معارج الفهم في شرح النظم

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

معارج الفهم في شرح النظم

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: عبدالحليم عوض الحلّي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-397-218-3
الصفحات: ٦٤٤

يدلّ على إثباته حدوث العالم لأنّ كلّ محدث مفتقر (١) إلى وجود محدث ضرورة.

[البرهان الأوّل على وجود الصانع]

أقول :

ذكر هاهنا برهانين على وجود الصانع :

البرهان الأوّل : الاستدلال بالحدوث ، وتقريره أن نقول : العالم محدث ، وكلّ محدث فلا بدّ له من محدث (٢). أمّا الصغرى فقد مرّ بيانها ، وأمّا الكبرى فضروريّة.

لا يقال : المحدث إمّا أن يؤثّر في المحدث حال وجوده ويلزم منه (٣) تحصيل الحاصل ، أو حال عدمه ، وذلك جمع بين الضدّين ، ولأنّه في تلك الحال لا تأثير ، وأيضا المؤثّر يستحيل تأثيره في ماهيّة الحادث وإلّا ارتفعت ماهيّته عند ارتفاعه فتكون تلك الماهيّة غير تلك الماهيّة ، فيلزم اجتماع النقيضين ؛ ضرورة وجود الموضوع حال الاتّصاف بالمحمول (٤).

__________________

(١) في «س» : (يفتقر).

(٢) قال الفخر الرازي في كتاب المحصّل : ٣٣٧ وهو طريقة الخليل عليه‌السلام في قوله تعالى : (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) وانظر تلخيص المحصّل : ٢٤٣.

(٣) (منه) لم ترد في «ب».

(٤) في «ف» : (الاتّصال بالمجموع) بدل من : (الاتّصاف بالمحمول).

٢٠١

وبهذا يظهر أنّه يستحيل أن يكون مؤثّرا في وجوده ويستحيل أن يؤثّر في موصوفيّة ماهيّته بوجوده. أمّا أوّلا فلما مرّ ، وأمّا ثانيا فلأنّ الموصوفيّة لو كانت ثبوتيّة لزم التسلسل.

لأنّا نقول : على الأوّل إن عنيتم بحال (١) الوجود زمان الوجود فالمؤثّر مؤثّر في تلك الحال في ذلك الوجود الحالي ، وإن عنيتم بحال الوجود المقارنة الذاتيّة فلا ، فإنّ المؤثّر متقدّم على الأثر بالذات. وعلى الثاني بأنّ المؤثّر يؤثّر في الماهيّة.

قوله : يلزم عند ارتفاعه أن تكون الماهيّة غير ماهيّة ، مغالطة ، لأنّ فرض الماهيّة يجب معه تلك الماهيّة وجوبا لاحقا (٢) ، فإنّ عند فرض تلك الماهيّة يستحيل أن لا (٣) تكون تلك الماهيّة ، بل عند ارتفاع المؤثّر لا يكون هناك ماهيّة ، على أنّ هذين الشكّين لا يسمعان لقدحهما في الامور الضروريّة.

[البرهان الثاني على وجود الصانع]

قال :

ولأنّه ممكن (٤) ـ على ما مرّ ـ فمفتقر (٥) بديهة.

أقول :

هذا هو البرهان الثاني على وجود واجب الوجود تعالى ، وهو أوثق من البرهان

__________________

(١) في «أ» «ب» «ف» : (بحالة).

(٢) في «ف» : (وجودا بالإخفاء).

(٣) (لا) لم ترد في «ف».

(٤) في «أ» : (ولأنّها ممكنة).

(٥) في «أ» «د» : (فمفتقرة).

٢٠٢

الأوّل ، وتقريره أن نقول : إنّ (١) هاهنا موجودات كثيرة فهي إمّا أن تكون واجبة الوجود أو ممكنة الوجود ؛ والأوّل باطل لأنّها مركّبة ، وكلّ مركّب ممكن ، فالثاني حقّ ، وإذا كانت هذه الموجودات ممكنة فلا بدّ لها من مؤثّر ، فإنّ الممكن نسبة وجوده وعدمه إليه بالسوية ، فيستحيل حصول أحدهما إلّا بشيء خارج عن الذات ، وهذا حكم أوّلي وإن وقع فيه شكّ لبعض الناس فإنّما هو لخفاء في (٢) تصوّر الحدود لا لخفاء الحكم (٣).

قال :

سؤال : الممكن (٤) حال الوجود والعدم واجب وممتنع ليس إلّا فلا افتقار.

أقول :

هذا سؤال على قوله : العالم ممكن ، وتقريره أن نقول : ليس هاهنا ممكن لأنّ الممكن إمّا أن يكون موجودا أو معدوما ، إذ لا واسطة بين النقيضين ، فإن كان موجودا استحال عدمه وإلّا اجتمع النقيضان ، فهو واجب حينئذ وإن كان معدوما استحال وجوده و (٥) إلّا اجتمع النقيضان فهو ممتنع.

