معارج الفهم في شرح النظم

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

معارج الفهم في شرح النظم

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: عبدالحليم عوض الحلّي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-397-218-3
الصفحات: ٦٤٤

من الحرارة إلى البرودة ، والوضع كالتحرّك من القيام إلى القعود ، والأين كالحركة من فوق إلى أسفل (١) وبالعكس.

الرابع والخامس : ما منه وما (٢) إليه كالفوق والسفل ، والحرارة والبرودة ، وهما قد يكونان موجودين بالفعل (٣) ، وقد يكونان موجودين بالقوّة كما في الفلك ، وقد يكون ما منه وما (٤) إليه واحدا بالذات ، وإن كانا متغايرين بنوع من الاعتبار كنقطة نفرضها مبدأ للحركة الفلكيّة ، فإنّها بعينها نهاية لها ، وأيضا قد (٥) يكونان ضدّين كطرفي الحرارة والبرودة ، وطرفي الفوق والسفل ، وقد يكونان بين المتضادين (٦) وهو ظاهر.

السادس : الزمان فإنّ الحركة حادثة فلا بدّ لها من زمان توجد فيه.

إذا عرفت هذا فنقول : الحركات منها ما تتضادّ ومنها ما ليس كذلك ، فتضادّ الحركة ليس لأنّها حركة بل لشيء (٧) آخر متعلّق بها من أحد (٨) الامور الستّة ، ولا يجوز أن يكون تضادّها لتضادّ المتحرّك ، فإنّ الحارّ والبارد قد يصعدان و (٩) يهبطان ، ولا لتضادّ المحرّك (١٠) فإنّ المحرّك الواحد قد يحرّك حركتي صعود

__________________

(١) في «ف» : (سفل).

(٢) (ما) لم ترد في «ر» «ف».

(٣) قوله : (وهما قد يكونان موجودين بالفعل) لم يرد في «ف».

(٤) (ما) لم ترد في «ج» «ر» «ف».

(٥) في «أ» «ب» «س» : (فقد).

(٦) في «أ» «ر» : (متضادين) ، وفي «ف» : (الضدّين).

(٧) في «ج» «ف» «ر» : (بشيء).

(٨) في «ب» : (إحدى).

(٩) في «ب» «د» «س» : (أو).

(١٠) في «ف» : (المتحرّك).

١٨١

وهبوط ، ولا للمسافة فإنّها (١) واحدة في حركتي الصعود والهبوط ، ولا للزمان (٢) فإنّه غير متضادّ فلا يقتضي التضادّ فلم يبق إلّا ما منه وما إليه فالحركة (٣) من السواد إلى البياض مضادّة (٤) للحركة من البياض إلى السواد لتضادّ المبدأ والمنتهى ، وكتضادّ (٥) الصعود والهبوط لتضادّهما أيضا.

لا يقال : مبدأ الحركة المكانيّة (٦) نقطة وكذلك منتهاها ، وهما غير متضادّين.

لأنّا نقول : إنّهما غير (٧) متضادّين بالذات ولكنّهما متضادّان (٨) بالاعتبار (٩) ، فإنّ كون إحداهما مبدأ والاخرى منتهى متضادّ ، وهو يوجب التضادّ لهما إيجاب تضادّ العارض للمعروض (١٠).

[وحدة الحركة وتكثرها]

قال :

ووحدتها لوحدة الموضوع والزمان والمسافة.

__________________

(١) في «ب» : (لأنّها).

(٢) في «ب» «س» : (الزمان).

(٣) في «أ» «ر» : (كالحركة).

(٤) في «ف» : (مضاد).

(٥) في «ب» «س» «ف» : (لتضادّ).

(٦) في «ج» : (الكائنة).

(٧) (غير) لم ترد في «د».

(٨) في «ج» «د» «س» «ف» : (متضادتان).

(٩) في «ف» : (باعتبار).

(١٠) أنظر الأسرار الخفيّة للمصنّف : ٢٣٩.

١٨٢

أقول :

لمّا فرغ من بيان تضادّها وعدمه شرع في بيان كيفيّة وحدتها وتكثّرها ، فنقول : وحدة الحركة لا بدّ فيها من وحدة الموضوع أعني المتحرّك ، فإنّ الموضوع لو تكثّر لتكثرت الحركة قطعا لاستحالة قيام العرض الواحد بالمحلّين ، ولا بدّ فيها من وحدة الزمان ، فإنّ المتحرّك إذا تحرّك في هذا اليوم حركة وانقطعت حركته ثمّ تحرّك في الغد (١) حركة اخرى يستحيل أن تكون الحركتان واحدة لاستحالة إعادة المعدوم.

