معارج الفهم في شرح النظم

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

معارج الفهم في شرح النظم

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: عبدالحليم عوض الحلّي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-397-218-3
الصفحات: ٦٤٤

وثالثها : الصناعات خفيّة لا يمكن الاطّلاع عليها ، وهي امور ضرورية في بقاء النوع ، فوجب بعثة الأنبياء لتعليمها.

ورابعها : تعليم الأخلاق الفاضلة النافعة في المعاش والعقائد الحقّة (١) النافعة في المعاد.

وخامسها : زوال الخوف عن (٢) المكلّف ، فإنّه حين استكمال عقله إن اشتغل بالعبادة (٣) حصل له الخوف من حيث إنّه تصرّف في ملك غيره ، وأيضا فلا يعلم كيفيّة ما يتعبّد (٤) به وإن لم يشتغل (٥) خاف من التفريط.

الثاني : أن نقول : إنّ من الحسن ما هو معلوم ، فنفع الأنبياء فيه التأكيد ، ومنه ما هو مجهول فنفعهم فيه التعريف ، وكذلك القبيح.

وأمّا الجواب عن شبهة اليهود فإنّا نقول : إنّ موسى عليه‌السلام بيّن أنّ شرعه سينسخ ، وتواتر اليهود منقطع ، فإنّ بخت نصّر (٦) استأصلهم ، والفرق بين النسخ والبداء ظاهر ، لاختلاف الوقت في الأوّل دون الثاني ، فجاز اختلاف المصلحة باختلاف الوقت.

قوله : إنّ اليهود تواتروا بنقل قول موسى عليه‌السلام : تمسّكوا بالسبت أبدا (٧). قلنا : الجواب عنه من وجهين :

__________________

(١) في «ب» : (الخفيّة).

(٢) في «د» «س» زيادة : (غير).

(٣) في «ف» : (بالعباد).

(٤) في «ب» : (تعبّد).

(٥) في «أ» : (يستعمل).

(٦) كان من ملوك بابل في ٦٠٤ قبل الميلاد إلى ٥٦٢ قبل الميلاد.

(٧) المسلك في أصول الدين : ١٦٩ ، قواعد المرام في علم الكلام : ١٣٤ ، شرح التجريد (تحقيق الزنجاني) : ٣٨٦.

٤٦١

أحدهما : ما مرّ من انقطاع تواترهم.

و (١) الثاني : أنّ لفظ التأبيد قد يأتي للزمان المتطاول ، وقد جاء منه (٢) في التوراة شيء كثير ، وأمّا شرعنا فإنّا نعلم بالضرورة المستندة إلى التواتر أنّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله أخبر بأنّه دائم أخبارا لا تحتمل التأويل.

[في العصمة]

قال :

وإذا ثبتت نبوّته فنقول : إنّه معصوم وباقي الأنبياء إمّا عن الاعتقاد الباطل فبالإجماع إلّا بعض الخوارج (٣).

وأمّا عن نقل الشرائع فبالإجماع لا سهوا ولا عمدا ، واختلفوا في السهو في الفتوى وأفعالهم لا تقع الكبيرة عمدا ولا سهوا (٤) إلّا عند الحشويّة (٥) ، وفي تعمّد الصغيرة خلاف قال به أكثر المعتزلة.

__________________

(١) الواو سقطت من «ب» «س».

(٢) في «ب» «ج» : (عنه) ، وفي «ب» : (مثله).

(٣) الخوارج : فرقة ظهرت بعد قضيّة التحكيم الذي جرى بين الإمام عليّ عليه‌السلام ومعاوية في صفّين ، وقد كانوا ضمن عسكر الإمام عليّ عليه‌السلام ، وقد كان شعارهم «لا حكم إلّا لله» ولذلك سموا المحكمة (موسوعة الفرق الإسلاميّة : ٢٣٨).

(٤) قوله : (ولا عمدا واختلفوا) إلى هنا سقط من «ف».

(٥) الحشوية : لقب أطلقه بعض علماء الكلام على أصحاب الحديث لقولهم غالبا بالتجسم والتشبيه ، ولقّبوا بهذا اللقب لاحتمالهم كلّ حشو روي من الأحاديث المختلفة المتناقضة (موسوعة الفرق الإسلاميّة : ٢١٢).

