كتاب القضاء والقدر

أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي

كتاب القضاء والقدر

المؤلف:

أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي


المحقق: محمّد بن عبدالله آل عامر
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مكتبة العبيكان
الطبعة: ١
ISBN: 9960-20-621-1
الصفحات: ٤٤٥

المبحث الثامن

تلاميذه :

بعد أن عكف البيهقي السنين الطويلة بقريته وهو يصنف كتبه رحل إلى «نيسابور» وأقام بها مدة وحدث بتصانيفه ، وتكررت هذه الرحلات مرّات عديدة ، وفي كل مرّة كانت تعقد له المجالس لسماع الكتب ، وكان يحضرها الأئمة والفقهاء ويتكاثر عليه فيها الطلبة ، واستمر ذلك حتى آخر حياته ، قال الذهبي : «قدم قبل موته بسنة أو أكثر إلى نيسابور وتكاثر عليه الطلبة وسمعوا منه كتبه» (١).

وإذ يتعذر مع ذلك محاولة حصر تلاميذه ، فإنّي سأقتصر على أشهر أولئك التلاميذ ومنهم :

١ ـ ولده أبو علي إسماعيل بن أحمد بن الحسين البيهقي ولد سنة ثمان وعشرين وأربعمائة وتوفي سنة سبع وخمسمائة (٢). وصفه الذهبي ب «الفقيه الإمام ، شيخ القضاة».

٢ ـ وحفيده أبو الحسن عبيد الله بن محمد بن أحمد بن الحسين بن البيهقي ، ولد سنة تسع وأربعين وأربعمائة ومات سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة. وصفه الذهبي ب «الشيخ المسند» (٣).

٣ ـ عبد الجبار بن عبد الوهاب بن عبد الله بن محمد بن الدهّان ، النيسابوريّ ، أبو الحسن. قال السمعاني : «شيخ ثقة ، من أهل الخير والأمانة» (٤).

__________________

(١) «سير أعلام النبلاء» (١٨ / ١٦٨).

(٢) انظر : «التحبير» (١ / ٨٣ ـ ٨٥) و «سير أعلام النبلاء» (١٩ / ٣١٣).

(٣) انظر : «ميزان الاعتدال» (٣ / ١٥) ، و «سير أعلام النبلاء» (١٩ / ٥٠٣) ، و «شذرات الذهب» (٤ / ٦٧).

(٤) انظر : «التحبير» (١ / ٤٣٠) ، و «سير أعلام النبلاء» (٢ / ٤٦).

٤١

٤ ـ عبد الجبار بن معمر بن أحمد الخوارى البيهقي ، أبو محمد ولد سنة خمس وأربعين وأربعمائة ، وتوفي سنة ست وثلاثين وخمسمائة. وصفه الذهبي ب «الشيخ ، الإمام ، المفتي ، المعمّر الثقة» (١).

٥ ـ عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد ، البحيرى النيسابوريّ ، أبو بكر ، ولد سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة ومات سنة أربعين وخمسمائة. وصفه الذهبي ب «الشيخ الثقة ، الصالح ، مسند نيسابور» (٢).

٦ ـ عبد الرحيم بن عبد الكريم بن هوازن القشيري النّيسابوري أبو نصر توفي سنة أربع عشرة وخمسمائة. وصفه الذهبي ب «الشيخ ، الإمام ، المفسّر ، العلامة» (٣).

٧ ـ عبد المنعم بن عبد الكريم بن هوازن القشيري ، النّيسابوري ، أبو المظفر ، ولد سنة خمس وأربعين وأربعمائة ، وتوفي سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة. وصفه الذهبي ب «الشيخ ، الإمام ، المسند المعمّر» (٤).

٨ ـ محمد بن الفضل بن أحمد بن أحمد بن أبي العبّاس الصّاعدي ، الفراوي ، النيسابوري أبو عبد الله توفي سنة ثلاثين وخمسمائة. وصفه الذهبي ب «الشيخ ، الإمام ، الفقيه ، المفتي ، مسند خراسان ، فقيه الحرم» (٥).

__________________

(١) انظر : «الأنساب» (٥ / ١٩٦) ، و «التحبير» (١ / ٤٢٣) ، و «سير أعلام النبلاء» (٢٠ / ٧١) ، و «شذرات الذهب» (٤ / ١١٣).

(٢) انظر : «التحبير» (١ / ٣٩٤) ، و «سير أعلام النبلاء» (٢٠ / ٥٦) ، و «شذرات الذهب» (٤ / ١٢٥ ، ١٢٦)

(٣) انظر : «وفيات الأعيان» (٢ / ٣١٠ ـ ٣١٢) ، و «سير أعلام النبلاء» (١٩ / ٤٢٤) ، و «شذرات الذهب» (٤ / ٤٥).

