معارج الفهم في شرح النظم

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

معارج الفهم في شرح النظم

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: عبدالحليم عوض الحلّي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-397-218-3
الصفحات: ٦٤٤

قال :

الباب الثاني :

في الحدوث

١٢١
١٢٢

[البرهان الأوّل على حدوث العالم]

[قال :]

لنا : أنّ الأجسام لا تخلو عن الحركة والسكون الحادثين فهي حادثة ؛ أمّا الأوّل فلأنّه إمّا حاصل في مكان واحد أكثر من زمان وهو الساكن أو لا ، وهو (١) المتحرّك.

أقول :

هذه حجّة الحدوث ، وتقريرها أنّ الأجسام لا تخلو عن الحركة والسكون وهما حادثان ، وكلّ ما لم يخل (٢) من المحدث فهو محدث. وهذه الحجّة تشتمل على أربع دعاو :

الأولى : أنّ هاهنا حركة وسكونا مغايرين للجسم.

الثانية : أنّ الأجسام لا تخلو منهما.

الثالثة : أنّهما حادثان.

الرابعة : أنّ (٣) ما لم يخل من المحدث فهو محدث.

والمقدّمة الأولى وهي قولنا : الأجسام لا تخلو عن الحركة والسكون الحادثين

__________________

(١) في «ب» «س» : (فهو).

(٢) في «ب» : (لا يخلو).

(٣) في «ر» «ف» زيادة : (كلّ).

١٢٣

قد اشتملت على ثلاث دعاو منها (١) : أمّا (٢) مغايرة الحركة والسكون للجسم ، فسيأتي بيانه ، وأمّا أنّ الجسم لا يخلو منهما فلأنّ كلّ جسم لا بدّ له من مكان ، فإن كان لابثا فيه أكثر من زمان واحد فهو الساكن وإلّا فهو المتحرّك.

لا يقال : هذا الحصر مبتن (٣) على وجود المكان ، وإنّ الجسم حاصل فيه ، وهو ممنوع ، فإنّ المكان لو كان موجودا لكان إمّا أن يكون (٤) جوهرا أو عرضا ، والأوّل باطل لأنّه إن كان مفارقا استحال حلول المقارن فيه ، وإن كان مقارنا لزم التداخل. وأيضا يلزم الدور أو التسلسل ؛ ضرورة افتقار (٥) كلّ مقارن (٦) إلى مكان.

والثاني باطل لأنّ (٧) حلول الجسم في العرض غير معقول ، ولأنّ العرض حالّ في الجسم فاستحال حلول الجسم فيه وإلّا لزم الدور ، ولأنّ المتمكّن ينتقل عن المكان ولا يعقل انتقال الجسم عن العرض.

سلّمنا لكن لا نسلّم الحصر فإنّ الجسم أوّل ما خلقه الله تعالى ليس بمتحرّك ولا ساكن (٨).

لأنّا نقول : أمّا المكان فإنّه موجود. قوله : «إمّا أن يكون جوهرا أو عرضا».

__________________

(١) في «أ» «د» «ر» : (منهما).

(٢) في «ر» «ف» زيادة : (بيان).

(٣) في «أ» : (يبتني) ، وفي «ب» «ف» : (مبني).

(٤) قوله : (أن يكون) لم يرد في «س».

(٥) في «ب» : (لافتقار).

(٦) في «ف» : (مفارق).

(٧) في «ف» : (لكن).

(٨) في «د» : (بساكن).

١٢٤

قلنا (١) : هو عرض وحلول الجسم فيه أمر معقول ، فإنّ ملاقاة الجسم للجسم بالسطح الحاوي أمر معقول ، وهو معنى الحلول في المكان.

هذا إن قلنا : إنّ المكان هو السطح ، وإن قلنا : إنّه البعد كان أمرا تقديريّا ، وأمّا الحصر فإنّه ظاهر ، فإنّ الجسم الباقي لا يخلو عن أحد هذين ، على أنّ هذا النقض نافع للمستدلّ لأنّه إنّما يسعى ليبيّن أنّ الأجسام محدثة فلا (٢) ينتقض ما ذكره بالجسم الحادث (٣).

