الطّرائف في معرفة مذاهب الطوائف

السيّد رضي الدين أبو القاسم علي بن موسى بن جعفر بن طاووس الحسني الحلّي [ السيّد بن طاووس ]

الطّرائف في معرفة مذاهب الطوائف

المؤلف:

السيّد رضي الدين أبو القاسم علي بن موسى بن جعفر بن طاووس الحسني الحلّي [ السيّد بن طاووس ]


الموضوع : الفرق والمذاهب
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٣

الحميدي في الحديث الثامن من مسند عمر ، فإذا كان القرب من الأنبياء هو سبب استحقاق الخلافة والإمامة ، فكيف استجازوا استخلاف أبي بكر وتركوا العباس وعليا وغيرهما من بني هاشم ، وبنو هاشم أقرب إلى نبيهم من بني تيم وعدي ، وقد تقدم في رواية أحمد بن حنبل وغيره أن بني هاشم أفضل ، فكيف صار الأقرب الأفضل أقل منزلة من الأبعد الأرذل.

ومن طرائف أمورهم ومناقضاتهم أن خليفتهم أبا بكر يظهر عنه وعن أتباعه أنهم يعتقدون إن رأيهم وتدبيرهم أكمل من رأي نبيهم وتدبيره ، لأنهم يذكرون أن نبيهم رأى المصلحة في ترك النص على خليفة المسلمين ، وأبو بكر وأتباعه رأوا أن المصلحة في النص على عمر وتعيين خلافته على المسلمين ، ثم إن خليفتهم حيث استصوب مخالفة نبيهم في ترك النص أقدم أيضا واستصوب مخالفة أتباعه في أن الإمامة باختيار الأمة ، وانفرد هو وحده باختيار عمر للخلافة ولم يلتفت إلى حصول اتفاق الأمة ، ثم تجاوز ذلك إلى أنه لم يلتفت أيضا إلى كراهة المسلمين بخلافة عمر على ما رواه المسلمون.

وقد ذكر المبرد في كتابه الكامل عن الرحمن بن عوف : قال دخلت على أبي بكر في علته التي مات فيها ، فقلت : أراك بارئا يا خليفة رسول الله ، فقال : أما إني على ذلك لشديد الوجع ولما لقيت منكم يا معشر المهاجرين أشد على من وجعي ، إني وليت أموركم خيركم في نفسي فكلكم ورم أنفه. قال المبرد : معنى ورم أنفه أي امتلئ من ذلك غيظا.

وروى كراهتهم لخلافته عمر أيضا جماعة من العلماء ، وابن عبد ربه المغربي في الجزء الرابع من كتاب العقد ، فلم يلتفت أبو بكر إلى ذلك كله. فكيف صار اختياره وحده يقوم مقام اختيار علماء الأمة وصلحائها؟ وكيف صار راية في تعيين من يقوم مقام نبيهم أفضل من رأى نبيهم؟ وكيف صار كراهتهم لا تؤثر في رأيه وحده؟

٤٠١

إن هذا من أعجب الطرائف.

ومن الطرائف أن نبيهم مات وقد جعل عمر رعية لأسامة بن زيد محكوما عليه بلا خلاف بين المسلمين ، فيعكسون ذلك ويجعل أبو بكر عمر هو الوالي على أسامة وعلى جميع المسلمين ، ولا يلتفت إلى ما دبره نبيهم وارتضاه ، إن ذلك من طرائف ما عرفناه.

ومن طرائف ما رواه في سبب بيعة أبي بكر لعمر وذكره جماعة من أصحاب التواريخ وحكاه ابن عبد ربه في المجلد الرابع من كتاب العقد فقال ما هذا لفظه : إن أبا بكر حين حضرته الوفاة كتب عهده ، وبعث به مع عثمان بن عفان ورجل من الأنصار ليقرأه على الناس ، فلما اجتمع الناس قاما فقالا : هذا عهد أبي بكر فإن تقروا به نقرأه وإن تنكروه نرجعه ، فقال طلحة بن عبيد الله : اقرأه وإن كان فيه فقال له عمر : بما علمت ذلك فقال: وليته أمس وولاك اليوم (١).

(قال عبد المحمود) : فلم ينكر عمر هذا القول ولا أحد من الصحابة على طلحة فكأنه إجماع على سبب ولاية أبي بكر لعمر لأجل أنه ولاه يوم السقيفة ، وفي ذلك ما فيه من الشناعة.

في استقالة أبي بكر من الخلافة

ومن طرائف ما رأيت في كتبهم أن أبا بكر استقال من الخلافة فقال : أقيلوني أقيلوني فلست بخيركم وعلى فيكم ، فيا لله ما أعجب ذلك ممن يكون مستقيلا منها في حياته كيف يقلدها غيره بعد وفاته وينص على عمر ، وقد كان يستصوب عمر غير ما يستصوبه أبو بكر ، فمن ذلك أنه اختار لعمر أو لأبي عبيدة الخلافة

__________________

(١) العقد الفريد : ٢ / ٢٠٨ ط الأزهرية بمصر.

٤٠٢

يوم السقيفة فرأى عمر أن الصواب في مخالفته وخلافته.

ومن ذلك أنهم رووا كما تقدم في خبر الصلاة أن أبا بكر لما جاءه رسول نبيهم يأمره بالصلاة في مرضه فقال أبو بكر لعمر : تقدم أنت فصل بالناس ، فاستصوب عمر مخالفة أبي بكر في ذلك ولم يتقدم.