(٤) انظر : «الأنساب» (١٠ / ١٥٦) ، و «سير أعلام النبلاء» (١٩ / ٦٢٣) ، و «شذرات الذهب» (٤ / ٩٩).

(٥) انظر : «وفيات الأعيان» (٤ / ٢٩٠) ، و «سير أعلام النبلاء» (١٩ / ٦١٥) ، و «الوافي بالوفيات» (٤ / ٤٢٣).

٤٢

المبحث التاسع

وفاته :

في العاشر من شهر جمادى الأولى سنة ثمان وخمسين وأربعمائة مات «البيهقيّ» ـ بنيسابور ـ عن أربع وسبعين سنة ، وذلك بعد مرض ألم به.

وهذا التاريخ هو ما اتفقت عليه سائر المصادر إلّا ما تفرد به «ياقوت الحمويّ» فقال : توفي سنة أربع وخمسين وأربعمائة (١) ، وما ذكره «ابن الأثير» (٢) و «ابن تغري بردي» (٣) من أن وفاته كانت في جمادى الآخرة. قال الذهبي : «فغسّل وكفّن ، وعمل له تابوت ، فنقل ودفن ب «بيهق» (٤).

__________________

(١) مصادر ترجمته : «معجم البلدان» (١ / ٥٣٨).

(٢) «الكامل في التاريخ» (١٠ / ٥٢).

(٣) «النجوم الزاهرة» (٥ / ٧٧).

(٤) «السير» (١٨ / ١٦٣) ، مصادر ترجمته «المنتخب من السياق لتاريخ نيسابور» (رقم ٢٣١) ، و «الأنساب» (٢ / ٣٨١) ، و «تبين كذب المفتري» (٢٦٥ ـ ٢٦٧) ، و «التقييد» (١ / ١٤٧) و «المنتظم» (٨ / ٢٤٢) ، و «معجم البلدان» (١ / ٥٣٨ و ٢ / ٣٧٠) ، و «طبقات علماء الحديث» (٣ / ٣٢٩) ، و «الكامل في التاريخ» (١٠ / ٥٢) ، و «وفيات الأعيان» (١ / ٧٥ ، ٧٦) ، و «اللباب» (١ / ٢٠٢) ، و «سير أعلام النبلاء» (١٨ / ١٦٣) ، و «العبر» (٢ / ٣٠٨) ، و «تذكرة الحفاظ» (٣ / ١١٣٢ ـ ١١٣٥) ، و «الوافي بالوفيات» (٦ / ٣٥٤) ، و «طبقات الشافعية الكبرى» (٤ / ٨ ـ ١٦) ، و «البداية والنهاية» (١٢ / ١٠٠) ، و «مرآة الجنان» (٣ / ٨٢) ، و «النجوم الزاهرة» (٥ / ٧٧ ، ٧٨) ، و «شذرات الذهب» (٣ / ٣٠٤) وقد أفرد له السخاوي ترجمة باسم : «القول المرتقى في ترجمة البيهقي» كما في «فهرس الفهارس» (٢ / ٩٩٠).

٤٣
٤٤

الفصل الثاني

في دراسة الكتاب

وفيه مباحث :

المبحث الأول : في موضوع الكتاب

المبحث الثاني : في اسم الكتاب

المبحث الثالث : في توثيق نسبة الكتاب إلى المصنف

المبحث الرابع : في وصف النسخة المعتمدة في الإخراج

المبحث الخامس : في منهجي في الإخراج

٤٥
٤٦

المبحث الأول

موضوع الكتاب

تمهيد :

لم يزل الناس في حياة رسولنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم يؤمنون بالقدر خيره وشره حلوه ومره ، وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، وما لم يكن لو كان كيف سيكون ، وأنّ الله قدر الأشياء في القدم ، وعلم سبحانه أنّها ستقع في أوقات معلومة عنده ، وعلى صفات مخصوصة وكتب ذلك في اللوح المحفوظ ، وأنّه شاء وأراد وقوعها ، ويؤمنون أن العباد فاعلون حقيقة لأفعالهم ولهم قدرة عليها ولهم إرادة ، والله خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم كما قال تعالى : (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (١) (٢).

وعلى ذلك استقام الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ في حياته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبعد مماته.

قال العلامة ابن قيم الجوزية ـ رحمه‌الله تعالى ـ «ثم تلاه أصحابه من بعده على نهجه المستقيم ، وطريقه القويم ، فجاءت كلماتهم كافية شافية مختصرة نافعة لقرب العهد ومباشرة التلقي من تلك المشكاة التي هي مظهر كل نور ، ومنبع كل خير ، وأساس كل هدى» (٣).