ولا بدّ فيها من وحدة المسافة ، ونعني به (٢) ما يتحرّك فيه ، وهو أعمّ من المسافة بحسب العرف الاصطلاحي ، لأنّا لو فرضنا متحرّكا واحدا يتحرّك في زمان واحد حركتي أين وكيف لكانت الحركتان متغايرتين بالضرورة لتغاير ما فيه الحركة ، ويلزم من وحدة هذه الامور الثلاثة وحدة ما منه وما إليه ، ولا يشرط (٣) فيها وحدة المتحرّك (٤) ، فإنّا لو فرضنا محرّكا (٥) حرّك جسما من مبدأ وقبل انتهاء حركته ابتدأ محرّك آخر في تحريكه ، فإنّ الحركة واحدة والمحرّكان متغايران.

لا يقال : المحرّك الثاني إمّا أن يفعل شيئا أو لا ، والثاني يلزم منه إبطال النقض (٦) ، والأوّل إمّا أن يكون فعله هو الحركة التي فعلها الأوّل أو لا ، والأوّل يلزم منه إعادة المعدوم والثاني يقتضي تغاير الحركتين لتغاير المحرّكين.

__________________

(١) في «ف» : (الغير).

(٢) في «أ» «د» : (بها).

(٣) في «ف» : (يشترط).

(٤) في «ف» : (المحرّك).

(٥) في «ف» : (متحرّكا).

(٦) في «ف» : (النقص).

١٨٣

لأنّا نقول : إنّ فعل الثاني غير فعل الأوّل ، ولا يلزم من ذلك تغاير الحركتين لأنّ وحدة الحركة هي اتصالها فالأثران واحد بالاتصال وإن تغايرا بنوع آخر.

قال :

ولا تضادّ المستقيمة المستديرة لإمكان كون المستقيم وترا لغير متناه وضدّ الواحد واحد ، وما وجدت فيه مقنعا.

أقول :

المشهور عند الحكماء أنّ الحركات المستقيمة لا تضادّ الحركات المستديرة ، واستدلّوا على ذلك بأنّ الخطّ المستقيم يمكن أن يكون وترا لقسي (١) غير متناهية نسبتها إليه في التضاد واحدة ، فإنّه لا خطّ يفرض من المستديرات مضادّ للمستقيم (٢) إلّا وهناك ما هو أكثر تقعيرا منه فيكون أولى بالضدّيّة للمستقيم (٣) فيلزم أن يكون الخطوط المستديرة الغير المتناهية ضدّا لذلك الخطّ المستقيم ويكون الحركة على ذلك الخطّ المستدير مضادّة للحركة على الخطّ المستقيم ، وذلك يقتضي أن يكون ضدّ الواحد أكثر من واحد ، وهو محال.

واستدلّوا على استحالته بأنّ الشيء الواحد لو كان له ضدّان فإمّا أن يكونا على غاية البعد عنه من جهة واحدة فهما من نوع واحد وضدّه واحد ، وقد فرضناهما (٤) ضدّين هذا خلف ، وإمّا أن يكونا على غاية البعد عنه من جهتين فيكون ذلك الشيء قد اشتمل على جهتين أوجبتا مضادّة هذين الشيئين ، وكلامنا في الشيء

__________________

(١) بكسر القاف وضمّها : جمع القوس.

(٢) في «ج» : (مضادا للمنقسم) ، وفي «ر» : (مضادا للمستقيم) بدل من : (مضاد للمستقيم).

(٣) في «ج» : (للمنقسم).

(٤) في «س» : (فرضناه) ، وفي «أ» «ب» «د» : (فرضنا).

١٨٤

الواحد من الجهة الواحدة (١).

ولقائل أن يقول : لم لا يجوز أن يكون شيء واحد ضدّا لشيئين (٢) من غير تعدّد الحيثيّات فيه بل يكون هذا الوجه بعينه ضدّا للمختلفين من غير أن تشمل المختلفين صفة واحدة.

قال :

ويضادّ السكون بتضادّ ما فيه.