[في حدوث الحركة والسكون]

قال :

وأمّا بيان حدوثهما ، أمّا الحركة فلأنّ كلّ فرد حادث فالمجموع كذلك ، لأنّها إمّا أن يوجد شيء منها أزلا فيكون (٤) الحادث أزليّا أو لا يكون (٥) فيكون الكلّ حادثا.

أقول :

هذا بيان الدعوى الثالثة ، وهي بيان حدوث الحركة والسكون ، أمّا الحركة فيدلّ على حدوثها وجوه :

الأوّل : أنّ كلّ فرد من أفراد الحركات حادث فالمجموع كذلك ، أمّا الأولى فظاهرة (٦) ؛ لأنّ الحركة تستدعي المسبوقيّة بالغير فلا يكون أزليّة ، وأيضا فهو

__________________

(١) في «ج» «ر» «ف» : (قلت).

(٢) في «ب» : (ولا).

(٣) انظر تلخيص المحصّل : ٢٤٣.

(٤) في «ب» : (ليكون).

(٥) (يكون) لم ترد في «ر» «ف».

(٦) في «د» «س» : (فظاهر).

١٢٥

حكم متّفق عليه. وأمّا الثانية فلأنّه إمّا أن يوجد في الأزل شيء من هذه الحركات أولا ؛ فإن كان الأوّل لزم أن يكون ذلك الفرد أزليّا وهو حادث ، هذا خلف ، وإن كان الثاني لزم حدوث الكلّ ، وهو المطلوب.

قال :

ولأنّها مسبوقة بالعدمات وهي أزليّة ، فإن قارنها شيء منها تساوى السابق والمسبوق وإلّا فهي حادثة.

أقول :

هذا وجه ثان دالّ على حدوث الحركة ، وتقريره أن نقول : كلّ واحد من الحركات حادث لما مرّ ، فيكون مسبوقا بعدم لا أوّل له ، فمجموع الحركات كلّ واحد منها مسبوق بعدم لا بداية له ، فمجموع العدمات حاصل في الأزل (١) فلا تخلو إمّا أن يوجد مع تلك العدمات شيء من الوجودات أو لا ، والأوّل باطل لأنّه يلزم استواء السابق والمسبوق في الوجود وهو محال ، فإنّ العدم سابق على وجود ذلك الفرد الأزلي وكلاهما موجودان في الأزل ، هذا خلف ، وإن لم يوجد في الأزل مع العدمات شيء من الوجودات (٢) لزم حدوث مجموع الوجودات ، وهو المطلوب.

قال :

ولأنّها (٣) من زمان الطوفان جملة ومن زماننا أخرى فنطبق (٤) فإن لم يتفاوتا

__________________

(١) في «ف» : (الأوّل).

(٢) في «ج» «د» : (الموجودات).

(٣) في «ف» : (ولأنّهما).

(٤) في «د» «ف» : (فينطبق).

١٢٦

تساوى الوجود والعدم ، وإلّا تناهت إحداهما فتناهتا (١).

أقول :

هذا وجه ثالث (٢) على أنّ الحركة حادثة وتقريره : إنّا نأخذ مجموع الحركات من زمان الطوفان إلى الأزل جملة موهومة ومن زماننا إلى الأزل جملة أخرى ، ونطبق (٣) إحدى الجملتين بالأخرى بأن نجعل الجزء الأوّل من إحدى الجملتين مقابلا للأوّل من الأخرى ، والثاني للثاني وهكذا ، فإن استمرّ امتدادهما كان وجود الجملة المركّبة من الحركات الحاصلة من زماننا إلى زمان الطوفان وعدمه (٤) بمثابة واحدة ، وهو باطل بالضرورة ، وإن انقطعت الناقصة لزم تناهيها ، ويلزم من ذلك تناهي الجملة الزائدة لأنّها إنّما زادت عليها بمقدار متناه ، وهو من زماننا إلى زمان الطوفان ، وكلّ ما زاد على المتناهي بمقدار متناه فهو متناه ؛ فالجملتان متناهيتان وهو المطلوب.

