كشف الحقائق

الشيخ علي آل محسن

كشف الحقائق

المؤلف:

الشيخ علي آل محسن


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الصفوة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١٢

قال ابن حجر : «محدَّثون» جمع محدَّث ، واختُلف في تأويله ، فقيل : مُلهَم. قاله الأكثرون ، قالوا : المحدَّث هو الرجل الصادق الظن ، وهو مَن أُلقي في روعه شيء من قِبَل الملأ الأعلى ، فيكون كالذي حدَّثه غيره به (١).

وقال أيضاً : وتمحَّضت الحكمة في وجودهم يعني المحدَّثين وكثرتهم بعد العصر الأول في زيادة شرف هذه الأمة بوجود أمثالهم فيه ، وقد تكون الحكمة في تكثيرهم مضاهاة بني إسرائيل في كثرة الأنبياء فيهم ، فلما فات هذه الأمة كثرة الأنبياء فيها لكون نبيّها خاتم الأنبياء ، عُوِّضوا بكثرة الملهَمين (٢).

وعلى هذا فليس بمستبعد أن يكون الإمام الكاظم عليه‌السلام واحداً من هؤلاء المحدَّثين الكثيرين في هذه الأمة. لأنه إمام من أئمة المسلمين وواحد من رؤساء الدين. وهذه كلمات أعلام أهل السنة تصدح في

__________________

كتاب فضائل الصحابة ، باب رقم ٢. سنن الترمذي ٥/٦٢٢. مسند أحمد ٢/٣٣٩ ، ٦/٥٥. المستدرك ٣/٨٦. الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان ٩/٢١. مسند أبي داود الطيالسي ، ص ٣٠٨. مشكل الآثار ٢/٢٥٦. فضائل الصحابة ١/٣٥٤ ـ ٣٥٥ ، ٣٦١ ، ٣٦٢. در السحابة ، ص ١٦١. مشكاة المصابيح ٣/١٧٠٢. الفردوس بمأثور الخطاب ٣/٢٧٨.

(١) فتح الباري ٧/٣٩.

(٢) المصدر السابق ٧/٤٠.

١٦١

الإشادة بجلالته والتنويه بعظمته وسمو مكانته ، وهي أكثر من أن يتسع لها المقام ، وإليك بعضاً منها :

قال ابن حجر : موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي ، أبو الحسن الهاشمي ، المعروف بالكاظم ، صدوق عابد (١).

وقال : ومناقبه كثيرة (٢).

وقال أبو حاتم : ثقة صدوق ، إمام من أئمة المسلمين (٣).

وقال الذهبي : كان صالحاً عابداً جواداً حليماً كبير القدر (٤).

وقال : قد كان موسى من أجواد الحكماء ومن العُبَّاد الأتقياء ، وله مشهد معروف ببغداد (٥).

وقال أيضاً : أجلّ آل جعفر وأشرفهم ابنه موسى الكاظم ، الإمام القدوة السيد أبو الحسن العلوي والد الإمام علي بن موسى الرضا ، مدني نزل بغداد (٦).

وقال كذلك : روى أصحابنا أنه دخل مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) تقريب التهذيب ، ص ٥٥٠.

(٢) تهذيب التهذيب ١٠/٣٠٣.

(٣) الجرح والتعديل ٨/١٣٩.

(٤) العبر في خبر من غير ١/٢٢٢.

(٥) ميزان الاعتدال ٤/٢٠٢.

(٦) سير أعلام النبلاء ٦/٢٧٠.

١٦٢

فسجد سجدة في أول الليل ، فسُمع وهو يقول في سجوده : «عظُم الذنب عندي ، فليحسن العفو من عندك ، يا أهل التقوى ويا أهل المغفرة» ، فجعل يردّدها حتى أصبح. وكان سخيّاً كريماً ، يبلغه عن الرجل أنه يؤذيه فيبعث إليه بصرّة فيها ألف دينار (١).