أقول :

السكون يتعلّق بالموضوع لعرضيّته وبما فيه السكون من الأين المخصوص والكيف المخصوص والكمّ المخصوص والوضع المخصوص ، وبما به (٣) السكون من قوّة طبيعيّة أو قسريّة ، أو إرادية وبالزمان ، وليس له تعلّق بما (٤) منه وما إليه وهو ظاهر ، فتضادّ السكون لا يجوز أن يكون بالموضوع ، فإنّ الحارّ والبارد قد يسكنان سكونا واحدا في الأعلى وفي الأسفل (٥) أو في نوع (٦) من الكيف أو (٧) الكمّ ولا بالعلّة ، فإنّ القوّة الطبيعيّة والقسريّة قد يوجبان سكونا واحدا ، والقوّة القسريّة

__________________

(١) الشفاء (الطبيعيّات) ١ : ٢٨٥ ، التحصيل : ٤٤١ ، المباحث المشرقيّة ١ : ٧٢٨ ، وانظر الأسرار الخفيّة للمصنّف : ٢٩٦ ، ونهاية المرام ٣ : ٤٥٣ ، وشرح التجريد (الزنجاني) : ٢٧٨ ، وفي طبعة الآملي : ٣٦٣.

(٢) في «ف» : (ضدّ الشيئين).

(٣) في «ف» : (فيه).

(٤) في «ف» : (لما).

(٥) في «س» : (أو الأسفل) ، وفي «ب» «ر» : (والأسفل).

(٦) في «أ» : (النوع).

(٧) في «س» : (و).

١٨٥

قد توجب سكونين متضادين وكذلك الاختياريّة ، ولا بالزمان فإنّه واحد فإذن (١) لا يوجب التضادّ في السكون إلّا تضادّ ما فيه ، فالسكون في المكان الأعلى ضدّ السكون في المكان الأسفل ، والسكون في نوع من الكيف ضدّ السكون في ضدّ ذلك النوع وكذلك الباقيان.

[البحث في المكان]

قال :

والمكان قيل : إنّه (٢) الفراغ المتوهّم (٣) ، وقيل : السطح الحاوي (٤).

أقول :

اختلف الناس في ماهيّة المكان أوّلا ثمّ في وجوده ثانيا. فقال قوم : إنّه ليس بموجود وإلّا لكان إمّا جوهرا وإما (٥) عرضا. والثاني باطل وإلّا لزم احتياج الجسم إلى العرض ، والأوّل باطل لأنّه إن كان جوهرا مجرّدا استحال حلول الجسم فيه ، وإن كان مقارنا لزم التداخل.

وهذه المقالة عندي باطلة فإنّا نحكم قطعا بالنقلة مع بقاء الجسم المنتقل

__________________

(١) (فإذن) لم ترد في «ف».

(٢) (إنّه) لم ترد في «س» ، وفي «ج» «ر» «ف» : (هو).

(٣) حكاه المصنّف في الأسرار الخفيّة : ٢٤٩ ، والنافع يوم الحشر : ٣٢ ، وإرشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين : ٧١ ، وانظر نخبة اللئالئ لمحمّد بن سليمان الحلبي : ١٧.

(٤) حكاه المصنّف في الأسرار الخفيّة : ٢٤٩ ، وشرح التجريد (تحقيق الزنجاني) : ١٥٩ وفي طبعة الآملي : ٢٣٤.

(٥) في «أ» : (أو).

١٨٦

بأعراضه ولوازمه فلا بدّ من شيء ينتقل عنه. وأيضا فالتعاقب (١) دال على وجوده فإنّا نبصر الجسم في مكان ثمّ ينتقل عنه ، ويعقبه آخر حيث كان.

وأمّا ما احتجّوا به فوجه بطلانه أن نقول : لم لا يجوز أن يكون المكان هو البعد ، وهو أمر تقديريّ على رأى قوم ، وجوهر غير مادّيّ على رأي آخرين ، ونمنع استحالة حلول الجسم في المفارق.

سلّمنا فلم لا يجوز أن يكون المكان عرضا ولا استبعاد في احتياج الجسم إلى عرض قائم بجسم آخر فلا يدور (٢) الاحتياج.

إذا عرفت هذا فنقول : قال قوم : إنّ المكان عبارة (٣) عن الفراغ المتوهّم الذي تشغله الأجسام بالحصول فيه ، وهو مذهب المتكلّمين (٤) ، ويقرب من (٥) مذهب هؤلاء مذهب جماعة من الحكماء كأفلاطون وغيره من القدماء بأنّ المكان عبارة عن البعد المفطور (٦) ، ولهم خلاف في أنّ ذلك البعد هل يجوز خلوّه أم لا؟ وسيأتي البحث فيه.

