كشف الحقائق

الشيخ علي آل محسن

كشف الحقائق

المؤلف:

الشيخ علي آل محسن


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الصفوة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١٢

قومه ، فعرفه بنو إسرائيل قبل أن يُخلق (١).

قلت : يدل على ذلك قوله تعالى (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) (٢).

والاحتجاج بالتوراة والإنجيل على أهل تلك الملل جائز لا ضير فيه ، فقد أخرج البخاري في صحيحه بسنده عن عبد الله بن عمر (رض) أن اليهود جاءوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله برجل منهم وامرأة قد زنيا ، فقال لهم : كيف تفعلون بمن زنى منكم؟ قالوا : نُحمِّمُهما (٣) ونضربهما. فقال : لا تجدون في التوراة الرجم؟ فقالوا : لا نجد فيها شيئاً. فقال لهم عبد الله بن سلام : كذبتم ، فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين. فوضع مِدْراسها الذي يُدَرِّسها منهم كفَّه على آية الرجم ، فقال : ما هذه؟ فلما رأوا ذلك قالوا : هي آية الرجم. فأمر بهما فرجما قريباً من حيث موضع الجنائز عند المسجد ، فرأيت صاحبها يجنأ عليها (٤) ، يقيها الحجارة (٥).

__________________

(١) دلائل النبوة ١/٨١.

(٢) سورة الصف ، الآية ٦.

(٣) أي نسكب عليهما الماء الحميم ، وقيل : نجعل في وجوههما الحمة ، أي السواد.

(٤) أي يحني ظهره عليها.

(٥) صحيح البخاري ٦/٤٦ كتاب التفسير ، سورة آل عمران ، ٩/٢٠٥ كتاب المحاربين

٤١

ولهذا أفتى مَن وقفنا على فتاواه من العلماء بجواز اقتناء التوراة والإنجيل ، بل كتب الضلال كلها لنقضها أو للاحتجاج بها على من يعتقد بها.

وعليه ، فلعل اقتناء أهل البيت عليهم‌السلام لهذه الكتب كان لأجل هذه الغاية ، فلا يستخرجون شيئاً منها إلا وقت الحاجة إليه ، كما صنع الإمام عليه‌السلام مع بُريه.

وقد قال الشيخ محمد بن علي الصيان : إن المهدي يستخرج تابوت السكينة من غار أنطاكية ، وأسفار التوارة من جبل بالشام ، يجاج بها اليهود ، فيسلم كثير منهم (١).

وعلى ذلك يكون معني قوله عليه السلام في حديث الكفي الذي نحن بصدد الكلام فيه : «نقرؤها كما قرأرها ، ونقولها كما قالوا» : أن ما نقرؤه عليهم منها ونقوله لهم هم يقرؤونه كذلك ويقولون به ولا ينكرونه ، فيكون هذا أدعى لإقامة الحجة عليهم.

__________________

من أهل الردة والكفر ، باب الرجم في البلاط ، وصفحة ٢١٤ باب أحكام أهل الذمة. وراجع صحيح مسلم ٣/١٣٢٦ كتاب الحدود ، باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنا.

(١) إسعاف الراغبين ص ١٥٠ ، وأخرج السيوطي في كتابه «العرف الوردي في أخبار المهدي» المطبوع ضمن الحاوي للفتاوي ٢/٨١ نقلا عن أبي عمرو الداني في سننه ، عن ابن شوذب قال : إنما سمي المهدي لأنه يهدى إلى جبل من جبال الشام ، يستخرج منه أسفار التوراة ، يحاج بها اليهود فيسلم على يديه جماعة من اليهود.

٤٢

ومما ينبغي بيانه هاهنا أن الكتب السماوية التي في أيدي الناس لا ريب في كونها من كتب الضلال ، بسبب ما دخلها من التحريف ، وأما ما عند أهل البيت عليهم‌السلام من كتب الأنبياء السابقين فهي وإن كانت منسوخة قد انتهى أمد العمل بها ، إلا أنها لا تشتمل على ضلال ، لأن الله سبحانه لا يقول إلا الحق ، ولا يُنْزل إلى الناس باطلاً.

قال صاحب الجواهر أعلى الله مقامه : ليس من كتب الضلال كتب الأنبياء السابقين ، ما لم يكن فيها تحريف ، إذ النسخ لا يُصيرها ضلالاً ، ولذا كان بعضها عند أئمتنا عليهم‌السلام ، وربما أخرجوها لبعض أصحابهم ، بل ما كان منها مثل الزبور ونحوه من أحسن كتب الرشاد ، لأنها ليست إلا مواعظ ونحوها على حسب ما رأينا ، والله أعلم (١).