[في إبطال قدم السكون]

قال :

وأمّا السكون فلأنّه لو كان أزليّا لما عدم ، فإنّه إمّا واجب أو مستند إليه ؛ والتالي باطل اتفاقا ، ولأنّ مقولة الوضع غير واجبة للبسائط والمركّبات ، وأمّا الثاني فظاهر.

__________________

(١) في «د» : (فتناهيا).

(٢) في «ب» زيادة : (دال).

(٣) في «د» : (وتطبق) ، وفي «ج» «ر» : (فنطبق).

(٤) في «ج» «ر» : (عدمهما) ، وفي «ف» : (عدمها).

١٢٧

أقول :

لمّا بيّن إبطال قدم الحركة شرع في إبطال قدم السكون ، وتقريره أن نقول : لو كان السكون أزليّا لما عدم ، والتالي باطل فالمقدّم مثله. بيان الشرطيّة : أنّه لو كان أزليّا لكان إمّا واجبا لذاته أو ممكنا لذاته ؛ فإن كان واجبا لذاته استحال عدمه ، وإن كان ممكنا لذاته ، فلا بدّ له من علّة فعليّة إمّا (١) واجبة الوجود أو ممكنة الوجود ، فإن كانت واجبة الوجود استحال عدمها ويلزم من استحالة عدم العلّة استحالة عدم المعلول ، وإن كانت ممكنة (٢) لذاتها لم يكن لها بدّ من علّة ، والدور والتسلسل باطلان على ما يأتي فيلزم الانتهاء إلى واجب الوجود. ويلزم من استحالة عدمه استحالة عدم معلوله ، فقد ظهر أنّه لو كان أزليّا لما صحّ عدمه.

لا يقال : لم لا يجوز أن يكون المؤثّر في السكون الأزلي قادرا مختارا وأثر القادر يجوز عدمه مع بقائه.

لأنّا نقول : الفعل الأزلي يستحيل أن يصدر عن قادر لأنّ القادر هو الذي يؤثّر بواسطة الداعي ويستحيل دعوى الداعي إلى شيء موجود بل إلى معدوم ، فكلّ أثر للمختار يجب أن يكون حادثا. وأمّا بطلان التالي فظاهر ، أمّا أوّلا فلأنّ الخصم يقول به. وأمّا ثانيا فلأنّ مقولة الوضع غير واجبة للبسائط ولا للمركّبات.

واعلم أنّ الوضع هو الهيئة الحاصلة للجسم بسبب نسبة أجزائه بعضها إلى بعض ، وبسبب انتساب أجزائه إلى الأمور الخارجة عنه (٣) كالقيام والقعود ،

__________________

(١) في «ف» : (وإمّا).

(٢) في «ب» زيادة : (الوجود).

(٣) في «ب» «د» : (الخارجيّة) بدل من : (الخارجة عنه).

١٢٨

والجسم البسيط إذا لاقى غيره لا بدّ له من هذه المقولة بأن يكون على يمينه أو يساره أو غير ذلك من الأوضاع ويكون ملاقيا له بطرف من أطرافه وكلّ طرف من البسيط فإنّه مساو للطرف الآخر ، فيصحّ على ذلك البسيط أن يلاقي ذلك الغير بالطرف الذي لا يلاقيه وإنّما يصحّ عليه ذلك إذا تحرّك ، فكلّ جسم فإنّه يصحّ عليه الحركة فيكون السكون ممكن الزوال ، وإذا كانت البسائط كذلك فالمركّبات أيضا كذلك ؛ لأنّها مركّبة من البسائط التي يجوز عليها الانتقال.

فقد ثبت أنّ الأجسام لا تنفكّ عن الحركة والسكون الحادثين.

وأمّا الثاني وهو أنّ كلّ ما لا ينفكّ عن المحدث فهو محدث فضروري.

لا يقال : لا يلزم من كون الشيء لا ينفكّ عن غيره أن يكون هو ذلك الغير ، فإنّ الجسم لا ينفكّ عن العرض ومع ذلك فليس هو بعرض.

لأنّا نقول : الفرق حاصل فإنّ البديهة (١) قاضية بأنّ ما لا يسبق المحدث فإنّه (٢) يجب أن يكون محدثا ولا يلزم من ذلك أن يكون ما لا ينفكّ عن العرض يجب أن يكون عرضا.