وقال يحيى بن الحسن بن جعفر النسابة : كان موسى بن جعفر يُدعى العبد الصالح من عبادته واجتهاده (٢).

وقال ابن الجوزي : كان يُدعى العبد الصالح ، لأجل عبادته واجتهاده وقيامه بالليل ، وكان كريماً حليماً ، إذا بلغه عن رجل أنه يؤذيه بعث إليه بمال (٣).

وقال ابن كثير : كان كثير العبادة والمروءة ، إذا بلغه عن أحد أنه يؤذيه أرسل له بالذهب والتحف (٤).

وقال ابن تيمية : وموسى بن جعفر مشهور بالعبادة والنّسك (٥).

وقال السويدي : هو الإمام الكبير القدر ، الكثير الخير ، كان يقوم

__________________

(١) المصدر السابق ٦/٢٧١.

(٢) تهذيب التهذيب ١٠/٣٠٢.

(٣) صفة الصفوة ٢/١٨٤.

(٤) البداية والنهاية ١٠/١٨٩.

(٥) منهاج السنة النبوية ٢/١٢٤.

١٦٣

ليله ، ويصوم نهاره ، وسُمّي كاظماً لفرط تجاوزه عن المعتدين ... وكانت له كرامات ظاهرة ومناقب لا يسع مثل هذا الموضع ذكرها (١).

وبالجملة ، فالإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام هو بدرجة من الجلالة والرفعة وعظم الشأن بحيث لا يُنكر في حقه أن يكون واحداً من أولئك المحدَّثين.

٢ ـ لعلَّ الإمام عليه‌السلام إنما قال ذلك بناءً على ما هو الظاهر من أن الله سبحانه يغضب على مَن فعَل فعلاً من الأمور العظيمة التي يكون لها آثار سيّئة على الإسلام والمسلمين ، فإن الإمام عليه‌السلام لما رأى أن جماعة من الشيعة قد تركوا التقية وصرَّحوا باسم الإمام عليه‌السلام ، علِمَ أن الله قد غضب عليهم ، بتعريضهم الإمام عليه‌السلام أو باقي الشيعة للقتل والهلاك ، لأن مَن أعان على قتل امرئ مسلم ولو بشطر كلمة لقي الله مكتوباً بين عينيه : «آيس من رحمة الله» كما جاء في الخبر (٢) ، فكيف بمن تسبَّب في قتل إمام المسلمين؟!

قال الجزائري : ٢ ـ الكذب على موسى الكاظم رحمه‌الله وبهته بهذه الفرية التي هو منها والله لبراء.

__________________

(١) سبائك الذهب ، ص ٧٥.

(٢) أخرجه ابن ماجة في السنن ٢/٨٧٤ ، والبيهقي في السنن الكبرى ٨/٢٢ ، والمنذري في الترغيب والترهيب ٣/١٨٥ ، والتبريزي في مشكاة المصابيح ٢/١٠٣٥ وغيرهم.

١٦٤

والجواب :

أن الكليني قدس‌سره روى هذا الحديث في كتابه الكافي بظن أنه معتبر ، وغيره من علماء الشيعة لم يوافقوه في ذلك ، فالكليني اجتهد في الحديث فأخطأ في الحكم عليه بالاعتبار ، وهذا من الأمور المغتفرة للعالم المجتهد كما هو معلوم.

والحديث مع قولنا بضعفه إلا أنّا لا نجزم بأنه مكذوب على الإمام الكاظم عليه‌السلام ، وقد اتضح ذلك مما تقدم. على أنه لو ثبت أن هذا الحديث مكذوب على الإمام الكاظم عليه‌السلام فمن الجور أن يُنْسب الشيعة كلهم إلى الكذب في الوقت الذي نرى فيه علماء الشيعة لا يصحّحون هذا الحديث ولا يعتقدون بمضمونه.

