الطّرائف في معرفة مذاهب الطوائف

السيّد رضي الدين أبو القاسم علي بن موسى بن جعفر بن طاووس الحسني الحلّي [ السيّد بن طاووس ]

الطّرائف في معرفة مذاهب الطوائف

المؤلف:

السيّد رضي الدين أبو القاسم علي بن موسى بن جعفر بن طاووس الحسني الحلّي [ السيّد بن طاووس ]


الموضوع : الفرق والمذاهب
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٣

وزاد حرملة عن ابن وهب عن يونس قال ابن شهاب : وكان أبو بكر يقسم الخمس نحو قسم النبي " ص " غير أنه لم يكن يعطي قرابة رسول الله كما كان رسول الله يعطيهم. ثم رأيت في نسخة الحميدي وإن هذه صورتها ثم قال : أظنه كان يزيدهم ، قال ابن شهاب : وكان عمر يعطيهم منه وعثمان بعده.

(قال عبد المحمود بن داود) : وقد استطرفت واستعظمت يمين أبي بكر ودفعه لفاطمة عليها السلام أنه يعمل في خمس خيبر كما عمل رسول الله " ص " وأنه لا يغير ذلك ، ثم شهادتهم على أبي بكر في الحديث الصحيح أنه غير ذلك وما كان يقسم خمس خيبر بعد نبيهم محمد في قرابته كما كان يقسمها نبيهم في حياته ، وهذا من عظائم الأمور التي تدل على سوء أحوال الفاعلين والراضين بالأمور المذكورة.

ومن طريف ذلك اعتذار الحميدي لأبي بكر وقوله " أظنه كان يزيدهم " ، فهب أنه كان يزيدهم أما ذلك خلاف ما كان يفعل رسول الله في خمس خيبر ، ثم إن كان لأبي بكر أن يفعل ذلك فهلا أعطى لفاطمة عليها السلام فدكا والعوالي بالحجة التي يزيد بها قرابة نبيهم بعد وفاته وغير ما ذكر أنه لا يغيره من عاداته ، أما لهؤلاء المسلمين عقول يفكرون في مناقضات المنقول.

ومن طريف الحديثين المذكورين وما رووه وصححوه في ضد ذلك.

٣٦١ ـ ما رواه الحميدي في الجمع بين الصحيحين في الحديث الحادي والثلاثين من المتفق عليه من مسند عبد الله بن عباس ، في جواب ما كتب إليه نجدة بن عامر الحروري وهو من رؤساء الخوارج ، قال : وكتبت تسألني عن الخمس لمن هو؟ وإنا كنا نقول : هو لنا، فأبى علينا قومنا ذلك (١).

(قال عبد المحمود) : فهذه شهادة عبد الله بن عباس فيما صححوه أن فاطمة

__________________

(١) رواه مسلم في صحيحه : ٣ / ١٤٤٤.

٢٦١

وعليا والحسنين علي عم السلام قد منعوا من الخمس وفي ذلك ما فيه لمن كان له قلب عاقل ونظر فاضل.

ومن طريف الحديثين المذكورين أنهما قد تضمنا أن فاطمة بنت نبيهم هجرت أبا بكر وأنه أغضبها ، وتأذت بذلك وبقيت على هجرانها له ستة أشهر حتى ماتت.

٣٦٢ ـ وقد روى مسلم في صحيحه في الجزء الرابع في ثلثه الأخير بإسناده قال : قال رسول الله " ص " : إنما فاطمة بضعة مني ، يؤذيني ما آذاها (١).

٣٦٣ ـ وروى مسلم في صحيحه في الجزء الرابع على حد كراسين في آخره من باب مناقب فاطمة بإسناده أن رسول " ص " قال : فاطمة بضعة مني ، فمن أغضبها أغضبني (٢).

وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين هذين الحديثين بإسناده إلى نبيهم محمد " ص ".

٣٦٤ ـ وروى صاحب كتاب الجمع بين الصحاح الستة في الجزء الثالث من أجزائه الثلاثة في باب مناقب فاطمة بإسناده عن نبيهم محمد " ص " قال : قال رسول الله " ص " : فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني. وأنه قال : فاطمة سيدة نساء أهل الجنة (٣).

٣٦٥ ـ وروى صاحب كتاب الجمع بين الصحاح الستة أيضا في الجزء الثالث من جزئين من الكراس الخامس من النسخة المنقول منها من باب مناقب فاطمة من صحيح أبي داود بإسناده أن النبي " ص " أشار إلى فاطمة فقال

__________________

(١) مسلم في صحيحه : ٤ / ١٩٠٣.

(٢) البخاري في صحيحه : ٥ / ٣٦.

(٣) إحقاق الحق عنه : ١٠ / ٢١٥.

٢٦٢

ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء هذه الأمة أو نساء العالمين ، قالت : يا أبة فأين مريم ابنة عمران وآسية امرأة فرعون؟ فقال : مريم سيدة نساء عالمها وآسية سيدة نساء عالمها (١).

٣٦٦ ـ وروى البخاري في صحيحه في الجزء الرابع في مناقب فاطمة بإسناده قال : قال النبي " ص " : فاطمة سيدة نساء أهل الجنة (٢).

٣٦٧ ـ وروى مسلم في صحيحه في الجزء الرابع على حد كراسين في آخره من النسخة المنقول منها بإسناده عائشة أن محمدا " ص " نبيهم قال : ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين ، أو سيدة نساء هذه الأمة (٣).

ورواه الثعلبي في تفسير قوله تعالى " وإني سميتها مريم ".

