، وخرج من حلب غازيا في أعمال تلّ باشر ، فافتتح حصونا كثيرة ، وقلعة أفامية ، وحصن

__________________

= و ٤٠ و ٤٦ و ٤٧ و ٥١ و ١٦٨ ، وتاريخ الخميس للدياربكري ٢ / ٤٠٦ ، والجواهر المضيّة ٢ / ١٥٨ ، وشفاء الغرام لقاضي مكة (بتحقيقنا) ٢ / ٣٦٥ ـ ٣٦٧ ، والنجوم الزاهرة ٦ / ٧١ ، وتحفة الأحباب للسخاوي ٥٧ ، ٦٨ ، وتاريخ ابن سباط (بتحقيقنا) ١ / ١٣٥ ـ ١٣٨ ، والدارس في تاريخ المدارس للنعيمي ١ / ٩٩ و ٣٣١ ، والسلوك للمقريزي ج ١ ق ١ / ٥٥ ، وثمرات الأوراق لابن حجّة الحموي ٨٢ ، وشذرات الذهب ٤ / ٢٢٨ ـ ٢٣١ ، وبدائع الزهور ج ١ ق ٢ / ٢٤٠ ، ٢٤١ ، وأخبار الدول ٢٧٩ ، ٢٨٠ ، ومنادمة الأطلال ٢١٤ ـ ٢٢٢ ، والإشارات إلى أماكن الزيارات لابن الحوراني ـ ٢٧ ـ ٢٩ وقد نشر المعهد العلمي الفرنسي بدمشق ترجمة «محمود بن زنكي» من تاريخ دمشق لابن عساكر ، بتحقيق نيكيتا إيليسيف.

(١) في تاريخ دمشق ، والمختصر.

٣٧١

البارة ، وقلعة الرّاوندان ، وقلعة تلّ خالد ، وحصن كفرلاثا (١) ، وحصن بسرفوث (٢) بجبل بني عليم ، وقلعة عزاز ، وتلّ باشر ، ودلوك ، ومرعش ، وقلعة عين تاب ، ونهر الجوز. وغزا حصن إنّب (٣) ، فقصده الإبرنس صاحب أنطاكية ، فواقعه ، فكسره نور الدّين وقتله ، وقتل ثلاثة آلاف إفرنجي ، وبقي له ولد صغير مع أمّه بأنطاكيّة ، فتزوّجت بإبرنس آخر ، فخرج نور الدّين في بعض غزواته فأسر الإبرنس الآخر ، فتملّك أنطاكية ابنه ، وباعه نور الدّين نفسه بمال عظيم.

قال : وأظهر السّنّة بحلب ، وغيّر البدعة الّتي كانت له في [التّأذين] (٤) ، وقمع الرّافضة ، وبنى بها المدارس ، وأقام العدل.

وحاصر دمشق مرّتين ، ثمّ قصدها الثّالثة.

وقد كان صالح معين الدين أنز (٥) نائب صاحبها ، وصاهره ، واجتمعت كلمتهما على الغزو ، فسلّم أهل دمشق إليه البلد لغلاء الأسعار ، وللخوف من العدوّ ، فتملّكها وسكنها ، وحصّن سورها ، وبنى بها المدارس والمساجد ، ووسّع أسواقها ، ورفع عن النّاس الأثقال ، ومنع من أخذ ما كان يؤخذ منهم من المغارم بدار بطّيخ وسوق الغنم. وضمان النّهر والكيّالة ، وأبطل الخمر.

وأخذ من الفرنج ثغر بانياس ، والمنيطرة (٦).

وكان في الحرب رابط الجأش ، ثابت القدم ، حسن الرّمي. وكان

__________________

(١) كفرلاثا : بالثاء المثلّثة ، والقصر. بلدة ذات جامع ومنبر في سفح جبل عاملة من نواحي حلب بينهما يوم واحد .. وأهلها إسماعيلية (معجم البلدان ٤ / ٤٧٠).

(٢) بسرفوث : حصن من أعمال حلب في جبال بني عليم ، وقد خرب ، وهو الآن قرية. (معجم البلدان ١ / ٤٢٠).