وقال آخرون من الحكماء كأرسطو ومن تابعه : إنّ المكان هو السطح الباطن من

__________________

(١) في «ف» : (فالمتعاقب).

(٢) في «ف» : (بدّورد).

(٣) (عبارة) لم ترد في «ف».

(٤) في «ب» : (المتكلّم) ، وانظر النافع يوم الحشر للمصنّف : ٣٢ ، ونخبة اللآلئ لمحمّد بن سليمان الحلبي : ١٨.

(٥) (من) ليست في «ف».

(٦) حكاه عن أفلاطون المصنف في شرح التجريد (الزنجاني) : ١٥٦ ، وفي طبعة الآملي : ٢٣٢ ، وقد التزم بذلك أيضا الشيخ المفيد في النكت الاعتقاديّة : ١٧.

١٨٧

الجسم الحاوي المماس للسطح (١) الظاهر من الجسم المحوي (٢) ، فإذن المذاهب المشهورة إمّا البعد وإمّا السطح فلنذكر بعض حجج الفريقين.

أمّا من قال : إنّ المكان هو البعد فقد احتجّ عليه بوجوه :

أحدها : إنّ المكان مساو للمتمكّن والمساوي هو البعد لا السطح.

الثاني : إنّ الناس يصفون المكان بالخلوّ والامتلاء ، ولا يصفون السطح بذلك.

الثالث : إنّ المكان لو كان سطحا لزم حركة الساكن كالحجر الواقف في الماء ، والطير الساكن في الهواء ، وسكون المتحرّك كالشمس.

ولقائل أن يقول : على الأوّل إن عنيتم بالمساواة المساواة المقداريّة فهو ممنوع ، وإن عنيتم (٣) بها المساواة في النهايات فهو مسلّم ، وهو ثابت على تقدير السطح.

وعلى الثاني إنّ الناس لا يصفون البعد بالخلوّ والامتلاء ، نعم يصفون بهما الجسم المحيط ، ونسبة السطح المحيط إليه أقرب من نسبة البعد إليه حتّى أنّهم لو توهّموا السطح محيطا بالجسم من غير جسم لوصفوه بذلك ، وإن لم يخطر ببالهم البعد.

وعلى الثالث أنّ الحركة إن عنيتم بها ما تكون مبدأ المفارقة فيه من المتحرّك فليس الحجر والطير بمتحرّكين ولا ساكنين (٤) ، ولا استبعاد في سلبهما عن الجسم. وإن عنيتم بها التبدّل في السطوح فهما متحرّكان. وإن عنيتم بها تبدّل النسب بالقياس إلى الامور الثابتة فهما ساكنان ، وأمّا الشمس فإنّها متحرّكة بالعرض لا في

__________________

(١) في «ب» : (للجسم).

(٢) حكاه عن أرسطو وأبي عليّ بن سينا المصنّف في الأسرار الخفيّة : ٢٤٩ وشرح التجريد (الزنجاني) : ١٥٦ ، وفي طبعة الآملي : ٢٣٢.

(٣) قوله : (بالمساواة) إلى هنا لم يرد في «د».

(٤) في «ب» : (بساكنين).

١٨٨

مكانها بل باعتبار تبدّل نسبتها إلى الامور الثابتة (١).

واحتجّ القائلون بالسطح بأنّه لو كان المكان بعدا لزم التداخل والتالي باطل ، فالمقدّم مثله ، والجاعلون المكان بعدا جوّزوا هذا التداخل ، وإنّما يستحيل التداخل في الأبعاد (٢) الماديّة أمّا في البعد غير (٣) المادّيّ والمجرّد فلا.

قال :

ومن ظنّ أنّه الهيولى أو (٤) الصورة كذّبته الأمارات الشهيرة.

أقول :

قد ذهب إلى كلّ واحد من هذين القولين قوم من القدماء ، فاحتجّ القائل بأنّ المكان هو الهيولى بأنّ المكان يتعاقب عليه والهيولى يتعاقب عليها فالمكان هو الهيولى (٥).

واحتجّ القائل بأنّ المكان هو الصورة بأنّ الصورة (٦) حاو محدّد (٧) ، والمكان حاو محدّد (٨) ، فالصورة هي المكان (٩).