لا يقال : هذا إنّما (٦) يلزم على تقدير أن نقول : إنّ (٧) الموجود في (٨) حال وجوده

__________________

(١) (إنّ) لم ترد في «أ» «ب» «س».

(٢) (في) لم ترد في «د».

(٣) انظر تلخيص المحصّل : ٢٤٤.

(٤) في «ف» : (والممكن).

(٥) الواو لم ترد في «ف».

(٦) في «ر» : (إذا) بدل من : (إنّما).

(٧) (إن) سقطت من «ب».

(٨) (في) لم ترد في «ف».

٢٠٣

يصحّ عدمه ، وكذلك المعدوم حال عدمه يصحّ وجوده ، وليس كذلك ، بل نقول : إنّه في حالة وجوده (١) يصحّ أن يعدم في الزمان الثاني ، وإنّه في حالة العدم يصحّ أن يوجد في الزمان الثاني.

لأنّا نقول : هذا باطل من وجهين :

الأوّل : إنّ إمكان العدم في ثاني الحال إمّا أن يكون حاصلا في الحال أو لا يكون ، والأوّل باطل لأنّ العدم في ثاني الحال يستحيل حصوله في الحال ، فكيف يحصل إمكانه في الحال. والثاني يلزم منه أن يكون إمكان العدم غير حاصل في الحال لا منسوبا إلى الحال ، ولا إلى ثانيه.

الثاني : إنّه في ثاني الحال إذا كان معدوما كان ممتنعا فيكون واجب العدم ، فكيف يكون في الحال ممكن العدم في ثاني الحال (٢) مع وجوبه (٣) فيه.

قال :

جواب : تشكيك في البديهة (٤) ولأنّه مفتقر نظرا (٥) إلى الذات.

أقول :

هذا سؤال (٦) مدفوع لا يسمعه المحصّلون ، فإنّه تشكيك في الضروريّات ، على

__________________

(١) في «ر» «ف» : (حال الوجود) ، وفي «أ» : (حالة الوجود).

(٢) (الحال) لم ترد في «ف».

(٣) في «ف» : (وجود به).

(٤) في «د» : (البديهيّة).

(٥) في «د» : (مفتقرا) بدل من : (مفتقر نظرا).

(٦) في «ب» : (السؤال).

٢٠٤

أنّا (١) نجيب عن هذا بأن (٢) نقول : إنّ (٣) الممكن مفتقر نظرا إلى الذات ، وتحقيق هذا : أنّ قولكم المحكوم عليه بالإمكان إمّا أن يؤخذ (٤) حال الوجود أو حال العدم ، قسمة غير حاصرة ، لأنّ معناه أنّ المحكوم عليه إمّا أن يعتبر مع الوجود أو مع العدم ، و (٥) يبقى هاهنا قسم آخر ، وهو أن لا يعتبر مع أحدهما بل يؤخذ (٦) من حيث هو هو ، ووجوب وجود الموجود حالة الوجود إنّما هو وجوب لاحق حصل مع اعتبار الوجود ، وكذلك وجوب العدم حالة العدم ، وهو لا يؤثّر في الإمكان ، لأنّ هاتين الحالتين هما حال الماهيّة مقيسة إلى الغير.

وأمّا الشكّان الواردان على الإمكان الاستقبالي فضعيفان ؛ أمّا الأوّل فلأنّه لا منافاة بين استحالة حصول (٧) العدم الاستقبالي في الحال وبين حصول إمكانه في الحال ، فإنّه لم يؤخذ الإمكان مقيسا إلى حصول العدم الاستقبالي في الحال بل أخذ مقيسا إلى حصوله في الاستقبال ، وحصول العدم في الاستقبال يستلزم إمكانه في الاستقبال.

وأمّا الثاني فإنّ (٨) العدم واجب في ثاني الحال بالنسبة إلى حصول العدم فيه

__________________

(١) في «س» : (فلا) بدل من : (على أنّا).

(٢) في «س» : (بأنّا).

(٣) في «ب» : (بأنّ).

(٤) في «أ» «س» «ف» : (يوجد).

(٥) الواو ليست في «ج» «ف».

(٦) في «أ» «س» : (يوجد).

(٧) (حصول) لم ترد في «ف».

(٨) في «ب» : (فلأنّ).

٢٠٥

وليس بواجب في الحال لعدم حصول العدم في الحال.

قال :

سؤال : الممكن الباقي مستغن وإلّا لزم إيجاد الموجود فالإمكان ليس علّة الاحتياج.