(قال عبد المحمود) مؤلف هذا الكتاب : إنني لأعجب ويحق لي أن أعجب من شهادة هؤلاء الأربعة المذاهب بصحة هذه الروايات ، ثم يهونون ما جرى على فاطمة عليها السلام من المظالم الهايلات! فليتهم حيث هان عندهم تألمها وظلمها كانوا تركوا الروايات بتزكيتها أوليتهم حيث صححوا رووه في تعظيمها في الدنيا والآخرة كانوا قد استعظموا ظلمها.

ومن طرائف ما رووه في حضورها بنفسها عند أبي بكر وتألمها وطلبها لحقها.

٣٦٨ ـ ما ذكره الشيخ أسعد بن سقروة في كتاب الفائق عن الأربعين عن الشيخ المعظم عندهم الحافظ الثقة بينهم أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه الأصفهاني في كتاب المناقب قال : أخبرنا إسحاق بن عبد الله بن إبراهيم قال : حدثنا أحمد بن عبيد بن ناصح النحوي قال : حدثنا الزيادي محمد بن زياد

__________________

(١) أبو داود في مسنده : ١٩٦ ، وأبو نعيم في حلية الأولياء : ٢ / ٤٢.

(٢) البخاري في صحيحه : ٥ / ٣٦.

(٣) مسلم في صحيحه : ٤ / ١٩٠٦.

٢٦٣

قال : حدثنا شرفي بن قطامي عن صالح بن كيسان عن الزهري عن عروة عن عائشة أنها قالت : لما بلغ فاطمة عليها السلام إن أبا بكر قد أظهر منعها فدك لاثت خمارها على رأسها واشتملت بجلبابها وأقبلت في لمة من حفدتها ونساء من قومها تطأ ذيولها ما تخرم مشيتها مشية رسول الله " ص " حتى دخلت على أبي وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم فنيطت دونها ملاءة ، فجلست ثم أنت أنة أجهش القوم لها بالبكاء فارتج المجلس ، ثم أمهلت هنيئة حتى سكنت فورتهم افتتحت كلامها بحمد الله وأثنت عليه ثم قالت :

لقد جائكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ، فإن تعزوه وتعرفوه تجدوه أبي دون آبائكم وأنا ابنته دون نسائكم وأخوه ابن عمي دون رجالكم ، فبلغ الرسالة صادعا بالنذارة مائلا عن مدرجة المشركين ضاربا ثبجهم آخذا بأكظامهم وينكث الالهام ، يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة حتى تفرى الليل عن صبحه ، وأسفر الحق عن محضه ، ونطق زعيم الدين ، وخرست شقاشق الشياطين ، وتمت كلمة الإخلاص وكنتم شفا حفرة من النار فأنقذكم منها ، نهزة الطامع ، ومذقة الشارب ، وقبسة العجلان ، وموطأ الأقدام ، تشربون الطرق ، وتقتاتون القد ، أذلة خاسئين ، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم. حتى استنقذكم الله برسوله " ص " بعد اللتيا والتي ، وبعد أن مني ببهم الرجال وذؤبان العرب ومردة أهل الكتاب ، كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ، أو نجم قرن الشيطان أو فغرت فاغرة من المشركين ، قذف أخاه في لهواتها ، فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه ، ويطفئ عادية لهبها بسيفه ، مكدودا في ذات الله ، وأنتم في رفاهية فكهون آمنون وادعون ، حتى إذا اختار الله لنبيه دار أنبيائه أطلع الشيطان رأسه فدعاكم فألفاكم لدعوته مستجيبين ، وللغرة فيه ملاحظين ، ثم استنهضكم

٢٦٤

فوجدكم خفافا ، وأحمشكم فألفاكم غضابا ، فوسمتم غير إبلكم ، ووردتم غير شربكم ، هذا والعهد قريب ، والكلم رحيب ، والجرح لما يندمل ، إنما زعمتم ذلك خوف الفتنة ، ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين ثم لم تلبثوا إلا ريث أن تسكن نفرتها ، تسرون حسوا في ارتغاء ، ونحن نصبر منكم على مثل حز المدى ، وأنتم الآن تزعمون ألا إرث لنا ، أفحكم الجاهلية تبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ، يا بن أبي قحافة ، أترث أباك ولا أرث أبي لقد جئت شيئا فريا ، فدونكها مخطومة مرحولة ، تلقاك يوم حشرك ، فنعم الحكم الله ، والزعيم محمد ، والموعد القيامة وعند الساعة يخسر المبطلون ، ثم انكفأت إلى قبر أبيها عليه السلام فقالت :

قَدْ كَانَ بَعْدَكَ أَنْبَاءٌ وَهَنْبَثَةٌ

لَوْ كُنْتَ شَاهِدَهَا لَمْ تَكْثُرِ الْخَطْبُ

إِنَّا فَقَدْنَاكَ فَقْدَ الْأَرْضِ وَابِلَهَا

وَاخْتَلَّ قَوْمُكَ فَاشْهَدْهُمْ فَقَدْ نُكِبُوا (١)

وفي بعض الروايات من المشار إليه زيادة هذه ألفاظها : أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم؟ إذ يقول الله تعالى " وورث سليمان داود " (٢) وقال فيما اقتص من خبر يحيى بن زكريا إذ قال " فهب ليس من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب " ) وقال: " وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله " (٤) وقال : " يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين " (٥) ثم عطفت على قبر أبيها وبكت وتمثلت بقول صفية بنت أثاثة وقيل أنابه :

__________________

(١) إلى هنا رواه ابن أبي الحديد في الشرح : ١٦ ٢٤٩ ـ ٢٥١.

