كشف الحقائق

الشيخ علي آل محسن

كشف الحقائق

المؤلف:

الشيخ علي آل محسن


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الصفوة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١٢

كان كذلك فهو مصحف لغة ، وإن لم يكن قرآناً أو فيه شيء من سُوَره وآياته.

شُبهة وجوابها :

قد يقول قائل : إن ادِّعاء تكليم الملائكة غير الأنبياء باطل ، فلا يصح ادعاء سماع فاطمة وعلي عليهما‌السلام كلام الملائكة عامة أو جبريل خاصة.

والجواب : أن الأحاديث التي أخرجها حفاظ الحديث من أهل السنة قد دلَّت على أكثر من ذلك في حق مَن هم دون أمير المؤمنين فاطمة عليها‌السلام.

ولنا أن نقسم تلك الأحاديث إلى أربع طوائف :

الطائفة الأولى : دلَّت على أن الناس لو استقاموا لصافحتهم الملائكة.

ومن ذلك ما أخرجه مسلم والترمذي وابن ماجة وأحمد والحميدي والطيالسي وابن حبان وغيرهم عن حنظلة التميمي الأسيدي ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : يا حنظلة ، لو كنتم تكونون كما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة على فرشكم أو في طرقكم (١).

__________________

(١) صحيح مسلم ٤/٢١٠٦ ـ ٢١٠٧ كتاب التوبة ، باب رقم ٣. سنن الترمذي ٤/٦٦٦ وقال : هذا حديث حسن صحيح. سنن ابن ماجة ٢/١٤١٦. مسند أحمد ٢/٣٠٥ ، ٣/١٧٥ ، ٤/١٧٨ ، ٣٤٦ ، الجامع الصغير ٢/٤٢٨ حديث رقم ٧٤١٨ ،

١٤١

وفي رواية أخرى ، قال : لو كنتم تكونون إذا فارقتموني كما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة بأكُفِّها ، ولزارتكم في بيوتكم (١).

وعلى ذلك يُحمل تكليم الملائكة لمريم عليها‌السلام فيما حكاه الله سبحانه في كتابه العزيز ، إذ قال (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا* فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا* قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا* قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا* قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا* قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) (٢).

وقال عز من قائل (وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ* يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) (٣).

وعليه فهل يحق لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن ينفي عن أمير

__________________

٧٤١٩. مسند أبي داود الطيالسي ، ص ١٩١. شرح السنة ١/١٦٧. الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان ٩/٢٤٠ ـ ٢٤١. وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة ٢/٤١٥ ـ ٤١٦ ، وصحيح الجامع الصغير ٢/٩٣١ ، ١١٩٠ ، وسلسلة الأحاديث الصحيحة ٤/٦٠٦.

(١) مسند أبي داود الطيالسي ، ص ٣٣٧.

(٢) سورة مريم ، الآيات ٢١/١٦.

(٣) سورة آل عمران ، الآيتان ٤٢ ، ٤٣.

١٤٢

المؤمنين عليه‌السلام الاستقامة التي تؤهّله لأن تتحدَّث معه الملائكة في بيته ، وهو مولى كل مؤمن ومؤمنة (١) ، الذي يدور معه الحق حيثما دار (٢) ، وأخو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الدنيا والآخرة (٣) ، وباب مدينة علمه (٤) ، الذي يحبه الله ورسوله ، ويحبه الله