أقول :

هذا سؤال ثان على كون الممكن محتاجا ، وتقريره أن نقول : علّة احتياج الممكن إلى المؤثّر إمّا أن تكون هي الحدوث أو الإمكان ، والقسمان باطلان ، فالممكن ليس بمحتاج.

أمّا الأوّل فلأنّ الحدوث كيفيّة الوجود (١) فهي متأخّرة عنه ، والوجود متأخّر عن إيجاد الفاعل له (٢) والإيجاد متأخّر عن احتياج الأثر إلى المؤثّر ، والاحتياج متأخّر عن علّة الحاجة (٣) ، فلو كان الحدوث هو العلّة لحاجة الأثر إلى المؤثّر أو جزءا منها أو شرطا لها لزم تأخّر الشيء عن نفسه بمراتب.

وبهذا ظهر فساد قول من ادّعى أنّ علّة حاجة الأثر إلى المؤثّر إنّما هي (٤) الحدوث.

وأمّا الثاني فلأنّ الممكن الباقي مستغن عن المؤثّر لأنّه لو احتاج إلى المؤثّر (٥) لكان تأثير المؤثّر إمّا أن يكون في شيء كان موجودا أو في شيء لم يكن موجودا ؛

__________________

(١) في «ب» «د» «س» : (للوجود).

(٢) في «ف» : (اتّحاد الفاعل) بدل من : (إيجاد الفاعل له).

(٣) في «ج» «ف» : (الحدوث).

(٤) في «ف» زيادة : (هي).

(٥) في «ب» : (إليه) بدل من : (إلى المؤثر).

٢٠٦

والأوّل باطل وإلّا لزم إيجاد الموجود ، و (١) الثاني يلزم منه أن يكون الباقي مستغنيا ، لأنّ (٢) المحتاج إنّما هو هذا (٣) الأمر الحادث ، وإذا كان الممكن حال بقائه مستغنيا عن المؤثّر وهو ممكن استحال كون الإمكان علّة للحاجة (٤) فظهر من هذا أنّ الممكن غير محتاج إلى المؤثّر.

قال :

جواب : الملازمة ممنوعة والأثر تبقيّته.

أقول :

تقرير الجواب أن نقول : لا نسلّم أنّ الممكن الباقي لو احتاج إلى المؤثّر لزم إيجاد الموجود. قوله : إمّا أن يؤثّر في شيء كان موجودا فيلزم ما ذكرنا (٥) أو في شيء حادث فيكون الحادث هو المحتاج.

قلنا : لم لا (٦) يؤثّر في شيء (٧) حادث وهو التبقية فإنّ تبقية الأثر لم يكن حاصلة (٨) في الزمان الأوّل ، والمؤثّر إذا أثر فيها لا يلزم منه إيجاد الموجود ولا استغناء (٩) الباقي عن المؤثّر.

__________________

(١) الواو ليست في «ف».

(٢) في «أ» «ج» «د» : (وإنّ) ، وفي «ب» : (ولأنّ).

(٣) (هذا) لم ترد في «ج» «ف».

(٤) في «أ» «ب» : (الحاجة).

(٥) في «ب» : (ذكرناه).

(٦) (لا) لم ترد في «ف».

(٧) (شيء) لم يرد في «ج» «ر» «س» «ف».

(٨) في «ب» : (حاصلا).

(٩) في «ف» : (الاستغناء).

٢٠٧

قال :

سؤال : العدم غير معلّل وإلّا فمتميّز (١) فموجود فالوجود كذا وإلّا كان في أحد الطرفين مستغنيا فلا ممكن.

أقول :

هذا سؤال ثالث على أنّ الممكن محتاج إلى المؤثّر ، وتقريره أن نقول : الممكن هو الذي يتساوى نسبة الوجود والعدم إليه ، فلو افتقر في أحد طرفيه وهو الوجود إلى المؤثّر لافتقر في طرف العدم إلى المؤثّر ، والتالي باطل فالمقدّم مثله.

بيان بطلان التالي : أنّ العدم نفي محض فيستحيل أن يكون معلّلا بغيره وعلّة لغيره وإلّا لكان متميّزا ، وكلّ متميّز موجود فيكون المعدوم (٢) موجودا ، هذا خلف.

وأمّا بيان الشرطيّة فإنّه (٣) لو كان الوجود محتاجا إلى المؤثّر لكان الممكن في أحد طرفيه مستغنيا عن المؤثّر وفي الطرف الآخر محتاجا إليه مع تساوي نسبتهما إليه وهو محال بالضرورة.

لا يقال : إنّ طرف العدم أولى به (٤) فلأجل (٥) ذلك استغنى عن المؤثّر بخلاف طرف الوجود.

لأنّا نقول : مع هذه الأولويّة إن كان يمكن طريان الطرف الآخر فلنفرض أحد

__________________

(١) في «ف» : (فيميّز).