ومما تقدم أن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام وإن كانت كتب الأنبياء السابقين عندهم ، إلا أن ما يخصُّون شيعتهم به من العلوم الإلهية والمعارف الدينية هو مما أنزله الله تعالى على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فعلَّمه لباب مدينة العلم ، الأُذُن الواعية لعلمه ، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، الذي أفاض علومه على مَن جاء بعده من أئمة العترة النبوية الطاهرة ، ثمّ أفاض كل إمام ما عنده من العلوم على الإمام الذي يأتي من بعده.

__________________

(١) جواهر الكلام ٢٢/ ٦٠.

٤٣

وما أحسن قول الشاعر :

إذا شئتَ أن تبغي لنفسك مذهباً

وتعلمَ أن الناس في نقل أخبارِ

فدَعْ عنك قولَ الشافعي ومالكٍ

وأحمدَ والمروي عن كعب أحبارِ

ووالِ أناساً قولُهم وحديثهم

روى جدُّنا عن جبرئيلَ عن الباري

وأما الحديث الثاني : فهو لا يدل أيضاً على ما قاله ، بل إن أقصى ما يدل عليه الحديث أن أبا عبد الله عليه‌السلام كان يدعو بدعاء النبي إلياس عليه‌السلام.

أما أن هذا الدعاء كان مذكوراً في أحد الكتب السماوية ، أو مما رواه الصادق عليه‌السلام عن آبائه الطاهرين عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو غير ذلك ، فهذا لم يتضح من الحديث.

وعلى كل الاحتمالات فلا دلالة في ذلك على الاستغناء عن كتاب الله العزيز ، فإن مجرد الدعاء بمثل ما دعا به أحد الأنبياء عليهم‌السلام لا يدل على الرغبة عما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كما هو واضح.

ولو سلمنا أن ما دعا به أبو عبد الله عليه‌السلام كان قد أخذه من أحد الكتب السماوية ، فإن التحديث عن تلك الكتب التي لم تصل إليها يد التحريف ولا سيما في الدعاء وما شابهه جائز ، وهو أولى من

٤٤

التحديث عن اليهود والنصارى الذي جوّزه علماء أهل السنَّة.

فقد أخرج البخاري والترمذي وأحمد بن حنبل واللفظ لهم وأبو داود وغيرهم عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : بلّغوا عني ولو آية ، وحدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ، ومن كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار (١).

قال ابن حجر العسقلاني في شرح الحديث : أي لا ضيق عليكم في الحديث عنهم ، لأنه كان قد تقدم منه صلى‌الله‌عليه‌وآله الزجر عن الأخذ عنهم والنظر في كتبهم ، ثمّ حصل التوسع في ذلك. وكأن النهي قد وقع قبل استقرار الأحكام الإسلامية والقواعد الدينية خشية الفتنة ، ثمّ لما زال المحذور وقع الإذن في ذلك ، لما في سماع الأخبار التي كانت في زمانهم من الاعتبار.

وقال الشافعي : من المعلوم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يجيز التحدث بالكذب ، فالمعنى حدِّثوا عن بني اسرائيل بما لا تعلمون كذبه ، وأما ما

__________________

(١) صحيح البخاري ٤/٢٠٧ كتاب الأنبياء ، باب ما ذكر عن بني إسرائيل. سنن أبي داود ٣/٣٢٢. مسند أحمد بن حنبل ٢/١٥٩ ، ٢٠٢ ، ٤٧٤ ، ٥٠٢ ، ٣/٤٦. سنن الدارمي ١/١٣٦. سنن الترمذي ٥/٤٠. صحيح سنن أبي داود ٢/٦٩٧. صحيح الجامع الصغير ٢/٦٠٠. الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان ٨/٥٠ ـ ٥١. الجامع الصغير ١/٥٧٠.

٤٥

تجوِّزونه فلا حرج عليكم في التحدث به عنهم (١).

وقال المناوي : «حدِّثوا عن بني إسرائيل» أي بلِّغوا عنهم قصصهم ومواعظهم ونحو ذلك مما اتَّضح معناه ، فإن في ذلك عبرة لأولي الأبصار ، «ولا حرج» عليكم في التحديث عنهم ولو بغير سند ، لتعذّره بطول الأمد ، فيكفي غلبة الظن بأنه عنهم ، إنما الحرج فيما لم يتَّضح معناه (٢).