__________________

(١) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من كنت مولاه فعلي مولاه». راجع سنن الترمذي ٥/٦٣٣. سنن ابن ماجة ١/٤٣. المستدرك ٣/١٠٩ ، ١١٠. مسند أحمد ١/٨٤ ، ١١٨ ، ١١٩ ، ١٥٢ ، ٣٢١ ، ٤/٢٨١ ، ٣٦٨ ، ٣٧٠ ، ٣٧٢ ، ٥/٣٤٧ ، ٦٦ ، ٤١٩. حلية الاولياء ٤/٢٣ ، ٥/٢٧ ، ٣٦٤. مجمع الزوائد ٩/١٠٣ ـ ١٠٦. كتاب السنة ، ص ٥٩٠ ، ٥٩٦. عده السيوطي في قطف الازهار المتناثرة ، ص ٢٧٧ من الاحاديث المتواترة ، وكذا الكتاني في نظم المتناثر ، ص ٢٠٥ ، والزبيدي في لقط اللآلئ المتناثرة ، ص ٢٠٥ ، والحافظ شمس الدين الجزري في أسنى المطالب ، ص ٥ ، والألباني في سلسلة الاحاديث الصحيحة ٤/٣٤٣. وصححه جمع من اعلام اهل السنة. راجع كتابنا دليل المتحيرين ، ص ٣٧٠.

(٢) أخرج الحاكم في المستدرك ١٢٤/ ٣ ـ ١٢٥ عن علي رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اللهم أدر الحق معه حيث دار. وقال : هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. راجع كتابنا المذكور ، ص ٢٥٤/٢٥٣.

(٣) أخرج الترمذي في سننه ٥/٦٣٦ وحسنه ، والحاكم في المستدرك ٣/١٤ وغيرهما ، عن ابن عمر ، قال : آخى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين أصحابه ، فجاء علي تدمع عيناه ، فقال : يا رسول الله ، آخيت بين أصحابك ولم تؤاخ بيني وبين أحد! فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنت أخي في الدنيا والآخرة.

(٤) أخرج الحاكم في المستدرك ٣/١٢٦ ـ ١٢٧ وصححه عن علي عليه‌السلام ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : انا مدينة العلم وعلي بابها ، فمن أراد العلم فليأت الباب. وأخرجه الترمذي في سننه ٥/٦٣٧ ، إلا أنه قال : أنا دار الحكمة .... راجع مصادر

١٤٣

ورسوله (١) ، ومنزلته من النبي كمنزلة هارون من موسى (٢) ، ولا يحبّه إلا مؤمن ، ولا يبغضه إلا منافق (٣)؟!

وهل يحق لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن ينفي عن فاطمة الزهراء عليها‌السلام الأهلية لذلك ، وهي سيّدة نساء العالمين ، وسيدة

__________________

هذا الحديث في كتاب الغدير للأميني ٦/٦١ ـ ٨١.

(١) أخرج البخاري في صحيحه ٥/٢٢ ـ ٢٣ ، ومسلم كذلك ٤/١٨٧١ ـ ١٨٧٢ ، والترمذي في سننه ٥/٦٣٨ وصححه ، وأحمد في المسند ١/٧٨ ، ٩٩ ، ١٣٣ ، ١٨٥ ، ٣٣٠ ، ٥/٣٣٣ ، ٣٥٨ ، والحاكم في المستدرك ٣/٣٨ ، ١٠٩ ، ٤٣٧ وصححه ووافقه الذهبي ، عن سعد وغيره ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : لاعطين الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه ، يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله.

(٢) أخرج البخاري في صحيحه ٥/٢٤ ، ومسلم كذلك ٤/١٨٧٠ ـ ١٨٧١ ، والترمذي في سننه ٥/٦٣٨ وصححه ، وابن ماجة في سننه ١/٤٢ ، وأحمد في المسند ١/١٧٠ ، ١٧٣ ، ١٧٤ ، ١٧٥ ، ١٧٧ ، ١٧٩ ، ١٨٢ ، ١٨٤ ، ١٨٥ ، ٣٣٠ ، ٣/٣٢ ، ٣٣٨ ، ٦/٣٦٩ ، ٤٣٨ ، والحاكم في المستدرك ٣/١٠٩ وصححه ووافقه الذهبي ، أبو داود الطيالسي في مسنده ، ص ٢٩ ، عن سعد وغيره ، قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي.