ثم سلك آثارهم التابعون لهم بإحسان ، فاقتفوا طريقهم وركبوا منهاجهم ، واهتدوا بهداهم ، ودعوا إلى ما دعوا إليه ، ومضوا على ما كانوا عليه».

__________________

(١) سورة التكوير ، الآية رقم (٢٨ ، ٢٩).

(٢) انظر : «الواسطية» (ص ٧٠) ، و «شفاء العليل» (ص ١٨).

(٣) «شفاء العليل» (ص ١٨).

٤٧

قال الإمام طاوس بن كيسان (ت ١٠٦ ه‍) أحد أعلام التابعين : أدركت ثلاثمائة من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقولون : «كل شيء بقدر» (١).

وفي عهد التابعين وأواخر عهد الصحابة ، ظهر رجل يدعى معبد بن عبد الله بن عويمر (٢) ـ ويقال : ابن عكيل الجهني وقيل في نسبه غير ذلك ـ وزعم أنّ الأمر أنف ، وأنّ الله لم يقدّر شيئا ، بل ولا يعلم الأشياء قبل حدوثها. تعالى الله عمّا يقولون علوا كبيرا.

وكان معبد الجهني قد أخذ هذه المقالة الخبيثة الكافرة من رجل نصراني يدعى «سنسويه البقال» (٣) ـ وقيل : «سوسن» ـ وكان نصرانيا فأسلم ثم إنّه تنصر فأخذ عنه معبد هذه المقالة (٤).

قال عبد الله بن عون (ت ١٣٢ ه‍) ـ أحد أعلام التابعين ـ : أدركت الناس وما يتكلمون إلّا في علي وعثمان حتى نشأها هنا حقير يقال له : سنسويه البقال (٥). وقال يونس بن عبيد (ت ١٣٩ ه‍) ـ أحد أعلام التابعين ـ : أدركت البصرة وما بها قدريّ إلّا سنسويه ، ومعبد الجهني وآخر ملعون من بني عوافة (٦).

والتفّت حول «معبد» فرقة من أبناء اليهود والنصارى ، وأنباط العراق.

__________________

(١) «شرح أصول اعتقاد أهل السنّة» للالكائي (٣ / ٥٣٥).

(٢) انظر في ترجمته : «السير» (٤ / ١٨٥) ، و «ميزان الاعتدال» (٤ / ١٤١).

(٣) لم أجد له ترجمة سوى ما ذكره المقريزي : «أبو يونس» سنسويه ويعرف بالأسواري ، لمّا عظمت الفتنة به عذبه الحجاج ، وصلبه بأمر عبد الملك بن مروان «الخطط» (٣ / ٢٠٢) وما أخشاه هو أن يكون اختلط على المقريزي فإنّ الذي عظمت الفتنة به وعذبه الحجاج وصلبه بأمر عبد الملك بن مروان هو تلميذه معبد الجهني وسيأتي ذكر ذلك.

(٤) «شرح أصول اعتقاد أهل السنّة» (٣ / ٧٥٠).

(٥) «شرح أصول اعتقاد أهل السنّة» (٣ / ٧٤٩).

(٦) «شرح أصول اعتقاد أهل السنّة» (٣ / ٧٤٩).

٤٨

يقول الإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري : حدثني أبو خيثمة زهير بن حرب ، حدثنا وكيع ، عن كهمس ، عن عبد الله بن بريدة ، عن يحيى بن يعمر ح.

وحدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري ـ وهذا حديثه ـ حدثنا أبي ، حدثنا كهمس ، عن ابن بريدة ، عن يحيى بن يعمر قال : كان أوّل من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجّين أو معتمرين ، فقلنا : لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألناه عمّا يقول هؤلاء في القدر فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلا المسجد فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إليّ فقلت أبا عبد الرحمن إنّه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن ، ويتقفرون العلم وذكر من شأنهم وأنّهم يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف ، قال : فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أنّي بريء منهم ، وأنّهم براء منّي ، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم أحدا ذهبا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر (١).

ويقول التابعي الجليل ، عطاء بن أبي رباح قال : أتيت ابن عباس وهو ينزع في زمزم قد ابتلت أسافل ثيابه فقلت : قد تكلم في القدر فقال : أو قد فعلوها؟ فقلت : نعم ، قال : فو الله ما نزلت هذه الآية إلّا فيهم (ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) أولئك شرار هذه الأمة ، لا تعودوا مرضاهم ، ولا تصلوا على موتاهم ، إن أريتني أحدهم فقأت عينيه بإصبعي هاتين» (٢).

