كشف الحقائق

الشيخ علي آل محسن

كشف الحقائق

المؤلف:

الشيخ علي آل محسن


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الصفوة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١٢

٣ ـ وقال الزهري : والشيعة قوم يهوون هوى عترة النبي ٠ ويوالونهم (١).

٤ ـ وقال ابن خلدون : اعلم أن الشيعة لغةً : الصَّحْب والأَتْباع ، ويطلق في عُرف الفقهاء والمتكلمين من الخلف والسلف على أَتْباع علي وبنيه رضي الله عنهم (٢).

ثالثاً : سلوك الشيعة الكاشف عن ولائهم لأهل البيت عليهم‌السلام ومتابعتهم لهم ، فقد دأبوا على تدوين معارفهم وعلومهم ، ورواية أحاديثهم ، وأخذ أقوالهم ، والتسليم لهم ، ونشر فضائلهم ، وكتابة سِيَرهم ، وإقامة مآتمهم ، والحزن على مصابهم وما جرى عليهم ، ووالوا أولياءهم ، وتبرَّءوا من أعدائهم ، حتى حكموا بضعف كل من انحرف عنهم ، وبنجاسة كل من تجاهر بمعاداتهم.

وبالجملة ، فإنّا لو لم نقل بأن الشيعة الإمامية هم أتباع أئمة أهل البيت عليهم‌السلام مع تحقق هذه الأمور ، لحقَّ لنا إنكار متابعة كل فرقة لمن تنتسب إليه ، ولأمكننا أن نشكِّك في متابعة أهل السنة لأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم.

__________________

(١) لسان العرب ٨/١٨٩. تاج العروس ٢١/٣٠٣.

(٢) مقدمة ابن خلدون ، ص ١٩٦.

٢٠١
٢٠٢

كشف الحقيقة السَّابعة

٢٠٣
٢٠٤

قال الجزائري :

الحقيقة السابعة

اعتقاد ردَّة وكفر أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد وفاته

ما عدا آل البيت ونفراً قليلاً كسلمان وعمار وبلال

هذا المعتقد يكاد يجمع عليه رؤساء الشيعة من فقهائهم وعلمائهم ، وبذلك تنطق تآليفهم وتصرِّح كتبهم ، وما ترك الإعلان به أحد منهم غالباً إلا من باب التقية الواجبة عندهم.

وأقول :

إن الشيعة الإمامية لا يعتقدون بكفر عامة صحابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا نفر قليل كما زعم الجزائري ، وعقيدتهم في هذه المسألة معروفة ، وقد بيَّنها العلماء في كتبهم ، وأوضحوها في مصنفاتهم.

ويمكن أن نجملها بأن نقول :

٢٠٥

عقيدة الشيعة الإمامية في الصحابة

يعتقد الشيعة الإمامية أن من اصطُلح عليهم بصحابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينقسمون إلى ثلاث فئات :

الفئة الأولى : هم الذين آمنوا بالله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واتَّبعوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ، حتى جعلوا كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى ، وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتَّبعوهم بإحسان. وهؤلاء هم الذين مدحهم الله في كتابه وأثنى عليهم بقوله (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١).

الفئة الثانية : هم المنافقون الذين كانوا يتربَّصون بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الدوائر ، ويكيدون المكائد للإسلام ولخُلَّص المؤمنين. وهم الذين عناهم الله سبحانه بقوله (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) (٢).

وهؤلاء المنافقون قد دلَّت الأحاديث الكثيرة على

__________________

(١) سورة التوبة ، الآية ١٠٠.

(٢) سورة التوبة ، الآية ١٠١.

٢٠٦

وجودهم في أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حياته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعد مماته.

ومن ذلك ما أخرجه مسلم عن حذيفة أنه قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في أصحابي اثنا عشر منافقاً ، فيهم ثمانية لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سَم الخياط ، ثمانية منهم تكفيكهم الدُّبيلة (١) ، وأربعة لم أحفظ ما قال شعبة فيهم (٢).

والفئة الثالثة : وهم المؤمنون الذين خلطوا عملاً صالحاً بآخر سيّئ ، فلم يبلغوا بأعمالهم إلى مرتبة الفئة الأولى ، ولم تحطَّهم ذنوبهم إلى أن يكونوا من الفئة الثانية.

ومن هؤلاء مَن وصفهم الله سبحانه بقوله (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٣).

ومنهم مَن أشار إليهم بقوله جل شأنه (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٤).