(٢) النمل : ١٦.

(٣) مريم : ٦.

(٤) الأنفال : ٧٥.

(٥) النساء : ١١.

٢٦٥

وَكَانَ جِبْرِيلُ بِالْآيَاتِ يُؤْنِسُنَا

فَقَدْ فُقِدْتَ وَكُلُّ الْخَيْرِ مُحْتَجِبٌ

وَكُنْتَ بَدْراً وَنُوراً يُسْتَضَاءُ بِهِ

عَلَيْكَ يَنْزِلُ مِنْ ذِي الْعِزَّةِ الْكُتُبُ

تَجَهَّمَتْنَا رِجَالٌ وَاسْتُخِفَّ بِنَا

لَمَّا فُقِدْتَ وَكُلُّ الْأَرْضِ مُغْتَصَبٌ

أَبْدَتْ رِجَالٌ لَنَا فَحْوَى صُدُورِهِمْ

لَمَّا مَضَيْتَ وَحَالَتْ دُونَكَ التُّرْبُ

إِنَّا رُزِئْنَا بِمَا لَمْ يُرْزَ ذُو شَجَنٍ

مِنَ الْبَرِيَّةِ لَا عُجْمٌ وَلَا عَرَبٌ

وَسَوْفَ نَبْكِيكَ مَا عِشْنَا وَمَا بَقِيَتْ

مِنَّا الْعُيُونُ بِتِهْمَالٍ لَهَا سَكْبٌ (١)

قال عبد المحمود انظر رحمك الله وفكر فيما قد رووه عن رجالهم وثقاتهم من هذا التألم العظيم من فاطمة علیها السلام وما تقدم من روايتهم له في صحاحهم من هجرانها لأبي بكر ستة أشهر حتى ماتت فهل ترى هذا حديث من كان عندها شبهة في أنهم ظلموها عمدا وقصدا وهل ترى هذا الكلام منها كلام من قد قبلت لهم عذرا وهل ترى هذا حديث من لا يعرف صحة دعواها وثبوت حجتها وهل كان يحسن أن يسمع مثل هذا الكلام منها وتمنع مما طلبت أو العوض عنه ولو كانت قد وفدت بهذا الكلام والاسترحام على أعظم ملوك الكفار أما كان تشهد العقول أنه كان يرفع شأنها ويشرف مقامها ويحسن جائزتها أفيليق بمسلم أن يكون جواب هذا الكلام منعها وسوء معاملتها وتهوين حضورها وخطابها والقساوة عليها وترك التلطف بها على كل حال ما يقولون لو أن محمدا ص أباها رآها وهي تبكي وتقول مثل هذا الكلام أكان يغضب لغضبها كما رووه في صحاحهم أو كان يرضى عنهم إنما تشهد العقول أنه كان يشق عليه غضبها ويهجرهم بهجرانها ويستعظم إقدامهم على تكذيبهم لها وظلمها وكسرها وإسقاط منزلتها فاختر لنفسك أيها المشفق على

__________________

(١) رواه العلامة المجلسي في البحار : ٨ / ١٠٩ ط كمباني ، والطبرسي في الإحتجاج ١ / ١٣١ ، والإربلي عن كتاب السقيفة في كشف الغمة : ٢ / ٤٨٠.

٢٦٦

نفسه ، هل توافق رسول الله في ذلك ويكون لك فيه أسوة حسنة ، أو تكون في زمرة من أغضبها وأغضبه.

(قال عبد المحمود) مؤلف هذا الكتاب : ومن طريف ما أكثر التعجب ويحق لي أن أعجب من شهادة هؤلاء الأربعة المذاهب بتصديق هذه الأحاديث وما تقدم منهم في مدح فاطمة عليها السلام وأنها سيدة نساء العالمين وإن من أغضبها فقد أغضب أباها محمدا " ص " ومن آذاها آذاه وكتابهم يتضمن " إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة " (١) ثم يشهدون ويصححون أن أبا بكر أغضبها وآذاها وهجرته ستة أشهر حتى ماتت ، ثم وكيف تصدق العقول أن سيدة نساء العالمين وسيدة نساء أهل الجنة تدعي باطلا وتطلب محالا وتريد ظلم جميع المسلمين وتأخذ صدقتهم وتموت مصرة على ذلك ، ما يقبل هذا عقل صحيح ولا يعتقده ذو بصيرة.

وخاصة فإن علي بن أبي طالب عليه السلام وأهل بيت نبيهم رووا عنه فيهم أنهم أحد الثقلين الذين لا يفارقون كتابه وأن من تمسك بهم وبالكتاب سلم من الضلالة ، تقدم بيان أن فاطمة عليها السلام منهم ، وإذا كان التمسك بها يؤمن من الضلالة فكيف يقول أبو بكر وأتباعه هي قد ضلت في دعواها ، وأما علي بن أبي طالب الذي هو إمام أهل بيت نبيهم فتارة يكون شاهدا لفاطمة عليها السلام كما تقدم وتارة موافقا لها على الغضب على أبي بكر ويدفنها ليلا ولا يعلم بها أبو بكر ، ثم لا يسترضيها في مدة هذه الستة الأشهر ويهون عليه غضبها وأذيتها وهي أذية للنبي " ص " كما رووه ، أن ذلك كله شهادة منهم صريحة بضلال خليفتهم أبي بكر وخروجه عن حدود الإسلام وفضيحته بين الأنام.

ومن طريف ذلك رواية من روى منهم " نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما

__________________

(١) الأحزاب : ٥٧.