٤٦٢

والحقّ مذهب الإماميّة أنّه لا يقع منهم الكبيرة و (١) الصغيرة ، عمدا وسهوا من أوّل العمر إلى آخره ، لأنّه لو بعث من يعصي لنقض غرضه ، إذ الغرض تعريف المصالح ، ولا يتمّ إلّا بقبول قوله والطمأنينة إليه ، ومتى جوّز العصيان لم يسكن إليه ، ولأنّه يجوز أن يؤدّي بعض ما لم يؤمر أو ينقص (٢) ويكون منزّها عن دناءة الآباء وعهر الامّهات ، لكونه منفّرا عنه فيخلّ بالغرض (٣).

أقول :

العصمة لطف يفعله الله تعالى بالمكلّف لا يكون (٤) معه داع إلى ترك الطاعة وفعل المعصية مع إمكان وجوده (٥) ، وبعض الناس جعل المعصوم غير متمكّن من (٦) المعصية ، وهو خطأ وإلّا لم يستحقّ (٧) الثواب ، فلم يكن له فضيلة في ذلك ، فإذن الحقّ بقاء المعصوم على الاختيار ، فإذا حصلت للإنسان ملكة مانعة من الفجور والإقدام على المعاصي وانضاف إلى تلك الملكة العلم بما (٨) في الطاعة من السعادة وفي المعصية من الشقاوة مع خوف المؤاخذة على ترك الأولى والفعل المنهي (٩) فقد تكمّلت شرائط العصمة.

__________________

(١) في «ج» «ف» زيادة : (لا).

(٢) راجع رسالة في عدم سهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله للشيخ المفيد.

(٣) انظر كشف المراد (تحقيق الآملي) : ٤٧٢ وفي تحقيق السبحاني : ١٥٧ ، نهج الحق : ١٥٨ ، بحار الأنوار ١٧ : ١٠٩ وج ٦٤ : ٢٥٠ ، النافع يوم الحشر : ٩٠.

(٤) في «ج» «ر» «ف» زيادة : (له).

(٥) انظر تصحيح اعتقادات الإماميّة للمفيد : ١٢٨ ، النكت الاعتقاديّة : ٣٧.

(٦) في «ف» (ممكن من فعل) ، وفي «ج» «ر» : (متمكن من فعل) بدل من : (متمكن من).

(٧) في «أ» «د» : (لما استحقّ) بدل من : (لم يستحقّ).

(٨) في «ج» «ف» : (بأنّ).

(٩) في «ب» : (المنسي) ، وفي «أ» : (المسيء).

٤٦٣

إذا عرفت هذا فنقول : أفعال الأنبياء لا تخلو من (١) أربعة :

أحدها : الاعتقاد الديني.

وثانيها : الفعل الصادر عنهم من الأفعال الدينيّة.

وثالثها : تبليغ (٢) الأحكام ونقل الشرائع.

ورابعها : الأفعال المتعلّقة بهم في الدنيا.

والقسم الأوّل : اتّفق العقلاء على امتناع الخطأ فيه إلّا ما نقل عن بعض الخوارج ، وهم الفضيليّة (٣) من تجويز (٤) الكفر عليهم ، لأنّ المعصية عندهم كفر ، وجوّزوا صدور المعصية منهم (٥) (٦).

وأمّا الثاني : فقد اختلف الناس فيه فجوّز بعضهم الكبائر عليهم ، وآخرون منعوا منه وجوّزوا الصغائر (٧). والإماميّة منعوا من القسمين عمدا وسهوا قبل النبوّة وبعدها.

وأمّا الثالث فقد اتّفق الجمهور على المنع من الخطأ فيه عمدا وسهوا.

وأمّا الرابع فقد جوّز أكثر الناس السهو عليهم فيه ، وخالف في ذلك الإماميّة ، وهو الحقّ.

__________________

(١) في «أ» «د» «س» : (عن).

(٢) في «ج» : (بتبليغ).

(٣) الفضيليّة فرقة من الخوارج يقولون : إنّ كل معصية صغرت أو كبرت فهي شرك ، وإنّ صغائر المعاصي مثل كبائرها (موسوعة الفرق الإسلاميّة : ٤٠٨).

(٤) في «ب» : (ومنهم من يجوّز) بدل من : (من تجويز).

(٥) في «ج» «ر» «ف» : (عنهم).

(٦) حكاه عنهم ابن ميثم البحراني في قواعد المرام في علم الكلام : ١٢٥.