(٣) أخرج مسلم في صحيحه ١/٨٤ ، ٩٥ ، ٢٦٢ ، والترمذي في سننه ٥/٦٤٣ ، ٦٤٥ ، وابن ماجة في سننه ١/٤٢ ، وأحمد في المسند ١/١٧٠ ، سلسلة الأحاديث الصحيحة ٤/٢٩٨ ، صحيح سنن ابن ماجة ١/٢٥ ، صحيح سنن النسائي ٣/١٠٣٣.

١٤٤

نساء أهل الجنة (١) ، وبضعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي يؤذيه ما يؤذيها (٢) ، والتي يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها (٣).

الطائفة الثانية : دلَّت على أن بعضاً من صحابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) صحيح البخاري ٥/٢٥ كتاب فضائل أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، باب مناقب قرابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ص ٣٦ مناقب فاطمة عليها‌السلام. ٥/٢٤٧ كتاب المناقب ، باب علامات النبوة في الإسلام. ٨/٧٩ كتاب الاستئذان ، باب من ناجى بين يدي الناس ... الخ. صحيح مسلم ٤/١٩٠٤ ـ ١٩٠٦ كتاب فضائل الصحابة ، باب فضائل فاطمة عليها‌السلام. سنن الترمذي ٥/٦٦٠. سنن ابن ماجة ١/٥١٨. صحيح سنن ابن ماجة ١/٢٧٠. سنن الطيالسي ، ص ١٩٦. المستدرك ٣/١٥١ ، ١٥٦ وصححه وافقه الذهبي. الطبقات الكبرى ٨/٢٦. مسند أحمد ٥/٣٩١ ، ٦/٢٨٢. حلية الاولياء ٢/٣٩ ، ٤٢. مشكل الآثار ١/٤٨ ، ٥٠. مجمع الزوائد ٩/٢٠١. در السحابة ، ص ٢٧٤ ، ٢٧٦. شرح السنة ١٤/١٦٠ وقال : هذا حديث متفق على صحته. مشكاة المصابيح ٣/١٧٣١. فضائل الصحابة ٢/٧٦٣.

(٢) صحيح البخاري ٥/٣٦ كتاب فضائل أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، باب مناقب فاطمة عليها‌السلام. ٧/٤٧ كتاب النكاح ، باب ذب الرجل عن ابنته في الغيرة والإنصاف. صحيح مسلم ٤/١٩٠٢ ـ ١٩٠٤ كتاب فضائل الصحابة ، باب فضائل فاطمة عليها‌السلام. سنن أبي داود ٢/٢٢٦. سنن الترمذي ٥/٦٩٨ ، ٦٩٩ وصححهما. سنن ابن ماجة ١/٦٤٣. صحيح سنن أبي داود ٢/٣٩١. مسند أحمد ٤/٢٢٣ ، ٢٣٦ ، ٣٢٨ ، ٣٣٢. المستدرك ٣/١٥٤ ، ١٥٨ ، ١٥٩. مشكاة المصابيح ٣/١٧٣٢. فضائل الصحابة ٢/٧٥٥ ، ٧٥٦ ، ٧٦٥. السنن الكبرى ١٠/٢٠١. شرح السنة ١٤/١٥٨ ، ١٥٩ ، وقال : هذا حديث متفق على صحته.

(٣) المستدرك ٣/١٥٤ وقال : هذا حديث صحيح الإسناد. مجمع الزوائد ٩/٢٠٣ قال : رواه الطبراني ، وإسناده حسن. در السحابة ، ص ٢٧٧.

١٤٥

سمع كلام بعض الملائكة.

ومنها ما أخرجه أحمد عن حذيفة بن اليمان أنه أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : بينما أنا أصلّي إذ سمعت متكلماً يقول : اللهم لك الحمد كله ، ولك الملك كله ، بيدك الخير كله ، إليك يرجع الأمر كله ، علانيته وسرّه ، فأهل أن تُحمد ، إنك على كل شيء قدير ، اللهم اغفر لي جميع ما مضى من ذنبي ، واعصمني فيما بقي من عمري ، وارزقني عملاً زاكياً ترضى به عني. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ذاك ملَك أتاك يعلِّمك تحميد ربك (١).