٢٦٧

تركناه فهو صدقة " : وما يخفى على ذوي البصائر إن هذا حديث محال قالوه ليدفعوا به حق فاطمة عليها السلام عن ميراث أبيها ، وإلا فإن كتابهم يتضمن " وورث سليمان داود " (١) ويتضمن أن زكريا قال " فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب " (٢) فكيف استحسنوا لأنفسهم أن يبلغوا في الرد على كتاب ربهم ونبيهم إلى هذه الغاية من المكابرة.

ومن طريف ذلك قبول هذا ممن رواه ونقله في الأخبار ، وهذه كتب التواريخ وسير الأنبياء تشهد أن الأنبياء كانوا في المواريث أسوة لأمتهم فيما توجبه شرائعهم ، ولو قال قائل هذا الحديث عن نبيهم : أنا من دون الأنبياء لا أورث ما تركته فهو صدقة. كان فيه بعض الحيلة على منع فاطمة عليها السلام عن ميراثها وكان أقوى في التمويه والمحال ، ولعل البغي منهم عليها منعهم من هذا الحال.

ومن طريف ذلك أن كتابهم يتضمن " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا " وقد تقدمت رواياتهم أن فاطمة عليها السلام بنت نبيهم من جملة أهل البيت المشار إليهم ، ولا خلاف بين المسلمين في ذلك ، ومن المعلوم عند كل عاقل أن هذه الآية تقتضي حصول إزالة الرجس عنها وتطهيرها وإلا ما كان يحصل بذلك لأهل البيت مزية غيرهم ، لأن الله تعالى يريد إذهاب الرجس عن جميع الخلايق وتطهير جمع الأمة.

ومن طريف ذلك أن نبيهم محمدا " ص " قال : من أغضبها فقد أغضبني ومن آذاها فقد آذاني كما تقدم ، وذلك يقتضي أن لا يقع منها ما يستحق به عقابا ولا عتابا ، لأنه لو جاز أن يقع منها ذلك أذيتها بالعقاب واجبة أو جائزة ويحصل بذلك غضبها وأذيتها اللذان هما غضب نبيهم وأذيته ، فثبت أنه لا يقع

__________________

(١) النمل : ١٦.

(٢) مريم : ٦.

٢٦٨

منها معصية ، فكيف يقال عنها أنها تطلب محالا وتدعي باطلا.

ومن طريف ذلك أنه لا خلاف بين المسلمين أنه لو شهد واحد على فاطمة عليها السلام بما يوجب حدا تأديبا ، إنهم كانوا يبطلون شهادته ويكذبونه ، لأنه يكون قد شهد بتكذيب كتابهم في ذهاب الرجس عنها وفي تطهيرها وكان طعنا في شهادة نبيهم " ص " لها بأنها سيدة نساء العالمين وسيدة نساء أهل الجنة ، فكيف خفي هذا على عقلاء المسلمين؟ وكيف استجازوا تكذيبها أو الشك فيها برواية من يجوز عليه الخطأ والعصيان والزور والبهتان؟

ومن طريف الجواب أيضا عن عفتها واصطفائها أن الروايات وردت من طريق الأربعة المذاهب وغيرهم أن فاطمة عليها السلام أفضل من مريم بنت عمران وقد قال الله تعالى عن مريم " إن الله اصطفاك وطهرك على نساء العالمين " (١) فإن مريم عليها السلام دون فاطمة عليها السلام في الاصطفاء والطهارة ، فكيف يكون اصطفاء الله لفاطمة عليها السلام ليس يكون أعظم وأبلغ بصريح هذه الإشارة.

ومن طريف الأمور الشاهدة بما جرى على فاطمة وعلي عليه السلام والعباس وبني هاشم من الظلم المشهور أن الأمر بلغ إلى أن فاطمة عليها السلام تحضر عند أبي بكر بنفسها والعباس معها يطلبان ميراث نبيهم محمد " ص " فيمنعها فتغضب عليه فاطمة وهجرته ستة أشهر كما تقدم ذكره في الصحيحين عندهم إلى أن ماتت ، فلما توفيت يعود العباس وعلي عليه السلام يحضران مجلسه ويطلبان ميراث نبيهم فيمنعهما فيموت أبو بكر ، فيحضر العباس وعلي عليه السلام يطلبان ميراث نبيهم من عمر ، فكيف تقبل العقول الصحيحة والقلوب السليمة أن مثل علي والعباس وفاطمة يبالغون في هذه المطالبة بأمر باطل أو يطلبون محالا يظلمون به جميع المسلمين ، ثم لو كانت فاطمة قد صدقت أبا بكر فيما دفعها به

__________________

(١) آل عمران : ٤٢.

٢٦٩

عن ميراثها من أبيها أو عرفت أو جوزت أن له عذرا مقبولا أو شبهة عذر عقلا أو شرعا كانت قد عذرته وما هجرته.

ثم لو كان العباس وعلي عليه السلام قد صدقا أبا بكر فيما قاله لفاطمة عليها السلام من أن النبي " ص " لا يورث أو كانا قد عذراه ما عادا بعد وفاة فاطمة عليها السلام حضرا عنده وطالباه بذلك الميراث.

ثم لو كان العباس وعلي عليه السلام قد صدقا أبا بكر في اعتذاره إليهما أيضا ما كانا عادا حضرا عند عمر بعد وفاة أبي بكر يطلبان ذلك الميراث ، أما تشهد القلوب والعقول أن فاطمة والعباس وعليا ومن كان قد حفظ وصية محمد نبيهم كانوا جميعا يعلمون قطعا ويقينا أنهم منعوا ميراث نبيهم محمد " ص " ظلما وعدوانا ، وكانوا يراجعون المطالبة لعل من ظلمهم يتوب أو يرجع أو يقلع أو يخاف الله أو يستحيي منهم أو من الناس أو يحذر من النار أو العار ، فأبى الظالمون لهم إلا الاصرار فما أصبرهم على النار.