وهكذا أنكر هذه المقالة من تبقى من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحكموا بكفر أصحابها ، بل وأوصوا أن لا يسلم عليهم ، ولا يصلى على جنائزهم ، ولا يعاد مرضاهم (٣).

__________________

(١). (١ / ١٥٠).

(٢) سورة القمر ، الآية رقم (٤٨ ، ٤٩).

(٣) «شرح أصول اعتقاد أهل السنّة» (٣ / ٥٤١).

٤٩

ولم يطل الأمر بمعبد حتى أخذه الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان بن الحكم (ت ٨٦ ه‍) فصلبه في هذه المقالة ، ثم قتله ، وكان ذلك بدمشق عام ثمانين من الهجرة ، وقيل : إنّما عذبه عذابا عظيما إثر خروجه مع ابن الأشعث.

وأيّا ما كان فإنّ المقالة لم تمت بموته ، إذ أخذها عنه غيلان بن مسلم (١) ، وكان قبل ذلك ممن عرف بالمجون ، ثم إنّه صار من أصحاب الحارث الكذاب المتنبي وخدم امرأته وزعم أنّها أم المؤمنين ، ثم تحول داعية إلى هذه المقالة!!

وبلغ الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز أنّ غيلان يقول في القدر ؛ فبعث إليه فحجبه أياما ثم أدخله عليه فقال : يا غيلان! ما هذا الذي بلغني عنك؟!. فسكت ، فقال : هات فإنّك آمن فإن يك الذي تدعو الناس إليه حقا فأحق من دعا إليه الناس نحن. فتكلم فقال : إنّ الله لا يوصف إلّا بالعدل ولم يكلف نفسا إلّا ما آتاها ولم يكلف المسافر صلاة المقيم ، ولم يكلف الله المريض عمل الصحيح ، ولم يكلف الفقير مثل صدقة الغني ، ولم يكلف الله الناس إلّا ما جعل إليه السبيل وأعطاهم المشيئة فقال : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) (٢) وقال : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) (٣) فلمّا فرغ من كلام كثير قال له عمر : يا غيلان! إنك إن أقررت بالعلم خصمت وإن جحدته كفرت ، وإنّك إن تقرّ به فتخصم خير لك من أن تجحده فتكفر ، ثم قال له : أتقرأ ياسين؟ فقال : نعم ، قال : اقرأ. قال : فقرأ : (يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) إلى قوله : (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٤) قال : قف. كيف ترى؟ قال : كأنّى لم أقرأ هذه الآية يا أمير المؤمنين قال : زد ، فقرأ : (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ

__________________

(١) انظر في ترجمته : «الضعفاء» للعقيلي (٣ / ٤٣٨) ، و «المجروحين» لابن حبان (٢ / ٢٠٠) ، و «ميزان الاعتدال» (٣ / ٣٣٨) ، و «لسان الميزان» (٤ / ٤٢٤) ، وقد استوعب أخباره ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (١٤ / ١٨١ ـ ١٩٣).

(٢) سورة الكهف ، الآية رقم (٢٩).

(٣) سورة فصلت ، الآية رقم (٤٠).

(٤) سورة يس ، الآية رقم (٧).

٥٠

سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا) فقال له عمر قل : (سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (١) قال : كيف ترى؟ قال : كأنّي لم أقرأ هذه الآيات قط وإنّي أعاهد الله أن لا أتكلم في شيء مما كنت أتكلم فيه أبدا. فقال عمر : اللهم إن كان صادقا ، فثبته وإن كان كاذبا فاجعله آية للمؤمنين.

فلم يتكلم زمن عمر ، فلمّا كان يزيد بن عبد الملك (ت ١٠٥ ه‍) وكان رجلا لا يهتم بهذا ولا ينظر فيه تكلم غيلان ، فلمّا تولى الخلافة هشام بن عبد الملك (ت ١٢٥ ه‍) أرسل إليه فقال له : أليس قد كنت عاهدت الله لعمر لا تتكلم في شيء من هذا أبدا ، قال : أقلني فو الله لا أعود قال : لا أقالني الله إن أقلتك هل تقرأ فاتحة الكتاب؟ قال : نعم ، قال : اقرأ الحمد لله رب العالمين ، فقرأ : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) قال : قف ، علام استعنته؟ على أمر بيده لا تستطيعه أو على أمر في يدك؟ اذهبا فاقطعا يديه ورجليه واضربا عنقه واصلباه ، وجاء أن هشاما أرسل إلى الأوزاعي فناظره وأفتى بقتله.