__________________

(١) في «ف» : (الثانية).

(٢) في «س» : (هذا التداخل بالأبعاد) بدل من : (التداخل في الأبعاد).

(٣) (غير) لم ترد في «ب» «د» «س» ، وفي «ر» «ف» : (الغير).

(٤) في «ف» : (و).

(٥) حكي هذا القول عن أفلاطون في الشفاء (الطبيعيّات) ١ : ١١٥ ، والمباحث المشرقية ١ : ٣٣٢ ، وحكاه أيضا المصنّف في الأسرار الخفيّة : ٢٤٩.

(٦) في «ف» : (بالضرورة) بدل من : (بأنّ الصورة).

(٧) في «س» : (محدود).

(٨) «س» : (محدود).

(٩) حكي هذا القول عن أرسطو في الشفاء (الطبيعيّات) ١ : ١١٥ ، والمباحث المشرقيّة ١ : ٣٣٢ ، وحكاه أيضا المصنّف في الأسرار الخفيّة : ٢٤٩.

١٨٩

وهذان المذهبان فاسدان فإنّ الأمارات الشهيرة تكذّب كلّ واحد من القولين ، فإنّ من جملة الأمارات أنّ المكان ينتقل عنه وإليه ويستقرّ فيه ، ويشار إليه ، وليس شيء (١) من الهيولى والصورة كذلك ، والحجّتان المذكورتان عقيمتان فإنّهما من الشكل الثاني ، وهو لا ينتج من موجبتين.

قال :

والحادث المسبوق بالعدم والقديم مقابله.

أقول :

إنّك ستعلم أقسام التقدّم ، والذي نعني به هاهنا منها إمّا التقدّم الذاتي أو التقدّم الزماني ، وأثبت المتكلّمون قسما آخر (٢).

أمّا التقدّم الذاتي فهو عبارة عن كون المتقدّم قد يوجد من غير افتقار في وجوده إلى المتأخّر ، ولا يعقل المتأخّر موجودا إلّا إذا وجد المتقدّم كالواحد مع الاثنين.

وأمّا التقدّم الزماني فإنّ (٣) المراد منه أن يكون المتقدّم موجودا في زمان والمتأخّر موجودا في آخر ، وزمان المتقدّم سابق على زمان المتأخّر ، فيكون المتقدّم بذلك الاعتبار متقدّما على هذا المتأخّر ، فالمحدث هو الذي يسبقه العدم أحد هذين السبقين ، ويسمّى بالمعنى الأوّل محدثا ذاتيّا ، وبالمعنى الثاني محدثا زمانيا ، فإنّ

__________________

(١) في «ب» : (بشيء).

(٢) قال المصنّف في شرح التجريد (الزنجاني) : ٤٩ بعد أن ذكر خمسة أقسام للتقدّم عن الحكماء ما نصّه : ثمّ المتكلّمون زادوا قسما آخر للتقدّم وسموه التقدّم الذاتي وتمثلوا فيه بتقدّم الأمس على اليوم فإنّه ليس تقدّما بالعليّة ولا بالطبع ولا بالزمان .. ولا بالشرف ، وفي طبعة الآملي : ٨٤.

(٣) (فإنّ) لم ترد في «ف».

١٩٠

الممكن يستحقّ الوجود من غيره ، ومن حيث هو هو (١) لا يستحقّ الوجود ، والصفة الذاتيّة سابقة على الصفة العرضيّة سبقا ذاتيّا ، فعدم استحقاق الوجود سابق على استحقاق الوجود. وأيضا إذا كان العدم حاصلا في زمان متقدّم على زمان الوجود كان الحدوث زمانيّا.

قال الأوائل : إن عنيتم بسبق العدم على الوجود أحد هذين الاعتبارين (٢) فهو مسلّم ، فإنّ الاعتبار الأوّل لا ينافي القدم ، فإنّ القديم الممكن محدث ذاتيّ والزمان ليس بمحدث بالمعنى الثاني وإلّا لزم أن يكون للزمان زمان ويتسلسل. وإن عنيتم به معنى آخر فاذكروه. والمتكلّمون جوّزوا تقدّم العدم على الوجود تقدّما لا يوجد المتقدّم منه مع المتأخّر من غير زمان كتقدّم الأمس على اليوم.