هذا ما يعتقده الشيعة الإمامية في صحابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ،

__________________

(١) قال في لسان العرب ١١/٢٣٥ : الدبيلة : خراج ودمل كبير تظهر في الجوف ، فتقتل صاحبها غالباً. وورد تفسيرها في بعض الأحاديث كما في البداية والنهاية ٥/١٩ ودلائل النبوة ٥/٢٦١ بأنها شهاب من نار يقع على نياط قلب أحدهم فيهلك.

(٢) صحيح مسلم ٤/٢١٤٣ كتاب صفات المنافقين وأحكامهم ، حديث ٩.

(٣) سورة التوبة ، الآية ١٠٢.

(٤) سورة الحجرات ، الآية ١٤.

٢٠٧

وكل من نسب إليهم غير ذلك إما جاهل بعقيدتهم غير متثبِّت في نقلها ، أو كاذب مفترٍ عليهم.

وهذا الذي قلناه هو ما قرَّره علماؤنا الأعلام في كتبهم وأوضحوه في تآليفهم.

قال السيد شرف الدين الموسوي أعلى الله مقامه :

إن مَن وقف على رأينا في الصحابة علم أنه أوسط الآراء ، إذ لم نفرِّط فيه تفريط الغلاة الذين كفَّروهم جميعاً ، ولا أفرطنا إفراط الجمهور الذين وثَّقوهم أجمعين ، فإن الكاملية ومن كان في الغلو على شاكلتهم قالوا بكفر الصحابة كافة ، وقال أهل السنة بعدالة كل فرد ممن سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو رآه من المسلمين مطلقاً ، واحتجوا بحديث كل من دب أو درج منهم أجمعين أكتعين أبصعين.

أما نحن فإن الصحبة بمجرَّدها وإن كانت عندنا فضيلة جليلة ، لكنها بما هي ومن حيث هي غير عاصمة ، فالصحابة كغيرهم من الرجال فيهم العدول ، وهم عظماؤهم وعلماؤهم ، وأولياء هؤلاء ، وفيهم البغاة ، وفيهم أهل الجرائم من المنافقين ، وفيهم مجهول الحال ، فنحن نحتج بعدولهم ونتولاهم في الدنيا والآخرة ، أما البغاة على الوصي أخي النبي ، وسائر أهل الجرائم والعظائم كابن هند وابن النابغة وابن الزرقاء وابن عقبة وابن أرطاة وأمثالهم ، فلا كرامة لهم ، ولا وزن لحديثهم ، ومجهول الحال نتوقف فيه حتى نتبيَّن

٢٠٨

أمره (١).

ومما تقدم يظهر أن ما زعمه الجزائري من أن كفر عامة الصحابة مما يكاد يجمع عليه رؤساء الشيعة وبه تنطق تآليفهم وتصرِّح كتبهم ، غير صحيح (٢) ، وحسبك أنه لم يدلِّل على زعمه بدليل واحد منقول من كلمات علماء الشيعة ، الذين ينبغي الاحتجاج بكلماتهم في هذه المسألة ، فإن ذلك أولى من ذكر حديث يمكن المناقشة في سنده ودلالته.

هذا مع أن الحديث الذي نقَلَه ليس من أحاديث الكافي ، ولا يدل على مطلوبه كما سيأتي بيانه ، وهذا دليل واضح على عوز النصوص التي يحتاج إليها لإثبات حقيقته.

ثمّ إن ما قاله يتعارض مع قوله : «وما ترك الإعلان به أحد منهم غالباً إلا من باب التقيَّة الواجبة عندهم» ، وذلك لأن التقية إذا كانت واجبة عند الشيعة ، وكانت تقتضي ترك الإعلان بهذا المعتقَد ، فكيف نطقت به تآليف علماء الشيعة وصرَّحت به كتبهم؟!

قال الجزائري : وتدليلاً على هذه الحقيقة وتوكيداً لها نورد النصوص

__________________

(١) أجوبة مسائل جار الله ، ص ١٥/١٤.

(٢) إن ما قاله في مقدمة كتبية يدل على أنه لم يطّلع في كل أحكامه على الشيعة إلا على كتاب الكافي فقط ، فمن اين علم أن الحكم يكفر عامة الصحابة يكاد يجمع عليه علماء الشيعة وتنطق به كتبهم وتصرح به تأليفهم؟!