الطائفة الثالثة : ما دلَّ على أن جمعاً من صحابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأوا جبرئيل عليه‌السلام.

ومن ذلك ما أخرجه مسلم واللفظ له والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجة وأحمد وغيرهم عن أبي هريرة ، قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوماً بارزاً للناس ، فأتاه رجل فقال : يا رسول الله ، ما الإيمان؟ قال : أن تؤمن بالله وملائكته وكتابه ولقائه ورسله ، وتؤمن بالبعث الآخر. قال : يا رسول الله ، ما الإسلام؟ قال : الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً ، وتقيم الصلاة المكتوبة ، وتؤدي الزكاة المفروضة ، وتصوم رمضان. قال : يا رسول الله ، ما الإحسان؟ قال : أن تعبد الله كأنك تراه ، فإنك إن لا تراه فإنه يراك.

__________________

(١) مسند أحمد ٥/٣٩٦.

١٤٦

إلى أن قال : ثمّ أدبر الرجل ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : رُدُّوا عليَّ الرجل. فأخذوا ليَردُّوه فلم يروا شيئاً ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هذا جبريل جاء ليُعَلِّم الناس دينهم (١).

وممن رُوي أنه رأى جبريل عليه‌السلام عائشة فيما أخرجه ابن سعد عنها أنها قالت : لقد رأيت جبريل واقفاً في حجرتي هذه على فرس ورسول الله يناجيه ، فلما دخل قلت : يا رسول الله ، من هذا الذي رأيتك تناجيه؟ قال : وهل رأيتِه؟ قلت : نعم. قال : فبمن شبَّهتِه؟ قلت : بدحية الكلبي. قال : لقد رأيتِ خيراً كثيراً ، ذاك جبريل ... (٢).

وأخرج أحمد عن عائشة أنها قالت : رأيتك يا رسول الله وأنت قائم تكلم دحية الكلبي. فقال : وقد رأيتِه؟ قالت : نعم. قال : فإنه جبريل ، وهو يقرئك السلام. قالت : وعليه‌السلام ورحمة الله ، جزاه الله من زائر ودخيل ، فنعم الصاحب ونعم الدخيل (٣).

ومنهم : عبد الله بن العباس فيما أخرجه أحمد عن ابن عباس ، قال : كنت مع أبي عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعنده رجل يناجيه ، فكان كالمعرض عن أبي ، فخرجنا من عنده ، فقال لي أبي : أي بُني ، ألم ترَ

__________________

(١) صحيح مسلم ١/٣٦ ـ ٤٠ كتاب الإيمان ، باب رقم ١. سنن أبي داود ٤/٢٢٣. سنن الترمذي ٥/٦. سنن ابن ماجة ١/٢٤ ـ ٢٥. سنن النسائي ١/٢٤٩. مسند أحمد ١/٢٧ ، ٢٨ ، ٥٢ ، ٥٣.

(٢) الطبقات الكبرى ٨/٦٧ ـ ٦٨.

(٣) مسند أحمد ٦/٧٤ ـ ٧٥ ، ١٤٦.

١٤٧

إلى ابن عمك كالمعرض عني؟ فقلت : يا أبتِ ، إنه كان عنده رجل يناجيه. قال : فرجعنا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال أبي : يا رسول الله ، قلتُ لعبد الله كذا وكذا ، فأخبرني أنه كان عندك رجل يناجيك ، فهل كان عندك أحد؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وهل رأيتَه يا عبد الله؟ قال : قلت : نعم. قال : فإن ذاك جبريل ، وهو الذي شغلني عنك (١).