ومن ذلك ما رواه الحميدي في الجمع بين الصحيحين في الحديث الثامن من أحاديث البخاري في عبد الله بن الزبير عن رسول الله " ص " قال : قدم ركب من بني تيم على النبي " ص " فقال أبو بكر : أمر القعقاع بن معبد بن زرارة ، فقال عمر : بل أمر الأقرع بن حابس ، قال أبو بكر : ما أردت إلا خلافي ، وقال عمر : ما أردت إلا خلافك قال : فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما ـ الخبر (١).

فكيف تقلد أبو بكر خلافة عمر مع ما شاهده من اختلاف الآراء وما يجوز بعده من المناقضة في الأهواء ، إن ذلك من طرائف الأشياء وشهادتهم على أعيان خلفائهم أنهم يرفعون أصواتهم فوق صوت نبيهم ويقدمون بين يديه وكتابهم يتضمن " يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي " ويتضمن " لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ".

ومن طريف استقالة أبي من الخلافة أنه إن كان استقال منها وهو يعلم أنه أقوم بها وأصلح للمسلمين فقد خان الله ورسوله والأمة ، وإن كان استقال وهو يعلم أن غيره أصلح للأمة فهلا عين على الأصلح للأمة؟ وكيف دخل فيها وهو يعلم أن غيره أصلح للمسلمين ، وإن كان لا يعلم هل هو أصلح أو غيره فكيف يتقلد هذا الأمر مع شكه هل يصلح له أو لا يصلح ، إن هذا من أعجب ما شهدوا به على خليفتهم من الاضطراب والعدول عن الصواب.

__________________

(١) البخاري في صحيحه : ٥ / ١١٦ تمام الخبر : فنزلت في ذلك " يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله " حتى انقضت.

٤٠٣

في تخصيصهم أبا بكر بأسماء لا اختصاص له بها

ومن طرائف أمر جماعة من المسلمين أنهم سموا أبا بكر خليفة رسول الله ورأيت في بعض كتبهم أنهم خاطبوه أولا يا خليفة الله فاختار هو أن يقال له يا خليفة رسول الله " ص " ، وقد ذكر ذلك الحميدي ، فما أعجب حال هؤلاء فإنه قد تقدمت رواياتهم في شرح حال بيعته إنه ما دعاه أحد إلى الحضور وإنه توصل وحضر وبايعه عمر وأبو عبيدة قبل مشورة المسلمين ، فكيف صار خليفة رسولهم؟ ولو سمي خليفة عمر أقرب إلى الصدق لأنه هو بايعه على الخلافة في ذلك اليوم.

ثم لو أن المسلمين جعلوه خليفة كان يجب أن يقال خليفة المسلمين ، والعجب أنهم يقولون إن نبيهم مات ولم يخلف أحدا ، ثم مع ذلك تقدموا مكابرة وقالوا أبو بكر خليفة رسول الله " ص " فكيف استحسنوا لأنفسهم هذه المناقضة الظاهرة والأحوال المضطربة.

ومن طريف ذلك أنه لو جاز أن يسمى كل من يدخل في أمر من أمور الرسول خليفة ، فكان يجب أن يكون كل أمير وقاض ووال من قبل الرسول أمير رسول الله وقاضي رسول الله ووالي رسول الله ، فكيف اختص أبو بكر بهذا الاسم دون كافة من يستحق عندهم التسمية به.

ومن طريف ذلك أن يكون خلفاء بني أمية استخلفهم جماعة من المسلمين كما استخلفوا أبا بكر وما أراهم يجيزون تسمية واحد منهم ولا من غيرهم ممن استخلفه المسلمون أنه خليفة رسول الله.

ومن طريف ذلك أن عمر بن الخطاب خالف أبا بكر وخالف اتباعه في هذه التسمية وسمى نفسه أمير المؤمنين ، ووجد من تابعه على ذلك من المسلمين ،

٤٠٤

ولم يعرفوا أن ذلك من جملة الاضطراب الشنيع والاختلاط البديع.

ومن طريف أمورهم أنهم رووا في صحاحهم أن نبيهم قال : ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر ، ولم يرووا مثل لأحد من الصحابة ومع ذلك فلم يسموه صديقا ، وسمعت في كتابهم وصف جماعة بالصديقين فقال " أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم " (١) ولم يسموا كل واحد من أولئك صديقا.

ورووا فيما تقدم من هذا الكتاب من أحمد بن حنبل وكتاب ابن شيرويه وكتاب ابن المغازلي عن نبيهم أن الصديقين ثلاثة حبيب النجار مؤمن آل يس ، وخربيل مؤمن آل فرعون وعلي بن أبي طالب عليه السلام وهو أفضلهم (٢).

وما تراهم خصصوا هؤلاء الثلاثة وأطلقوا عليهم أو على أحد منهم لفظ الصديق ، والعجب أن يكون علي بن أبي طالب عليه السلام أفضل الصديقين ولا يسمونه صديقا ، ومع أنه كان أول من صدق نبيهم وآمن به كما تقدم في رواياتهم وأنه كان يقول على رؤس المنابر ومجمع الأشهاد كما رووا أنا الصديق الأكبر ، ولم يسموه مع ذلك الصديق وخصصوا هذه اللفظة بأبي بكر دون غيره سائر من سائر الصديقين ، إن هذا مما تنفر منه عقول المستبصرين.

في أن قولهم إن أبا بكر أغنى النبي " ص " بماله مكابرة

ومن طرائف بهت جماعة من المسلمين إن كتابهم يتضمن إن الله يقول لنبيهم " ووجدك عائلا فأغنى " (٣) فكابروا هذا القول وردوا عليه وقالوا : بل

__________________

(١) الحديد : ١٩.

(٢) المغازلي في المناقب : ٢٤٦ ، والبحار : ٣٥ / ٤١٢.

(٣) الضحى : ٨.