(٣) إنّب : حصن من أعمال عزاز من نواحي حلب. (معجم البلدان ١ / ٢٥٨).

(٤) في الأصل بياض. والمثبت من تاريخ دمشق ، والمختصر ٢٤ / ١٢٣.

(٥) هكذا بالزاي في الأصل ، وهو «أنر» بالراء.

(٦) المنيطرة : حصن في جبال لبنان بين جبيل وبعلبكّ. وصفه ياقوت بأنه حصن بالشام قريب من طرابلس. (معجم البلدان ٥ / ٢٧).

٣٧٢

يتعرّض بنفسه للشّهادة ، فلقد حكى عنه كاتبه أبو اليسر شاكر بن عبد الله أنّه سمعه يسأل الله أن يحشره من بطون السّباع وحواصل الطّير ، والله يقي مهجته من الأسوإ. فلقد أحسن إلى العلماء وأكرمهم ، وبنى دور العدل ، وحضرها بنفسه أكثر الأوقات ، ووقف على المرضى ، وأدرّ على الضّعفاء والأيتام وعلى المجاورين ، وأمر بإكمال سور مدينة النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واستخراج العين الّتي بأحد ، وكانت قد دفنتها السيول.

وفتح سبل الحجّ من الشّام ، وعمّر الرّبط ، والخوانق ، والبيمارستانات في بلاده ، وبنى الجسور والطّرق والخانات ، ونصّب مؤدّبين للأيتام. وكذلك صنع لمّا ملك بسنجار ، وحرّان والرّقّة ، والرّها ، ومنبج ، وشيزر ، وحماه ، وحمص ، وصرخد ، وبعلبكّ ، وتدمر. ووقف كتبا كثيرة على أهل العلم. وكسر الفرنج والأرمن على حارم هو وأخوه قطب الدّين في عسكر الموصل ، وكان العدوّ ثلاثين ألف ، فلم يفلت منهم إلّا القليل. وقبلها كسر الفرنج على بانياس.

قال سبط الجوزيّ (١) : سبب أخذ نور الدّين دمشق ما ظهر من صاحبها مجير الدّين من الظّلم ومصادرات أهلها ، وقبضه على جماعة من الأعيان ، واستدعى زين الدّولة (٢) بن الصّوفيّ الّذي ولّاه رياسة دمشق لمّا أخرج أخاه وجيه الدّولة منها ، فقتله في القلعة ، ونهب داره ، وأحرق دور بني الصّوفيّ ، ونهب أموالهم. وتواترت مكاتباته للفرنج يستنجد بهم ويطمعهم في البلاد ، وأعطاهم بانياس ، فكانوا يشنّون الغارات إلى باب دمشق ، فيقتلون ويأسرون. وجعل للفرنج على أهل دمشق قطيعة ، فكاتب أهل دولته نور الدّين ، فأخذ نور الدّين معه في الملاطفة والودّ ، وخاف إن شدّ عليه أن يستعين بالفرنج. ولم يزل إلى أن تسلّم دمشق.

__________________

(١) في مرآة الزمان ٨ / ٢٢٠ ، ٢٢١.

(٢) في مرآة الزمان ٨ / ٢٢١ «سيف الدولة» ، وفي الحاشية (١) هو مؤيّد الدين.

٣٧٣

قال ابن عساكر (١) : وقد كان شاور السعدي أمير الجيوش بمصر وصل إلى جنابه مستجيرا له لمّا عاين الدّهر ، فأكرمه وأكرم مورده واحترمه ، وبعث معه جيشا لردّه إلى درجته ، فوصلوا معه ، وقتلوا خصمه ، ولم يقع منه الوفاء بما ورد من جهته ، فأصرّ على المشاققة وكابر ، واستنجد بالعدوّ المخذول ، فأنجدوه ، وضمن لهم الأموال العظيمة ، فرجع عسكر نور الدّين ، فحدّث صاحب الفرنج نفسه بأخذ مصر ، فتوجّه إليها بعد سنين لينتهز الفرصة ، فأخذ بلبيس ، وخيّم بعرصة مصر ، فلمّا بلغ نور الدّين ذلك ، بذل جهده في توجيه الجيش إليها ، فلمّا سمع العدوّ بمجيء الجيش رجعوا ، وأمن أهل مصر بقدوم الجيش وانتعشوا ، واطّلع من شاور على المخامرة ، وأنّه أنفذ يراسل العدوّ ليردّهم إلى مصر ، ويدفع بهم الجيش ، فلمّا عرف غدره تمارض أسد الدّين ، فجاء شاور يعوده ، فوثب جورديك وبزغش النّوريّان فقتلاه ، وأراح الله منه ، وصفى الأمر لأسد الدّين ، وتملّك وحمدت سيرته ، وظهرت السّنّة بمصر.