٢٠٩

الآتية :

جاء في روضة الكافي للكليني صاحب كتاب الكافي ص ٢٠٢ قوله : عن حنان ، عن أبيه ، عن أبي جعفر قال : ارتد الناس بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا ثلاثة هم : المقداد وسلمان وأبو ذر. كما جاء في تفسير الصافي والذي هو من أشهر وأجل تفاسير الشيعة وأكثرها اعتباراً روايات كثيرة تؤكد هذا المعتقد ، وهو أن أصحاب رسول الله قد ارتدوا بعد وفاته إلا آل البيت ونفراً كسلمان وعمار وبلال رضي الله تعالى عنهم.

وأقول :

هذا الحديث لم يروه الكليني في الكافي بهذا اللفظ (١) ، لا في الروضة ولا في غيرها ، بل ولم يرد له ذكر في باقي الكتب الأربعة المشهورة عند الإمامية ، وإنما جاء مروياً في رجال الكشِّي (٢) وبعض الكتب الأخرى التي لا يعوَّل عليها في إثبات الأحاديث.

ومع ذلك فهذا الحديث لا يدل على ما عنوَنَ به الجزائري حقيقته هذه ، فإن الارتداد في اللغة هو الرجوع عن الشيء. قال عز من قائل (فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً) (٣) ، وقال (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ

__________________

(١) بل رواه بلفظ آخر سنذكره قريباً إن شاء الله ، ولعل عدول الجزائري عنه إلى الحديث الذي احتج به على حقيقته مع أنه لم يرو في الكافي ، إنما كان لأن الحديث الذي ذكره يوهم في الجلالة على مطلوبه أكثر من غيره ، والله أعلم.

(٢) اختيار معرفة الرجال ، ص ٥.

(٣) سورة يوسف ، الآية ٩٦.

٢١٠

عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) (١) ، وقال (مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) (٢).

وإذا أُريد بالارتداد الرجوع عن الدين قُيِّد ، ولهذا لم يَرِد في كتاب الله إلا مقيَّداً. قال سبحانه (مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) (٣) ، وقال (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) (٤) ، وقال (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ) (٥) ، وقال (وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) (٦).

والحاصل أن الحديث الذي احتج به الجزائري لم يقيَّد فيه الارتداد بأنه عن الدين أو على الأدبار والأعقاب.

وعليه ، فمعنى الحديث هو أن الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجعوا عما التزموا به في حياته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مبايعة علي عليه‌السلام بإمرة المؤمنين ، فبايعوا غيره.

__________________

(١) سورة النمل ، الآية ٤٠.

(٢) سورة إبراهيم ، الآية ٤٣.

(٣) سورة المائدة ، الآية ٥٤.

(٤) سورة البقرة ، الآية ٢١٧.

(٥) سورة محمد ، الآية ٢٥.

(٦) سورة المائدة ، الآية ٢١.

٢١١

وبهذا المعنى للارتداد فسَّر ابن الأثير هذه اللفظة التي وردت في أحاديث الحوض التي سيأتي ذكرها ، حيث قال :

وفي حديث القيامة والحوض : «فيقال : إنهم لم يزالوا مرتدين على أدبارهم القهقرى» : أي متخلِّفين عن بعض الواجبات. ولم يُرِد ردَّة الكفر ، ولهذا قيَّده بأعقابهم ، لأنه لم يرتد أحد من الصحابة بعده ، وإنما ارتد قوم من جفاة الأعراب (١).

فإذا صحَّ ذلك يلتئم الحديثان ، ويتطابق معناهما ، ويكون المراد بارتداد الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو أنهم رجعوا عن أهم الواجبات الدينية المنوطة بهم ، وهي مبايعة علي عليه‌السلام بإمرة المؤمنين وخلافة رسول رب العالمين.

والذي يدل على أن ما قلناه هو المراد بالحديث ما رواه الكليني رحمه‌الله في الروضة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : كان الناس أهل ردة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا ثلاثة. فقلت : ومن الثلاثة؟ فقال : المقداد بن الأسود ، وأبو ذر الغفاري ، وسلمان الفارسي ، رحمة الله وبركاته عليهم ، ثمّ عرَف أناسٌ بعدَ يسير (٢). وقال : هؤلاء الذين دارت عليهم الرحا وأبوا أن يبايعوا ، حتى جاءوا بأمير المؤمنين

__________________

(١) النهاية في غريب الحديث ٢/٢٢١٤. ونقل ابن منظور هذه العبارة بعينها في لسان العرب ٣/١٧٣.

(٢) أي ثمّ إن أناسا عرفوا أن أمير المؤمنين عليه‌السلام هو الأولى بالأمر بعد وقت يسير.