(٧) انظر قواعد المرام في علم الكلام : ١٢٥.

٤٦٤

والدليل على وجوب العصمة أنّه لو جاز على الرسول الخطأ لزم نقض الغرض من البعثة ، والتالي باطل ، فالمقدّم مثله.

بيان الشرطيّة : أنّه إنّما بعث الأنبياء لتعريف الأحكام وإظهار الشرائع ، فلو جوّزنا عليهم المعصية عمدا و (١) خطأ جوّزنا كون الشرع كذبا وتجويز ذلك يقتضي التوقّف في صحّة قوله.

وأمّا بطلان التالي (٢) فظاهر.

وأيضا فإنّه يجوز أن يؤدّي بعض ما لم يؤمر أو ينقص بعض ما أمر بتبليغه.

ويجب أن يكون النبيّ منزّها عن دناءة الآباء وعهر الأمّهات ، لكون ذلك مستلزما للتنفير ، وذلك يخلّ بالغرض من المتابعة (٣).

[في ظهور المعجز على غير النبي]

قال :

قال أبو الحسين : يجوز ظهور الكرامات ، وهو الحقّ لقضيّة (٤) مريم عليها‌السلام.

سؤال : يجوز أن يكون إرهاصا (٥) ولأنّه حينئذ لا يمكن الاستدلال على النبوّة.

__________________

(١) في «ج» «ر» «س» : (أو).

(٢) في «ر» «ف» : (الثاني).

(٣) في «د» : (لوجوب أتباعه) وتخريجه تقدم.

(٤) في «ف» : (لقصّة).

(٥) الإرهاص : إحداث معجزات تدلّ على بعثة نبيّ قبل بعثته ، وكأنّه تأسيس لقاعدة نبوّته كما في تلخيص المحصّل : ٣٥٠ ، وفي إرشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين : ٣٠٧ ، الإرهاص هو الإتيان بخارق العادة إنذارا بقرب بعثة النبيّ ، تمهيدا لقاعدته ، وفي اللوامع الإلهيّة في المباحث الكلاميّة : ٢١٥ ، هو ظهور الخارق العادة إنذارا بقرب البعثة.

٤٦٥

جوابه : الإرهاص فاسد ، لأنّه إنّما يخصّ به ذلك النبيّ على أنّه سيجيء لا غيره. وأمّا الثاني فممنوع ، لأنّ الدعوى مع المعجز مخصّص بالنبيّ.

أقول : اختلف الناس في جواز إظهار المعجز على غير نبيّ على مذهبين ، وتفصيلهما أن نقول : ذهب أبو هاشم وأبو علي (١) وأتباعهما إلى المنع من إظهار المعجز على يد الصالحين ، وعلى من سيبعث إرهاصا لنبوّته ، وعلى الكذّاب على العكس (٢) ، وحكي عن ابن الإخشيد (٣) جواز جميع ذلك من جهة العقل (٤). وجوّز أبو الحسين إظهار المعجز على يد الصالحين (٥) (٦) ، ومنع البصريّون من الإرهاص ، ومنع قاضي (٧) القضاة من ظهور المعجز على العكس ممّا (٨) سأله الكاذب نحو ما روي أنّ مسيلمة قيل له : إنّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله دعا لأعور فردّ الله عينه ، فافعل أنت

__________________

(١) في «ج» «ر» «ف» : (أبو علي وأبو هاشم).

(٢) حكاه الشيخ المفيد في أوائل المقالات : ٦٩ عن المعتزلة.

(٣) في «ج» : (الأخشد). وقد اختلف العلماء في تسميته بين ابن الأخشاد وابن الأخشاد وابن الأخشياد وهو أبو بكر أحمد بن عليّ ، وهو من رؤساء المعتزلة وزهّادهم. توفي سنة ٣٢٦ هجريّة وله ستّ وخمسون سنة ، وللشيخ المفيد كتاب في الردّ عليه في الإمامة. الوافي بالوفيات ٧ : ٢١٦ ، سير أعلام النبلاء ١٥ : ٢١٧ ، لسان الميزان ١ : ٢٣١ ، أوائل المقالات : ٦٩.

(٤) حكاه الشيخ المفيد في أوائل المقالات : ٦٩.

(٥) من قوله : (وعلى من سيبعث) إلى هنا لم يرد في «أ».