٤٠٥

أغناه أبو بكر بماله ، وما استقبحوا لأنفسهم الرد على كتابهم ولا النقص لقرآنهم مع أن أصحاب التواريخ ذكروا أنه لم يكن لأبي بكر ثروة سالفة ولا رئاسة متقدمة ولا لأبيه ولا جده ، وأن محمدا " ص " نبيهم لم يزل قومه وجماعته أهل الثروة والرئاسة ، وأن محمدا " ص " لما كان بمكة كان له مع ماله ومال كفيله وعمه أبي طالب مال خديجة التي يضرب بكثرة مالها الأمثال ، ولما هاجر إلى المدينة فتحت عليه الفتوح والغنائم ، ففي أي الوقتين كان لأبي بكر مال يغنيه بماله.

ومن طريف ما يؤكد ذلك أن أباه أبا قحافة كان شديد الفقر حتى كان يؤجر نفسه للناس في أمور خسيسة ، فأين كان غناه وإيثاره مع سوء حال أبيه لولا البهتان الذي لا شبهة فيه.

فمن روايتهم في ذلك ما ذكره صاحب كتاب المثالب المنذر بن هشام بن محمد بن السائب الكلبي وهو من علمائهم فقال في الكتاب المذكور ما هذا لفظه : ومن كان ينادي على طعام ابن جذعان سفيان بن عبد الأسد المخزومي ولده بمكة ، وأبو قحافة عثمان ابن عامر بن سعد بن تيم ولده بالمدينة ، وفيه يقول أمية بن أبي الصلت في مرثية عبد الله بن جذعان :

له داع بمكة مشمعل

وآخر فوق دارته ينادي

إلى ردح من الشيزى عليها

لباب البر على بالشهاد

فالمشمعل سفيان بن عبد الأسد والآخر أبو قحافة. هذا آخر لفظه.

فهل ترى لأبي قحافة آثار غنى أو ثروة؟ فمن أين انتقل الغناء إلى أبي بكر حتى صار يغني رسول الله " ص " بماله؟ ليطعن بذلك على الله تعالى شأنه.

ومن الطريف طعن عبد الله بن عباس على قولهم في ذلك ما روي عنه في تفسير قوله تعالى " ووجدك عائلا فأغنى " قال ابن عباس : أغناه بأن جعل دعوته مستجابة ، فلو شاء أن يصير الجبال ذهبا لصارت بإذن الله ، فمن يكون

٤٠٦

كذلك كيف يحتاج إلى مال أبي بكر وكيف يقال إن أبا بكر أغناه.

ومن طريف مناقضتهم في ذلك ما يحتمل أن نبيهم كان يختبر أصحابه في مواساتهم له بمالهم فتجوع نفسه لذلك ، أو كان يريد أن يكونوا أسوته في الصبر على الضيق ، وكشف الحال في أن أبا بكر وعمر لم يكونا صاحبي ثروة ليواسياه ، ما ذكره الحميدي في الجمع بين الصحيحين في الحديث الثالث بعد المائة من أفراد مسلم في مسند أبي هريرة قال : خرج رسول الله " ص " ذات يوم أو ليلة فإذا هو بأبي بكر وعمر ، فقال ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟ قالا : الجوع يا رسول الله قال : وأنا والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما ثم ذكر أن رجلا من الأنصار أطعمهم بسرا ورطبا (١).

(قال عبد المحمود) : فهل ترى لأبي بكر وعمر ثروة مع هذه الرواية التي شهدوا بصحتها وما يلتزم بها أحد من المسلمين إلا من رواها وصححها.

ومن طريف الأمر في الجواب عن ذلك أن علي بن أبي طالب عليه السلام يتصدق بخاتمه فينزل فيه " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون " وقد تقدمت رواياتهم لذلك. ويتصدق أيضا علي وفاطمة عليها السلام بأقراص يسيرة على يتيم ومسكين وأسير فينزل فيهم سورة هل أتى كما تقدمت رواياتهم ، ويكون أبو بكر على قولهم قد أنفق مالا عظيما على نفس نبيهم فلم ينزل فيه آية ولا يشكره ربهم في كتابهم بكلمة أن هذا مما يدل على بطلان ما ادعوه وقبيح ما أبدعوه.

حديث الغار وعدم فضيلة في مجرد مصاحبة النبي " ص "

ومن طرائف مناقضتهم قولهم واعتقادهم أن أبا بكر صحب نبيهم إلى الغار

__________________

(١) مسلم في صحيحه : ٣ / ١٦٠٩ كتاب الأشربة.

٤٠٧

وقد رووا في مسند أحمد بن حنبل في حديث ابن عباس وهو حديث يتضمن عشر خصال جليلة دل بها نبيهم على منزلة علي بن أبي طالب عليه السلام يقول في جملة الحديث المذكور وشرا علي نفسه لبس ثوب رسول الله " ص " ثم نام مكانه قال : وكان المشركون يتوهمون أنه رسول الله فجاء أبو بكر وعلي عليه السلام نائم ، قال أبو بكر : فحسبت أنه رسول الله فقال له علي : إن نبي الله قد انطلق إلى بئر ميمون فأدركه. قال : فانطلق أبو بكر فدخل معه الغار.

وقد ذكر محمد بن جرير الطبري وهو من أعيان رجال المخالفين لأهل البيت عليهم السلام نحو هذا في تاريخه في الجزء الثالث إن أبا بكر أتى عليا فسأله عن نبي الله " ص " فأخبره أنه لحق بالغار من ثور وقال إن كان لك فيه حاجة فالحقه فخرج أبو بكر مسرعا فلحق نبي الله " ص " في الطريق فسمع رسول الله جرس أبي بكر في ظلمة الليل فحسبه من المشركين فأسرع رسول الله المشي ، فانقطع قبال نعله ففلق إبهامه حجر فكثر دمها وأسرع السعي فخاف أبو بكر أن يشق على رسول الله فرفع صوته وتكلم ، فعرفه رسول الله فقام حتى أتاه فانطلقا ورجل رسول الله " ص " تستن دما حتى انتهى إلى الغار مع الصبح فدخلاه (١).