وأما حضور فاطمة والعباس عند أبي بكر فقد تقدمت الرواية بذلك من المتفق عليه من صحيح البخاري وصحيح مسلم كما ذكره الحميدي عنهما.

وأما حضور العباس وعلي عليه السلام عند أبي بكر بعد وفاتها وحضورهما بعد وفاة أبي بكر عند عمر.

٣٦٩ ـ فقد ذكره الحميدي في المتفق عليه وحذف من كلام عمر واستخفافه بالعباس وعلي عليه السلام كلمات عظيمة ، وها أنا أذكر المراد من صحيح البخاري وصحيح مسلم بألفاظهما روياه عن مالك بن أوس حيث ذكر ارتفاع العباس وعلي عليه السلام إلى فقال عمر للعباس وعلي عليه السلام ما هذا لفظه : فلما توفي رسول الله " ص " قال أبو بكر : أنا ولي رسول الله فجئتما تطلب أنت ميراثك من ابن أخيك ، ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها ،

٢٧٠

فقال أبو بكر : قال رسول الله : نحن معاشر الأنبياء لا نورث فما تركناه صدقة ، فرأيتماه كاذبا آثما غادرا خائنا ، والله يعلم إنه لصادق بار راشد تابع للحق. ثم توفي أبو بكر فقلت: أنا ولي رسول الله " ص " وولي أبي بكر ، فرأيتماني كاذبا آثما غادرا خائنا ، والله يعلم إني لصادق بار راشد تابع للحق ثم جئتني أنت وهذا وأنتما جميع وأمركما واحد فقلتما: ادفعها إلينا ـ الخبر (١).

__________________

(١) رواه مسلم في صحيحه : ٣ / ١٣٧٨ في كتاب الجهاد ، وصدر الحديث : إن مالك بن أوس حدثه قال : أرسل إلي عمر بن الخطاب ، فجئته حين تعالى النهار قال : فوجدته في بيته جالسا على سرير ، مفضيا إلى رماله ، متكئا على وسادة من أدم ، فقال لي: يا مال! إنه قد دف أهل أبيات من قومك ، وقد أمرت فيهم برضخ فخذه فاقسمه بينهم. قال ، قلت : لو أمرت بهذا غيري؟ قال : خذه يا مال! فجاء يرفا ، فقال : هل لك يا أمير المؤمنين في عثمان وعبد الرحمن ابن عوف والزبير وسعد؟ فقال عمر : نعم فأذن لهم فدخلوا ، ثم جاء فقال : هل لك في عباس وعلي؟ قال نعم ، فأذن لهما ، فقال عباس: يا أمير المؤمنين! أقض بيني وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن! فقال القوم أجل يا أمير المؤمنين فاقض بينهم وأرحهم (فقال مالك بن أوس : يخيل إلي أنهم قد كانوا قدموهم لذلك) فقال عمر : اتئا أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال : لا نورث ، ما تركناه صدقة؟ قالوا : نعم ، ثم أقبل على العباس وعلي فقال : أنشدكما بالله الذي بأذنه تقوم السماء والأرض ، أتعلمان أن رسول الله قال : لا نورث ما تركناه صدقة؟ قالا : نعم. فقال عمر : إن الله جل وعز كان خص رسوله " ص " بخاصة لم يخصص بها أحدا غيره. قال : ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول (ما ـ

٢٧١

هذا المقصود من الحديث قد نقلناه بألفاظه.

(قال عبد المحمود) : كيف حسن من رجال الأربعة المذاهب وعلمائهم أن يشهدوا على خليفتهم عمر بمثل هذه الأفعال والأقوال في صحاح أخبارهم ، فإنك إذا نظرت إلى هذا الحديث بعقل صحيح وقلب سليم ظهر لك ما جرت الحال عليه وتحققت ما تقدمت الإشارة إليه. ثم تفكر في أمور تضمنها حديثهم هذا عنه ما كنت ذكرتها لك قبل.

منها قول عمر : إن أبا بكر قال : أنا ولي رسول الله " ص " سبحان الله من جعل لأبي بكر أن يقول مثل هذا القول؟ وكيف جاز له مثل هذه الدعوى العظيمة ويشهد لنفسه بهذا المقام يحتاج إلى تصديق من الله ورسوله؟ ومن شيم الأولياء أن لا يزكوا أنفسهم لما تضمنه كتابهم " ولا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى " وهل أبو بكر إلا رجل مات رسولهم محمد " ص " وقد جعله رعية من جملة رعايا أسامة زيد ، وقد شهدوا على أبي بكر بأفعال وأقوال

__________________

ـ أدري هل قرأ الآية التي قبلها أم لا). قال : فقسم رسول الله (ص) بينكم أموال بنى النضير ، فوالله ما استأثر عليكم ولا اخذها دونكم حتى بقى هذا المال ، فكان رسول الله (ص) يأخذ منه نفقه سنة ، ثم يجعل ما بقي أسوة المال ، ثم قال : أنشدكم بالله الذي باذنه تقوم السماء والارض أتعلمون ذلك؟ قالوا : نعم ، نشد عباساً وعلياً بمثل ما نشد به القوم : أتعلمان ذلك؟ قالا : نعم.