وكيف كان فلو جاز ذلك لحق لنا نسبة كل الطوائف إلى الكذب ، لأنه ما من طائفة إلا وفي كتبها المعتمدة كثير من الأحاديث المكذوبة كما لا يخفى على من تتبّع كتب الأحاديث.

وقوله : «وبهته بهذه الفرية التي هو منها والله براء» فيه أن البهتان هو الكذب على المرء بما ليس فيه مما يشينه ويضعه كما دلَّت عليه الأحاديث المفرِّقة بين الغيبة والبهتان ، فإن الغيبة هي أن تتكلم في الرجل بما فيه ، والبهتان هو أن تتكلم فيه بما ليس فيه (١).

__________________

(١) من ذلك ما أخرجه مسلم واللفظ له والترمذي وأبو داود وأحمد والدارمي وغيرهم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : أتدرون ما الغيبة؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : ذكرك أخاك بما يكره. قيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال : إن كان فيه

١٦٥

وما نحن فيه ليس كذلك ، فإن الحديث فيه مدح للإمام عليه‌السلام بأنه وقى شيعته بنفسه ، فكيف يتحقق بهته عليه‌السلام بذلك؟!

هذا مع أن الجزائري قد أكثر من الحلف بالله على ما لا يعلم ، والله سبحانه يقول (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) (١) ، فحلفه دائر بين أمرين اثنين ، لأنه لا يخلو إما أن يكون كاذباً فحلفه محرَّم ، وإما أن يكون صادقاً فحلفه مكروه.

قال الفخر الرازي : الذي ذكره أبو مسلم الأصفهاني وهو الأحسن أن قوله (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) نهي عن الجراءة على الله بكثرة الحلف به.

وقال : وقد ذم الله تعالى مَن أكثر الحلف بقوله (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) وقال (وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) ، والعرب كانوا يمدحون الإنسان بالإقلال من الحلف ... والحكمة في الأمر بتقليل الأَيمان أن مَن حلف في كل قليل وكثير بالله انطلق لسانه بذلك ، ولا يبقى لليمين في قلبه وقع ، فلا يؤمَن إقدامه على اليمين الكاذبة ، فيختل ما هو الغرض

__________________

ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه فقد بهته. راجع صحيح مسلم ٤/٢٠٠١ كتاب البر والصلة والآداب ، باب رقم ٢٠. سنن أبي داود ٤/٢٦٩. سنن الترمذي ٤/٣٢٩. مسند أحمد ٢/٢٣٠ ، ٣٨٤ ، ٣٨٦ ، ٤٥٨. سنن الدارمي ٢/٢٩٩.

(١) سورة البقرة ، الآية ٢٢٤.

١٦٦

الأصلي في اليمين ، وأيضاً : كلما كان الإنسان أكثر تعظيماً لله تعالى كان أكمل في العبودية ، ومن كمال العبودية أن يكون ذكر الله تعالى أجل وأعلى عنده من أن يستشهد به في غرض من الأغراض الدنيوية (١).

قال الجزائري : ٣ ـ اعتقاد نبوّة موسى الكاظم رحمه‌الله ، وما هو والله بنبي ولا رسول ، فقول المفتري : إن الله أخبر موسى الكاظم بأنه غضبان على الشيعة ، وأنه خيَّره بين نفسه وشيعته فاختار شيعته ، ورضي لنفسه بالقتل فداءً لهم ، يدل دلالة واضحة بمنطوقه ومفهومه على نبوة موسى الكاظم ، مع العلم بأن المسلمين مجمعون على كفر من اعتقد نبوة أحد بعد النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذلك لتكذيبه بصريح قوله تعالى (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ).

والجواب :

أن عقيدة الشيعة الإمامية في الأئمة الاثني عشر عليهم‌السلام أشهر من أن تُذكر ، وأظهر من أن تُنكر ، ولا أحد من الشيعة يعتقد بنبوة الإمام الكاظم أو غيره من الأئمة عليهم‌السلام.