أقول : فأول دم سفك من رسول الله " ص " بعد الهجرة على هذه الرواية هذا الدم الذي قد خرج من قدمه الشريف بجناية أبي بكر عليه ، ولو كان توصل في إشارة يعرف بها رسول الله " ص " إنه صاحبه ما كان قد أسرع المشي ولا خاف منه ولا جرى دمه.

وقد رأيت جماعة قد ادعوا أن قوله تعالى " إذ يقول لصاحبه لا تحزن " (٢)

__________________

(١) الطبري في تاريخه : ٢ / ٢٤٥.

(٢) التوبة : ٤٠.

٤٠٨

يقتضي تفضيل أبي بكر حيث سمي بلفظ لفظ الصحبة ، ولم أجد في ذلك فضيلة لأن القرآن قد تضمن تسمية الصحبة من الكفار للنبي " ص " ولغيره من الأنبياء بل ذكر المصاحبة مع الحيوان أيضا ولا ينافيه اللغة كما يقولون بئس الصاحب الحمار ، وفي الأخبار ذكرت صاحبات نوح ولوط ويوسف ، وقد ذكر الكافر مصاحبا للمؤمن قال الله تعالى " إذ قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا"(١).

ومن نظائره أنه قال " قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد (٢) وقال تعالى في صحبة الكفار للنبي " أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة " (٣). وإنما ذكرنا تصريح القرآن بصحبة الكفار للنبي " ص " لأننا وجدنا الاحتجاج بمثل هذا في كثير مما وقفنا عليه ، ألا ترى رواية الطبري وهو غير متهم على أبي بكر يتضمن أنه ما كان عنده علم من توجه النبي " ص " من مكة إلى المدينة وأن النبي " ص " ستر ذلك عنه كما ستره عن أعداء الإسلام وأنه ما عرف بتوجه النبي " ص " ولا موضع الاستتار إلا من علي بن أبي طالب عليه السلام ولم

يمكن المقام بمكة بعد النبي " ص " خوفا من الكفار.

(قال عبد المحمود) مؤلف هذا الكتاب : فهذا الحديث (٤) يشهد أن نبيهم " ص " ما عرف أبا بكر بأمره ولا اطلعه على سره ولا صحبه إلى الغار ولا كان اتباعه إلى الغار بإذنه ولا دخوله معه فيه بقوله ، فما أحسن هذه الرواية

__________________

(١) الكهف : ٣٧.

(٢) سبأ : ٤٦.

(٣) الأعراف : ١٨٤.

(٤) في الترجمة الحديثان وهو الصحيح وهما حديث أحمد والطبري.

٤٠٩

عند الشيعة ، وأما قولهم فيها إن عليا عليه السلام أشار على أبي بكر بإدراكه فلا تصدق الشيعة ذلك وتروي خلاف هذا.

ومن طريف الروايات في أن النبي " ص " ما صحب أبا بكر إلى الغار خوفا منه أن يدل الكفار عليه ما ذكره أبو هاشم بن الصباغ في كتاب النور والبرهان فقال في باب ما أنزل الله تعالى على نبيه " ص " قم فأنذر " (١) وقوله تعالى " فاصدع بما تؤمر " (٢) وما ضمن رسول الله صلى الله عليه وآله لمن أجابه وصدقه ، رفع الحديث عن محمد بن إسحاق قال : قال حسان : قدمت مكة معتمرا وأناس من قريش يقذفون أصحاب رسول الله " ص " فقال ما هذا لفظه : فأمر رسول الله عليا عليه السلام فنام على فراشه ، وخشي ابن أبي قحافة أن يدل القوم عليه فأخذه معه ومضى إلى الغار.

وقال صاحب هذا الكتاب في باب هجرة النبي " ص " إلى المدينة رفعه إلى سعيد بن المسيب عن علي بن الحسين عليه السلام قال في بعض هذا الحديث ما هذا لفظ لنظه : قال سعيد قلت لعلي بن الحسين عليه السلام قد كان أبو بكر مع رسول الله " ص " حين انتقل إلى المدينة فأين فارقة؟ فقال : إن أبا بكر لما قدم رسول الله " ص " إلى قبا فنزل بها ينتظر قدوم علي بن أبي طالب عليه السلام قال له أبو بكر انهض بنا إلى المدينة فإن القوم يستبشرون بقدومك وهم يسترهبون اقبالك إليهم فانطلق بنا ولا تقم هاهنا تنتظر عليا فما أظنه يقدم عليك شهرا ولا دهرا فقال له رسول الله : كلا بفيك الحجر ، ما أسرعه يقدم ولا أزيل قدما عن قدم حتى يقدم علي بن أبي طالب ابن عمي وأخي في الله وأحب أهل بيتي إلي ، فقد وقاني بنفسه من المشركين وخفت غيره أن يدلهم علي ، فغضب

__________________

(١) المدثر : ٢.

(٢) الحجر : ٩٤.

٤١٠

عند ذلك أبو بكر واشمأز وجهه ودخله من ذلك حسد لعلي بن أبي طالب عليه السلام وكان أول عداوة بدت منه لرسول الله " ص " في علي وأول خلاف على رسول الله واسترها في نفسه حقدا ، فانطلق حتى دخل المدينة وحده وتخلف رسول الله ينتظر قدوم علي بن أبي طالب عليه السلام.