وقيل : إنّه قطع يده في المرة الأولى ثم أطلقه ، فمر به رجل والذباب على يده ، فقال له : يا غيلان! هذا قضاء وقدر ، فقال : كذبت ، لعمر الله ما هذا قضاء ولا قدرا ، فبعث إليه آنذاك هشام وقتله (٢).

وما كان هذا من هشام مع ما عرف به من ورع شديد على الدماء ـ حتى إنّه غضب مرة على رجل فقال له : اسكت وإلّا ضربتك سوطا (٣) ـ إلّا لبشاعة المقالة التي أظهرها غيلان ومن سبقه.

__________________

(١) سورة يس ، الآية رقم (٩ ، ١٠).

(٢) انظر في الخبر «السنّة» لعبد الله بن أحمد (٢ / ٤٢٩) ، و «القدر» للفريابي (رقم ٢٨٣) و «أخبار عمرو بن عبيد» للدار قطني (٢٠ ، ٢١) ، و «شرح أصول اعتقاد أهل السنّة» (٣ / ٧١٢ ـ ٧١٧) ، و «تاريخ دمشق» لابن عساكر (١٤ / ١٨٤ ـ ١٨٦).

(٣) «البداية والنهاية» لابن كثير (١٠ / ٤٠٦).

٥١

ولذا استحسن علماء الإسلام آنذاك ما فعله الخليفة ، وكان منهم رجاء بن حياة (ت ١١٢ ه‍) ـ أحد أعلام التابعين ـ الذي كتب للخليفة فقال : «بلغني أنّه دخلك من قتل غيلان وصالح ، فأقر بالله لقتلهما أفضل من قتل ألفين من الترك والديلم» (١).

ولكنّ المقالة لم تمت بموت معبد وغيلان إذ كانت قد فشت في أبناء اليهود والنصارى وأنباط العراق وأبناء السبايا.

وكان من أبناء السبايا واصل بن عطاء المخزوميّ مولاهم (٢) (ت ١٢٩ ه‍) وقرينه في الضلالة عمرو بن عبيد بن باب (ت ٢٤١ ه‍) (٣) اللذان طردهما التابعيّ الجليل الحسن بن أبي الحسن البصري من مجلسه بعد أن أحدثا بدعة أخرى لم يقل بها أحد ممن ينسب إلى الإسلام قبلهما ، وهي بدعة «المنزلة بين المنزلتين» وكانا قد أخذا بدعة «جهم بن صفوان» (٤) في نفي الصفات ، وبدعة الخوارج في الطعن على أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فضما هذه البدعة «نفي القدر» إلى أصولهم العقدية ؛ فتم لهم بذلك خمسة أصول عقدية ، هي ما أجمع عليه المعتزلة بعدهما.

ولكنّ المعتزلة هذبت هذه المقالة حتى تقبل وتلقى رواجا ـ فأقرت بعلم الله السابق للأشياء ، ثم أنكرت أن الله خالق أفعال العباد ، وزعمت أن العباد هم الذين يخلقون أفعالهم ، فأثبتوا خالقين ، كقول المجوس فكانوا كما قيل : مجوس هذه الأمة (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) (٥) إذ قال المجوس بأصلين هما : النور والظلمة ، وزعموا أن الخير من فعل النور ، والشر من فعل

__________________

(١) «شرح أصول اعتقاد أهل السنّة» (٣ / ٧١٧).

(٢) انظر في ترجمته : «ميزان الاعتدال» (٤ / ٣٢٩).

(٣) انظر في ترجمته : «أخبار عمرو بن عبيد» للدار قطني و «تاريخ بغداد» (١١ / ١٦٦).

(٤) أسّ كل البليات ، ورأس كل الضلالات ، وسنأتي على ذكره.

(٥) سورة البقرة ، الآية رقم (١١٨).

٥٢

الظلمة. وكذلك القدرية ، يضيفون الخير إلى الله ، والشر إلى غيره ، والله ـ سبحانه وتعالى ـ خالق الخير والشر ، لا يكون شيء منهما إلّا بمشيئته.

وعلى الضد والنقيض لهذه المقالة ، مقالة القدرية ـ كانت قد ظهرت مقالة أخرى مقابلة لها في التطرف ، وهي مقالة «الجبرية» الذين نفوا فعل العبد وقدرته واختياره ، وزعمت أن حركته الاختيارية كحركة الأشجار عند هبوب الرياح وكحركات الأمواج ، وأنّه على الطاعة والمعصية مجبور ، وأنه غير ميسّر لما خلق له ، بل هو عليه مقسور مجبور (١).

وكانت هذه المقالة قد أظهرها الجعد بن درهم الخرساني (٢) مع عدد من المقالات الأخرى ، كقوله بخلق القرآن ، وتعطيله لأسماء الله وصفاته ، بل كان أوّل من حفظ عنه ذلك (٣).