وكان حسن الخطّ ، حريصا على تحصيل الكتب الصّحاح والسّنن ، كثير المطالعة للفقه ، والحديث ، مواظبا على الصّلوات في جماعة ، كثير التّلاوة ، والصّيام ، والتّسبيح ، عفيفا ، متحرّيا في المطعم والمشرب ، عريا عن التّكبّر.

وكان ذا عقل متين ورأي رهين ، مقتديا بسيرة السّلف ، متشبّها بالعلماء والصّلحاء. روى الحديث وأسمعه بالإجازة. وكان من رآه شاهد من جلال السّلطنة وهيبة الملك ما يبهره ، فإذا فاوضه رأى من لطافته وتواضعه ما يحيّره.

ولقد حكى عنه من صحبه في حضره وسفره أنّه لم يسمع منه كلمة فحش في رضاه ولا في ضجره ، وإنّ أشهى ما إليه كلمة حقّ يسمعها ، وإرشاد إلى سنّة يتّبعها ، يؤاخي الصّالحين ويزورهم ، وإذا احتلم مماليكه أعتقهم ، وزوّج ذكرانهم بإناثهم ورزقهم. ومتى تكرّرت الشّكاية من ولاته عزلهم. وأكثر ما

__________________

(١) في تاريخ دمشق ، ومختصره ٢٤ / ١٢٥.

٣٧٤

أخذه من البلدان تسلّمه بالأمان. وكان كلّما فتح الله عليه فتحا ، وزاده ولاية ، أسقط عن رعيّته قسطا ، حتّى ارتفعت عنهم الظّلامات والمكوس ، واتّضعت في جميع ولايته الغرامات والنّحوس.

وقال أبو الفرج بن الجوزيّ (١) : نور الدّين ولي الشّام سنين ، وجاهد الثّغور ، وانتزع من أيدي الكفّار نيّفا وخمسين مدينة وحصنا ، وبنى مارستانا (٢) في الشّام ، فأنفق عليه مالا ، وبنى بالموصل جامعا غرم عليه سبعين (٣) ألف دينار ، ثمّ أثنى عليه.

وقال : كان يتديّن بطاعة الخلفاء ، وترك المكوس قبل موته ، وبعث جنودا فتحوا مصر. وكان يميل إلى التّواضع ، ومحبّة العلماء والصّلحاء ، وكاتبني مرارا. وأحلف الأمراء على طاعة ولده بعده ، وعاهد ملوك الفرنج ، وصاحب طرابلس ، وقد كان في قبضته أسيرا ، على أن يطلقه بثلاثمائة دينار ، وخمسمائة حصان ، وخمسمائة زرديّة ، ومثلها تراس إفرنجيّة ، ومثلها قنطوريّات ، وخمسمائة أسير مسلمين ، وبأنّه لا يغير على بلاد المسلمين سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيّام. وأخذ منه في قبضته على الوفاء بذلك مائة من أولاد الفرنج وبطارقيّهم ، فإن نكث أراق دماءهم. وعزم على فتح بيت المقدس ، فتوفّي في شوّال. وكانت ولايته ثمانيا وعشرين سنة.

وقال الموفّق عبد اللّطيف : كان نور الدّين لم ينشف له لبد من الجهاد ، وكان يأكل من عمل يده ، ينسخ تارة ، ويعمل أعلافا تارة ، ويلبس الصوف ، ويلازم السّجّادة والمصحف ، وعمّر المدارس ، وعمّر المارستان بدمشق للمهذّب ابن النّقّاش تلميذ أوحد الزّمان.

وكان حنفيّا ، ويراعي مذهب الشّافعيّ ، ومالك. وكان ولده الصّالح أحسن أهل زمانه صورة.