(٦) حكاه الشيخ المفيد في أوائل المقالات : ١٧٦ ونقله عنه العلّامة المجلسي في بحار الأنوار ٢٧ : ٣١.

(٧) (قاضي) لم ترد في «ف».

(٨) في «د» : (فيما) ، وفي «ج» : (فما).

٤٦٦

مثله ، فدعا له فذهبت عينه الصحيحة (١).

إذا عرفت ذلك (٢) فنقول : احتجّ المجوّزون لظهور (٣) الكرامات بقصّة مريم عليها‌السلام (٤).

لا يقال : يجوز أن يكون ذلك إرهاصا لعيسى عليه‌السلام ، وأيضا لو جوّزنا ظهور الكرامات لا نسدّ إثبات (٥) النبوّة ، لجواز أن يكون الذي ظهرت (٦) على يده (٧) صالحا غير نبي.

لأنّا نقول : أمّا الأوّل فضعيف ، لأنّ الإرهاص إنّما يختصّ بالنبيّ الذي سيظهر لا بغيره ، والكرامة إنّما حصلت لمريم عليها‌السلام.

وأمّا الثاني فكذلك لأنّ الدعوى مع المعجز مختصّ (٨) بالنبيّ.

وقد يحتجّ المانع بأنّه يلزم خروج المعجزة عن كونها معجزة لكثرتها.

والجواب : أنّ الشرط عدم الكثرة كما في جانب إظهار المعجزة على يد نبيّ آخر.

واحتجّ القاضي على مذهبه بأنّ نفي المعجز يكفي في تكذيبه ، فإظهار المعجز عليه لتكذيبه عبث (٩).

__________________

(١) انظر شرح التجريد (تحقيق الزنجاني) : ٣٨٠ ، وفي تحقيق الآملي : ٤٧٨ ، وفي تحقيق السبحاني : ١٦٦.

(٢) في «د» «س» : (هذا).

(٣) في «د» : (بظهور).

(٤) تفسير مجمع البيان ٦ : ٤١ ، تفسير ابن كثير ٣ : ١٢٠ و ٢٠٣.

(٥) في «ج» «ر» «ف» : (باب).

(٦) في «ب» : (ظهر).

(٧) في «ج» «ف» : (عليه) بدل من : (على يده).

(٨) في «ج» «ر» «ف» : (تختصّ).

(٩) المغني في أبواب التوحيد والعدل (النبوات والمعجزات) : ٢٣٧.

٤٦٧

وهذا ضعيف ، لأنّه يجوز أن تكون الفائدة هي زيادة الدلالة على تكذيبه.

[في بعثة الأنبياء عليهم‌السلام]

قال :

تتمّة : قال بعض الناس : تجب (١) بعثة الأنبياء في كلّ حال ، ومنعه المعتزلة لأنّ المصالح تختلف ، وهو إنّما بعث للمصالح ، فجاز أن تكون مصلحة بعض الناس عدم التكليف بالسمعيّات. احتجّوا بقوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) (٢) والمراد الأمّة الذين لهم مصلحة في البعثة.

أقول :

اختلف الناس في أنّه هل تجب بعثة الأنبياء في كلّ أمّة؟ فذهبت المعتزلة إلى أنّه لا يجب ذلك ، وذهب آخرون إلى الوجوب (٣).

احتجّ الأوّلون بأنّ الأنبياء إنّما يجب بعثتهم بحسب المصالح ، وهي قد تختلف ، ولذلك (٤) صحّ النسخ وتعدّد الرسل ، فعلى هذا التقدير جاز أن تكون مصلحة بعض الامم عدم تكليفهم بالسمعيّات ، فلا تجب البعثة حينئذ.

واحتجّ الآخرون بقوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) (٥).

والجواب : لا نسلّم أنّ المراد بالنذير الرسول ، وإن (٦) سلّمنا ذلك لكن المراد من الامّة الذين لهم مصلحة في البعثة ، وحينئذ لا يبقى فيه دلالة.

__________________

(١) في «ب» : (يجوز).

(٢) فاطر : ٢٤.

(٣) انظر المغني في أبواب العدل والتوحيد (النبوات والمعجزات) : ١٩.

(٤) في «ج» «ر» «ف» : (فلذلك).

(٥) فاطر : ٢٤.

(٦) في «د» : (ولإن) ، وفي «س» : (إن).