(٢) في «ج» «ر» «ف» : (العدم).

(٣) في «ج» «ف» «ر» «س» : (فلأنّه).

(٤) (به) لم ترد في «د».

(٥) في «ف» : (فلاجد). كذا.

٢٠٨

الطرفين حصل في وقت والآخر في وقت آخر فتخصيص أحد الوقتين (١) بأحد الطرفين والوقت الآخر بالطرف الآخر إن كان لا لمرجّح لزم رجحان الممكن المتساوي لا لمرجّح ، هذا خلف. وإن كان لمرجّح لم تكن الأولويّة كافية بل لا بدّ من أمر آخر حتّى يحصل الطرف الأوّل في وقت حصوله أو من عدم مرجّح الطرف المرجوح فلا تكون الأولويّة أولويّة ، هذا خلف. و (٢) إن كان مع هذه الأولويّة لا يمكن الطرف الآخر لم تكن هذه الأولويّة أولويّة بل وجوبا لأحد الطرفين وحينئذ يكون الطرف الآخر ممتنعا.

قال :

جواب : علّة العدم عدم العلّة ، والملازمة ممنوعة.

أقول :

تقرير الجواب أن نقول : لم لا يجوز أن يكون المعدوم (٣) معلّلا. قوله : يكون متميّزا عن غيره ، قلنا : مسلّم ، قوله : فيكون موجودا. قلنا : ممنوع فإنّه لا يلزم من وقوع الامتياز وجود المتميّزات ، فإنّ أعدام الملكات متميّزة بعضها عن بعض بواسطة تمايز (٤) ملكاتها ، ولهذا كان عدم الشرط يوجب عدم المشروط ، وعدم غيره لا يوجبه ، و (٥) عدم الضدّ عن المحل يصحح وجود الضدّ الآخر فيه ، وعدم غيره لا يوجب ذلك (٦).

__________________

(١) في «ف» : (الطرفين).

(٢) في «ج» «ف» «ر» : (وأمّا).

(٣) في «أ» : (العدم).

(٤) في «ب» : (تميز).

(٥) الواو ليست في «ف».

(٦) في «ف» : (وذلك).

٢٠٩

وإذا تقرّر هذا فنقول : إنّ علّة العدم هي عدم العلّة لا غير وبيانه من وجهين :

الأوّل : إنّا متى عقلنا عدم العلّة حكمنا بعدم المعلول ، ولا تفتقر في هذا الحكم إلى أمر آخر موجود يكون علّة لذلك العدم.

الثاني : إنّ عدم المعلول لو (١) استند إلى أمر غير عدم علّته لكان عند وجود ذلك الأمر ، إمّا إن يعدم شيء من علّته من شرط أو جزء أو لا يعدم بل يكون على ما كانت عليه حالة الإيجاد ، والأوّل هو المطلوب لأنّه يكون العدم مستندا إلى عدم العلّة التامّة ، والثاني باطل وإلّا لزم وجود المعلول نظرا إلى وجود علّته التامّة وعدمه نظرا إلى وجود علّة العدم.

لا يقال : لا نسلّم أنّه (٢) عند وجود علّته يجب أن يكون موجودا بل يكون معدوما نظرا إلى علّة العدم.

لأنّا نقول : إنّه (٣) لو لم يجب عند وجود العلّة وجود المعلول لجاز تخلّف المعلول عنها فيكون تارة موجودا واخرى معدوما ، فاختصاص أحد الوقتين بالوجود والآخر بالعدم إن كان لا لمرجّح لزم ترجيح الممكن لا لمرجّح ، هذا خلف ، وإن كان لمرجّح غير الأوّل لزم أن لا يكون الأوّل كافيا في العلّية ، مع فرضنا له علّة تامّة ، هذا خلف فحينئذ يستحيل (٤) عدمه نظرا إلى علّة العدم حالة (٥) وجود العلّة التامّة

__________________

(١) (لو) لم ترد في «ف».

(٢) في «س» : (أن).

(٣) (إنّه) لم ترد في «ب».

(٤) في «ف» : (فيستحيل).

(٥) في «ب» : (حال).

٢١٠

في الوجود ، وأيضا فلو (١) حصل العدم لأجل (٢) علّته حال وجود العلّة التامّة في الوجود لم يكن الاستدلال بوجود العلّة التامّة على وجود المعلول صحيحا ، وحينئذ يجوز أن يحصل علّة العدم التامّة من غير حصول العدم فلا تكون علّة للعدم.

[ثبوت واجب الوجود أزلي أبدي]

قال :

وثبوته أزليّ أبدى لأنّه واجب وإلّا لزم التسلسل وهو محال لما بيّنّا أو الدور وهو محال إمّا بالضرورة أو بتقدّم الشيء على نفسه.