وأما بقية الحديث فقلت : ان شئتم دفعتها اليكما على ان عليكما عهد الله أن تعملا فيها بالذي كان يعمل رسول الله (ص) فأخذتماها بذلك ، قال : أكذلك؟ قالا : نعم. قال ثم جئتماني الاقضى بينكما ، ولا والله لا أقضى بينكما بغير ذلك حتى تقوم الساعة فان عجزتما عنها فرداها الي.

ورواه البخاري في صحيحه : ٨ / ١٤٦ ـ ١٤٧.

٢٧٢

منكرة مستنكرة ، وقد تقدم ذكر بعضها عنهم ، فكيف لا يمنع جميعها أن يكون ولي رسول الله " ص ".

ومنها قوله في هذا الحديث للعباس : تطلب أنت ميراثك من ابن أخيك ، أهكذا يعبر ممن هو عندهم خير الأنبياء ويسمى بهذه الألفاظ الوضيعة ويقال ابن أخيك وقد تقدم في كتابهم " لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا " (١).

ومنها قول عمر عن علي عليه السلام : ويطلب هذا ميراث امرأته ، أهكذا يقال عن فاطمة عليها السلام التي شهدوا في صحاحهم أنها سيدة نساء العالمين وسيدة نساء أهل الجنة؟ أترى هذا الكلام الذي قد شهدوا به على خليفتهم عمر يصدر عن قلب يعترف بتعظيم الله تعالى واطلاعه على كلامه ومع هذا تهوين بذكر رسول الله " ص " أيضا أو يصدر هذا ممن عنده وفاء لنبيهم أو قضاء لحقوق صحبته أو مجازاة لإحسانه أو حياء من نعمته عليهم وشفقته إليهم.

ومنها اعتراف عمر أن العباس وعليا عليه السلام كان اعتقادهما في أبي بكر في حياته وبعد وفاته واعتقادهما في عمر أنهما كانا كاذبين آثمين غادرين خائنين ، وهذا كتابهم يتضمن " إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون " (٢) ويتضمن " إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما " (٣) ويتضمن من التهديدات والوعيد بنقض العهود ما يدل على أن الغدر كالكفر.

أفتقبل العقول الصحيحة والقلوب السليمة أن هذين الرجلين العظيمين العباس وعليا عليه السلام اللذين أجمع المسلمون أن الله ورسوله شهدا لهما بالصدق والفضائل والمناقب ، يعتقدان في أبي بكر وعمر غير الحق ويقولان

__________________

(١) النور : ٦٣.

(٢) النحل : ١٠٥.

(٣) النساء : ١٠٧.

٢٧٣

فيهما غير الصدق وهما أخص بنبيهم ص وأعرف بأسراره وأخباره ولا سيما إن البخاري ومسلما ذكرا في صحيحيهما أن هذا القول جرى من عمر للعباس وعلي ع بمحضر مالك بن أوس وعثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد وما عرفنا أن أحدا ذكر عن العباس وعلي ع أنهما اعتذرا إلى عمر من هذا القول ولا نقل من أحد من هؤلاء الجماعة الذين سمعوا من عمر أنهم اعتذروا لعلي والعباس من هذا الاعتقاد في أبي بكر وعمر وهذا من عجيب ما اعترف بصحته رجال أربعة المذاهب وقبحوا به ذكر خليفتيهم وشهدوا عليهما بالمطاعن والمعايب.

ومن طريف الأمور أن يدعي أحد من الأربعة المذاهب أن قد كان بين علي ع والعباس منازعة في ميراث نبيهم.

وأول ما يقال في ذلك أنه لا يجوز تصديق رجال الأربعة المذاهب في الطعن على بني هاشم ولا في ما يقتضي نقصا لهم ولا تفريقا بينهم لأن الأربعة المذاهب فارقوا التمسك بأهل البيت الذين رووا في صحاحهم أن رسولهم محمدا ص أمرهم بالتمسك بهم وتظاهروا بالبعد عنهم فلا يقبل العقل والنقل شهادة العدو المتهم على من يعاديه ظلما ويميل عليه تعديا.

وأما ثانيا فإن العلماء بالتواريخ وغيرهم رووا أن العباس وسائر بني هاشم كانوا مع علي ع بعد وفاة نبيهم ص كنفس واحدة وقد تقدم ذكر بعض ذلك من صحاحهم عند ذكر تأخرهم مع علي ع عن بيعة أبي بكر وعند ذكر اجتماعهم لما أراد أبو بكر وعمر تحريق علي والعباس بالنار.

وروى جماعة العلماء أن العباس سأل عليا ع أن يمد يده ليبايعه بالخلافة عقيب وفاة نبيهم فاعتذر إليه بقلة الناصر لهما وخوف ارتداد كثير من المسلمين وطمع الكفار في الإسلام وأن الله أمره بالصبر كما جرت عليه

٢٧٤

سنة جماعة من الأنبياء والأوصياء حتى يجدوا أنصارا تقوم بهم الحجة.

وأما ثالثا فقد روى كثير من علماء الإسلام دوام اتحاد العباس مع علي ع حتى روى ابن سعد وهو من أعيان المخالفين لأهل البيت في كتابه المعروف بالطبقات أن عليا هو الذي غسل العباس وتولى أمره لما مات وقد كان من اختصاص علي بأولاد العباس قبل تمكنه في خلافته وبعد انبساط يده ومبايعته ما يدل على دوام الصفاء والوفاء وقد ذكر ذلك جماعة من علماء التاريخ حتى كانوا في خواصه في حروبه وولاياته وفي أسراره واحتجاجاته.