(قال عبد المحمود) : في هذا الحديث ما يكشف لك عن السرائر وينبهك عن الحق الباهر إن كنت من أهل البصائر وتخاف من يوم الآخر.

ومن طرائف مناقضاتهم أنهم يقولون لو كان علي بن أبي طالب عليه السلام يعلم أنه أحق بالخلافة بعد نبيهم لنازع أبا بكر وأظهر كراهيته لبيعته ، وأنهم ينسون أو يتناسون ما تقدم بعضه من رواياتهم في صحاحهم أن علي بن أبي طالب عليه السلام بقي ممتنعا من مبايعة أبي بكر هو وسائر بني هاشم مدة ستة أشهر ، وجاهروا بالكراهة لبيعته والإنكار لمتابعته.

شكاية علي بن أبي طالب عليه السلام عمن تقدمه

وحديث الشورى

ومن طرائف ما رووه من طرقهم عن أعيان أئمتهم وثقات رجالهم في طعن علي بن أبي طالب عليه السلام على من تقدم عليه في الخلافة وإظهار أنه أحق بها ولم ينكر أحد ممن سمع ذلك منه.

ما رواه أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه في كتابه وهو من أعيان أئمتهم ، ورواه أيضا المسمى عندهم صدر الأئمة أخطب خطباء خوارزم موفق بن أحمد المكي ثم الخوارزمي في كتاب الأربعين قال عن الإمام الطبراني حدثنا سعيد الرازي قال حدثنا محمد بن حميد قال حدثنا زافر بن سليمان قال حدثنا الحرث ابن محمد عن أبي الطفيل عامر بن واثلة قال : كنت على الباب يوم الشورى

٤١١

فارتفعت الأصوات بينهم ، فسمعت عليا عليه السلام يقول : بايع أبا بكر وأنا والله أولى بالأمر منه وأحق به منه ، فسمعت وأطعت مخافة أن يرجع القوم كفارا ويضرب بعضهم رقاب بعض بالسيف ، ثم بايع أبا بكر لعمر وأنا أولى بالأمر منه ، فسمعت وأطعت مخافة أن يرجع الناس كفارا ، ثم أنم تريدون أن تبايعوا عثمان إذن لا أسمع ولا أطيع.

وفي رواية أخرى رواها ابن مردويه أيضا وساق قول علي بن أبي طالب عليه السلام عن مبايعتهم لأبي بكر وعمر كما ذكره في الرواية المتقدمة سواء إلا أنه قال في عثمان : ثم أنتم تريدون أن تبايعوا عثمان إذن لا أسمع ولا أطيع إن عمر جعلني في خمسة نفر أنا سادسهم لا يعرف لي فضلا في الصلاح ولا يعرفونه لي كأنما نحن فيه شرع سواء ، وأيم لو أشاء أن أتكلم لتكلمت ثم لا يستطيع عربيكم ولا عجميكم ولا المعاهد منكم ولا المشرك رد خصلة منها ثم قال : أنشدكم الله أيها الخمسة أمنكم أخو رسول الله غيري؟ قالوا : لا قال : أمنكم أحد له عم مثل عمي حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله غيري؟ قالوا : لا قال : أمنكم أحد له أخ مثل أخي المزين بالجناحين يطير مع الملائكة في الجنة؟ قالوا : لا قال : أمنكم أحد له زوجة مثل زوجتي فاطمة بنت رسول الله " ص " سيدة نساء هذه الأمة؟ قالوا : لا قال : أمنكم أحد له سبطان مثل ولدي الحسن والحسين سبطي هذه الأمة ابني رسول الله " ص " غيري؟ قالوا : لا قال : أمنكم أحد قتل مشركي قريش غيري : قالوا : لا قال : أمنكم أحد وحد الله قبلي؟ قالوا : لا قال : أمنكم أحد صلى إلى القبلتين غيري؟ قالوا : لا قال : أمنكم أحد أمر الله بمودته غيري؟ قالوا : لا قال : أمنكم أحد غسل رسول الله غيري؟ قالوا : لا قال : أمنكم أحد سكن المسجد يمر فيه جنبا غيري؟ قالوا : لا قال : أمنكم أحد ردت عليه الشمس بعد غروبها حتى صلى العصر غيري؟

٤١٢

قالوا : لا قال : أمنكم أحد قال رسول الله حين قرب إليه الطير فأعجبه : اللهم أأتني بأحب خلقك إليك يأكل معي هذا الطير ، فجئت وأنا لا أعلم ما كان من قوله فدخلت فقال : وإلي يا رب إلي يا رب غيري. قالوا : لا. قال : أمنكم أحد كان أقتل للمشركين عند كل شديدة تنزل برسول الله غيري؟ قالوا : لا قال : أمنكم أحد كان أعظم غناء عن رسول الله مني حتى اضطجعت على فراشه ووقيته بنفسي وبذلت مهجتي غيري؟ قالوا : لا قال : أمنكم أحد كان يأخذ الخمس غيري وغير زوجتي فاطمة؟ قالوا : لا قال : أمنكم أحد كان له سهم في الخاص وسهم في العام غيري؟ قالوا : لا قال : أمنكم أحد يطهره كتاب الله غيري حتى سد النبي " ص " أبواب المهاجرين جميعا وفتح بابي إليه حتى قام إليه عماه حمزة والعباس فقالا : يا رسول الله سددت أبوابنا وفتحت باب علي فقال النبي : ما أنا فتحت بابه ولا سددت أبوابكم بل الله فتح بابه وسد أبوابكم قالوا : لا قال : أمنكم أحد تمم الله نوره من السماء حين قال وآت ذي القربى حقه قالوا : اللهم لا قال : أمنكم أحد ناجى رسول الله " ص " ستة عشر مرة غيري؟ حين نزل جبرئيل " يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة " أعمل بها أحد غيري؟ قالوا : اللهم لا قال: أمنكم أحد ولي غمض رسول الله غيري؟ قالوا اللهم لا قال : أمنكم أحد آخر عهده برسوله " ص " حين وضعه في حفرته غيري؟ قالوا : لا (١).