وقول الجزائري : وكيف تجوز قراءة تلك الكتب المنسوخة المحرَّفة والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله يرى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفي يده ورقة من التوراة فينتهره قائلاً : ألم آتيكم بها بيضاء نقية؟!

جوابه : أن ما عند أئمة أهل البيت عليهم‌السلام من كتب الأنبياء السابقين لم تصل إليها يد التحريف كما مر ، وحينئذ يجوز التحديث عنها وإن كانت منسوخة ، ولا سيما فيما يتعلق بالدعاء والمواعظ ونحوهما.

وأما نهر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لعمر فلعله كان في بداية الدعوة ، ثمّ رُفع المنع منه لما استقرت الأحكام كما تقدم في كلام ابن حجر.

__________________

(١) فتح الباري ٦/ ٣٨٨.

(٢) فيض القدير ٣/٣٧٧.

٤٦

أو لعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله علم أن عمر أراد أن يأخذ بما حوَتْه تلك الورقة من عقائد فاسدة وأحكام باطلة أو منسوخة لا يجوز العمل بها ، لا مثل الدعاء والمواعظ التي لا بأس بالنظر فيها.

أو أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله خشي أن يُعنى المسلمون بما يجدونه بأيدي أهل الكتاب من التوراة والإنجيل ، فيأخذون ما لا يصح ، ويعملون بما لا يجوز ، فنهى عمرَ عن ذلك سدّاً لهذا الباب الذي يأتي منه الفساد.

وقوله : إن اعتقاد امرئ الاستغناء عن القرآن أو عن بعضه بأي حال من الأحوال هو ردة عن الإسلام ومروق منه.

جوابه : أنه لا نزاع بيننا في أنه لا يجوز لمسلم أن يهجر كتاب الله العزيز أو يعتقد الاستغناء عنه بغيره ، وإنما الكلام في أن الشيعة الإمامية هل يعتقدون جواز الاستغناء عن القرآن بالتوراة والإنجيل كما زعم الجزائري أم لا؟

والذي أقوله : إن عقيدة الشيعة الإمامية في كتاب الله العزيز أشهر من أن نتكلف بيانها ، أو نتجشَّم إيضاحها ، إلا أنا نذكر شيئاً مما قاله بعض علمائنا الأعلام في بيان عقيدة الإمامية في القرآن ، قطعاً لشغب المشاغبين ، وتشويش المشوِّشين ، فنقول :

١ قال أبو جعفر محمد بن علي بن بابويه المعروف بالصدوق (ت

٤٧

٣٨١ ه‍) : اعتقادنا في القرآن أنه كلام الله ووحيه وتنزيله وقوله وكتابه ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم عليم ، وأنه القصص الحق ، وأنه لقول فصل وما هو بالهزل ، وأن الله تبارك وتعالى محدِثه ومنزله وربّه وحافظه والمتكلم به (١).

٢ ـ وقال الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء قدس‌سره : يعتقد الشيعة الإمامية ... أن الكتاب الموجود في أيدي المسلمين هو الكتاب الذي أنزله الله إليه يعني النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله للإعجاز والتحدّي ولتعليم الأحكام وتمييز الحلال من الحرام ، وأنه لا نقص فيه ولا تحريف ولا زيادة ، وعلى هذا إجماعهم (٢).

٣ ـ وقال الشيخ محمد رضا المظفر قدس‌سره : نعتقد أن القرآن هو الوحي الإلهي المنزل من الله تعالى على لسان نبيه الأكرم ، فيه تبيان لكل شيء ، وهو معجزته الخالدة التي أعجزت البشر عن مجاراتها في البلاغة والفصاحة وفيما حوى من حقائق ومعارف عالية ، لا يعتريه التبديل والتغيير والتحريف ، وهذا الذي بين أيدينا نتلوه هو نفس القرآن المنزل على النبي ، ومن ادّعى فيه غير ذلك فهو مخترق أو مغالط أو مشتبه ، وكلهم على غير هدى ، فإنه كلام الله الذي (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ

__________________

(١) عقائد الصدوق ، ص ٣٠.

(٢) أصل الشيعة وأصولها ، ص ١٣٢.

٤٨

مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) (١).

ومن الغريب أن الجزائري قد اختار هذين الحديثين ، وزعم أنهما يدلان على أن أهل البيت عليهم‌السلام وشيعتهم قد استغنوا عن القرآن الكريم بالتوراة والإنجيل المحرَّفين ، ليصل إلى النتيجة التي يريدها ، وهي أن كل من اعتقد الاستغناء عن كتاب الله فهو كافر ، والشيعة يعتقدون ذلك ، فهم كفار مارقون من الدين ، مرتدون عن الإسلام.