ما قاله المأمون العباسي من فضائل علي عليه السلام

وقد ذكر الصولي في كتاب الأوراق مديحا للمأمون الخليفة العباسي في علي بن أبي طالب ع يتضمن بعض ما ذكرناه وهو شعر

أُلامُ على شكر الوصي أَبَا الحسن

وذلك عندي من عجائب ذا الزمن

خليفة خير الناس والأول الذي

أعان رسول الله في السر والعلن

ولولاه ما عدت لهاشم إمرة

وكانت على الأيام تقضى وتمتهن

فولى بني العباس ما اختص غيرهم

ومن منه أولى بالكرامة والمنن

فأوضح عبد الله بالبصرة الهدى

وفاض عبيد الله جودا على اليمن

وقسم أعمال الخلافة بينهم

فلا زلت مربوطا بذا الشكر مرتهن (١)

ومن الطرائف المشهورة ما بلغ إليه المأمون في مدح أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وفي مدح أهل بيته عليهم السلام ذكره ابن مسكويه صاحب التاريخ بحوادث الإسلام في كتاب سماه نديم الفريد يقول فيه حيث

__________________

(١) تذكرة الخواص : ٣٥٧.

٢٧٥

ذكر كتابا كتبه بنو هاشم يسألون جوابهم (١) ما هذا لفظه :

فقال المأمون : " بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآل محمد على رغم أنف الراغمين.

أما بعد عرف المأمون كتابكم ، وتدبير أمركم ، ومخض زبدتكم ، وأشرف على قلوب صغيركم وكبيركم ، وعرفكم مقبلين ومدبرين ، وما آل إليه كتابكم قبل كتابكم في مراوضة الباطل ، وصرف وجوه الحق عن مواضعها ونبذكم كتاب الله تعالى والآثار ، وكلما جاءكم به الصادق محمد " ص " حتى كأنكم من الأمم السالفة التي هلكت بالخسفة والغرق والريح والصيحة والصواعق والرجم ، أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ، والذي هو أقرب إلى المأمون من حبل الوريد لولا أن يقول قائل : إن المأمون ترك الجواب عجزا لما أجبتكم من سوء أخلاقكم ، وقلة أخطاركم ، وركاكة عقولكم ، ومن سخافة ما تأوون إليه من آرائكم ، فليستمع مستمع فليبلغ شاهد غائبا.

أما بعد فإن الله تعالى بعث محمدا " ص " على فترة من الرسل ، وقريش في أنفسها وأموالها لا يرون أحدا يساميهم ولا يباريهم ، فكان نبينا " ص " أمينا من أوسطهم بيتا وأقلهم مالا ، وكان أول من آمنت به خديجة بنت خويلد فواسته بما لها ثم آمن به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ابن سبع سنين لم يشرك بالله شيئا طرفة عين ، ولم يعبد وثنا ولم يأكل ربا ، ولم يشاكل الجاهلية في جهالاتهم ، وكانت عمومة رسول الله " ص " أما مسلم مهين أو كافر معاند إلا حمزة فإنه لم يمتنع من الإسلام ولا يمتنع الإسلام منه ، فمضى لسبيله على بينة من ربه.

__________________

(١) وفي نسخة الترجمة زيادة وهي : ويسألونه البيعة مع ولده العباس بولاية العهد وعاتبوه على اتخاذه علي بن موسى الرضا ولي عهده فأجابهم ما هذا لفظه.

٢٧٦

وأما أبو طالب فإنه كفله ورباه ، ولم يزل مدافعا عنه ومانعا منه ، فلما قبض الله أبا طالب هم القوم وأجمعوا عليه ليقتلوه فهاجر إلى القوم الذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ، فلم يقم مع رسول الله " ص " أحد من المهاجرين كقيام علي ابن أبي طالب عليه السلام فإنه آزره ووقاه بنفسه ونام في مضجعه ، ثم لم يزل بعد متمسكا بأطراف الثغور وينازل الأبطال ، ولا ينكل عن قرن ، ولا يولي عن جيش منيع القلب ، يأمر على الجميع ولا يؤمر عليه أحد ، أشد الناس وطأة على المشركين وأعظمهم جهادا في الله ، وأفقههم في دين الله ، وأقرأهم لكتاب الله وأعرفهم بالحلال والحرام ، وهو صاحب الولاية في حديث خم ، وصاحب قوله " أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي " ، وصاحب يوم الطائف.

وكان أحب الخلق إلى الله تعالى وإلى رسول الله " ص " ، وصاحب الباب فتح له وسد أبواب المسجد ، وهو صاحب الراية يوم خيبر ، وصاحب عمرو ابن عبد ود في المبارزة ، وأخو رسول الله حين آخى بين المسلمين ، وهو متبع جزيل (١) ، وهو صاحب آية " ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا " وهو زوج فاطمة سيدة نساء العالمين وسيدة نساء أهل الجنة ، وهو ختن خديجة عليها السلام وهو ابن عم رسول الله " ص " رباه وكفله وهو ابن أبي طالب عليه السلام في نصرته وجهاده ، وهو نفس رسول الله في يوم المباهلة ، وهو الذي لم يكن أبو بكر وعمر ينفذان حكما حتى يسألانه عنه ، فما رأى إنفاذه انفذاه ، وما لم يره رداه. وهو دخل من بني هاشم في الشورى ، ولعمري لو

__________________

(١) وفي نسخة البحار : وهو منيع جزيل.

٢٧٧

قدر أصحابه على دفعه عنه كما دفع العباس رضوان الله عليه ووجدوا إلى ذلك سبيلا لدفعوه.