وبهذا الاعتبار فسّروا سبق العدم على الوجود في الحادث ، وهو مناف للقدم ولا يلزم منه وجود الزمان. وإذا عرفت معنى المحدث (٣) فالقديم ما يقابله وهو الذي لا يسبقه العدم.

[أنواع التقدّم عند الحكماء]

قال :

والسبق بالزمان والذات والعلّيّة والشرف والمرتبة.

أقول :

هذه الخمسة أنواع التقدّم عند الحكماء :

__________________

(١) (هو) لم ترد في «د».

(٢) في «س» : (المشارين) ، وفي نسخة بدل منها كالمثبت.

(٣) في «أ» : (الحادث).

١٩١

أحدها : السبق بالزمان.

والثاني : السبق بالذات وقد مضى تفسيرهما.

الثالث : السبق بالعلّيّة كسبق حركة اليد على حركة الخاتم ، فإنّك تعقل أنّه لو لا حركة اليد لما تحرّك الخاتم ، فتفرض (١) أولا لليد حركة ، فتقول : حرّكت يدي فتحرك الخاتم ، ولا تقول : تحرّك الخاتم (٢) فتحرّكت يدي من غير أن يكون هناك زمان متقدّم (٣) على زمان المعلول.

لا يقال : إذا كان كلّ واحد من العلّة والمعلول يرتفع بارتفاع صاحبه فلا تقدّم حينئذ.

لأنّا نقول : ليس بحقّ أنّ كلّ واحد منهما يرتفع بارتفاع صاحبه ، فإنّ المعلول يرتفع بارتفاع العلّة ، وليست العلّة ترتفع بارتفاع المعلول بل عند ارتفاع المعلول لا به ، والفرق ظاهر ، والفرق (٤) بين هذا (٥) التقدّم والذي قبله مع الاشتراك بينهما في أنّ المتقدّم مستغن عن المتأخّر والمتأخّر لا يصل إليه الوجود إلّا بعد وصوله إلى العلّة ، وهو مفتقر فيه إليها (٦) أنّ (٧) التقدّم بالعلّيّة (٨) يكون المتقدّم فيها كافيا في وجود المتأخّر بخلاف المتقدّم بالذات ، فإنّ الواحد غير كاف في وجود الاثنين.

__________________

(١) في «ف» : (فتعرض).

(٢) قوله : (ولا تقول : تحرّك الخاتم) سقط من «ف».

(٣) في «س» : (مقدّم).

(٤) لم يرد في «ب» : (والفرق).

(٥) (هذا) لم ترد في «ف».

(٦) في «أ» : (إليه).

(٧) في «ب» «س» : (إذ).

(٨) في «ف» : (بالعلّة).

١٩٢

ويقال للمعنى المشترك بينهما : التقدّم بالطبع ، وقد يقال : المتقدّم بالطبع للمتقدّم بالذات. ويقال للمشترك (١) : المتقدّم بالذات (٢) ، وقد يقال للمتقدّم (٣) بالعلّيّة (٤) المتقدّم (٥) بالذات (٦) ، ولا تشاجر (٧) في هذه الاصطلاحات بل الواجب معرفتها لئلّا يقع الخطأ بسبب الغفلة عنها.

الرابع : السبق بالشرف كتقدّم العالم على المتعلّم.

الخامس : السبق بالمرتبة (٨) وهي صنفان : مرتبة (٩) حسّيّة كتقدّم الإمام على المأموم إن جعل المبدأ القبلة وإلّا انعكس الحكم عند انعكاس الفرض (١٠) ، ومرتبة (١١) عقليّة كتقدّم الجنس على النوع إن جعل المبدأ هو الأعمّ وإلّا انعكس الحكم أيضا عند انعكاس الفرض (١٢).

__________________

(١) في «ج» «ر» زيادة : (بينهما).

(٢) في «أ» «ف» زيادة : (وقد يقال : المتقدّم بالطبع للمتقدّم بالذات).

(٣) في «ج» زيادة : (للمتقدّم).

(٤) في «ب» : (بالطبع).

(٥) في «ج» «ف» : (التقدّم) ، وفي «ب» : (للمتقدّم).

(٦) في «ب» زيادة : (ويقال للمتقدّم بالعليّة المتقدّم بالذات).

(٧) في «ر» : (مشاحة) ، وفي «ج» «د» «ر» : (مشاح).

(٨) في «ج» «ر» : (بالرتبة).