أقول :

لمّا أثبت وجود واجب الوجود شرع في بيان كيفيّة وجوده ، فادّعى أنّه أزليّ أبديّ ، والدليل على ذلك أنّه واجب الوجود لأنّه لو كان ممكنا لافتقر إلى مؤثّر ، فمؤثّره إن كان واجبا فهو المطلوب ، وإن كان ممكنا افتقر إلى مؤثّر ، فمؤثّره إن كان هو الأوّل لزم الدور ، وإن كان غيره لزم إمّا (٣) التسلسل أو الانتهاء إلى الواجب ، والثاني هو المطلوب.

والتسلسل والدور باطلان ؛ أمّا التسلسل فلما مرّ ، وأمّا الدور فقد اختلفوا في بطلانه ؛ فذهب المحقّقون إلى أنّه باطل بالضرورة ، وأمّا غيرهم فاستدلّ على ذلك بأنّ العلّة متقدّمة (٤) على المعلول تقدّم العلّية ، فلو كان كلّ واحد من الشيئين علّة في

__________________

(١) في «س» : (لو).

(٢) في «ج» «ر» «ف» زيادة : (وجود).

(٣) (إما) لم ترد في : «س».

(٤) في «ج» «ف» : (تتقدّم).

٢١١

صاحبه لزم تقدّم الشيء على نفسه بمرتبتين وهو (١) محال (٢).

قال :

فلا يقبل العدم.

أقول :

هذا نتيجة ما ذكر ، فإنّه إذا ثبت أنّه واجب الوجود استحال عليه العدم ، لأنّ معنى واجب الوجود هو الذي يستحيل عدمه فلو جاز العدم على الصانع تعالى عن ذلك لكان ممكنا لأنّ ماهيّته تكون قابلة للوجود ، وإلّا لما وجدوا (٣) للعدم ، ولو كان كذلك لزم التسلسل أو الدور ، وهذا (٤) ظاهر غنيّ عن البيان ، فيكون أزليّا أبديّا.

وذكر بعض المتأخّرين على استحالة عدم الباري تعالى حجّة فقال : لو جاز عدمه لكان وجوده متوقّفا على عدم سبب عدمه ، وكلّ متوقّف على الغير ممكن فيكون الواجب ممكنا ، هذا خلف ، وهذه الحجّة سخيفة فإنّ عدم واجب الوجود مستحيل لذاته فلو استحال باعتبار عدم سبب عدمه لكان الوصف (٥) الذاتي معلّلا بالغير ، وهذا محال.

__________________

(١) (هو) سقطت من «ف».

(٢) انظر النكت الاعتقاديّة للمفيد : ٢١ ، المسلك في أصول الدين للمحقّق : ٥٢ ، كتاب المحصّل للرازي : ٣٤٢.

(٣) في «ف» : (وجدو).

(٤) في «ج» «ر» «س» «ف» : (هو).

(٥) في «ب» : (الوجوب).

٢١٢

[الوجود زائد على الماهيّة أم لا]

قال :

وهو غير زائد وإلّا أثّر المعدوم في الموجود أو وجدت الماهيّة مرّات غير متناهية أو تقدّم الشيء على نفسه أو افتقر.

أقول :

اختلف الناس في أنّ الوجود هل هو زائد على الماهيّة أم لا؟ فذهب جمهور الأوائل إلى أنّ الوجود من حيث هو هو مقول بالتشكيك على الوجودات (١) الخاصّة بكلّ (٢) ماهيّة ماهيّة ، بمعنى (٣) أنّها متفاوتة فيه إمّا بالتقدّم والتأخّر كوجود العلّة والمعلول أو بالأولويّة وعدمها كالوجودين المذكورين ، أو بالأشدّيّة والأضعفيّة كوجود الواجب ووجود الممكن.

والمقول على أشياء بالتشكيك يستحيل أن يكون جزءا من تلك الأشياء أو نفسها ، فإنّ نفس الماهيّة وجزئها لا يقبل التفاوت بل يكون أمرا عارضا لها. وأمّا الوجودات الخاصّة بكلّ ماهيّة (٤) فإنّه زائد على تلك الماهيّة إلّا وجود واجب الوجود (٥) الخاص به ، فإنّه عندهم نفس حقيقته (٦) والوجود بالمعنى الأوّل عارض

__________________

(١) في «س» : (الموجودات).

(٢) في «أ» : (كلّ).

(٣) لم ترد في «أ» : (بمعنى).

(٤) في «ب» «ر» زيادة : (ماهيّة).

(٥) في «ف» : (الواجب) ، وفي «ج» : (الواجب الوجود) بدل من : (واجب الوجود).

(٦) في «س» «ف» : (الحقيقة).