فأقدم على تكفير الشيعة بهذين الحديثين الضعيفين ، اللذين حمَّلهما من المعاني ما لا يحتملانه ، وأعرض عن الأحاديث الكثيرة الصحيحة التي أخرجها الكليني في «الكافي» في فضل القرآن ، وفضل قراءته والعمل به.

ومن راجع كتاب الكافي يجد أن الكليني رحمه‌الله جعل للقرآن كتاباً كاملاً ، أسماه «كتاب فضل القرآن» ، وذكر فيه ١٢٤ حديثاً ، رتَّبها في أبواب مختلفة ، منها :

باب فضل حامل القرآن.

باب من يتعلم القرآن بمشقة.

باب من حفظ القرآن ثمّ نسيه.

باب في قراءته.

__________________

(١) عقائد الإمامية ، ص ٩٥.

٤٩

باب البيوت التي يقرأ فيها القرآن.

باب ثواب قراءة القرآن.

باب قراءة القرآن في المصحف.

باب ترتيل القرآن بالصوت الحسن.

باب فيمن يظهر الغشية عند قراءة القرآن.

باب في كم يُقرأ القرآن ويُختم.

باب في أن القرآن يُرفع كما أُنزل.

باب فضل القرآن (١).

فمما ورد في فضل العامل بالقرآن الحافظ له ما رواه الفضيل بن يسار في الصحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : الحافظ للقرآن العامل به مع السفَرة الكرام البررة (٢).

ومما ورد في الحث على قراءته ما رواه حريز في الصحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : القرآن عهد الله إلى خلقه ، فقد ينبغي للمرء المسلم أن ينظر في عهده ، وأن يقرأ منه في كل يوم خمسين آية (٣).

ومما ورد في ثواب قراءته ما رواه الفضيل بن يسار في الصحيح عن

__________________

(١) راجع الجزء الثاني من أصول الكافي من ص ٥٩٦ إلى ص ٦٣٤.

(٢) أصول الكافي ٢/٦٠٣.

(٣) المصدر السابق ٢/٦٠٩.

٥٠

أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : ما يمنع التاجر منكم المشغول في سوقه إذا رجع إلى منزله أن لا ينام حتى يقرأ سورة من القرآن ، فتُكتب له مكان كل آية يقرؤها عشر حسنات ، ويمحى عنه عشر سيئات (١).

هذا مع أن الكليني رحمه‌الله قد روى في «الكافي» في باب الرد إلى الكتاب والسنة ما يدل على أنه ليس شيء من الحلال والحرام وما يحتاج إليه الناس إلا وقد جاء في كتاب الله أو سنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ومن ذلك صحيحة حمَّاد عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سمعته يقول : ما من شيء إلا وفيه كتاب أو سنة (٢).

وفي موثَّقة سماعة ، عن أبي الحسن موسى عليه‌السلام ، قال : أكُلُّ شيء في كتاب الله وسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ أو تقولون فيه؟ قال : بل كل شيء في كتاب الله وسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣).

وروى رحمه‌الله أيضاً في باب الأخذ بالسنة وشواهد الكتاب ما يدل على لزوم الأخذ بما وافق الكتاب من الأحاديث المروية ، وطرح ما خالفه.

__________________

(١) المصدر السابق ٢/٦١١.

(٢) المصدر السابق ١/٥٩.

(٣) المصدر السابق ١/٦٢.

٥١

ومن ذلك صحيحة أيوب بن الحر ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : كل شيء مردود إلى الكتاب والسنة ، وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف (١).

وخبر هشام بن الحكم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : خطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بمنى ، فقال : أيها الناس ، ما جاءكم عني يوافق كتاب الله فأنا قلته ، وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله (٢).

وهذا كله يدل على أن مَن يعتقد ذلك في كتاب الله العزيز لا يتّجه منه اعتقاد الاستغناء عن القرآن الكريم بغيره من كتب الأنبياء السابقين عليهم‌السلام وإن كانت غير محرفة.

والحاصل أن تمسُّك العترة النبوية الطاهرة وشيعتهم بكتاب الله المجيد واحتجاجهم به وتعويلهم عليه مما لا يخفى على أحد ، وإنكار ذلك مكابرة ظاهرة وسفسطة واضحة.