قال :

فإن قلت : أمنع المغايرة والملازمة.

أقول :

لمّا فرغ من الاستدلال أشار إلى ما يعترض به المخالف وبدأ بالمناقضة ، فقال :

__________________

(١) في «ف» : (البديهيّة).

(٢) قوله : (فإنّه) ليس في «د».

١٢٩

قولكم : الجسم لو كان أزليّا لكان (١) إمّا أن يكون متحرّكا أو ساكنا يبتني على أنّ هناك حركة وسكونا مغايران (٢) للجسم ، ونحن نمنع المغايرة ، فلم لا يجوز أن يكون الجسم هو عين الحركة والسكون. سلّمنا أنّ الحركة والسكون مغايران للجسم لكن نمنع الملازمة بين الجسم والحركة والسكون فإنّه يجوز أن يكون جسم غير متحرّك ولا ساكن.

[إيرادات على أدلّة حدوث الحركة]

قال :

قوله : إن لم يوجد أزلا كان حادثا ممنوع لجواز حدوث كلّ فرد وعدم حدوث الكلّ أو الكلّي.

أقول :

هذا إيراد على الوجه الأوّل من الوجوه الدالّة على حدوث الحركة ، فإنّ المستدلّ قال أوّلا : إن لم يوجد في الأزل شيء من (٣) الحركات كانت (٤) حادثة وإلّا كان بعض أفرادها قديما ، هذا خلف ، والاعتراض أنّ هذا يدلّ على حدوث كلّ فرد فرد (٥) ولا يلزم من ذلك حدوث كلّ الأفراد. سلّمنا حدوث كلّ الأفراد لكن نمنع حدوث الكلّيّ من حيث هو كلّيّ.

__________________

(١) قوله : (لكان) ليس في «د».

(٢) في «ج» «ر» «س» «ف» : (مغايرين) ، وفي «أ» : (مغايرا).

(٣) في «ب» زيادة : (هذه).

(٤) في «أ» «ف» زيادة : (الحركات).

(٥) (فرد) ليست في «ب».

١٣٠

قال :

قوله : مسبوقة بالعدمات. قلنا : هذا بناء على وجود الأزل وليس ، وإنّما هو أمر تقديريّ.

أقول :

هذا الإيراد على الوجه الثاني ، وهو أنّ مجموع العدمات حاصل في الأزل فإن وجد معها شيء من الحركات تساوى السابق والمسبوق ، والاعتراض (١) أنّ هذا مبنيّ على أنّ الأزل شيء محقّق يصحّ أن يكون ظرفا للعدمات والوجودات ، وليس كذلك وإنّما هو أمر فرضيّ تقديريّ معناه تقدير أوقات لا نهاية لها أو عدم المسبوقيّة بالغير.

قال :

قوله : إن (٢) تفاوتت تناهت ، قلنا ممنوع بمعلوماته تعالى ومقدوراته وتضعيف الألف والألفين.

أقول :

هذا إيراد على الوجه الثالث ، وهو برهان التطبيق وتقريره : أنّا لا نسلّم أنّ كلّ ما كان أنقص من غيره يجب أن يكون متناهيا ، فإنّ معلومات الله تعالى أكثر من مقدوراته ، لأنّ معلوماته تندرج تحتها الواجب والممكن والممتنع ، و (٣) أمّا المقدورات فليس إلّا الممكن ومع ذلك فالمعلومات والمقدورات غير متناهية.

__________________

(١) في «ف» : (فالاعتراض).

(٢) (إن) لم ترد في «ف».

(٣) الواو لم ترد في «ف».

١٣١

وأيضا فإنّا إذا ضعّفنا الألف مرارا لا نهاية لها والألفين مرارا لا نهاية لها حدثت جملتان (١) إحداهما أزيد من الأخرى مع عدم تناهيهما ، فلم لا يجوز أن يكون الجملتان الحادثة إحداهما من زمان الطوفان إلى الأزل والأخرى من زماننا إلى الأزل متفاوتتين وإن كانتا غير متناهيتين.