والحديث الذي رواه الكليني رحمه‌الله مع ضعفه لا يدل على

__________________

(١) التفسير الكبير ٦/٧٥.

١٦٧

أن الله سبحانه أوحى إلى الإمام عليه‌السلام ، ولو سلَّمنا بدلالته على ذلك فالوحي لا يستلزم النبوة ، فإن الله جل شأنه أوحى إلى أُم موسى عليه‌السلام ، فقال (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (١).

قال الفخر الرازي في تفسير قوله تعالى (قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى * وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى * إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى) (٢) : اتفق الأكثرون على أن أُم موسى عليه‌السلام ما كانت من الأنبياء والرسل ، فلا يجوز أن يكون المراد من هذا الوحي هو الوحي الواصل إلى الأنبياء. وكيف لا نقول ذلك والمرأة لا تصلح للقضاء والإمامة ، بل عند الشافعي رحمه‌الله لا تمكَّن من تزويج نفسها ، فكيف تصلح للنبوة؟! ويدل عليه قوله تعالى (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) ، وهو صريح في الباب ، وأيضاً فالوحي قد جاء في القرآن لا بمعنى النبوة ، قال تعالى (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) ، وقال (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ) (٣).

وقال القرطبي : قال ابن عباس رضي الله عنهما : أُوحي إليها كما

__________________

(١) سورة القصص ، الآية ٧.

(٢) سورة طه ، الآيات ٣٦ ـ ٣٨.

(٣) التفسير الكبير ٢٢/٥١.

١٦٨

أوحي إلى النبيين (١).

والحاصل أن زعمه بأن الحديث يدل دلالة واضحة بمنطوقه ومفهومه على نبوة موسى الكاظم زعم باطل ، فإن الحديث بمنطوقه لا يدل كما قلنا على أكثر من أن الإمام الكاظم عليه‌السلام قد علم أن الله غضب على جماعة من الشيعة ، فخيَّره الله نفسه أو الشيعة ، فاختار عليه‌السلام وقايتهم بنفسه.

أما كيف علم الإمام عليه‌السلام أن الله قد غضب على الشيعة ، وكيف خيَّره الله بين ذينك الأمرين ، فهذا لم يتضح لا من منطوق الحديث ولا من مفهومه كما هو واضح ، وقد بيَّنَّاه فيما تقدم.

وأما المفهوم ، فإن كان لهذا الحديث مفهوم فهو مفهوم اللقَب ، وهو غير حجة كما هو معلوم عند الأصوليين.

والظاهر أن الجزائري ذكر هذه الكلمة وهو لا يعرف معناها في الاصطلاح ، ويدل على ذلك زعمه دلالة المنطوق والمفهوم كليهما على معنى واحد ، وهو غير صحيح ، لأن المنطوق والمفهوم لا بد أن يدل كل واحد منهما على معنى لا يدل عليه الآخر ، وهو واضح لمن لديه أدنى معرفة بالمفاهيم.

وعلى كل حال ، فإنا لو سلَّمنا جدَلاً بدلالة هذا الحديث على ما

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن ١١/١٩٥.

١٦٩

قاله فعقيدة الشيعة في الإمام موسى الكاظم عليه‌السلام معروفة غير خافية على أحد ، ولا يمكن أن يُشكَّك فيها بحديث ضعيف مروي في كتاب الكافي أو في غيره من مصادر الحديث المعتمدة عند الشيعة.