__________________

(١) المصدر السابق ٦٩/١.

(٢) المصدر السابق ٦٩/١.

٥٢

كشف الحقيقة الثانية

٥٣
٥٤

قال الجزائري :

الحقيقة الثانية

اعتقاد أن القرآن الكريم لم يجمعه ولم يحفظه أحد من أصحاب

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلا علي والأئمة من آل البيت

هذا الاعتقاد أثبتَه صاحب كتاب «الكافي» جازماً به مستدلاً عليه بقوله : عن جابر قال : سمعتُ أبا جعفر عليه‌السلام يقول : ما ادّعى أحد من الناس أنه جَمَع القرآن كله إلا كذاب ، وما جمعه وحفظه كما نُزِّل إلا علي بن أبي طالب والأئمة من بعده.

وأقول :

أخرج الكليني رحمه‌الله طائفة من الأحاديث في باب «أنه لم يجمع القرآن كله إلا الأئمة عليهم‌السلام ، وأنهم يعلمون علمه كله» (١) ، ومنها الحديث الذي ذكره الجزائري في حقيقته هذه ، وفي

__________________

(١) أصول الكافي ١/٢٢٨.

٥٥

سنده عمرو بن أبي المقدام ، وهو مختلف في وثاقته.

قال المولى المجلسي قدس‌سره : الحديث الأول [في سنده] مختلف فيه (١).

والذي يظهر من كلمات الأعلام أن الأكثر ذهب إلى تضعيفه (٢).

وكيف كان فالرجل لم تثبت وثاقته بدليل معتمد ، ولا سيما مع اضطراب كلام العلماء فيه ، فإن ابن الغضائري وثَّقه في أحد قوليه ، وضعَّفه في قوله الآخر ، وذكره العلّامة قدس‌سره مرة في القسم الأول من خلاصته في الثقات ، وذكره مرة ثانية في القسم الثاني منها في الضعفاء (٣) ، وكذلك صنع ابن داود في رجاله (٤). وعليه فالرجل لا يُعتمد حديثه لجهالته.

وأما الحديث الثاني فقد رواه الكليني عن محمد بن الحسين ، عن محمد بن الحسن ، عن محمد بن سنان ، عن عمار بن مروان ، عن المنخَّل ، عن جابر ، عن أبي جعفر عليه‌السلام أنه قال : ما يستطيع أحد أن يدّعي أن عنده جميع القرآن كله ظاهره وباطنه غير الأوصياء.

وهذا الحديث ضعيف السند أيضاً ، وحسبك أن من جملة رواته

__________________

(١) مرآة العقول ٣٠/٣.

(٢) راجع تنقيح المقال ٢/ ٣٢٤ ، رجال العلامة ، ص ٢٤١.

(٣) رجال العلامة ، ص ١٢٠ ، ٢٤١.

(٤) راجع تنقيح المقال ٢/ ٣٢٤.

٥٦

محمد بن سنان والمنخَّل.

أما محمد بن سنان فقد مرَّ بيان حاله ، وأما المنخَّل فهو المنخل بن جميل الأسدي ، وهو ضعيف جداً.

قال فيه النجاشي : ضعيف فاسد الرواية (١).

وقال ابن الغضائري : ضعيف ، في مذهبه غلو (٢).

وقال العلّامة : كان كوفياً ضعيفاً ، وفي مذهبه غلو وارتفاع. قال محمد بن مسعود : سألت علي بن الحسين عن المنخل بن جميل ، فقال : هولا شيء ، متَّهم (٣).

وقال المامقاني : كأن الكل متفقون على ضعفه (٤).

وأما باقي أحاديث الباب فكلها تدل على أن الأئمة عليهم‌السلام عندهم علم الكتاب كله.

ومنها : رواية سلمة بن محرز ، قال : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : إن مِن علْم ما أُوتينا تفسير القرآن وأحكامه ، وعلم تغيير الزمان وحدثانه ...

ثمّ قال : ولو وجدنا أوعية أو مستراحاً لقلنا (٥) ، والله

__________________

(١) رجال النجاشي ٢/ ٣٧٢.

(٢) راجع تنقيح المقال ٢٤٧/٣.

(٣) رجال العلامة ، ص ٢٦١.

(٤) تنقيح المقال ٢٤٧/٣.

(٥) قال المجلسي في مرآة العقول ٣/٣٢ ـ ٣٣ : «الأوعية» جمع وعاء ... أي قلوبا كاتمة

٥٧

المستعان.