ومنهم : محمد بن مسلمة فيما أخرجه الذهبي عنه ، قال : مررت فإذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الصفا واضعاً يده على يد رجل ، فذهبت. فقال : ما منعك أن تسلِّم؟ قلت : يا رسول الله ، فعلتَ بهذا الرجل شيئاً ما فعلته بأحد ، فكرهت أن أقطع عليك حديثك ، مَن كان يا رسول الله؟ قال : جبريل ، وقال لي : هذا محمد بن مسلمة لم يسلِّم ، أما إنه لو سلَّم رددنا عليه‌السلام(٢).

ومنهم : حارثة بن النعمان فيما أخرجه ابن سعد والهيثمي عنه ، قال : رأيت جبريل من الدهر مرتين ، يوم الصَّوْرَين حين خرج رسول الله إلى بني قريظة ، مرَّ بنا في صورة دحية ، فأمرَنا بلبس السلاح ، ويوم موضع الجنائز حين رجعنا من حنين (٣).

وأخرج أحمد عنه ، قال : مررت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومعه

__________________

(١) مسند أحمد ١/ ٢٩٣ ـ ٢٩٤ ، ٣١٢.

(٢) سير أعلام النبلاء ٢/٣٧٠.

(٣) الطبقات الكبرى ٣/٤٨٨.

١٤٨

جبريل جالس في المقاعد ، فسلَّمت عليه ثمّ أجزت ، فلما رجعت وانصرف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : هل رأيت الذي كان معي؟ قلت : نعم. قال : إنه جبريل عليه‌السلام وقد ردَّ عليك السلام (١).

الطائفة الرابعة : دلت على أن بعض صحابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت الملائكة تسلِّم عليه وتصافحه ويراهم عياناً.

ومن ذلك ما أخرجه مسلم عن عمران بن حصين في حديث قال : وقد كان يُسَلَّم عليَّ حتى اكتويتُ فتُرِكْتُ ، ثمّ تَركْتُ الكَيّ فعاد (٢).

وأخرج ابن سعد عن قتادة : أن الملائكة كانت تصافح عمران بن حصين حتى اكتوى فتَنَحَّتْ (٣).

قال الذهبي في ترجمة عمران بن حصين : وكان ممن يسلّم عليه الملائكة ... وقال : وكان به داء الناصور فاكتوى لأجله ، فقال : اكتوينا فما أفلحن ولا أنجحن. وروينا أنه لما اكتوى انقطع عنه التسليم مدة ثمّ عاد إليه (٤).

__________________

(١) مسند أحمد ٥/٤٣٣ ، قال الهيثمي في مجمع الزوائد ٩/٣١٣ : رواه أحمد والطبراني ، ورجاله رجال الصحيح.

(٢) صحيح مسلم ٢/٨٩٩ : كتاب الحج ، باب جواز التمتع.

(٣) الطبقات الكبرى ٤/٢٨٨.

(٤) تذكرة الحفاظ ١/٢٩ ـ ٣٠.

١٤٩

وقال ابن حجر : وكانت الملائكة تصافحه قبل أن يكتوي (١).

وقال النووي : كانت الملائكة تسلّم عليه ويراهم عياناً كما جاء مصرحاً به في صحيح مسلم (٢).

وقال ابن عبد البر : يقول عنه أهل البصرة : إنه كان يرى الحفَظة ، وكانت تكلّمه حتى اكتوى (٣).

إلى غير ذلك مما لا يُحصى كثرة ، ولا نحتاج إلى تتبّعه واستقصائه (٤).

وبالجملة فالأحاديث المروية الدالة على رؤية جمع الصحابة للملائكة وسلامهم عليهم وكلامهم معهم لا تُحصى كثرة ، وفيما ذكرناه كفاية.

ومن كل ذلك نخلص إلى أن سماع أمير المؤمنين وسيدة نساء العالمين عليهما‌السلام حديث الملَك أو جبرئيل عليه‌السلام ممكن الوقوع ، بل إن ذلك غير مستبعد منهما ، ولا سيما بعد ما رأينا الأحاديث الكثيرة الدالة على تكليم الملائكة وسلامهم ومصافحتهم لمن

__________________

(١) تهذيب التهذيب ٨/١١٢.