٢١٣

له ذهنا إذ لا وجود للكلّيّ من حيث هو كلّيّ إلّا في الذهن (١).

وأمّا المتكلّمون فذهب أكثر المعتزلة والأشاعرة إلى أنّ الوجود زائد على الماهيّة في حقّ واجب الوجود وفي حقّ (٢) غيره من الممكنات (٣).

وذهب آخرون منهم أبو الحسين البصري (٤) إلى أنّ الوجود نفس الماهيّة في حقّ واجب الوجود وفي حقّ الممكنات (٥).

إذا عرفت هذا فنقول : إنّ (٦) الذي نذهب إليه أنّ (٧) الوجود في حقّ واجب الوجود نفس حقيقته ، والدليل على ذلك أنّه لو كان زائدا على حقيقته لزم أحد الامور الأربعة ، وهي إمّا تأثير المعدوم (٨) في الموجود أو وجود الماهيّة مرّات غير متناهية أو تقدّم الشيء على نفسه أو افتقار واجب الوجود إلى الغير ، والكلّ باطل.

وبيان الملازمة : أنّه لو كان زائدا على الماهيّة لكان صفة لها ، والصفة مفتقرة إلى

__________________

(١) حكاه عن الحكماء المصنّف في شرح التجريد (الزنجاني) : ١٦ وفي طبعة الآملي : ٣٤ و ٣٥ ، ونهاية المرام ١ : ٣٨.

(٢) (حق) ليست في «ف».

(٣) حكاه عنهم في المباحث المشرقيّة ١ : ١١٢ ، وأصول الدين : ٣٠ ، والمصنّف في نهاية المرام ١ : ٣٨.

(٤) (البصري) لم ترد في «ب». وهو محمّد بن عليّ بن الطيب أبو الحسين المتكلّم كان على مذهب المعتزلة ، بصري سكن بغداد ودرس فيها ومات فيها يوم الثلاثاء سنة ٤٣٦ هجريّة ودفن في مقبرة الشونيزي (تاريخ بغداد ٣ : ١٠ ، وفيات الأعيان ٤ : ٢٧١).

(٥) حكاه عنه في المباحث المشرقيّة ١ : ١١٢ ، أصول الدين للرازي : ٣٠ ، المواقف : ٤٨ ، ومناهج اليقين : ٥٦ وفي طبعة الأنصاري القمي : ١٠.

(٦) (إنّ) من «ج».

(٧) في «ف» : (إلى أنّ).

(٨) في «أ» : (المعلوم).

٢١٤

الموصوف فيكون الوجود ممكنا ، وكلّ ممكن لا بدّ له من مؤثّر ، فالمؤثّر في وجود واجب الوجود إمّا أن يكون نفس الماهيّة أو أمرا آخر ، والقسمان باطلان ؛ أمّا الأوّل فلأنّ الماهيّة لو أثّرت في وجودها لكانت إمّا معدومة حال (١) التأثير أو موجودة ؛ فإن كانت معدومة لزم منه تأثير المعدوم في الموجود وهو (٢) أحد الأقسام الأربعة.

و (٣) إن كانت إنّما تؤثّر فيه وهي موجودة فإمّا أن تكون موجودة بغير هذا الوجود أو بعين هذا الوجود ، ويلزم من الأوّل وجود الماهيّة مرّتين. ثمّ إنّا ننقل الكلام إلى ذلك الوجود الذي جعلناه شرطا في التأثير فيلزم أن يكون هناك وجودات غير متناهية ، وذلك أحد الأقسام الأربعة ، ويلزم من الثاني تقدّم الشيء على نفسه ، فإنّ هذا الوجود إذا كان شرطا في تأثير الماهية في هذا الوجود يلزم تقدّمه من حيث هو شرط وتأخّره من حيث هو معلول ، وهو أحد الأقسام الأربعة.

وأمّا الثاني وهو أن يكون المؤثّر في الوجود (٤) أمرا آخر غير ماهيّة (٥) واجب الوجود ، فيلزم منه افتقار واجب الوجود في وجوده إلى الغير فيكون ممكنا ، وهو أحد الأقسام الأربعة ، فقد ظهرت الملازمة. وأمّا بطلان الأقسام الأربعة فظاهر.

__________________

(١) في «س» «ف» : (حالة).

(٢) في «ج» «ر» «ف» : (هذا) بدل من : (هو).

(٣) الواو ليست في «ف».

(٤) في «ف» : (الموجود).

(٥) في «ف» : (ماهيّته).

٢١٥

قال :

سؤال : لم لا (١) تؤثّر من حيث هي هي كالفرديّة والقبول.