ومنها : رواية عبد الأعلى مولى آل سام ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : والله إني لأعلم كتاب الله من أوله إلى آخره كأنه في كفّي ، فيه خبر السماء وخبر الأرض ، وخبر ما كان وخبر ما هو كائن ، قال الله عزوجل (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ).

ومنها : رواية عبد الرحمن بن كثير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : وعندنا والله علم الكتاب كله.

ومنها : حسنة أو صحيحة بريد بن معاوية ، قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) قال : إيانا عنى ، وعليٌّ أوَّلنا وأفضلنا وخيرنا بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ومعرفة الأئمة عليهم‌السلام بعلم الكتاب لا كلام لنا فيه الآن ، فإن الجزائري لم يذكره ، فلنكتفِ بمناقشته فيما عَنْوَن به حقيقته ، ومناقشته في دلالة الحديثين الأولين اللذين استخلص منهما حقيقته هذه ، فنقول :

__________________

للأسرار حافظة لها ، «أو مستراحاً» أي من لم يكن قابلاً لفهم الأسرار وحفظها كما ينبغي ، لكن لا يفشيها ولا يذيعها ، ولا يترتب ضرر على اطلاعه عليها فتستريح النفس بذلك.

٥٨

مناقشة الجزائري في دلالة الحديثين

قال : إن اعتقاداً كهذا وهو عدم وجود مَن جمع القرآن وحفظه من المسلمين إلا الأئمة من آل البيت اعتقاد فاسد وباطل ، القصد منه عند واضعه هو تكفير المسلمين من غير آل البيت وشيعتهم ، وكفى بذلك فساداً وباطلاً [كذا] وشراً.

أقول :

ليس المراد بجمع القرآن وحفظه من الحديثين هو جمع سوره وآياته في مصحف كما ظن الجزائري ، بل المراد بجمعه أحد معنيين :

المعنى الاول : هو العلم بتفسيره ومعرفة ما فيه من أحكام ومعارف.

ويدل على ذلك قوله عليه‌السلام في الحديث الثاني : «ما يستطيع أحد أن يدّعي أن عنده جميع القرآن كله ظاهره وباطنه غير الأوصياء». فإنه ظاهر فيما قلناه.

ولو كان المراد بجمع القرآن في الحديث جمع ألفاظه في مصحف لكان أكثر هذه الأمّة يدّعون أن عندهم جميع القرآن كلّه. أما ادّعاء العلم بالقرآن وفهم آياته ومعانيه الظاهرة والباطنة كما أنزلها الله سبحانه فهذا لم يقع من أحد من هذه الأمة إلا من أهل بيت النبوة عليهم‌السلام.

٥٩

وقوله : «ظاهره وباطنه» يرشد إلى ذلك ، فإن ظاهر القرآن وباطنه مرتبطان بمعانيه لا بألفاظه (١) ، وجمع الظاهر والباطن يعني الإحاطة بمعاني آيات الكتاب العزيز كلها ، أو أن الظاهر هو لفظه ، والباطن معناه ، فيكون المعنى أنه لا يستطيع أحد أن يدَّعي أن عنده علماً بألفاظ القرآن ومعانيه كاملة إلا الأوصياء عليهم‌السلام.

ولو كان المراد بجمع القرآن جمع ألفاظه كاملة في مصحف لما صحَّ لنا أن نقول : «إن غير علي عليه‌السلام من أئمة أهل البيت عليهم‌السلام قد جَمَعه» ، لأنه إذا كان علي علي السلام قد جمعه قبلهم ، فكيف يتأتى لهم أن يجمعوا ما كان مجموعاً؟!

هذا مضافاً إلى أن الظاهر من أحاديث الباب أنها جاءت تؤكد حقيقة واحدة ، هي أن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام علموا تفسير القرآن وفهموا معانيه كلها ، وعرفوا أحكامه كما أرادها الله سبحانه ، وأن أحداً من هذه الأمة لا يستطيع أن يدّعي أنه يعلم ذلك إلا هُم.

وأما مسألة جمع القرآن بالمعنى الذي ذكره الجزائري فلم يكن مراداً بالحديثين الأولين ، ولم تحمْ حوله باقي الأحاديث الأُخر المذكورة في هذا الباب.

المعنى الثاني : أن المراد بجمع القرآن كما أُنزل هو جمعه في مصحف رُتّب فيه المنسوخ قبل الناسخ ، والمكّي قبل المدني ، والسابق

__________________

(١) الظاهر : ما ظهر معناه ، والباطن : ما خفي تأويله.

٦٠