٤٦٨

قال :

قال أبو علي : يجوز بعثة الأنبياء بغير شرع لجواز ظهور نبيّ بعد نبيّ و (١) معجزة بعد اخرى ، فجازت البعثة بالعقليّات وإن كفى العقل.

وأجاب (٢) أبو هاشم بأنّه لا يجوز إلّا إذا كانت المصلحة في أداء الشرع مقرونة بهما ، وكذا المعجزة الثانية أو يستدلّ (٣) بها بعض من لم تصل الاولى إليه.

أقول :

ذهب أبو علي الجبّائي (٤) إلى أنّه يجوز بعثة رسول بغير شرع ، وهو منقول عمّن تقدّمه. وذهب أبو هاشم إلى المنع من ذلك.

احتجّ أبو علي بأنّه يجوز ظهور نبيّ بعد نبيّ وخلق معجزة عقيب اخرى ، وإن حصل الاستغناء بواحدة (٥) من هذه فيجوز البعثة بالعقليّات ، وإن كفى العقل.

وقد أجاب أبو هاشم عن ذلك بأنّه لا يجوز بعثة نبيّ بعد آخر إلّا إذا كانت المصلحة في أداء الشرع لا تتمّ إلّا بهما ، وكذلك خلق المعجز عقيب معجز آخر لا يجوز إلّا على هذا الوجه أو (٦) يستدلّ به بعض من لم يصل المعجز الأوّل إليه.

ثمّ إنّ أبا هاشم احتجّ على مذهبه بأنّ العقل كاف في العقليّات ، فإرسال نبيّ لتعريفها يكون عبثا وهو قبيح (٧).

__________________

(١) الواو لم ترد في «ف».

(٢) الواو سقطت من «أ».

(٣) في «د» : (استدلّ).

(٤) في «ف» : (الخيامي).

(٥) في «ر» : (بواحد).

(٦) في «ب» : (و).

(٧) حكاه عنهم المصنّف في شرح التجريد (تحقيق الآملي) : ٤٧٩ ، وفي طبعة السبحاني : ١٦٩.

٤٦٩
٤٧٠

قال :

الباب السادس :

في الإمامة

٤٧١
٤٧٢

[تعريف الإمامة]

وهي واجبة لكونها لطفا ، فإنّ الناس مع رئيس أقرب إلى الصلاح وأبعد من الفساد ، واللطف واجب لما (١) مرّ.

أقول :

الإمامة رئاسة عامّة في امور الدين والدنيا لشخص من الأشخاص ، واختلف الناس في وجوبها ، فذهب جماعة كالأصمّ (٢) وغيره إلى أنّها غير واجبة ، وذهب الجمهور إلى وجوبها (٣) ، واختلفوا في مقامين :

[المقام الأوّل : ذهب أبو علي وأبو هاشم وأتباعهما وجماعة الأشاعرة إلى أنّ طريق وجوبها السمع ، وذهبت الإماميّة ومعتزلة بغداد وأبو الحسين البصري إلى أنّه العقل.

المقام الثاني : ذهبت الإماميّة إلى أنّها واجبة على الله تعالى ، وذهب أبو الحسين

__________________

(١) في «ج» «ر» «ف» : (بما).

(٢) هو عبد الرحمن بن كيسان ، كنيته أبو بكر الأصم ، فقيه ، مفسّر على مذهب المعتزلة ، وقد عدّه ابن المرتضى من الطبقة السادسة من طبقات المعتزلة ، وقال : إنّه كان من أفصح الناس وأفقههم وأورعهم خلا إنّه كان يخطّئ عليّا عليه‌السلام.

وقال القاضي : ويجري منه حيف عظيم على أمير المؤمنين عليه‌السلام وله مناظرات مع أبي الهذيل وكان أقدم منه. (المنية والآمل لابن المرتضى : ١٥٦ ، لسان الميزان لابن حجر العسقلاني ٣ : ٤٢٧).

(٣) رسالة الإمامة للخواجة نصير : ٤٢٦ ، تلخيص المحصل : ٤٠٦ ، نهج الإيمان لابن جبر : ٣٣ ، شرح المواقف ٨ : ٣٤٥ ، شرح المقاصد ٥ : ٢٣٢.

٤٧٣

البصري وغيره إلى أنّها واجبة على العقلاء (١).