أقول :

تقرير هذا السؤال أن نقول : لم لا يجوز أن يكون الوجود زائدا على الماهيّة ويكون ممكنا والمؤثّر فيه هو الماهيّة؟ قوله : إمّا أن تؤثّر فيه وهي موجودة أو وهي معدومة ، قلنا (٢) : نمنع الحصر ، بل تؤثّر الماهيّة فيه من حيث هي هي لا باعتبار الوجود ولا باعتبار العدم ، كما أنّ ماهيّة الثلاثة تقتضي الفرديّة من حيث هي هي لا باعتبار أنّها موجودة ولا باعتبار أنّها معدومة ، وكذلك سائر لوازم الماهيّات.

وأيضا فإنّ العلّة القابلة (٣) لا تقتضي التقدّم بالوجود على المقبول ، فإنّ ماهيّة الممكن قابلة للوجود لا من حيث هي موجودة و (٤) لا من حيث هي معدومة ، وإلّا لزم ما ذكرتم في العلّة الفاعليّة ، فإذن ماهيّة الممكن إنّما تقبل الوجود من حيث هي هي فلم لا تجوز أن تكون العلّة الفاعليّة كذلك؟ وتندفع المحاذير المذكورة.

قال :

جواب : الضرورة حكمت بوجود الموجود بخلافهما.

أقول :

يريد أن يبيّن وجه الفرق بين العلّة الفاعليّة في الوجود وبين تأثير الماهيّة في لوازمها وقبول الماهيّة للوجود ، ووجه الفرق : أنّ الضرورة قاضية بأنّ العلّة

__________________

(١) (لا) لم ترد في «ف».

(٢) في «س» : (فإنّا).

(٣) في «ر» «ف» : (القابليّة).

(٤) الواو ليست في «ف».

٢١٦

المؤثّرة في الوجود لا بدّ وأن تكون موجودة وإلّا لكانت إمّا معدومة أو تؤخذ من حيث هي هي ، وعلى التقدير الأوّل يلزم تأثير المعدوم في الموجود (١) وهو محال بالضرورة.

وعلى التقدير الثاني يلزم منه تأثير الماهيّة الذهنيّة في الوجود ، وهو محال بالضرورة ، وهذا بخلاف لوازم الماهيّة ، فإنّ الماهيّة إذا اقتضت من حيث هي هي أمرا ليس هو الوجود كانت مقتضية (٢) له حالتي الوجود العيني والذهني ، ولا استبعاد في أن تقتضي الماهيّة من حيث هي هي صفة معقولة كالزوجيّة والفرديّة ، بخلاف الوجود الثابت عينا ، وكذلك القبول فإنّ الماهيّة الممكنة لو قبلت (٣) الوجود من حيث هي موجودة لزم جواز تحصيل الحاصل ، فإذن إنّما تقبله من حيث هي هي والماهيّة حينئذ إنّما تكون عقليّة ، والحكم بالقبول أمر ذهنيّ اعتباريّ بخلاف العلّيّة.

[في اشتراك الوجود وعدمه]

قال :

سؤال : الوجود مشترك لعدم الواسطة بين النقيضين.

أقول :

اختلف الناس في أنّ الوجود هل هو (٤) وصف مشترك فيه بين الموجودات أم

__________________

(١) في نسخة بدل من «ر» : (الوجود).

(٢) في «ف» : (مقضيّته).

(٣) في «ف» : (قلت).

(٤) (هو) لم ترد في «د».

٢١٧

لا؟ فذهب أكثر المتكلّمين إلى أنّه وصف مشترك بين الموجودات (١) ، وذهب أبو الحسين البصري وجماعة من المتأخّرين إلى أنّ وجود كلّ شيء نفس حقيقته (٢) ، فحينئذ يستحيل أن يكون مشتركا.

وأمّا الحكماء فقد ذهبوا إلى أنّ الوجود من حيث هو هو وصف اعتباريّ ذهنيّ يشترك فيه جميع الموجودات ، وهو مقول بالتشكيك على وجودات الماهيّات ، وإنّ وجود كلّ (٣) ماهيّة مخالف بالحقيقة لوجود الماهيّة الاخرى.

فالحاصل أنّهم أثبتوا لكلّ موجود وجودا خاصّا به مخالفا لغيره من الوجودات (٤) ، ووجودا آخر مشتركا بين الجميع ، وإنّ هذا المشترك إنّما يوجد في الذهن لا في الخارج (٥).

إذا عرفت هذا فنقول : أورد هاهنا سؤالا على أنّ الوجود نفس الماهيّة ، وتقريره : أنّ الوجود وصف مشترك فيكون زائدا ؛ أمّا الصغرى فيدلّ عليها ثلاثة أوجه :

الأوّل : إنّ العدم أمر واحد ليس فيه تعدّد وامتياز ، فالمقابل له وهو الوجود إن كان متغايرا (٦) متكثّرا ثبتت الواسطة بين قولنا : المعلوم إمّا أن يكون موجودا أو

__________________

(١) حكاه عن جمهور الفلاسفة والمعتزلة وعن جمع من الأشاعرة الفخر الرازي في المحصّل : ١٤٧ ، والخواجة نصير الدين الطوسي في تلخيص المحصّل : ٧٤.