__________________

(١) في المنتظم ١٠ / ٢٤٨ ، ٢٤٩.

(٢) في الأصل : «وبنى مارستان».

(٣) في المنتظم : «ستين».

٣٧٥

ونزل نور الدّين على حارم ، فكبستهم الفرنج ، وهرب جيشه على الخيل عريا ، وقام هو حافيا ، فركب فرس النّوبة ، وأخذت الفرنج الخيم بما حوت ، فلمّا دخل حلب غرم لجميع الجند ما ذهب ، حتّى المخلاة والمقود ، وخرج بعد شهر بأتمّ عدّة ، وكسرهم كسرة مبيدة.

ونقل الحسن بن محمد القليوبيّ في «تاريخه» قال : لمّا جاءت الزّلزلة بنى نور الدّين في القلعة بيتا من خشب كان يبيت فيه ، فدفن في ذلك البيت ، ورثاه جماعة من الشّعراء ، وأخرجت الأمراء ولده مشقوق الثّياب ، مجزوز الشّعر ، وأجلسوه على التّخت الباقي من عهد تتش ، والنّاس حوله يبكون ، ثمّ حلف له الأمراء.

وقال القاضي ابن خلّكان (١) : وسيّر نور الدّين الأمير أسد الدّين شير كوه إلى مصر ثلاث دفعات ، ثمّ ملكها صلاح الدّين نيابة له ، وضرب باسمه السّكّة والخطبة.

قال : وكان زاهدا ، عابدا ، متمسّكا بالشّريعة ، مجاهدا ، كثير البرّ والأوقاف. وبنى بالموصل الجامع النّوريّ. وله من المناقب ما يستغرق الوصف.

توفّي في حادي عشر شوّال بقلعة دمشق بالخوانيق ، وأشاروا عليه بالفصد فامتنع ، وكان مهيبا ، قلّما روجع ، وكان أسمر طويلا ، حسن الصّورة ، ليس بوجهه شعر سوى حنكه. وعهد بالملك إلى ولده الملك الصّالح إسماعيل ، وهو ابن إحدى عشرة سنة.

وقال ابن الأثير (٢) : حكى لي الطّبيب قال : استدعاني نور الدّين مع غيري ، فدخلنا عليه ، وقد تمكّنت الخوانيق منه ، وقارب الهلاك ، ولا يكاد يسمع صوته ، فقلت : ينبغي أن ينتقل إلى موضع فسيح مضيء ، فله أثر في

__________________

(١) في وفيات الأعيان ٥ / ١٨٥.

(٢) في الكامل ١١ / ٤٠٢.

٣٧٦

هذا المرض. وأشرنا بالفصد ، فقال : ابن ستّين سنة لا يفتصد. وامتنع منه ، فعالجناه بغيره ، فلم ينجع.

قال ابن الأثير (١) : كان أسمر طويلا ، ليس له لحية إلّا في حنكه. وكان واسع الجبهة ، حسن الصّورة ، حلو العينين ، قد طالعت السّير ، فلم أر فيها بعد الخلفاء الرّاشدين وعمر بن عبد العزيز أحسن من سيرته ، ولا أكثر تحرّيا منه للعدل.

وكان لا يأكل ، ولا يلبس ، ولا يتصرّف في الّذي يخصّه إلّا من ملك كان له قد اشتراه من سهمه من الغنيمة ، ومن الأموال المرصدة لمصالح المسلمين. ولقد طلبت منه زوجته فأعطاها ثلاثة دكاكين بحمص كراها نحو عشرين دينارا في السّنة ، فاستقلّتها فقال : ليس لي إلّا هذا ، وجميع ما بيدي أنا فيه خازن للمسلمين. وكان رحمه‌الله يصلّي كثيرا باللّيل. وكان عارفا بالفقه على مذهب أبي حنيفة ، ولم يترك في بلاده على سعتها مكسا.

إلى أن قال في أوقافه على أنواع البرّ : سمعت أنّ حاصل وقفه في الشّهر تسعة آلاف دينار صوريّ.