[إيراد على حدوث السكون]

قال :

سلّمنا لكن لا نسلّم ثبوت السكون ، ولا نسلّم امتناع عدم القديم لجواز توقّفه على شرط عدميّ أزليّ فيجوز زواله لزوال شرطه.

أقول :

لمّا فرغ من الاعتراض على حدوث الحركة شرع في الاعتراض على حدوث السكون وقال : لا نسلّم أنّ السكون أمر ثبوتيّ ، وتقرير هذا السؤال : أنّ المستدلّ قال : لو كان السكون أزليّا لما جاز عدمه ، أورد المعترض المنع هاهنا ومنع من استحالة عدم القديم مطلقا لأنّ (٢) الأزلي على قسمين : عدميّ وثبوتيّ ؛ فالأزلي العدميّ يجوز زواله وإلّا لما صحّ حدوث العالم ، فعلى هذا التقدير توجّه اعتراض المعترض بأنّه يجوز أن يكون السكون عدميّا ويكون أزليّا ولا يلزم من ذلك امتناع عدمه.

__________________

(١) في «د» : (حدثت الجملتان) ، وفي «ب» «ج» : (حدث الجملتان).

(٢) في «ف» : (فإنّ).

١٣٢

ثمّ بعد تسليم (١) أنّ السكون أمر ثبوتيّ وجّه الاعتراض من طريق آخر وقال :

سلّمنا أنّ السكون ثبوتيّ ولكن لا نسلّم أنّ القديم الثبوتي مطلقا يمتنع عدمه ، وذلك لأنّ القديم الثبوتي على قسمين مطلق ومشروط ، فالمطلق يمتنع عدمه والمشروط على قسمين : مشروط بشرط ثبوتيّ فهذا أيضا يمتنع عدمه ، ومشروط بشرط عدميّ ، وهذا يجوز عدمه لعدم شرطه العدميّ الأزليّ ، فلم لا يجوز أن يكون السكون وإن كان ثبوتيّا مشروطا بشرط عدميّ أزليّ فيجوز زوال الشرط فيجوز زوال السكون.

[شبهات خمس]

قال :

ويعارض (٢) بأنّ العلّة التامّة إن كانت قديمة فهو قديم وإلّا ترجّح الممكن بذاته ، وإن كانت حادثة تسلسل.

أقول :

لمّا فرغ من المناقضة في المقدّمات شرع في المعارضة للمطلوب ، وقد عارض هاهنا (٣) بخمس شبه :

الشبهة الأولى : وهي أقواها أنّ العلّة التامّة المستجمعة لجميع جهات المؤثّرية لا تخلو إمّا أن تكون قديمة أو حادثة ، فإن كان الأوّل لزم قدم العالم لأنّ عند وجود

__________________

(١) في «س» : (تسليمه).

(٢) في «أ» «ج» «س» «ف» : (معارض).

(٣) في «ر» «ج» : (هنا).

١٣٣

العلّة التامّة لو جاز عدم المعلول فليفرض عدمه في وقت ووجوده في آخر ، فاختصاص أحد الوقتين بالوجود والآخر بالعدم إمّا أن يفتقر إلى مرجّح غير الأوّل أو لا ، فإن كان الأوّل لم يكن المرجّح المفروض أوّلا تامّا وقد فرضناه تامّا ، هذا خلف ، وإن كان الثاني لزم الترجيح بغير مرجّح وهو محال ، وإن كانت العلّة التامّة حادثة افتقرت إلى علّة أخرى ، وتلك العلّة إمّا قديمة فيلزم قدم الحادث أو محدثة فيلزم التسلسل (١).

قال :

ولأنّه ممكن أزلا فواجب وإلّا لكان محالا وجوده أزلا.