(٩) في «ج» «ر» «ف» : (رتبة).

(١٠) في «ف» : (العرض).

(١١) في «ج» «ر» «ف» : (رتبة).

(١٢) البصائر النصيريّة لابن سهلان الساوي : ١٤٠ ، مجموعة مصنفات شيخ الإشراق ١ : ٣٠٢ ، مقاصد الفلاسفة : ١٨٧ ، وانظر الأسرار الخفيّة : ٤٧٨ ، نهاية المرام في علم الكلام ١ : ٢٥٣.

١٩٣

والمتكلّمون أثبتوا قسما آخر (١) هو تقدّم بعض أجزاء الزمان على البعض فإنّه ليس بالذات والعلّيّة لوجوب مقارنة (٢) المتقدّم فيهما (٣) للمتأخّر وليس بالزمان وإلّا لزم افتقار (٤) الزمان إلى زمان آخر وظاهر نفي بقيّة الأقسام عنه فهو قسم آخر (٥). وإذا (٦) عرفت أقسام (٧) التقدّم فاعرف منها أقسام التأخّر والمعيّة.

[تصوّر الوجود بديهي]

قال :

وتصوّر الوجود بديهيّ ، وأخطأ من استدلّ بوجودي لمنع بداهة جزء (٨) البديهيّ ولبنائه على اشتراك الوجود الكسبي وانعاكسه بالنقيض إلى كسبية (٩).

أقول :

إنّ قوما من القدماء حدّوا جميع الأشياء حتّى الوجود والشيئية ، وهو خطأ ، فإنّهما من المعلومات البديهيّة ، على أنّ تعريفاتهم لا تخلو عن تعريف الشيء بنفسه ،

__________________

(١) في «ب» زيادة : (و).

(٢) في «ب» : (مفارقة).

(٣) في «ج» «س» : (فيها).

(٤) في «ف» : (الافتقار).

(٥) حكى ذلك المصنّف في نهاية المرام ١ : ٢٥٩ ، وانظر شرح التجريد (الزنجاني) : ٤٩ ، وفي طبعة الآملي : ٨٤.

(٦) في «ج» «د» «س» «ف» : (وإذ قد) ، وفي «ر» : (وإذا قد) بدل من : (إذا).

(٧) (أقسام) لم ترد في «ف».

(٨) في «أ» «س» : (خبر).

(٩) في «أ» «ب» : (كسبيته).

١٩٤

فإنّهم إذا قالوا : إنّ الوجود هو الذي يعقل أو ما يخبر (١) عنه وكذلك الشيء (٢) أخذوا لفظة «الذي» و «ما» المرادفتين (٣) لمعنى الوجود والشيئية في تعريفهما وهو خطأ.

وذهب بعض الناس إلى أنّ كون الوجود بديهيّ التصوّر مكتسب ، فأخذوا (٤) في الاستدلال عليه بوجهين :

الأوّل : إنّي أعلم بالبديهة (٥) أنّي موجود وهذا تصديق ، والتصديق إذا كان بديهيّا كانت تصوّراته بديهيّة ، ضرورة أنّها سابقة عليه ، والسابق على البديهيّ يجب أن يكون بديهيّا.

الثاني : إنّي أعلم بوجودي ضرورة ، وهذا التصوّر (٦) يتوقّف على تصوّر مطلق الوجود ، وجزء التصوّر البديهيّ يكون بديهيّا ، فيكون تصوّر مطلق الوجود بديهيّا (٧).

وهذان الوجهان (٨) عندي (٩) ضعيفان :

__________________

(١) في «ر» «ف» : (أخبر).

(٢) حكى هذه الوجوه الجرجاني في شرح المواقف ٢ : ٧٧ والرازي في المباحث المشرقية ١ : ٩٨ ، والمصنّف في نهاية المرام ١ : ١٨.

(٣) في «س» : (المترادفتين).

(٤) في «أ» «ج» «ف» : (فأخذ).

(٥) في «أ» «س» «ف» : (بالبديهيّة).

(٦) في «د» «ف» : (التصديق).

(٧) انظر المباحث المشرقيّة ١ : ٩٩ ، نهاية المرام للمصنّف ١ : ١٩.

(٨) (الوجهان) لم ترد في «د» «س».

(٩) (عندي) لم ترد في «ج».