ويذكر علماء السلف أن الجعد أخذ بدعته عن أبان بن سمعان ، وأن أبان بن سمعان أخذها عن طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم وزوج ابنته ، وأخذها طالوت من لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر الذي سحر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنه أخذها عن يهودي باليمن لا يعرف (٤).

وكان الجعد آنذاك بدمشق ، ثم إنّه هرب منها حين طلبته خلفاء بني أمية لبعض مقالاته وسكن الكوفة فلقيه هناك «الجهم بن صفوان بن محرز الراسبي مولاهم السمرقندي ، فتقلد منه مقالاته ، ثم إن الأمير خالد بن عبد الله القسري (ت ١٢٦ ه‍) تمكن من الجعد فقتله ذبحا بواسط صباح يوم عيد الأضحى من عام أربع وعشرين ومائة».

فعن حبيب بن أبي حبيب قال : خطبنا خالد بن عبد الله القسري بواسط يوم الأضحى فقال : «أيّها الناس! ارجعوا فضحوا تقبل الله منّا

__________________

(١) «شفاء العليل» (ص ١٩).

(٢) انظر ترجمته في «ميزان الاعتدال» (١ / ٣٩٩).

(٣) «الفتوى الحموية» (ص ١٣).

(٤) «مجموع الفتاوى» (٥ / ٢٠) ، و «البداية والنهاية» (٩ / ٤٠٥).

٥٣

ومنكم ، فإنّي مضح بالجعد بن درهم ، إنّه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ، ولم يكلم موسى تكليما ، وتعالى الله عمّا يقوله الجعد بن درهم علوا كبيرا ، ثم نزل فذبحه في أصل المنبر» (١).

لكنّ قوله بالجبر لم يشتهر إلّا عن تلميذه الجهم بن صفوان الذي لم تختلف نهايته العادلة عن شيخه ، إذ انضم إلى الحارث بن سريج التميميّ حين خرج على والي خراسان نصر بن يسار فاتخذه الحارث كاتبا له ، فكان يخطب بدعوته وسيرته فيجذب الناس إليه ، ثمّ إنّه وقع في الأسر لمّا انهزم الحارث أمام سلم بن أحوز صاحب شرطة نصر بن سيار فقتله سنة ثمان وعشرين ومائة ـ بمرو ـ بعد أن نشر مقالاته الخبيثة وزرع شرا عظيما (٢).

ولم ينته المطاف حتى جاء أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري (ت ٣٢٤ ه‍) ـ ومن تبعه ـ وزعم أنّه سينصر السنّة ، ويثبت القدر ، ويرد على أهل البدع فقال : ب «الكسب» وهو يروم مسلكا وسطا بين «القدرية» و «الجبرية» ولم يرد معنى الكسب عند أهل السنّة ولا معناه عند «القدرية» ، فكان كما يصفه العلامة ـ ابن قيم الجوزية ـ «لفظ لا معنى له ولا حاصل تحته» (٣).

وأضحى ما قاله أبو الحسن الأشعري في هذا الباب محلّ سخرية الناس حتى قيل : ثلاثة أشياء لا حقيقة لها ، طفرة النظام ، وأحوال أبي هاشم ، وكسب الأشعري (٤).

الأمر الذي اضطربت معه أقوال اتباعه واختلفت حتى ذهب كل منهم إلى رأي وفرّ إلى قول ؛ لما رأوا ما في هذا القول من التناقض (٥).

__________________

(١) «الرد على الجهمية» للدارميّ (ص ١٧).

(٢) انظر «ميزان الاعتدال» (١ / ٤٢٦) ، و «السير» (٦ / ٢٦) ، و «لسان الميزان» (٢ / ١٤٢).

(٣) «شفاء العليل» (ص ٣١٣) وانظر في مرادهم بالكسب ما سيأتي في المطلب الرابع من مبحث مراتب القدر.

(٤) «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٨ / ١٢٨).

(٥) «مجموع الفتاوى» (٨ / ١٢٨).

٥٤

ولم يقف الأمر عند ذلك ، بل تبعه خلاف مرير ودقيق بين أصحاب كل مذهب من المذاهب المتقدمة الذكر أدى إلى انقسامها إلى عشرات الأقسام كل قسم يكفر الآخر أو يضلله. (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ).