والحقّ مذهب الإماميّة ، والدليل عليه أن نقول : الإمامة لطف ، واللطف واجب على الله تعالى ، فالإمامة واجبة على الله تعالى. أمّا الصغرى فلأنّا نعلم أنّ الناس متى كان لهم رئيس يخافون سطوته فإنّهم يكونون إلى الصلاح أقرب ومن الفساد أبعد ، وبالعكس عند خلوّهم من مثل هذا الرئيس ، وأمّا الكبرى فقد مضى بيانها (٢).

[اعتراضات على الإمامة وردّها]

قال :

فإن قلت : متى يكون (٣) لطفا إذا كان ظاهرا أم لا؟ الأوّل مسلّم والثاني ممنوع (٤) ومتى يجب اللطف إذا خلا من جهات القبح أو (٥) لا؟ ولم لا يجوز أن يكون فيه وجه قبح (٦) خفي علينا؟

فإن قلت : هذا يطّرد في كلّ واجب كالمعرفة.

قلت : الفرق أنّ ظنّ الخلوّ كاف (٧) في الوجوب علينا بخلافه تعالى فإنّه لا يجب عليه إلّا إذا علم انتفاء الجميع.

__________________

(١) نقد المحصّل : ٤٠٦.

(٢) انظر الشافي في الإمامة ١ : ٧٢ ، المسلك في أصول الدين : ١٨٨.

(٣) في «أ» : (كان).

(٤) قوله : (الأوّل مسلّم والثاني ممنوع) لم ترد في «أ» «ب» «د».

(٥) في «ب» : (أم).

(٦) في «أ» : (قبيح).

(٧) في «د» : (كان).

٤٧٤

ومتى تكون الإمامة واجبة إذا قام غيرها مقامها أم إذا لم يقم؟

أقول :

لمّا ذكر الحجّة على وجوب الإمامة على الله تعالى أخذ في الاعتراض عليها ، وذكر هاهنا أقوى ما تمسّك به المخالف من الاعتراضات :

أوّلها : أن (١) نقول : لا نسلّم أنّ الإمامة مطلقا لطف ، وإنّما تكون لطفا إذا كان الإمام ظاهرا مبسوط اليد ، أمّا إذا كان مستورا خائفا فإنّه لا تكون لطفا ، وذلك ظاهر.

وثانيها : لا نسلّم أنّ اللطف واجب مطلقا ، بل إنّما يكون واجبا إذا خلا من جهات القبح ، فإنّ الفعل المشتمل على نوع مفسدة وإن اشتمل على مصالح كثيرة يستحيل صدوره من الله تعالى ، وإذا كان كذلك فلم لا يجوز أن تكون الإمامة وإن كانت لطفا إلّا أنّها قد اشتملت على نوع مفسدة خفيّة علينا ، وعلى هذا التقدير استحال الجزم بوجوبها على الله تعالى (٢).

لا يقال : هذا الاعتراض ساقط ، لأنّه يلزم منه أن لا يجب شيء أصلا ، لأنّه ما من واجب إلّا ويمكن أن يقال : إنّه قد اشتمل على نوع مفسدة (٣) ، فيستحيل الجزم بوجوبه ، ويلزم من ذلك أن لا تكون المعرفة واجبة ، وذلك باطل بالإجماع.

لأنّا نقول : إنّ الواجب منه ما يجب على المكلّف (٤) ، ومنه ما يجب على الله تعالى ، والقسم الأوّل يكفي في الجزم بوجوبه ظنّ خلوّه عن المفاسد ، والقسم الثاني

__________________

(١) في «ب» : (أنّا).

(٢) انظر النكت الاعتقاديّة للشيخ المفيد : ٤٥.

(٣) (مفسدة) لم ترد في «د».

(٤) في «ب» : (المكلّفين).

٤٧٥

لا يكفي فيه ذلك ، بل لا بدّ من القطع بخلوّه عن المفاسد (١) ، فافترق الأمران.

وثالثها : أنّ الإمامة إنّما تكون واجبة إذا كانت لطفا لا يقوم غيرها مقامها وهو ممنوع ، فإنّه على تقدير قيام غيرها مقامها يستحيل الجزم بوجوبها ، فهذا أقوى اعتراضات هذه الحجّة.

قال :

والجواب : أنّها لطف مطلقا ، فإنّ التجويز (٢) كاف في القرب إلى الصلاح ، وهو حاصل كلّ وقت.