١٩٥

أمّا الأوّل فلأنّا نمنع من وجوب كون (١) التصوّر بديهيّا عند كون التصديق بديهيّا ، فإنّ التصديق البديهيّ عبارة عن الذي يكفي تصوّر طرفيه في الحكم ، فجاز أن يكون تصوّر الطرفين مكتسبا ، ويكون حصولهما كافيا في الحكم فيكون التصديق بديهيّا والتصوّر كسبيّا (٢) ، اللهمّ إلّا أن يفسّر التصديق بمجموع التصوّرين مع الحكم ، وحينئذ لا حاجة إلى الاستدلال على كون التصوّر بديهيّا عند كون التصديق بديهيّا ، فإنّ ذلك يكون معلوما قطعا.

وأمّا الثاني فلأنّ تصوّر وجوديّ إنّما يستلزم تصوّر مطلق الوجود إذ لو (٣) كان مطلق الوجود جزءا من وجودي وإنّه مشترك ولكن (٤) ذلك غير معلوم إلّا بدليل (٥) فلا يكون تصوّره ضروريّا.

ثمّ نقول أيضا بعد ذلك : إذا كان تصوّر وجوديّ متوقّفا على اشتراك الوجود فهو كسبيّ وجب أن لا يكون تصوّر وجوديّ بديهيّا لأنّ قوله : كلّ ما يتوقّف عليه البديهيّ يجب أن يكون بديهيّا ينعكس بعكس النقيض إلى قولنا : كلّ ما لا يكون بديهيّا لا يتوقّف عليه البديهيّ.

ثمّ نقول : اشتراك الوجود ليس ببديهيّ فلا يتوقّف عليه البديهيّ ، وقد توقّف عليه تصوّر وجوديّ فلا يكون تصوّر وجوديّ بديهيّا ، وهذا الإلزام لم يتفطّنوا له.

__________________

(١) (كون) لم ترد في «ف».

(٢) قوله : (ويكون حصولهما) إلى هنا ليس في «د».

(٣) في «ج» «ر» «س» «ف» : (إن).

(٤) (لكن) لم ترد في «ب» ، وفي «س» بدلها : (كلّ).

(٥) في «ب» «ف» : (بالدليل).

١٩٦

قال :

وكذا العدم سؤال المطلق غير متصوّر والمضاف يعرف بواسطة الوجود فهو كسبيّ ، جواب : البديهيّ ما لا يتوقّف على طلب وكسب.

أقول :

العدم أيضا متصوّر بالبديهة (١) وإن كان قد نازع فيه جماعة قالوا : إنّ ما لا ثبوت (٢) له لا يتخصّص (٣) ولا يتميّز عن غيره فكيف يتصوّر؟ (٤)

والحقّ أنّ العدم قد يكون مطلقا ، وذلك غير متصوّر لعدم امتيازه عن غيره بنفسه ، ولا هو مضاف إلى ملكة يتصوّر باعتبار تصوّرها ومنه مضاف وهو (٥) إعدام الملكات ، وهي متصوّرة تبعا لتصوّر ملكاتها.

ثمّ اورد سؤالا على ذلك ، وتقريره : أنّ العدم إمّا مطلق فهو غير متصوّر على ما ذكرتم ، وإمّا مضاف وهو لا يعلم إلّا بواسطة ملكته فلا يكون تصوّره بديهيّا ، وأنتم حكمتم بأنّ تصوّر العدم بديهيّ كالوجود.

والجواب : إنّ البديهيّ هو الذي (٦) لا يتوقّف على طلب وكسب و (٧) ليس هو الذي لا يتوقّف مطلقا ، والعدم المضاف إذا توقّف تصوّره على تصوّر ملكته لا يلزم أن يكون متوقّفا على طلب وكسب.

__________________

(١) في «أ» «ف» : (بالبديهيّة).

(٢) في «ف» : (يتوقّف).

(٣) في نسخة بدل من «ر» : (يتشخّص) ، وفي «ف» : (يتحقّق).

(٤) مباحث العدم مفصّلة في نهاية المرام في علم الكلام للمصنّف ١ : ٥٢.

(٥) في «ج» «ر» : (هي).

(٦) (هو الذي) ليس في «ف».

(٧) الواو غير موجودة في «س».

١٩٧
١٩٨

قال :

الباب الثالث :

في إثبات الصانع تعالى (*) وصفاته وخواصّه

__________________

(*) في «د» «ف» زيادة : (وتوحيده).

١٩٩
٢٠٠