(٢) تهذيب الأسماء واللغات ٢/٣٦.

(٣) الاستيعاب ٣/٢٢.

(٤) راجع إن شئت سنن أبي داود ٤/٥. مسند أحمد ٤/٤٢٧. المستدرك ٣/٤٧٢. أُسد الغابة ٤/١٣٨. الإصابة ٣/٢٦ ، ٢٧. سير أعلام النبلاء ٢/٥٠٨ ، ٥١٠ ، ٥١١. شذرات الذهب ١/٥٨. تاريخ الإسلام ٣/٢٧٥ ، ٢٧٦. البداية والنهاية ٨/٦٢.

١٥٠

هو دونهما عليهما‌السلام ، فالجرأة على إنكار كلام الملائكة مع علي وفاطمة عليهما‌السلام خطأ بيِّن فاحش لا يجوز لمسلم أن يقدم عليه ، لأنه طعن واضح في العترة النبوية الطاهرة ، أعاذنا الله من ذلك.

قال الجزائري : ٦ صاحب هذا الاعتقاد لا يمكن أن يكون من المسلمين أو يُعَد من جماعتهم وهو يعيش على علوم ومعارف وهداية ليس للمسلمين منها شيء.

والجواب

الظاهر أنه يشير إلى اعتقاد أن أهل البيت عليهم‌السلام عندهم الجامعة والجفر ومصحف فاطمة عليها‌السلام بقرينة قوله : وهو يعيش على علوم ومعارف وهداية ليس للمسلمين منها شيء.

وكيف كان ، فالذي يعتقد بذلك لحصول أدلة صحيحة عنده لا يجوز التسرُّع في الحكم بكفره والجزم بخروجه عن جماعة المسلمين ، لأن هذا الاعتقاد لو سلَّمنا ببطلانه جدلاً فمَن اعتقد به عن شُبهة لا يُكفَّر بل ولا يُفسَّق ، لأنه لم يجحد ما عُلم ثبوته في الدين بالضرورة ، بل إن شُبهته تمنع من الإقدام على تكفيره حتى لو أنكر ضرورياً ، وهو واضح.

وتعليل خروج من يعتقد بهذا الأمر عن دائرة الإسلام وجماعة المسلمين بأنه يعيش على علوم ومعارف وهداية ليس للمسلمين منها شيء تعليل باطل ، لأن اعتقاد ذلك لا يعني أن هذه الكتب والصحف

١٥١

هي في حيازة الشيعة يهتدون بها دون سائر المسلمين ، ولو سلَّمنا بذلك فلا محذور في أن يتمسك الشيعة الإمامية بالعترة النبوية الطاهرة ، فيأخذون بهديهم ، ويتزوَّدون من علومهم ، وينهلون من معارفهم اتباعاً لأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتمسك بالثقلين الذين خلَّفهما للأمة ، إذ قال : إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلُّوا بعدي الثقلين ، أحدهما أكبر من الآخر ، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ألا وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض (١).

هذا مضافاً إلى أن الفرقة الناجية لا بد أن تكون لها هداية ومعارف ليست لغيرها من الطوائف ، وإلا لما كان في المسلمين فرقة ناجية واحدة ، ووجب أن تكون كل فِرَق المسلمين ناجية ، وهو باطل.

قال الجزائري : ٧ ـ وأخيراً فهل مثل هذا الهراء الباطل والكذب السخيف تصح نسبته إلى الإسلام ، دين الله الذي لا يقبل غيره؟!

(وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ).

والجواب :

أنَّا أوضحنا بما لا مزيد عليه أن كل ما أنكره الجزائري وشنع به

__________________

(١) سبق تخريج مصادره في صفحة ٧٣ من هذا الكتاب.