أقول :

هذه هي (٢) الشبهة الثانية وتقريرها أن نقول : إنّ العالم ممكن الوجود في الأزل ، وإذا كان ممكن الوجود في الأزل كان واجب الوجود في الأزل. أمّا المقدّمة الأولى فلأنّه لو لم يكن ممكن الوجود في الأزل لكان إمّا واجب الوجود في الأزل أو ممتنع الوجود في الأزل ؛ فإن كان الأوّل لزم قدم العالم ، وإن كان الثاني استحال وجود العالم فيما لا يزال لاستحالة انتقال الشيء من الامتناع إلى الإمكان. وأمّا المقدّمة الثانية فلأنّه لو كان العالم محدثا لاستحال وجوده في الأزل لأنّ المحدث هو المسبوق بالغير ، والأزلي هو الذي لا يسبقه غيره فالجمع بينهما محال. فظهر أنّه

__________________

(١) انظر شرح الإشارات ٣ : ١٣١ ، تهافت الفلاسفة : ٥٠ ، المطالب العالية في العلم الإلهي ٤ : ٤٦ ، شرح المواقف ٧ : ٢٢٩ ، أنوار الملكوت في شرح الياقوت : ٣٩ ، شرح الأصول الخمسة : ١١٥ ، تلخيص المحصّل : ٢٠٥ ، شرح المقاصد ٣ : ١٢٠ ، نهاية المرام في علم الكلام للمصنّف ٣ : ١٣٦.

(٢) (هي) ليست في «أ» «ر».

١٣٤

لو كان محدثا لاستحال وجوده في الأزل ، ولو (١) استحال وجوده في الأزل لم يكن ممكن الوجود في الأزل ، وقد بيّنّا أنّه ممكن الوجود في الأزل ، هذا خلف (٢).

قال :

ولأنّه لا بدّ له من حامل.

أقول :

هذه هي الشبهة الثالثة ، وتقريرها : أنّ كلّ محدث فإنّه لا بدّ وأن يكون قبل حدوثه ممكن الوجود لما بيّنّا ، فإمكان الوجود سابق على وجود الحادث ، ولا يجوز أن يكون أمرا عدميّا وإلّا لما بقي فرق بين عدم الإمكان وبين إمكان (٣) معدوم ، هذا خلف ، فهو معنى ثبوتيّ.

ولا يجوز أن يكون هو قدرة القادر عليه لأنّا نقول : إنّما كان القادر قادرا على الفعل لأنّه ممكن ، فلو كان الإمكان هو نفس القدرة كان (٤) تعليلا للشيء بنفسه فهو مغاير للقدرة ، وهو إمّا جوهر أو عرض ؛ والأوّل محال لأنّ الإمكان إنّما يعقل بين شيئين فهو من الامور النسبيّة ، والجوهر ليس من الأمور النسبيّة ، فالإمكان ليس بجوهر فهو عرض لا بدّ له من محل ، ومحلّه إن كان محدثا لزم افتقار المحلّ إلى محلّ آخر ، ويتسلسل فهو قديم وهو المادّة.

__________________

(١) في «ف» : (فلو).

(٢) انظر شرح الإشارات ٣ : ١٣٢ ، تهافت الفلاسفة : ٥٢ ، المطالب العالية في العلم الإلهي ٤ : ٨٩ ، نهاية المرام في علم الكلام للمصنّف ٣ : ١٣٧.

(٣) في «ف» : (إمكانه).

(٤) في «س» : (لكان).

١٣٥

ويلزم من قدم المادّة قدم الصورة (١) لاستحالة انفكاكها عنها ، لأنّها لو انفكّت عنها لكانت إمّا ذات وضع أو غير ذات وضع ؛ والثاني باطل وإلّا لكان عند حلول الصورة فيها إن لم يحصل في وضع معيّن كان الجسم خاليا عن الوضع ، هذا خلف ، وإن حصلت في وضع معيّن لزم تخصيصها بأحد الأحياز المتساوية النسبة إليها من غير مخصّص ، هذا خلف (٢).

لا يقال : تخصيص بعض (٣) الأحياز لأجل الصورة النوعيّة.