قال الجزائري : ٤ ـ اتحاد الشيعة والنصارى في عقيدة الصلب والفداء ، فكما أن النصارى يعتقدون أن عيسى فدى البشرية بنفسه ، إذ رضي بالصلب تكفيراً عن خطيئة البشرية ، وفداءً لها من غضب الرب وعذابه ، فكذلك الشيعة يعتقدون بحكم هذه الحقيقة أن موسى الكاظم خيَّره ربه بين إهلاك شيعته أو قتل نفسه ، فرضي بالقتل وفدى الشيعة من غضب الرب وعذابه ، فالشيعة إذن والنصارى عقيدتهما واحدة ، والنصارى كفَّار بصريح كتاب الله عزوجل ، فهل يرضى الشيعي بالكفر بعد الإيمان؟

قد هيَّئوكَ لأمرٍ لو فطنتَ له

فاربأ بنفسِكَ أن ترعَى مع الهمَلِ

والجواب :

أنا قد أوضحنا أن الحديث الذي بنى عليه الجزائري حقيقته هذه مع ضَعفه لا يدل على ما ادَّعى الجزائري دلالته عليه.

والذي دلَّ عليه الحديث كما مرَّ مكرَّراً أن الإمام عليه‌السلام قد وقى الشيعة بنفسه لئلا يقتلهم هارون الرشيد ، لا أن قتله عليه‌السلام كان تكفيراً عن ذنوب الشيعة وفداءً لهم من غضب الرب وعذابه كما زعم الجزائري.

١٧٠

ولعل غضب الله عليهم إنما كان لتركهم التقية كما تقدم ، إذ صرَّحوا باسم الإمام عليه‌السلام ، أو لأنهم تركوا طاعة الإمام عليه‌السلام فعملوا ما يستوجب غضب الرشيد ، فرأى الإمام عليه‌السلام أنه إن نجا بنفسه تتبَّع الرشيد الشيعة ولاحقهم ، فإما أن يهلكهم ، أو يظفر بالإمام عليه‌السلام ، فاختار الإمام عليه‌السلام أن يظهر للرشيد وقاية للشيعة مما يتوقع نزوله بهم من القتل.

فالإمام عليه‌السلام أخبر بأنه فعل ما يوجب حفظ الشيعة وحقن دمائهم مع ما صدر منهم من الأفعال التي نتج عنها تعريض الإمام عليه‌السلام للقتل.

والحاصل أن الحديث لا يدل على أن الإمام فدى الشيعة من غضب الله وعذابه حتى يلزم منه اتحاد الشيعة والنصارى في عقيدة الصلب والفداء.

ولو سلَّمنا بدلالة الحديث على ذلك فمع ضعف سنده لا يصلح للاحتجاج به على شيء.

ومع ذلك كله لو سلّمنا بأن الشيعة يعتقدون أن الإمام الكاظم عليه السلام قد فدى الشيعة من غضب الرب وعذابه ، فهذا لا يستلزم أن تكون عقيدة الشيعة والنصارى واحدة ، لأن النصارى يعتقدون ذلك في المسيح عليه‌السلام لا الإمام الكاظم ، ولو سلمنا بأن الشيعة يعتقدون الفداء من الإمام الكاظم عليه‌السلام ، فهم لا يعتقدون ذلك من المسيح عليه‌السلام ، ومجرد تشابه المعتقدات من بعض الجهات لا يعني اتحادها ، فإن النصارى يعتقدون أن المسيح عليه‌السلام هو خاتم الأنبياء ، والمسلمون يعتقدون أن خاتمهم هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا لا يعني اتحاد المسلمين والنصارى في إحدى

١٧١

العقائد ، وإلا لكان المسلمون والوثنيون وعُبَّاد غير الله سبحانه متَّحدين في عقيدة الربوبية ، وهذا باطل بالاتفاق.

هذا مع أن مجرد الاتحاد بين الأديان في بعض المعتقدات لا يدل على اتحادها في كل العقائد ، فإن المسلمين والنصارى يعتقدون بنزول عيسى عليه‌السلام في آخر الزمان ، وهذا لا يعني اتحاد المسلمين والنصارى في عقائدهم حتى يترتب على أولئك ما هؤلاء.