قال له القطب النّيسابوريّ مرّة : لا تخاطر بنفسك ، فإن أصبت في معركة لا يبقى للمسلمين أحد إلّا أخذه السّيف. فقال : من محمود حتّى يقال له هذا؟ من حفظ البلاد قبلي؟ ذلك الله الّذي لا إله إلّا هو.

وقال يحيى بن محمد الوهرانيّ ، وذكر نور الدّين : هو سهم للدّولة سديد ، وركن للخلافة شديد ، وأمير زاهد ، وملك مجاهد ، تساعده الأفلاك ، وتعضده الجيوش والأملاك ، غير أنّه عرف بالمرعى الوكيل لابن السّبيل ، وبالمحلّ الجديب للشاعر الأريب ، فما يرزّى ولا يعزّى ، ولا لشاعر عنده نعمة تجزى.

وإيّاه عنى (٢) أسامة بن منقذ بقوله :

__________________

(١) في الكامل ١١ / ٤٠٣.

(٢) في الأصل : «عنا».

٣٧٧

سلطاننا زاهد والنّاس قد زهدوا

له فكلّ عن (١) الخيرات منكمش

أيّامه مثل شهر الصّوم طاهرة

من المعاصي وفيها الجوع والعطش (٢)

قلت : وفي كتاب «البرق الشّاميّ» وغيره من مصنّفات العماد الكاتب كثير من سيرة نور الدّين وأخباره. وقد عني الإمام أبو شامة (٣) في كتاب «الروضتين» له بأخبار الدّولتين النّوريّة والصّلاحيّة.

ودفن نور الدّين بتربته على باب الخوّاصين رحمه‌الله ، وعاش ابنه عشرين سنة ، ومات بالقولنج في حلب.

قال مجد الدّين ابن الأثير الجزريّ ، في «تاريخ الموصل» على ما حكاه أبو المظفّر بن الجوزيّ عنه قال (٤) : لم يلبس حريرا قطّ ، ولا ذهبا ولا فضّة ، ومنع من بيع الخمر في بلاده.

قلت : قد لبس خلعة الخليفة وهي من حرير وطوق ذهب ، فلعلّه أراد أنه لا بدّ من لبس ذلك.

قال : وكان كثير الصّيام ، وله أوراد في اللّيل والنّهار ، كثير اللّعب بالكرة ، فكتب إليه بعض الصّالحين ينكر عليه ويقول : تتعب الخيل في غير فائدة.

فكتب إليه بخطّه : والله ما أقصد اللّعب ، وإنّما نحن في ثغر ، فربّما وقع الصّوت ، فتكون الخيل قد أدمنت على سرعة الانعطاف بالكرّ والفرّ (٥).

وأهديت له عمامة مذهّبة من مصر ، فوهبها لشيخ الصّوفية ابن حمّويه ، فبعث بها إلى العجم ، فأبيعت بألف دينار (٦).

__________________

(١) في الروضتين : «على».

(٢) ديوان أسامة ١٥٨ ، الروضتين ج ١ ق ٢ / ٥٨٤.

(٣) في الأصل : «أبو سامة» بالسين المهملة.

(٤) في مرآة الزمان ٨ / ٣٠٧.

(٥) مرآة الزمان ٨ / ٣٠٧ ، ٣٠٨.

(٦) مرآة الزمان ٨ / ٣٠٨.

٣٧٨

قال : وكان عارفا بمذهب أبي حنيفة ، وليس عنده تعصّب (١) ، والمذاهب عنده سواء.

قال : وكان يلعب يوما في ديوان دمشق ، وجاءه رجل فطلبه إلى الشّرع ، فجاء معه إلى مجلس القاضي كمال الدّين بن الشّهرزوريّ ، وتقدّمه الحاجب يقول للقاضي : لا تنزعج ، واسلك معه ما تسلك مع آحاد النّاس. فلمّا حضر سوّى بينه وبين خصمه وتحاكما ، فلم يثبت للرّجل عليه حقّ ، وكان يدّعي ملكا في يد نور الدّين ، فقال نور الدّين : هل ثبت له حقّ؟ قالوا : لا. قال : فاشهدوا أنّي قد وهبت له الملك ، وإنّما حضرت معه لئلّا يقال عنّي أنّي دعيت إلى مجلس الشّرع فأبيت (٢).