قوله : يجوز اشتمالها على مفسدة مجهولة. قلنا : القبائح معلومة لأنّا مكلّفون بها ، وهي منتفية ، ولأنّها إمّا لازمة فيلزم من تصوّر الإمامة تصوّرها أو عارضة يجوز زوالها ، وحينئذ يجب فعلها.

قوله : لطف يقوم غيره مقامه. قلنا : مسارعة الأذهان إلى أنّ الزجر عن الفساد إنّما يكون بالإمامة تقتضي انحصاره ، إذ لا يتوقّف على الجزم بنفي آخر ، والأولى أن يقال : مصلحة الإمامة (٣) راجحة أو خالصة ، وترك الراجح لأجل المرجوح مفسدة.

أقول :

والجواب عن السؤال الأوّل : أنّا (٤) نقول : الإمامة لطف مطلقا ، أمّا إذا كان منبسط اليد فظاهر ، وأمّا إذا لم يكن فلأنّ المكلّف يجوز ظهوره في كلّ وقت ، فيكون

__________________

(١) من قوله : (والقسم الثاني) إلى هنا سقط من «د».

(٢) في «د» : (التحرّز).

(٣) في «ج» «ر» «ف» : (الإمام).

(٤) في «س» : (أن).

٤٧٦

ذلك زاجرا له (١) عن الإقدام على المعصية ، فيتحقّق (٢) كونها لطفا مطلقا ، وأيضا : فلم لا يجوز أن يكون اللطف هو كونه موجودا ظاهرا (٣).

لا يقال : يلزم أن يكون الله تعالى فاعلا للقبيح من حيث إخلاله بالإمام القاهر اليد.

لأنّا نقول : إنّ الله تعالى (٤) إنّما يفعل اللطف على وجه لا ينافي التكليف ، وخلق الله الأعوان للإمام ينافي التكليف ، فإنّ لطف الإمام إنّما يحصل بخلق الإمام وتمكينه والنصّ عليه ، وهذا قد فعله الله ، وبتحمّله للإمامة (٥) وهو قد فعله الإمام ، وبنصرة الرعيّة له ، وهو لم تفعله الرعيّة ، فيكون ترك اللطف من جهتهم.

والجواب عن السؤال الثاني من (٦) وجهين :

الأوّل : أنّا نعلم القبائح بأسرها ، وهي منفيّة (٧) عن الإمامة ، فتكون الإمامة واجبة أمّا المقدّمة الاولى فلأنّا مكلّفون بالاجتناب لها (٨) ، والتكليف بما لا يعلم تكليف بما لا يطاق ، وأمّا المقدّمة الثانية فظاهرة.

الثاني : أنّ المفسدة إمّا أن تكون لازمة للإمامة أو عارضة ؛ فإن كان الأوّل لزم

__________________

(١) (له) لم ترد في «د».

(٢) في «ف» : (فتحقّق).

(٣) (ظاهرا) ليست في «د» «س».

(٤) قوله : (فاعلا) إلى هنا سقط من «ف».

(٥) في «ف» : (ويتحمله الإمامة) ، وفي «ر» : (وبتحمله الإمامة) بدل من : (وبتحمله للإمامة).

(٦) (من) ليس في «ف».

(٧) في «أ» : (فتكون منتفية) ، وفي «ب» «د» : (وهي منتفية) بدل من : (وهي منفية).

(٨) في «أ» : (عنها).

٤٧٧

من تصوّر الإمامة تصوّرها ، وهو باطل بالضرورة ، وإن كان الثاني كانت الإمامة واجبة عند عدم العارض (١).

والجواب عن السؤال الثالث أنّ مسارعة الأذهان في سائر الأماكن إلى (٢) أنّ الزجر عن الفساد إنّما يكون بالسلطان القاهر يقتضي انحصاره فيه.

وإذا عرفت هذا فنقول : يمكن الاستدلال على وجوب الإمامة بطريق آخر ، وهو أنّ مصلحة الإمامة إمّا أن تكون خالصة من المفسدة أو راجحة ، وعلى التقدير الأوّل يجب وجودها ، وعلى التقدير الثاني كذلك ، لأنّ ترك المصلحة الراجحة لأجل المفسدة المرجوحة مفسدة راجحة ، غير أنّ هذا لا يتمشّى على قواعد المعتزلة.

[في وجوب عصمة الإمام]

قال :

ويجب أن يكون الإمام معصوما وإلّا دار أو تسلسل.