يقول العلامة ابن قيم الجوزية ـ رحمه‌الله ـ واصفا ذلك كله «وقد سلك جماهير العقلاء في هذا الباب في كل واد ، وأخذوا في كل طريق ، وتولجوا كلّ مضيق ، وركبوا كل صعب وذلول ، وقصدوا الوصول إلى معرفته ، والوقوف على حقيقته ، وتكلّمت فيه الأمم قديما وحديثا ، وساروا للوصول إلى مغزاه سيرا حثيثا ، وخاضت فيه الفرق على تباينها واختلافها ، وصنّف فيه المصنفون الكتب على تنوع أصنافها. فلا أحد إلّا وهو يحدّث نفسه بهذا الشأن ، ويطلب الوصول فيه إلى حقيقة العرفان ، فتراه إما مترددا فيه مع نفسه ، أو مناظرا لبني جنسه ، وكل قد اختار لنفسه قولا لا يعتقد الصواب في سواه ، ولا يرتضي إلا إياه. وكلهم ـ إلّا من تمسك بالوحي ـ عن طريق الصواب مردود ، وباب الهدى في وجهه مسدود ، تحسّى علما غير طائل ، وارتوى من ماء آسن ، قد طاف على أبواب الأفكار ، ففاز بأخسّ الآراء والمطالب ، فرح بما عنده من العلم الذي لا يسمن ولا يغني من جوع ، وقدّم آراء من أحسن به الظنّ على الوحي المنزل المشروع ، والنصّ المرفوع ، حيران يأتم بكل حيران ، يحسب كلّ سراب شرابا ، فهو طول عمره ظمآن ، ينادى إلى الصواب من مكان بعيد ، أقبل إلى الهدى ، فلا يستجيب إلى يوم الوعيد ، قد فرح بما عنده من الضلال ، وقنع بأنواع الباطل وأصناف المحال ، منعه الكفر الذي اعتقده هدى وما هو ببالغه عن الهداة المهتدين ، ولسان حاله أو قاله يقول : (أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) (١) ولمّا كان الكلام في هذا الباب نفيا وإثباتا موقوفا على الخبر على أسماء الله وصفاته وأفعاله وخلقه وأمره ، فأسعد الناس بالصواب فيه من تلقى ذلك من مشكاة الوحي المبين

__________________

(١) سورة الأنعام ، الآية رقم (٥٣).

٥٥

ورغب بعقله وفطرته وإيمانه عن آراء المتهوكين ، وتشكيكات المشككين ، وتكلفات المتنطعين ، واستمطر ديم الهداية من كلمات أعلم الخلق برب العالمين ، فإن كلماته الجوامع النوافع في هذا الباب وفي غيره كفت وشفت وجمعت وفرقت وأوضحت وبينت وحلّت محلّ التفسير والبيان لما تضمنه القرآن» (١).

ولذا ذكرت فيما يأتي عقيدة أهل السنّة والجماعة في باب القضاء والقدر مختصرا ، ومن خلال ما كتبه أئمة أهل السنّة والجماعة ، مدلالا بما ذكروه من أدلة الكتاب والسنّة ، وقسمته إلى مطالب :

المطلب الأول : في تعريف القضاء والقدر.

المطلب الثاني : في مجمل عقيدة أهل السنّة في القدر.

المطلب الثالث : في مراتب القدر.

المطلب الرابع : في خلق أفعال العباد.

__________________

(١) «شفاء العليل» (ص ١٧ ، ١٨).

٥٦

المطلب الأول

تعريف القضاء والقدر

أولا : معنى القضاء لغة :

هو بالمد ، ويقصر : قضاي ، فلمّا جاءت الياء بعد ألف زائدة متطرفة همزت ، وجمعه أقضية.

قال ابن فارس : «القاف والضاد والحرف المعتل أصل صحيح يدل على إحكام أمر وإتقانه وإنفاذه لجهته» (١) ، وهو يأتي على وجوه «مرجعها إلى انقطاع الشيء وتمامه» (٢).

ثانيا : معنى القدر لغة :

القدر في اللغة «مصدر قدر يقدر قدرا وقد تسكن داله» (٣).

قال ابن فارس : «القاف والدال والراء أصل صحيح يدل على مبلغ الشيء وكنهه ونهايته ، فالقدر مبلغ كل شيء ، يقال : قدره كذا أي مبلغه ، وكذلك القدر ، وقدرت الشيء أقدره وأقدره وأقدره من التقدير» (٤).

والقدر محركة : القضاء والحكم ، وهو ما يقدره الله عزوجل ـ من القضاء ، ويحكم به من الأمور.

والتقدير : التروية والتفكير في تسوية أمر ، والقدر كالقدر ، وجميعها جمعها أقدار (٥).

__________________

(١) «معجم مقاييس اللغة» (٥ / ٩٩).

(٢) «النهاية» (٤ / ٧٨) وانظر مادة «قضى» في «لسان العرب» (١٥ / ١٨٦) و «تاج العروس» (١٠ / ٢٩٦) وغيرهما.