والحاصل أن الشيعة والنصارى لم تتَّخذ عقيدتهم في هذه المسألة التي ذكرها ، وهي عقيدة الصلب والفداء ، ولو سلَّمنا جدلاً باتحادهم فيها ، فهذا لا يعني أن عقائد الشيعة والنصارى واحدة كما هو واضح.

ومنه يتَّضح وجه المغالطة الواهية في قوله : فالشيعة إذن والنصارى عقيدتهم واحدة ، والنصارى كفَّار بصريح كتاب الله عزوجل ، فهل يرضى الشيعي بالكفر بعد الإيمان؟!

قال الجزائري : وأخيراً ، انقذ نفسك أيها الشيعي ، وتبرَّأ من هذه الخزعبلات والأباطيل ، ودونك صراط الله وسبيل المؤمنين.

وأقول :

إن الشيعي بحمد الله ومنِّه قد أنقذ نفسه بالسير في صراط الله

١٧٢

المستقيم ، واتَّباع سبيل المؤمنين ، والتمسّك بكتاب الله العزيز ، والعترة النبوية الطاهرة ، أخذاً بوصية النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأمته حيث قال : إني تارك فيكم ما إن تمسَّكتم به لن تضلُّوا بعدي ، أحدهما أعظم من الآخر : كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي ، ولن يتفرّقا حتى يردا عليَّ الحوض ، فانظروا كيف تخلِّفونِّي فيهما.

وقال : النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق ، وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف ، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس (١).

وقال : مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح ، من ركبها نجا ، ومن تخلَّف عنها غرق (٢).

وما أحسن قول القائل :

__________________

(١) المستدرك ٣/١٤٩ وقال : هذا حديث صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه. مجمع الزوائد ٩/١٦٨. إحياء الميت ، ص ٤٢/٤١. الخصائص الكبرى ٢/٢٦٦. حلية الاولياء ٤/٣٠٦. تاريخ بغداد ١٢/٩١. وأخرجه السيوطي في الجامع الصغير ٢/٥٣٣ ورمز له بالحسن.

(٢) المستدرك ٢/٣٤٣ ، ٣/١٥٠. مجمع الزوائد ٩/١٦٨. مشكاة المصابيح ٣/١٧٤٢. إحياء الميت ، ص ٤١ ـ ٤٢. الخصائص الكبرى ٢/٢٦٦. حلية الاولياء ٤/٣٠٦. تاريخ بغداد ١٢/٩١. المعجم الصغير ١/ ١٣٩ ـ ١٤٠.

١٧٣

لما رأيتُ الناسَ قد ذهبتْ بهم

مذاهبُهم في أبحر الغي والجهلِ

ركبت على اسم الله في سفن النجا

وهم أهل بيت المصطفى سيدِ الرُّسلِ

وأمسكتُ حبلَ الله وهو ولاؤهم

كما قد أُمرنا بالتمسُّك بالحبلِ

إذا افترقتْ في الدين سبعون فرقةً

فقُل لي بها يا ذا الرجاحة والعقلِ

أفي الفِرقة الهُلَّاك آلُ محمدٍ

أم الفرقة اللاتي نجَتْ؟ قل لي

فإن قلتَ في الناجين فالقول واحد

وإن قلتَ في الهُلَّاك حدتَ عن العدل

إذا كان مولى القوم منهم فإنني

رضيتُ بهم لا زال في ظلِّهم ظلّي

رضيتُ عليّا لي إماماً ونسلَه

وأنت من الباقين في أوسع الحِل

١٧٤

ولهذا كان الشيعة هم الفائزين الناجين من كل فِرَق هذه الأمة ، وهذا ما أخبر به الصادق الأمين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال : عليٌّ وشيعته هم الفائزون يوم القيامة (١).

ولما نزل قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) (٢) ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي عليه‌السلام : هو أنت وشيعتك ، تأتي أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين (٣).