٢١٢

مكرَهاً فبايع ، وذلك قوله تعالى (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) (١).

فإن هذا الحديث ظاهر في أن الثلاثة المذكورين التزموا ببيعة أمير المؤمنين عليه‌السلام بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يبايعوا غيره ، حتى بايع مكرَهاً فبايعوا بعده.

ومن الغريب أن الجزائري الذي ساق هذا الحديث ونسبه للكافي وفسَّر معناه بغير ما هو مراد ، نسي أو تناسى أحاديث كثيرة صحيحة أخرجها البخاري ومسلم وغيرهما تدل على ردَّة زُمَر وأقوام من صحابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد وفاته.

ومن ذلك ما أخرجه البخاري عن أبي هريرة أنه كان يحدِّث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : يرِد عليَّ يوم القيامة رهط من أصحابي ، فيُحَلَّئون (٢) عن الحوض ، فأقول : يا ربِّ أصحابي. فيقول : إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك ، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى (٣).

وعن أبي هريرة أيضاً ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : بينما أنا قائم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم ، فقال : هلُمَّ.

__________________

(١) روضة الكافي ، ص ٢١٤/٢١٣.

(٢) أي يطردون يبعدون.

(٣) صحيح البخاري ٨/١٥٠ كتاب الرقاق ، باب في الحوض.

٢١٣

فقلت : أين؟ قال : إلى النار والله. قلت : وما شأنهم؟ قال : إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى. ثمّ إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم ، فقال : هلُمَّ. قلت : أين؟ قال : إلى النار والله. قلت : ما شأنهم؟ قال : إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى. فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همَل النعم (١).

قلت : الظاهر أن الضمير المجرور في «فلا يخلص منهم» يعود على صحابته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا يعود على خصوص المرتدين على أدبارهم ، لأن هؤلاء المرتدين لا يخلص منهم أحد.

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : يرِد عليَّ الحوض رجال من أصحابي ، فيحلئون عنه ، فأقول : يا ربِّ أصحابي. فيقول : إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك ، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى (٢).

وأخرج مسلم عن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنا فرَطكم (٣) على الحوض ، ولأُنازعَنَّ أقواماً ثمّ لأُغلَبَنَّ عليهم (٤) ، فأقول : يا رب ، أصحابي أصحابي. فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا

__________________

(١) صحيح البخاري ٨/١٥٠. قال في لسان العرب ١١/٧١٠ : وفي حديث الحوض : «فلا يخلص منهم إلا مثل همل النعم» الهمل : ضوال الإبل ، واحدها هامل ، أي أن الناجي منهم قليل في قلة النعم الضالة.

(٢) صحيح البخاري ٨/١٥٠.

(٣) أي سابقكم ومتقدمكم.

(٤) أي سأجادل عن أقوام رغبة في خلاصهم فلا ينفعهم ذلك.

٢١٤

بعدك (١).

وأخرج البخاري واللفظ له ومسلم ، عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله : إني فرطكم على الحوض ، من مرَّ عليَّ شرب ، ومن شرب لم يظمأ أبداً ، لَيَرِدن عليَّ أقوام أعرفهم ويعرفوني ، ثمّ يحال بيني وبينهم.

قال أبو حازم : فسمعني النعمان بن أبي عياش ، فقال : هكذا سمعت من سهل؟ فقلت : نعم. فقال : أَشهدُ على أبي سعيد الخدري لسمعته وهو يزيد فيها : فأقول : إنهم مني. فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول : سحقاً سحقاً لمن غيَّر بعدي (٢).

وهذه الأحاديث رواها حفَّاظ الحديث من أهل السنة بطرق كثيرة جداً وبألفاظ متقاربة ، وفيما ذكرناه كفاية (٣).

قال الجزائري : وأما بخاصة الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله تعالى

__________________

(١) صحيح مسلم ٤/١٧٩٦ كتاب الفضائل ، باب رقم ٩.

(٢) صحيح البخاري ٨/١٥٠. صحيح مسلم ٤/١٧٩٣.