(٣) «النهاية» (٤ / ٢٢).

(٤) «معجم مقاييس اللغة» (٥ / ٦٢).

(٥) انظر : «لسان العرب» (٥ / ٧٢) مادة قدر ، و «القاموس المحيط» (٥٩١) مادة قدر ، و «الصحاح» (٢ / ٧٨٦).

٥٧

ثالثا : معنى القضاء والقدر شرعا : هو تقدير الله تعالى الأشياء في القدم ، وعلمه سبحانه أنّها ستقع في أوقات معلومة عنده ، وعلى صفات مخصوصة ، وكتابته ـ سبحانه ـ لذلك ومشيئته له ، ووقوعها على حسب ما قدّرها وخلقه لها (١).

__________________

(١) «العقيدة الواسطية» (ص ١٦٤ ـ ١٧٥) ، و «شفاء العليل» (ص ٢٩).

٥٨

المطلب الثاني

مجمل عقيدة أهل السنّة في باب القدر

قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه‌الله ـ مجملا مذهب أهل السنّة والجماعة في هذا الباب ما يلي : «مذهب أهل السنّة والجماعة في هذا الباب وغيره ما دل عليه الكتاب والسنّة ، وكان عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ، والذين اتبعوهم بإحسان ، وهو أن الله خالق كل شيء وربه ، ومليكه ، وقد دخل في ذلك جميع الأعيان القائمة بأنفسها ، وصفاتها القائمة بها ، من أفعال العباد ، وغير أفعال العباد.

وأنه ـ سبحانه ـ ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، فلا يكون في الوجود شيء إلّا بمشيئته ، وقدرته ، لا يمتنع عليه شيء شاءه ، بل هو قادر على كل شيء ، ولا يشاء شيئا إلا وهو قادر عليه ، وأنه ـ سبحانه ـ يعلم ما كان ، وما يكون ، وما لم يكن لو كان كيف يكون.

وقد دخل في ذلك أفعال العباد وغيرها ، وقد قدّر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم ، قدّر آجالهم ، وأرزاقهم وأعمالهم ، وكتب ذلك ، وكتب ما يصيرون إليه من سعادة وشقاوة ، فهم يؤمنون بخلقه لكل شيء ، وقدرته على كل شيء ، ومشيئته لكل ما كان ، وعلمه بالأشياء قبل أن تكون ، وتقديره لها ، وكتابته إياها قبل أن تكون» (١).

والأدلة على هذا من الكتاب والسنّة وكلام سلف الأمة مما لا يحصى إلّا بمشقة.

ويمكن تقسيم الأدلة إلى ثلاثة أقسام :

أولا : الأدلة العامة من القرآن الكريم.

__________________

(١) «مجموع الفتاوى» (٨ / ٤٤٩ ، ٤٥٠).

٥٩

ثانيا : الأدلة العامة من السنّة النبوية.

ثالثا : الأدلة التفصيلية لكل مرتبة من مراتب القدر.

أولا : الأدلة العامة من القرآن الكريم.

الأدلة العامة من القرآن الكريم على وجوب الإيمان بالقضاء والقدر كثيرة ، أذكر منها :

١ ـ قوله تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (١).

قال ابن كثير ـ رحمه‌الله ـ يستدل بهذه الآية الكريمة أئمة السنة على إثبات قدر الله السابق لخلقه ، وهو علمه الأشياء قبل كونها ، وكتابته لها قبل برئها (٢).

٢ ـ وقوله تعالى : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً) (٣).

ثانيا : الأدلة العامة من السنّة.

الأدلة من السنّة على وجوب الإيمان بالقضاء والقدر كثيرة جدا ، أقتصر منها على : ما يلي :

١ ـ حديث جبريل المشهور وفيه : «قال : فأخبرني عن الإيمان قال : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره ، قال : صدقت .. الحديث» (٤).

٢ ـ حديث علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع : يشهد أن لا إله إلّا الله ، وأني محمد رسول الله بعثني بالحق ، ويؤمن بالموت ، وبالبعث بعد الموت ، ويؤمن بالقدر» (٥).

ثالثا : الأدلة التفصيلية.

وستأتي في المطلب التالي.

__________________

(١) سورة القمر ، الآية رقم (٤٩).

(٢) تفسير القرآن العظيم ، لابن كثير (٧ / ٤٥٧).

(٣) سورة الأحزاب ، الآية رقم (٣٨).

(٤) أخرجه مسلم في «كتاب الإيمان» (١).

(٥) أخرجه الترمذي في «الجامع الصحيح» (٢١٤٤) باب : ما جاء في الإيمان بالقدر خيره وشره من كتاب القدر.

٦٠