١٥٢

على الشيعة لا محذور فيه ، والأحاديث الصحيحة المروية في كتب أهل السنة تعضِّده وتؤيِّده ، مع أن مثله مذكور في كتب أهل السنة أو أكثر منه. وكل ما ذكره من اللوازم غير لازم ، فإنه حمَّل حديث «الكافي» الذي افتتح به حقيقته هذه ما لا يحتمل من الخيالات الباطلة والأوهام الفاسدة ، التي كان الداعي إلى ذكرها هو التعلق بكل ما يكفّر به الشيعة وإن كان باطلاً. وعليه فأي هراء باطل في هذا الحديث وأي كذب سخيف البتة؟!

بل غاية ما في الباب أن القوم أنهم يرون كل فضيلة لأهل البيت عليهم‌السلام هراءً باطلاً وكذباً سخيفاً ، وكل فضيلة لغيرهم هي من الإسلام الذي لا يقبل الله غيره ، وكلام الجزائري هنا جارٍ على هذا المنوال ، فلا نتعجب من صدور ذلك منه وممن هو على شاكلته ، والله المستعان وإليه المشتكى.

١٥٣
١٥٤

كشف الحقيقة الخامسة

١٥٥

قال الجزائري :

الحقيقة الخامسة

اعتقاد أن موسى الكاظم قد فدى الشيعة بنفسه!!

أورد صاحب الكافي هذه الحقيقة بقوله : إن أبا الحسن موسى الكاظم وهو الإمام السابع من أئمة الشيعة الاثني عشرية قال : الله عزوجل غضب على الشيعة ، فخيَّرني نفسي أو هم ، فوقيتهم بنفسي.

أقول :

هذا الحديث رواه الكليني رحمه‌الله عن علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي الحسن موسى عليه‌السلام. فهو حديث ضعيف الإسناد ، لأنه مرسَل قد جُهل بعض رواته.

قال الجزائري : والآن أيها الشيعي ، فما مدلول هذه الحكاية التي ألزموك باعتقادها ، بعد ما فرضوا عليك الإيمان بها وتصديق مدلولها حسب

١٥٦

ألفاظها قطعاً؟

إن موسى الكاظم رحمه‌الله تعالى قد رضي بقتل نفسه فداءً لأتباعه ، من أجل أن يغفر الله لهم ، ويدخلهم الجنة بغير حساب.

والجواب :

أنا ذكرنا أن هذا الحديث ضعيف السند ، فلا يصح العمل به ولا الاعتقاد بمضمونه ، لأنا أوضحنا مكرراً أن المعتقدات لا يجوز إثباتها بالحديث الصحيح فضلاً عن الضعيف.

وعليه ، فزعم الجزائري أن مضمون هذا الخبر مما أُلزم الشيعي باعتقاده وفُرض عليه الإيمان به زعم باطل لم يستند إلى حجة ، ومجرد روايته في الكافي لا يدل على أن الشيعة يعتقدون به كما أوضحناه فيما تقدم.

وما ذكره من التعليل في قوله : «إن موسى الكاظم رحمه‌الله تعالى قد رضي بقتل نفسه فداءً لأتباعه من أجل أن يغفر الله لهم ، ويدخلهم الجنة بغير حساب» لا يدل عليه الحديث ، فإن ظاهر الحديث قد دلَّ على أن الإمام الكاظم عليه‌السلام قد وقى الشيعة بنفسه من القتل في الدنيا ، أما أنه علي السلام قد فداهم بنفسه لغفران ذنوبهم ولإدخالهم الجنة بغير حساب فلا يدل عليه الحديث بأي دلالة كما هو واضح.

١٥٧

معنى الحديث

قوله عليه‌السلام : «إن الله غضب على الشيعة» يعني به جماعة من الشيعة المعاصرين له عليه‌السلام ، وإنما غضب عليهم لأمور وقعت منهم.