(قال عبد المحمود) : وفي رواية أخرى عن صدر الأئمة عندهم موفق ابن أحمد المكي يرويها عن فخر خوارزم محمود الزمخشري بإسناده إلى أبي ذر زيادة في مناشدة علي بن أبي طالب عليه السلام لأهل الشورى

__________________

(١) الخوارزمي في المناقب : ٢٢٤ ، والمغازلي في المناقب : ١١٢ ، والقندوزي في ينابيع المودة : ١١٤ ، والعلامة المجلسي في البحار : ٨ / ٣٤٤ ط قديم.

٤١٣

وهذا لفظها : ناشدتكم الله هل تعلمون معاشر المهاجرين والأنصار أن جبرئيل أتى النبي " ص " فقال : يا محمد لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي هل تعلمون كان هذا؟ قالوا : اللهم نعم قال : فأنشدكم الله هل تعلمون أن جبرئيل عليه السلام نزل على النبي " ص " فقال : يا محمد إن الله تبارك وتعالى يأمرك أن تحب عليا وتحب من يحبه فإن الله يحب عليا ويحب من يحب عليا قالوا : اللهم نعم قال : فأنشدكم الله هل تعلمون أن رسول الله قال : لما أسرى بي إلى السماء السابعة دفعت إلى رفاف من نور ثم دفعت إلى حجب من نور فوعد النبي " ص " الجبار لا إله إلا هو أشياء ، فلما رجع من عنده نادى مناد من وراء الحجاب نعم الأب أبوك إبراهيم ونعم الأخ أخوك على فاستوص به ، أتعلمون معاشر المهاجرين والأنصار كان هذا؟ فقال من بينهم : أبو محمد يعني عبد الرحمن ابن عوف سمعتها من رسول الله " ص " وإلا فصمتا قال : فأنشدكم الله هل تعلمون أن أحدا كان يدخل المسجد جنبا غيري؟ اللهم قالوا : لا قال فأنشدكم الله هل تعلمون أن أبواب المسجد سدها وترك بابي؟ قالوا : اللهم نعم قال : هل تعلمون أني كنت إذا قاتلت عن يمين رسول الله قال : أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي؟ قالوا : اللهم نعم قال : فهل تعلمون أن رسول الله حين أخذ الحسن والحسين جعل يقول هي يا حسن فقالت فاطمة : إن الحسين أصغر وأضعف ركنا منه فقال لها رسول الله : ألا ترضين أن أقول أنا هي يا حسن ويقول جبرئيل هي يا حسين فهل لأحد منكم مثل هذه المنزلة؟ نحن الصابرون ليقضي الله في هذه البيعة أمرا كان مفعولا.

ثم قال : وقد علم موضعي من رسول الله " ص " والقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة ، وضعني في حجره وأنا وليد فضمني إلى صدره ويلفني في فراشه ويمسني جسده ويشمني عرقه ، وكان يمضغ الشئ ثم يلقمنيه ، وما وجد لي

٤١٤

كذبة في قول ولا خطأ في فعل ، ولقد قرن (١) الله به من لدن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته يسلك به سبيل المكارم ومحاسن الأخلاق العالم ليله ونهاره ، ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه ، يرفع كل يوم لي علما من أخلاقه ويأمرني بالاقتداء به ، ولقد كان يجاوز في كل سنة بحرا فأراه ولا يراه غيري ، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله " ص " وخديجة وأنا ثالثهما ، أرى نور الوحي والرسالة وأشم ريح النبوة ، ولقد سمعت رنة الشيطان حتى نزل الوحي عليه فقلت : يا رسول الله ما هذه الرنة؟ فقال : هذا الشيطان قد أيس من عبادته إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلا أنك لست بنبي ولكنك وزير وإنك لعلى خير ، ولقد كنت معه " ص " لما أتاه الملأ من قريش فقالوا له : يا محمد إنك قد ادعيت عظيما لم يدعه آباؤك ولا أحد من بيتك ونحن نسألك أمرا إن أجبتنا إليه وأريتناه ، علمنا أنك نبي ورسول ، وإن لم تفعل علمنا أنك ساحر كذاب فقال لهم " ص " : وما تسألون؟ قالوا : تدعو لنا هذه الشجرة حتى تنقلع بعروقها وتقف بين يديك فقال " ص " إن الله على كل شئ قدير فإن فعل الله ذلك لكم تؤمنون وتشهدون بالحق؟ قالوا : نعم فقال " ص " : سأريكم ما تطلبون وإني لا علم أنكم ما تفيئون إلى خير وإن فيكم من يطرح في القليب ومن يحزب الأحزاب ، ثم قال : يا أيتها الشجرة إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر وتعلمين أني رسول الله فانقلعي بعروقك حتى تقفي بين يدي بإذن الله ، فوالذي بعثه بالحق لانقلعت بعروقها وجاءت ولها دوي عظيم شديد وقصف كقصف أجنحة الطير حتى وقفت بين يدي رسول الله " ص " وألقت بعضها الأعلى على رسول الله وبعض أغصانها على منكبي وكنت عن يمينه ، نظر القوم إلى ذلك قالوا : علوا واستكبارا فمرها فليأتك نصفها ويبقى نصفها فأمرها بذلك فأقبل إليه نصفها كأعجب

__________________

(١) وفي الترجمة قرني الله به من لدن كنت فطيما مع أعظم ملك من ملائكته يسلك بي ـ الخ.