(٢) حكاه عنهم الفخر الرازي في المباحث المشرقيّة ١ : ١١٢ ، وفي أصول الدين : ٣٠ ، والمصنّف في نهاية المرام ١ : ٣٧ ، ومناهج اليقين : ٥٦ ، وفي طبعة الأنصاري القمي : ١٠.

(٣) (كلّ) ليست في «ف».

(٤) في «د» : (الموجودات).

(٥) حكاه عنهم الخواجة نصير في تلخيص المحصّل : ٧٤ ، والرازي في الشواهد الربوبيّة : ٧.

(٦) (متغايرا) لم ترد في «د».

٢١٨

معدوما ، وهو محال بالضرورة وإن كان شيئا واحدا فهو المطلوب (١).

قال :

ولتقسيمه إلى الواجب والممكن.

أقول :

هذا هو الوجه الثاني الدال على أنّ (٢) الوجود مشترك ، وتقريره : أنّا نقسّم الوجود إلى الواجب والممكن فنقول : الوجود إمّا أن يكون واجبا وإمّا أن يكون ممكنا ، وتكون القسمة صادقة ، ومورد التقسيم مشترك بين أقسامه وإلّا لبطل التقسيم ، فإنّه لا يصحّ أن نقول (٣) : الوجود إمّا أن يكون واجبا أو عدما (٤) لعدم صدق الوجود على العدم ، وإذا ثبت صدق الوجود على الواجب والممكن ثبت أنّه مشترك بينهما (٥).

قال :

ولبقائه اعتقادا حال زوال اعتقاد الخصوصيّات.

أقول :

هذا هو الوجه الثالث ، وتقريره أن نقول : إذا اعتقدنا وجود ممكن جزمنا حينئذ بوجود سببه ، فإذا اعتقدنا أنّ ذلك السبب جوهر (٦) ثمّ زال اعتقاد كونه جوهرا

__________________

(١) ذكر هذا الوجه المصنّف في نهاية المرام ١ : ٣٠ بعنوان الثاني.

(٢) (أنّ) ليست في «ف».

(٣) في «ب» «د» : (يقال).

(٤) في «د» : (معدوما).

(٥) ذكر هذا الوجه الفخر الرازي في أصول الدين : ٢٩ ، وجعله المصنّف في نهاية المرام ١ : ٣٠ الوجه الرابع.

(٦) في «ج» «ر» «ف» زيادة : (جسماني).

٢١٩

و (١) حصل لنا اعتقاد كونه عرضا ثمّ زال اعتقاد كونه عرضا وحصل (٢) اعتقاد كونه مجرّدا لزم زوال اعتقاد الجوهريّة والعرضيّة والتجرّد ، واعتقاد الوجود باق في الأحوال بأسرها ، فدلّ ذلك على أنّه وصف مشترك بين الجميع ، فإنّ الوجود لو كان هو (٣) نفس (٤) الجوهريّة (٥) لزم زوال اعتقاده حال زوال اعتقاد الجوهريّة ، ولمّا لم يكن كذلك بل بقي مع اعتقاد العرضيّة كان مشتركا بينهما (٦).

[زيادة الوجود على الماهيّة]

قال :

فيكون زائدا وإلّا تسلسلت (٧) العلل والمعلولات.

أقول :

هذا بيان الكبرى وهو أنّ الوجود إذا كان مشتركا كان زائدا ، وتقريرها أن نقول : إذا ثبت اشتراك الوجود فلا يخلو حينئذ (٨) إمّا أن يكون نفس الماهيّة فيلزم تشارك الماهيّات بعضها بعضا في خصوصيّاتها ، هذا خلف. وإمّا أن يكون جزءا من الماهيّات فيكون جنسا لأنّ الجنس هو الجزء المشترك بين المختلفات ، ولو كان جنسا افتقر إلى الفصل فيكون الفصل موجودا ؛ ضرورة أنّ الفصل علّة للجنس

__________________

(١) في «ج» «ر» «ف» زيادة : (الماهيّة).

(٢) في «ب» زيادة : (لنا).

(٣) (هو) لم ترد في «د».

(٤) في «ج» «ر» «ف» زيادة : (الماهيّة).

(٥) في «ب» «س» «ف» : (الجوهر).

(٦) ذكر المصنّف هذا الوجه في نهاية المرام ١ : ٣٠ بعنوان الوجه الثالث.

(٧) في «ف» : (تسلسل).

(٨) (حينئذ) لم ترد في «ب».

٢٢٠