(٣) راجع إن شئت سنن الترمذي ٥/٣٢١. سنن النسائي ٢/١٣٣ ، ٤/١١٧. سنن ابن ماجة ٢/١٠١٦. مسند أحمد ١/٢٣٥ ، ٢٥٣ ، ٢٥٤ ، ٣٨٤ ، ٤٠٢ ، ٤٠٦ ، ٤٠٧ ، ٤٢٥ ، ٤٣٩ ، ٤٥٣ ، ٤٥٥ ، ٣/٢٨ ، ١٠٢ ، ٢٨١ ، ٥/٤٨ ، ٥٠ ، ٣٨٨ ، ٣٩٣ ، ٤٠٠ ، ٤١٢. صحيح ابن خزيمة ١/٦. مجمع الزوائد ١٠/٣٦٣ ـ ٣٦٥. صحيح سنن النسائي ٢/٤٩٩. صحيح سنن ابن ماجة ١٨٢/٢.

٢١٥

عنهما ففي كتب القوم نصوص لا تحصى كثرة في تكفير الشيعة لهما ، ومن ذلك ما جاء في كتاب الكليني صفحة ٢٠ حيث قال : سألت أبا جعفر عن الشيخين. فقال : فارقا الدنيا ولم يتوبا ، ولم يتذكرا ما صنعا بأمير المؤمنين ، فعليهما لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.

وأورد أيضاً في صفحة ١٠٧ قوله : تسألني عن أبي بكر وعمر؟ فلعمري لقد نافقا وردَّا على الله كلامه ، وهزئا برسوله ، وهما الكافران عليهما لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.

وأقول :

مما يؤسف له أن يعمد الجزائري للتدليل على حقائقه إلى اختلاق أحاديث مكذوبة ينسبها إلى الكافي ، لتكفير طائفة كبيرة من طوائف المسلمين.

ومع أن هذين الحديثين لا يشبهان أحاديث أهل البيت عليهم‌السلام ، ولم يسبق أن قرأتهما لا في الكافي ولا في غيره ، فإني بحثت عنهما فيه وفي باقي الكتب الأربعة فلم أجد لهذين الحديثين عيناً ولا أثراً.

نعم الذي وجدته مروياً في صفحة ١٠٧ من روضة الكافي بسند ضعيف (١) مكاتبة الإمام الكاظم عليهم‌السلام لعلي بن سويد ، وهي

__________________

(١) روي هذا الحديث بثلاثة طرق. الأول منها في سنده سهل بن زياد ، وقد مر تضعيفه ، ومحمد بن منصور الخزاعي وهو مجهول. والطريق الثاني : فيه حمزة بن بزيع ،

٢١٦

مشتملة على أجوبة مسائل عديدة سُئل عنها الإمام عليهم‌السلام.

ومما جاء في هذه المكاتبة قوله عليهم‌السلام : وسألتَ عن رجلين اغتصبا رجلاً مالاً كان ينفقه على الفقراء والمساكين وأبناء السبيل وفي سبيل الله ، فلما اغتصباه ذلك لم يرضيا حيث غصباه حتى حمَّلاه إياه كرهاً فوق رقبته إلى منازلهما ، فلما أحرزاه تولَّيا إنفاقه ، أيبلغان بذلك كفراً؟ فلعمري لقد نافقا قبل ذلك ، وردَّا على الله عزوجل كلامه ، وهزئا برسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهما الكافران ، عليهما لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.

وهذه الفقرة الأخيرة هي التي نقلها الجزائري في الحديث الذي احتج به بعد أن وضع لها سؤالاً من عنده ، ليلائم الغرض الذي يريده.

وكيف كان ، فلا يمكن أن نقول : إن المراد بالرجلين المذكورين في هذه المكاتبة أبو بكر وعمر ، إلا بحمل ألفاظ الحديث على ما لا تحتمله ، فإن المال لا يمكن أن يرمز به إلى الخلافة ، لأن الحديث قد نصَّ على أن صاحب المال كان ينفقه على الفقراء والمساكين ، والخلافة لا يُنفق شيء منها على فقير أو مسكين.

ثمّ كيف حمَّل أبو بكر وعمر عليّا عليه‌السلام الخلافة إلى

__________________

وهو واقفي ضعيف. والطريق الثالث : فيه محمد بن منصور ، وهو الخزاعي المذكور آنفاً.

٢١٧

منازلهما لينفقا منها كيف شاءا؟

وجواب الإمام عليه‌السلام بأن الرجلين المسئول عنهما قد نافقا فيه بيان بأن الذي لا يسلَم المسلمون من يده ولسانه فليس بمسلم ، وإظهاره للإسلام إذا لم يعمل به هو ضرب من النفاق.