فإن قلت : نمنع الملازمة لجواز أن يكون خوف العزل من الامّة (٣) قائما مقام الإمام ، سلّمنا ، لكن ينتقض بالنائب الذي في المشرق ، فإنّه لا يخاف سطوة الإمام وليس بمعصوم.

قلت : من عرف العوائد علم (٤) أنّ الامّة عاجزة عن عزل الملوك ، وأمّا (٥)

__________________

(١) في «أ» «س» : (المعارض).

(٢) في «ف» : (إما).

(٣) في «ف» : (الإمامة).

(٤) في «س» : (عرف).

(٥) في «د» زيادة : (أن).

٤٧٨

النائب فإنّ خوفه من عزله يكون لطفا له.

فإن قلت : لم لا يجوز أن يكون خوف الأمير من عقاب الآخرة قائما مقام الإمام؟ قلت : الإمام يشارك غيره في الخوف ، مع أنّه ليس بكاف ، ولأنّ رغبة الناس في الدنيا وخوفهم من ضررها أشدّ من الآخرة.

أقول :

ذهبت الإماميّة إلى أنّ الإمام يجب أن يكون معصوما ، وخالفهم في ذلك الجمهور ، وقد عوّل (١) الشيعة على وجوه :

الأوّل : أنّه لو لم يكن معصوما لزم إثبات ما لا يتناهى من الأئمّة.

والتالي باطل فالمقدّم مثله.

بيان الشرطيّة : أنّ الإمام إنّما وجب لكونه لطفا للمكلّفين الجائز عليهم الخطأ ، والإمام مكلّف ، فلو جاز عليه الخطأ لاحتاج إلى لطف هو إمام آخر ، وأمّا بطلان التالي فظاهر.

لا يقال : نمنع الملازمة ، فإنّها إنّما تتمّ على تقدير انحصار الألطاف في الإمام ، ولم لا يجوز أن يكون للإمام لطف يقوم مقام الإمام ، وذلك اللطف هو خوفه من العزل عند إقدامه على المعصية ، ولا شكّ أنّه كاف في الامتناع من الإقدام ، سلّمنا صحّة الملازمة ، لكن ما ذكرتموه قائم في النائب الذي في المشرق ، فإنّه لا يخاف من (٢) سطوة الإمام لبعده عنه ، ومع ذلك فليس بمعصوم.

لأنّا نجيب عن الأوّل بأنّ من عرف العوائد علم أنّ الامّة عاجزة عن عزل

__________________

(١) في «ف» : (عزل).

(٢) (من) لم ترد في «د».

٤٧٩

الملوك ، وعن الثاني بأنّ خوف النائب من عزل الإمام لطف له (١) ، فيمنعه ذلك من الإقدام على المعصية.

لا يقال : لو كفى خوف الأمير من عزل الإمام له في اللطف لكفى خوف الإمام من عقاب الآخرة في اللطف ، فاستغنى عن (٢) الإمام المعصوم.

لأنّا نقول : لو كان خوف العقاب لطفا للإمام لكان لطفا لغيره من المكلّفين لاشتراكهم فيه ، ولو كان كافيا للإمام لكان كافيا لغيره ، ولمّا لم يكن كذلك ، بل الفساد ظاهر عند عدم السلطان علمنا أنّه غير كاف.

وأيضا الفرق (٣) بين خوف الأمير من العزل وخوف الإمام من العقاب أنّ الناس أرغب في ثواب الدنيا وأخوف من عقابها بالنسبة إلى ثواب الآخرة وعقابها لاستحقارهم البعيد عند حضور الآخر.

قال : ولأنّ الإمام حافظ للشرع فيكون معصوما ، بيانه : أنّ الحافظ لا يكون هو القرآن بالإجماع ، ولعدم إحاطته بجميع الشرعيّات والسنّة كذلك ، ولأنّها (٤) متناهية بخلاف الحوادث ، ولا (٥) الإجماع لأنّ عصمة كلّ الامّة غير ثابت بالعقل كإجماع النصارى ، بل بالسمع ، وهو يتطرّق إليه النسخ والتخصيص ، فلا بدّ أن

__________________

(١) (له) ليست في «ف».

(٢) في «ف» : (من).

(٣) في «ف» : (القرى).

(٤) في «د» «ر» زيادة : (غير).

(٥) (لا) ليست في «ف».

٤٨٠