٤١٥

إقبال وأشد دويا وكادت تلطف (١) برسول الله قالوا كفرا وعتوا : فمر هذا النصف يرجع إلى نصفه كما كان فأمره رسول الله فرجع فقلت أنا : لا إله إلا الله إني أول مؤمن آمن بك يا رسول الله وأول من آمن بأن الشجرة فعلت ما فعلت بأمر الله تصديقا لنبوتك وإجلالا لكلمتك ، فقال القوم كلهم : بل ساحر كذاب عجيب السحر حقيق به ، وهل يصدقك في أمرك إلا مثل هذا يعنوني وإني لمن القوم الذين لا يأخذهم في الله لومة لائم ، سيماهم سيما الصديقين وكلامهم كلام الأبرار عماد الليل ومنار النهار متمسكون بحبل الله القرآن يحبون سنن الله وسنن رسوله لا يستكبرون ولا يقلبون (٢) ولا يفسدون قلوبهم في الجنان وأجسادهم في العمل.

(قال عبد المحمود) : وقد روى صدر الأئمة عندهم موفق بن أحمد المكي الخوارزمي أن علي بن أبي طالب عليه السلام زاد على هذا يوم الشورى في المناظرة لهم والاحتجاج عليهم ، وأنه احتج بسبعين منقبة من مناقبه وسأذكرها وطرفا مما رووه من أسباب مدح علي عليه السلام عند إيراد ما ذكروه عن نبيهم في ذم من مدحوه من الأصحاب مما لم يتقدم ذكره في هذا الكتاب.

ومن طرائف ما نقلوه في كتبهم المعتبرة برواية رؤسائهم من إظهار علي بن أبي طالب عليه السلام للتألم من تقدم أبي بكر وعمر وعثمان عليه في الخلافة ، وإنه كان أحق بها منهم بمحضر الخلق الكثير على المنابر وعلى رؤوس الأشهاد ما ذكره جماعة من أهل التواريخ والعلماء ، وذكره ابن عبد ربه في الجزء الرابع من كتاب العقد وأبو هلال العسكري في كتاب الأوائل في الخطبة التي خطب بها علي بن أبي طالب عليه السلام عقيب مبايعة الناس له ، وهي أول خطبة خطبها فقال بعد إشارات ظاهرة وباطنة بالتألم ممن تقدمه وممن وافقهم ما هذا لفظه :

__________________

(١) وفي المطبوع تلتف.

(٢) وفي الترجمة : ينقلبون.

٤١٦

وقد كانت أمور ملتم فيها عن الحق ميلا كثيرا كنتم فيها غير محمودين أما إني لو أشاء أن أقول لقلت عفا الله عما سلف سبق الرجلان وقام الثالث كالغراب همته بطنه ويله لو قص جناحه وقطع رأسه لكان خيرا له ، انظروا فإن أنكرتم فأنكروا وإن عرفتم فاعرفوا.

هذا آخر المراد من اللفظ وهي خطبة كاشفة عما تجدد في حقه من ظلم المتقدمين عليه في الخلافة ، فمن أرادها فليقف عليها من هناك يقول في آخرها ما هذا لفظه على ما حكاه صاحب كتاب العقد : ألا إن الأبرار من عترتي وأطائب أرومتي أحلم الناس صغارا وأعلمهم كبارا ، ألا وإنا أهل بيت من علم الله علمنا وبحكم الله حكمنا ومن قول صادق سمعنا فإن تتبعوا آثارنا تهتدوا ببصائرنا معنا راية الحق من تبعها لحق ومن تأخر عنها غرق ، ألا وبنا يرد ترة كل مؤمن وبنا يخلع ربقة الذل من أعناقهم وبنا فتح وبنا يختم (١).

ورأيت خطبة لعلي بن أبي طالب عليه السلام قد فسرها الحسن بن عبد الله ابن سعيد العسكري صاحب كتاب المواعظ والزواجر وهو من رؤساء مخالفي أهل البيت ، والخطبة في كتاب اسمه كتاب معاني الأخبار تاريخ الفراغ من نسخة سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة ، قال صاحب كتاب معاني الأخبار ما هذا لفظه : باب معاني خطبة أمير المؤمنين عليه السلام محمد بن إبراهيم الطالقاني قال : حدثنا عبد العزيز بن يحيى الجلودي قال : حدثنا أبو عبد الله أحمد بن عمار بن خالد قال : حدثنا عبد الجليل يحيى بن عبد الحميد الحملي قال : حدثنا عيسى بن راشد عن أبي خزيمة عن عكرمة عن ابن عباس وحدثنا محمد بن علي بن ماجيلويه قال : حدثني عمي محمد بن أبي القاسم عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي عن أبيه عن ابن أبي عمير عن أبان بن عثمان عن أبان بن تغلب عن

__________________

(١) العقد الفريد : ٢ / ١٣٣.

٤١٧

عكرمة عن ابن عباس.