والحاصل أن تحريف الجزائري لهذا الحديث يدل دلالة واضحة على أنه لم يعثر على حديث واضح يدلِّل به على حقيقته هذه ، وأن ما قاله من أن النصوص المروية في كتب الشيعة في تكفير أبي بكر وعمر لا تحصى كثرة ، غير صحيح.

وعلى كل حال فإنَّا لا ننكر أن في بعض كتب الشيعة أحاديث ظاهرها الطعن في بعض مَن صحب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلا أن هذه الأحاديث مع التسليم بصحتها ووضوح دلالتها لا تستلزم كفراً ، وإلا لزم تكفير الأمة جمعاء ، لأن كتب الشيعة إن كانت مشتملة على أحاديث ظاهرها الطعن في بعض الصحابة ، فكتب أهل السنة مملوءة بأحاديث كثيرة تطعن في بعض آخر منها ، بل فيها ما هو أدهى وأمَرّ ، وهو الطعن في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما سيتّضح فيما سيأتي إن شاء الله تعالى.

قال الجزائري : وبعد أيها الشيعي ، فهل من المعقول الحكم بالكفر والردة على أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهم حواريوه وأنصار دينه ، وحملة شريعته ، رضي الله عنهم في كتابه ، وبشَّرهم بجنَّته على لسان نبيِّه ، حمى الله

٢١٨

بهم الدين ، وأعزَّ بهم المسلمين ، وخلّد لهم ذكراً في العالمين وإلى يوم الدين؟!

والجواب :

لقد أوضحنا آنفاً أنَّا لم نقل بكفر أو ارتداد أو فسق عامة الصحابة ، وبيَّنَّا بما لا مزيد عليه أن رأي الشيعة الإمامية في الصحابة هو أعدل الآراء ، وهو الموافق لآيات الكتاب العزيز والسنة النبوية المطهَّرة.

والذي لا ينبغي إنكاره والمناقشة فيه أن بعض من صحب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان منافقاً في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعد وفاته ، وأن بعضهم ارتد بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما دلَّت عليه الأحاديث المتقدمة وغيرها ، ومن أنكر ذلك فهو مكابر متعصب عنيد ، أو جاهل بليد.

وأما أصحاب رسول الله المنتجبون ، وحواريوه وأنصار دينه وحملة شريعته ، الذين رضي الله عنهم في كتابه ، وبشّرهم بجنّته على لسان نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحمى الله بهم الدين ، وأعزَّ بهم المسلمين ، فهؤلاء نتولاهم في الدنيا والآخرة ، وندعو لهم ، ونترحم عليهم. وأما غيرهم من المنافقين وأعداء أمير المؤمنين وأهل بيته الطيبين الطاهرين فلا حرمة لهم ولا كرامة ، وإن تسمَّوا بالصحبة ، وتظاهروا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمودة والمحبة.

٢١٩

وتمييز هذين الصنفين من صحابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا بد فيه من الاجتهاد والنظر ، بدراسة سِيَرهم ومعرفة أحوالهم وما صدر منهم.

واختلاف الاجتهاد في هذه المسألة وإن أدَّى إلى الحكم بكفر أو نفاق بعضهم لا يستلزم تكفير طائفة من طوائف المسلمين أو أحد من أهل القِبلة ، ولا سيما إذا كان صدور ذلك الحكم ناشئاً عن خطأ وشبهة.

ولو تأملنا صحاح أهل السنة ومصادر الحديث عندهم لوجدناها مملوءة بأمثال هذه الاجتهادات ، وحسبك ما أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود وأحمد وغيرهم عن عمر أنه قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق (١) يعني حاطب بن أبي بلتعة الذي هو واحد من أهل بدر.

ومن ذلك ما ورد في حديث الإفك المروي عن عائشة ، أن أسيد بن الحضير قال لسعد بن عبادة : إنك منافق تجادل عن

__________________

(١) صحيح البخاري ٤/٧٢ ـ ٧٣ كتاب الجهاد ، باب الجاسوس. صحيح مسلم ٤/١٩٤١ كتاب فضائل الصحابة ، باب رقم ٣٦. سنن الترمذي ٥/٤٠٩. سنن ابي داود ٣/٤٧. مسند أحمد ١/٧٩ ـ ٨٠ ، مسند حميدي ١/٢٧. وأخرجه السيوطي في الدر المنثور ٨/١٢٥ عن البخاري ومسلم والترمذي وأبي داود والنسائي وأحمد والحميدي وأبي عوانة وابن حبان وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي وأبي نعيم وعبد بن حميد.

٢٢٠