قال المولى المجلسي أعلى الله مقامه : «غضب على الشيعة» إما لتركهم التقية ، فانتشر أمر إمامته عليه‌السلام ، فتردد الأمر بين أن يقتل الرشيد شيعته ويتتبعهم ، أو يحبسه عليه‌السلام ويقتله ، فدعا عليه‌السلام لشيعته ، واختار البلاء لنفسه. وإما لعدم انقيادهم لإمامهم وخلوصهم في متابعته وإطاعة أوامره ، فخيَّره الله تعالى بين أن يخرج على الرشيد فتُقتل شيعته إذا يخرج ، فينتهي الأمر إلى ما انتهى إليه.

وقيل : خيَّرني الله بين أن أوطِّن نفسي على الهلاك والموت ، أو أرضى بإهلاك الشيعة ، «فوقيتهم والله بنفسي» يعني فاخترتُ هلاكي دونهم.

وقيل : أي فخيرني بين إرادة موتي أو موتهم ، لتحقّق المفارقة بيني وبينهم ، فاخترتُ لقاء الله شفقة عليهم (١).

قال الجزائري : تأمل أيها الشيعي وفقني الله وإياك لما يحبه ويرضاه من

__________________

(١) مرآة العقول ٣/١٢٦.

١٥٨

صالح المعتقد والقول والعمل. تأمل هذه الفرية ولا أقول غير الفرية (٢) ، وذلك لمجانبتها الحق ، وبعدها كل البعد عن الواقع والصدق ، تأملها فإنك تجدها تلزم معتقدها بأمور عظيمة ، كل واحد لا ترضى أن ينسب إليك أو تنتسب أنت إليه ما دمت ترضى بالله ربّا ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمد نبيّا ورسولا.

والجواب :

أنَّا أوضحنا أن هذا الحديث ضعيف السند ، والحديث الضعيف كما مر لا يُلزم الشيعة بشيء مما جاء فيه ، ولا يُحتج عليهم به.

على أنَّا لو سلَّمنا بصحة هذا الحديث فإن معناه لا تردُّه العقول ، ولا يستلزم شيئاً من اللوازم الفاسدة التي ذكرها الجزائري ، لإمكان حمله على وجوه صحيحة لا تأباها ألفاظ الحديث كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

ثمّ إن الجزائري أخذ في سرد أمور جعلها لوازم يُلزَم بها كل واحد من الشيعة الإمامية ، فقال :

وتلك الأمور :

١ ـ الكذب على الله عزوجل في أنه أوحى إلى موسى الكاظم بأنه غضب على الشيعة ، وأنه خيَّره نفسه أو شيعته ، وأنه فداهم بنفسه ، فهذا

__________________

(١) صدق الجزائري في هذا القول ، فإنه لم يقل في كتيبه هذا على الشيعة إلا الفرية.

١٥٩

والله لكذب عليه عزوجل ، وهو يقول (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً).

والجواب :

١ ـ أن الحديث لا دلالة فيه على أن الله أوحى إلى الإمام موسى الكاظم عليه‌السلام أنه غضب على الشيعة وأنه خيَّره نفسه أو الشيعة ، لأنه عليه‌السلام لم يقل : «إن الله عزوجل أوحى إليَّ ذلك».

والحديث لا يدل على أكثر من أن الإمام عليه‌السلام علم بأن الله سبحانه قد غضب على جمع من الشيعة ، أما كيف علم الإمام عليه‌السلام بذلك فهذا شيء آخر.

ويحتمل في المقام أمران :

١ ـ أنه عليه‌السلام علم ذلك بالإلهام ، فإن الإلهام يقع في هذه الأمَّة ، وأثبته أهل السنة لجمع من الناس ، منهم عمر بن الخطاب.

واستدلوا على ثبوت الإلهام لخصوص عمر بن الخطاب بما أخرجه البخاري مسلم والترمذي وأحمد والحاكم وابن حبان والطيالسي والطحاوي وغيرهم عن أبي هريرة أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدَّثون ، فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر (١).

__________________

(١) صحيح البخاري ٤/٢١١ كتاب الأنبياء ، باب رقم ٥١. صحيح مسلم ٤/١٨٦٤

١٦٠