قال : ودخل يوما فرأى مالا كثيرا ، فقالوا : بعث بهذا القاضي كمال الدّين من قابض الأوقاف. فقال : ردّوه ، وقولوا له : أنا رقبتي دقيقة ، لا أقدر على حمله غدا ، وأنت رقبتك غليظة تقدر على حمله (٣).

ولمّا قدم أمراؤه دمشق أفنوا الأملاك ، واستطالوا على النّاس ، خصوصا أسد الدّين شير كوه ، ولم يقدر القاضي على الانتصاف من شير كوه ، فأمر نور الدّين ببناء دار العدل ، فقال شير كوه : إنّ نور الدّين ما بنى هذه الدّار إلّا بسببي ، وإلا فمن يمتنع على كمال الدّين؟. وقال لديوانه : والله لئن أحضرت إلى دار العدل بسبب واحد منكم لأصلبنّه. فإنّ كان بينكم وبين أحد منازعة فارضوه مهما أمكن ، ولو أتى على جميع مالي (٤).

وكان نور الدّين يقعد في دار العدل في الأسبوع أربع مرّات ، ويحضر عنده الفقهاء والعلماء ، ويأمر بإزالة الحاجب والبوّابين (٥).

__________________

(١) مرآة الزمان ٨ / ٣٠٨.

(٢) مرآة الزمان ٨ / ٣٠٨.

(٣) مرآة الزمان ٨ / ٣٠٨.

(٤) مرآة الزمان ٨ / ٣٠٩.

(٥) مرآة الزمان ٨ / ٣٠٩.

٣٧٩

قال : وكان إذا حضرت الحرب حمل قوسين وتركشين (١) ، وكان لا يتّكل الجند على الأمراء ، بل يتولّاهم بنفسه ، ويباشر خيولهم وسلاحهم.

قال : وأنفق على عمارة جامع الموصل ستّين (٢) ألف دينار ، وفوّض عمارته إلى الشّيخ عمر الملّا الزّاهد.

قال : ويقال : أنفق عليه ثلاثمائة ألف دينار ، فتمّ في ثلاث سنين. وبنى جامع حماه على العاصي (٣).

قال : ووقع في أسره ملك إفرنجيّ ، فأشار الأمراء ببقائه في أسره خوفا من شرّه ، وبذل هو في نفسه مالا. فبعث إليه نور الدّين سرّا يقول : أحضر المال. فأحضر ثلاثمائة ألف دينار ، فأطلقه. فعند وصوله إلى مأمنه مات. فطلب الأمراء سهمهم من المال ، فقال : ما تستحقّون منه شيئا لأنّكم نهيتم ، وقد جمع الله لي الحسنيين : الفداء ، وموت اللّعين ، وخلاص المسلمين منه. فبنى بذلك المال المارستان ، والمدرسة بدمشق ، ودار الحديث (٤).

قال : وما كان أحد من الأمراء يتجاسر أن يجلس عنده من هيبته ، فإذا دخل عليه فقير أو عالم أو ربّ حرفة قام ومشى إليه وأجلسه إلى جانبه ، ويعطيهم الأموال ، وإذا قيل له في ذلك يقول : هؤلاء لهم حقّ في بيت المال ، فإذا قنعوا منّا ببعضه فلهم المنّة علينا (٥).

وقال العماد الكاتب في «البرق الشّاميّ» : أكثر نور الدّين في السّنة الّتي توفّي فيها من الصّدقات ، والأوقاف ، وعمارة المساجد ، وأسقط كلّما فيه

__________________

(١) في المرآة : «تركاشين». والتركاش : كلمة فارسية معناها : الجعبة. (معجم الألفاظ الفارسية المعرّبة لأدي شير ٣٦).

(٢) تقدّم أنه غرم عليه «سبعين» ألف دينار. والمثبت يتفق مع : المنتظم ١٠ / ٢٤٨ ، ومرآة الزمان ٨ / ٣١٠.

(٣) مرآة الزمان ٨ / ٣١٠ و ٣١١.

(٤) مرآة الزمان ٨ / ٣١١.

(٥) مرآة الزمان ٨ / ٣١١ ، ٣١٢.

٣٨٠