ولستُ أدري بمَ يعتذر الجزائري وغيره عن طرح الأحاديث الصحيحة كحديث الثقلين وغيره الدالَّة بما لا يدع مجالاً للشك على لزوم اتباع مذهب أهل البيت عليهم‌السلام دون غيرهم ، ناهيك عن غيرها من الأدلة الأخرى الكثيرة التي مُلِئتْ بها كتبهم.

وعليك قارئي العزيز بمطالعة ما كتبناه في كتابينا (دليل المتحيِّرين) و (مسائل خلافية) من الأدلّة الدالة على لزوم اتِّباع مذهب أهل البيت عليهم السلام ، وعلى أن أَتْباعهم بحق هم الشيعة الإمامية ، فإنه مهم جداً.

__________________

(١) الدر المنثور ٨/٥٨٩. فتح القدير ٥/٤٧٧. ترجمة الامام علي بن أبي طالب عليه‌السلام من تاريخ دمشق ٢/٣٤٨. شواهد التنزيل ، ص ٨٢٠. الفردوس بمأثور الخطاب ٣/٦١.

(٢) سورة البينة ، الآية ٧.

(٣) جامع البيان في تفسير القرآن ٣٠/١٧١. الدر المنثور ٨/٥٨٩. فتح القدير ٥/٤٧٧. الصواعق المحرقة ، ص ١٩١. شواهد التنزيل ، ص ٨١٩/٨١٤.

١٧٥
١٧٦

كشف الحقيقة السَّادسة

١٧٧
١٧٨

قال الجزائري :

الحقيقة السادسة

اعتقاد أن أئمة الشيعة بمنزلة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في العصمة والوحي

والطاعة وغيرها ، إلا في أمر النساء ، فلا يحل لهم ما يحل له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

هذا المعتقد الذي يجعل أئمة الشيعة بمنزلة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أثبته صاحب الكافي بروايتين :

أولهما : أنه قال : كان المفضَّل عند أبي عبد الله ، فقال له : جُعلتُ فداك ، أيفرض الله طاعة عبد على العباد ويحجب عنه خبر السماء؟ فقال له أبو عبد الله الإمام : لا ، الله أكرم وأرحم وأرأف بعباده من أن يفرض طاعة عبد على العباد ثمّ يحجب عنه خبر السماء صباحاً ومساءً.

وأقول :

هذه الرواية ضعيفة السند ، فإن من جملة رواتها سهل ، وهو سهل بن زياد ، وقد مرّ بيان حاله.

١٧٩

ومن رواتها أيضاً جماعة بن سعد الخثعمي أو الجعفي ، وهو ضعيف في الحديث ، خطَّابي المذهب ، خرج مع أبي الخطاب الملعون على لسان الإمام الصادق عليه‌السلام وقُتل معه.

وقد ضعَّفه ابن الغضائري وابن داود (١) والعلَّامة الحلي (٢) والمامقاني (٣) والخوئي (٤) وغيرهم (٥).

ثمّ إن هذه الرواية كما لا يخفى لا تدل على ما عنوَن الجزائري به حقيقته هذه ، من أن الأئمة عليهم‌السلام بمنزلة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في العصمة والوحي والطاعة وغيرها.

قال الجزائري : فهذه الرواية تثبت بمنطوقها أن أئمة الشيعة قد فرض الله طاعتهم على الناس مطلقاً ، كما فرض طاعة الرسول عليه الصلاة والسلام ، وأنهم أئمة الشيعة يوحى إليهم ، ويتلقَّون خبر السماء صباحاً مساءً ، وهم بذلك أنبياء مرسلون أو كالأنبياء المرسلين سواء بسواء.

__________________

(١) كما في تنقيح المقال ١/٢٣٠.

(٢) رجال العلامة الحلي ، ص ٢١١.

(٣) تنقيح المقال ١/٢٣٠.

(٤) معجم رجال الحديث ٤/١٤٣.

(٥) مجمع الرجال ٢/٤٩. جامع الرواة ١/١٦٤.

١٨٠