لأنّا نقول : نسبة الصورة النوعيّة إلى جزئيّات (٤) ذاك الحيز واحدة فيلزم المحال ، وإن كانت ذات وضع كانت نقطة أو خطّا أو سطحا أو جسما ، ولو كانت جسما كانت مقارنة للصورة ، والنقطة لا وجود لها بانفرادها وإلّا لكان إذا (٥) وصل إليها طرفا خطّين إن لم يمنعهما عن الملاقاة لزم مداخلة طرفي الخطّين للنقطة ، والنقطة مباينة للخطّين ، فطرفاهما (٦) مباينان (٧) لها ، هذا خلف ، وإن منعتهما (٨) لزم انقسامها ، والخطّ والسطح لا وجود لهما بانفرادهما لهذا بعينه. وإذا ثبت قدم المادّة

__________________

(١) في «ف» : (الضرورة).

(٢) ذكره الفخر الرازي في المطالب العالية في العلم الإلهي ٤ : ١٦٩ ، والمصنّف في نهاية المرام ٣ : ١٣٨.

(٣) في «ب» و «ج» : (يختص ببعض) ، وفي «أ» : (مختصّ ببعض).

(٤) في «ب» : (حركات).

(٥) في «ف» : (وإذا).

(٦) في «ف» : (فطرفاها).

(٧) في «أ» «ب» «ج» «د» : (متباينان).

(٨) في «س» : (منعتها).

١٣٦

وأنّها (١) يستحيل انفكاكها عن الصورة لزم قدم الصورة أيضا ، ويلزم من ذلك قدم الجسم.

قال :

ولأنّه بعد عدمه بعديّة (٢) زمانيّة ، فلا بدّ من زمان ، فلا بدّ من حركة ، فلا بدّ من جسم.

أقول :

هذه هي الشبهة الرابعة ، وتقريرها : أنّ العالم لو كان محدثا لكان وجوده بعد عدمه بعديّة (٣) زمانيّة ، لأنّك ستعلم أنّ أقسام التقدّم خمسة :

أحدها : التقدّم بالزمان ، وخاصيّته أنّه الذي لا يمكن وجود المتقدّم مع المتأخّر ، وإنّما يكون ذلك بأن يكون المتقدّم موجودا في زمان والمتأخّر موجودا في زمان ، وزمان المتقدّم متقدّم على زمان المتأخّر ، فيكون التقدّم والتأخّر (٤) لا حقين للشيء بتوسّط التقدّم والتأخّر (٥) اللاحقين للزمان.

إذا (٦) تقرر هذا فنقول : عدم العالم لو كان متقدّما على وجوده بهذا النوع من التقدّم لزم وجود الزمان حال عدم العالم ، ولا يجوز أن يكون ذلك الزمان محدثا وإلّا لكان عدمه سابقا على وجوده بالزمان فيكون (٧) الزمان موجودا حال ما فرض معدوما ، هذا خلف ، وإذا استحال حدوث الزمان استحال حدوث الحركة

__________________

(١) في «ب» : (وإنّه).

(٢) في «ف» : (فعدية).

(٣) في «ف» : (تعدية).

(٤) في «ف» : (المتقدّم والمتأخّر).

(٥) في «ف» : (المتقدّم والمتأخّر).

(٦) في «ف» : (وإذا).

(٧) في «ج» «د» : (ويكون).

١٣٧

لأنّك ستعلم أنّ الزمان مقدار الحركة فيستحيل (١) وجوده بدونها ، والحركة عرض يستحيل (٢) وجودها بدون الجسم ويلزم من ذلك قدم الجسم (٣).

قال :

ولأنّه متأخّر عن القديم إمّا بمدّة متناهية فيكون الكلّ حادثا أو غير متناهية فالقدم لازم لما مرّ (٤) وأيضا يتوقّف على ما لا يتناهى فلا يوجد.

أقول :

هذه هي الشبهة الخامسة ، وتقريرها : أنّ العالم إمّا أن لا يكون متأخّرا عن الباري تعالى أو يكون ، فإن كان الأوّل لزم القدم أو حدوث الباري تعالى ، وإن كان الثاني فإن كان متأخّرا بمدّة متناهية لزم حدوث الباري لأنّ المتقدّم على المحدث بمدّة متناهية يكون لوجوده ابتداء فيكون محدثا ، وإن كان بمدّة غير متناهية لزم منه محذوران :

الأوّل : قدم الزمان.