قال : ذكرت الخلافة عند أمير المؤمنين عليه السلام فقال : والله لقد تقمصها أخو تيم وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى ، ينحدر عني السيل ولا يرقى إلى الطير ـ ، فسدلت دونها ثوبا ، وطويت عنها كشحا ، وطفقت أرتأي بين أن أصول بيد جذاء ، أو أصبر على طخية عمياء ، يشيب فيها الصغير ويهرم فيها الكبير ، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى الله ، فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى ، فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجا ، أرى تراثي نهبا ، حتى إذا مضى الأول لسبيله ، عقدها لأخي عدي بعده ، فيا عجبا بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته ، فصيرها والله في حوزه خشناء ، يخشن مسها ويغلظ كلمها ، ويكثر العثار فيها والاعتذار منها ، فصاحبها كراكب الصعبة إن أعنف بها خرم ، وإن أسلس لها تقحم ، فمنى الناس لعمر الله بخبط وشماس وتلون واعتراض ، وبلوامع هن وهن ، فصبرت على طول المدة ، وشدة المحنة حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أني منهم ، فيا لله وللشورى! متى اعترض الريب في مع الأول منهم ، حتى صرت أقرن بهذه النظائر ، فمال رجل لضغنه ، وأصغى آخر لصهره. وقام ثالث القوم نافجا حضنية ، بين نثيله ومعتلفة ، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة الإبل نيتة الربيع إلى أن انتكث عليه فتله ، وأجهز عليه عمله ، وكبت به بطنته.

فما راعني إلا والناس كعرف الضبع إلى ، ينثالون علي من كل جانب ، حتى لقد وطئ الحسنان ، وشق عطفاى ، مجتمعين حولي كربيضة الغنم ، فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة ، ومرقت أخرى ، وقسط آخرون ، كأنهم لم يسمعوا الله سبحانه يقول " تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين " بلى والله لقد سمعوها ووعوها ، ولكن حليت الدنيا

٤١٨

في أعينهم وراقهم زبرجها ، أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر ، وما أخذ الله على العلماء ألا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم ، لألقيت حبلها على غاربها ، ولسقيت آخرها بكأس أولها ، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز.

قال : فناوله رجل من أهل السواد كتابا فقطع الحديث وتناول الكتاب فقلت : يا أمير المؤمنين لو أطردت مقالتك حيث بلغت فقال : هيهات يا بن عباس تلك شقشقة هدرت ثم قرت ، فقال : ما أسفت على كلام قط أسفي على كلام أمير المؤمنين عليه السلام حيث أراد.

وقد تركت تفسير الخطبة لئلا يطول بذكره ، ولأنه واضح في مراد نأمنها وقد حكى هذه الخطبة مؤلف نهج البلاغة وفيها هناك ألفاظ أفصح وأوضح (١).

[(قال عبد المحمود) : هذه الخطبة موجودة في نهج البلاغة الذي جمعه السيد الرضي العلوي الموسوي ، وإنما عدلت عن النقل من نهج البلاغة إلى النقل عن معاني الأخبار لأسباب شتى : أحدها أنها في نهج البلاغة محذوفة الأسانيد وفي معاني الأخبار مسندة كما ذكر ، ثانيها أنها في كتاب معاني الأخبار مفسرة بتفسير حسن بن سعيد العسكري من أعيان رجال الأربعة المذاهب ، فلو كان له شبهة أو شك ما فسرها ولا أهتم بها ، وفي الرواية من الطعون على أئمة الضلال الذين تقدموا على علي بن أبي طالب عليه السلام وإنما تركت نقل تفسير الكلمات اللغوية التي فيها الموافقة للقواعد العربية لأن الغرض لم يكن في ذلك.

وثالثها أن تاريخ نسخة معاني الأخبار مقدم على ولادة السيد الرضي الموسوي مؤلف نهج البلاغة ، لأن مولد المرتضى علي بن الحسين الموسوي

__________________

(١) نهج البلاغة الخطبة الثالثة المعروفة بالشقشقية : ٤٨ صبحي صالح.

٤١٩

في شهر رجب سنة ثلاثمائة وخمسة وخمسين وهو أكبر من أخيه محمد بن الحسين الرضي الموسوي مؤلف نهج البلاغة لأن تاريخ ولادته سنة ثلاثمائة وتسع وخمسين وتاريخ وفاته شهر المحرم سنة ستة وأربعمائة ، وتأليف كتاب معاني الأخبار أقدم على ولادة أخيه المرتضى علي بن الحسين ، فأحببت نقل هذه الخطبة من الكتاب الذي هو أقدم تأليفا وأوضح برهانا ، مع أن تاريخ وفاة مصنف كتاب معاني الأخبار أقدم من ولادة المرتضى الذي هو أكبر من الرضي الموسوي مؤلف كتاب نهج البلاغة.

(قال عبد المحمود) : ولقد وجدت هذه الخطبة أيضا في كتاب بخزانة كتب المدرسة النظامية العتيقة الذي سماه صاحب كتاب الغارات في الجزء الثاني منه في كتاب مقتل علي بن أبي طالب عليه السلام تاريخ الفراغ منه يوم الثلاثاء ثلاث عشر مضين من شوال سنة ثلاثمائة وخمسة وخمسين وهذا هو سنة ولادة السيد المرتضى الموسوي قبل ولادة أخيه الرضي مؤلف نهج البلاغة ، وهذه ألفاظ الرواية من كتاب الغارات في مدرسة النظامية :

قال : حدثنا محمد قال حدثنا حسن بن علي الزعفراني قال : حدثنا محمد ابن زكريا القلابي قال : حدثنا يعقوب بن جعفر بن سليمان عن أبيه عن جده عن ابن عباس قال : أبو محمد حدثني به قبل ذهاب بصره وقال أبو بكر محمد بن وثيق حدثنا محمد بن زكريا بهذه الإسناد عن ابن عباس أنه قال :

كنت عند أمير المؤمنين عليه السلام في الرحبة إذ تنفس الصعداء ، ثم قال : أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى ، ينحدر عني السيل ، ولا يرقى إلي الطير. ولكن سدلت دونها ثوبا ، وطويت عنها كشحا ، وطفقت أرتأي من أن أصول بيد جذاء ، أو أصبر على طخية عمياء ، ترضع فيها الصغير ويذب فيها الكبير ، ويكدح فيها مؤمن

٤٢٠