و (٥) الثاني : توقّف وجود العالم على انقضاء مدّة يتأخّر (٦) بها عن الله تعالى غير متناهية ، وانقضاء ما لا نهاية له محال ، والموقوف على المحال محال ، فيكون وجود العالم محالا (٧).

__________________

(١) في «ب» : (يستحيل).

(٢) في «ب» : (ويستحيل).

(٣) انظر المطالب العالية في العلم الإلهي ٤ : ٢٠٨ ، نهاية المرام ٣ : ١٣٨.

(٤) في «س» : (مضى).

(٥) الواو ليست موجودة في «ب» «ج» «د» «س».

(٦) في «ج» «ر» : (متأخّر).

(٧) انظر نهاية المرام للمصنّف ٣ : ١٣٩.

١٣٨

[الأجوبة على الشبهات الخمس]

قال :

والجواب المغايرة ثابتة إذ لا يلزم من تصوّر الجسم تصوّرهما ، سلّمنا لكن لا يضرّ.

أقول :

لمّا فرغ من الاعتراضات شرع في الجواب على الوجه المفصّل فأجاب (١) عن السؤال الأوّل ، وهو منع المغايرة بين الجسم والحركة والسكون بأنّه لا يلزم من تصوّر الجسم تصوّر الحركة ولا تصوّر السكون فيكون الجسم مغايرا لهما بالضرورة.

ولإن سلّمنا عدم المغايرة لكن هذا المنع لا يضرّنا ، لأنّا قد بيّنّا حدوث الحركة والسكون ، فإذا كان الجسم هو نفس الحركة والسكون كان محدثا قطعا ، وهو المطلوب.

قال :

والملازمة ظاهرة لما بيّنّاه.

أقول :

هذا جواب عن منع الملازمة فإنّ السائل سلّم أنّ الجسم مغاير للحركة والسكون ، ومنع ملازمة الجسم لأحدهما ، وهذا المنع فاسد فإنّ الملازمة ظاهرة لأنّ الجسم لا بدّ له من مكان ، وهو لا يخلو إمّا أن يكون لابثا فيه ، أو منتقلا عنه ، والأوّل الساكن ، والثاني المتحرّك ، وقد مضى ذكر هذا.

__________________

(١) في «س» : (وأجاب).

١٣٩

قال :

قوله : يجوز حدوث كلّ فرد ونمنع حدوث الكلّ أو الكلّيّ. قلنا : محال فإنّ (١) الكلّ متقوّم (٢) بالأجزاء والكلّيّ معدوم (٣) بدون (٤) الشخص.

أقول :

هذا جواب عن قوله : لم لا يجوز أن يكون كلّ فرد فرد حادثا (٥) والمجموع ليس بحادث ، أو الكلّيّ وهو نوع الحركة من حيث هو هو ليس بحادث؟

وتقرير الجواب : أنّه يلزم من حدوث كلّ فرد حدوث الكلّ المجموعي (٦) ، وحدوث الكلّيّ (٧) النوعي. أمّا الأوّل فلأنّ الكلّ متقوّم بالأجزاء ويستحيل وجود المركّب بدون أجزائه ، فإذا كانت أجزاؤه حادثة كان المركّب منها (٨) وهو الكلّ المجموعي (٩) بالضرورة حادثا. وأمّا الثاني فلأنّ (١٠) الكلّيّ (١١) النوعي يستحيل وجوده في الخارج من حيث هو هو بل لا بدّ له (١٢) من شخص في الخارج يوجد في

__________________

(١) في «ج» «ر» «ف» : (لأنّ).

(٢) في «ج» «ف» : (يتقوّم).

(٣) في «ج» : (ينعدم).

(٤) في «س» : (دون).

(٥) في «أ» «ب» : (حادث).

(٦) في «أ» : (الكليّ المجموع) ، وفي «ب» : (الكلّي المجموعي) بدل من : (الكلّ المجموعي).

(٧) في «س» : (الكل).

(٨) في «ب» : (منهما).

(٩) في «أ» : (الكلّي المجموع) ، وفي «ب» : (الكلّي المجموعي) بدل من : (الكلّ المجموعي).

(١٠) في «د» : (فإنّ).

(١١) في «س» : (الكل).

(١٢) (له) ليست في «د».

١٤٠