فأما تقديمكم العباس عليه فإن الله تعالى يقول : " أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله " (١) والله لو كان ما في أمير المؤمنين من المناقب والفضائل والآي المفسرة في القرآن خلة واحدة في رجل واحد من رجالهم أو غيره ، لكان مستأهلا متأهلا للخلافة ، مقدما على أصحاب رسول الله " ص " بتلك الخلة ، ثم لم يزل الأمور تتراقى به إلى أن ولي أمور المسلمين ، فلم يعن بأحد من بني هاشم إلا بعبد الله بن عباس تعظيما لحقه ، وصلة لرحمه وثقة به ، فكان من أمره الذي يغفر الله له ، ثم نحن وهم يد واحدة كما زعمتم حتى قضى الله تعالى بالأمر إلينا فأخفيناهم وضيقنا عليهم وقتلناهم أكثر من قتل بني أمية إياهم ، ويحكم أن بني أمية إنما قتلوا منهم من سل سيفا وإنا معشر بني العباس قتلناهم جملا فلتسألن أعظم الهاشمية بأي ذنب قتلت ، ولتسألن نفوس ألقيت في دجلة والفرات ونفوس دفنت ببغداد والكوفة إحياء ، هيهات إنه من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره.

وأما ما وصفتم في أمر المخلوع : وما كان فيه من لبس فلعمري ما لبس عليه أحد غيركم إذ هويتم عليه النكث ، وزينتم له الغدر ، وقلتم له ما عسى أن يكون من أمر أخيك ، وهو رجل مغرب ، ومعك الأموال والرجال تبعث إليه فيؤتى فكذبتم ونسيتم قول الله تعالى " ثم بغى عليه لينصرنه الله " (٢).

وأما ما ذكرتم من استبصار المأمون في البيعة لأبي الحسن الرضا عليه

__________________

(١) التوبة : ١٩.

(٢) الحج : ٦٠.

٢٧٨

السلام فما بايع له المأمون إلا مستبصرا في أمره عالما بأنه لم يبق أحد على ظهرها أبين فضلا ولا أظهر عفة ، ولا أورع ورعا ولا أزهد زهدا في الدنيا ، ولا أطلق نفسا ولا أرضى في الخاصة والعامة ، ولا أشد في ذات منه ، وإن البيعة له لموافقة رضى الرب عز وجل ، ولقد جهدت وما أجد في الله لومة لائم ، ولعمري إن لو كانت بيعتي معه محاباة لكان العباس ابني وسائر ولدي أحب إلى قلبي وأجلى في عيني ، ولكن أردت أمرا وأراد الله أمرا ، فلم يسبق أمري أمر الله.

وأما ما ذكرتم مما مسكم من الجفاء في ولايتي ، فلعمري كان ذلك إلا منكم بمظافرتكم عليه ، ومما يلتكم إياه ، فلما قتلته تفرقتم عباديد فطورا أتباعا لابن أبي خالد ، وطورا أتباعا لأعرابي ، وطورا أتباعا لابن شكلة ، ثم لكل من سل سيفا علي ، ولولا أن شيمتي العفو وطبيعتي التجاوز ما تركت على وجهها منكم أحدا ، فكلكم حلال الدم محل بنفسه.

وأما ما سألتم من البيعة للعباس ابني ، أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ، ويلكم إن العباس غلام حدث السن ، ولم يؤنس رشده ولم يمهل وحده ولم تحكمه التجارب ، تدبره النساء وتكفله الإماء ، ثم لم يتفقه في الدين ، ولم يعرف حلالا من حرام ، إلا معرفة لا تأتي به رعية ، وتقوم به حجة ، ولو كان مستأهلا قد أحكمته التجارب ، وتفقه في الدين ، وبلغ مبلغ أمير العدل في الزهد في الدنيا وصرف النفس عنها ما كان له عندي في الخلافة إلا ما كان لرجل من عك وحمير (١) فلا تكثروا في هذا المقال ، فإن لساني لم يزل مخزونا عن أمور

__________________

(١) قال العلامة المجلسي : والعكة : الإناء الذي يجعل فيه السمن والحمير : في بعض النسخ بالخاء المعجمة وهو الخبز البائت والذي يجعل في العجين. وقال بعض : هما قبيلتان من القحطانية.

٢٧٩

وأنباء ، كراهية أن تخنث النفوس عندما تنكشف ، علما بأن الله بالغ أمره ، ومظهر قضاه يوما.

فإذا أبيتم إلا كشف الغطاء وقشر العظاء ، فالرشيد أخبرني آبائه وعما وجد في كتاب الدولة وغيرها أن السابع من ولد العباس لا تقوم لبني العباس بعده قائمة ولا تزال النعمة متعلقة عليهم بحياته ، فإذا أودعت فودعها ، فإذا أودع فودعاها ، وإذا فقدتم شخصي فاطلبوا لأنفسكم معقلا وهيهات ، ما لكم إلا السيف يأتيكم الحسني الثائر البائر ، فيحصدكم حصدا ، أو السفياني المرغم والقائم المهدي لا يحقن دمائكم إلا بحقها.

وأما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى بعد استحقاق منه لها في نفسه واختيار مني له ، فما كان ذلك مني إلا أن أكون الحاقن لدمائكم ، والذائد عنكم باستدامة المودة بيننا وبينهم ، وهي الطريق أسلكها في إكرام آل أبي طالب ، ومواساتهم في الفيئ بيسير ما يصيبهم منه ، وإن تزعموا أني أردت أن يؤول إليهم عاقبة ومنفعة فإني في تدبيركم والنظر لكم ولعقبكم وأبنائكم من بعدكم ، وأنتم ساهون لاهون تائهون في غمرة تعمهون لا تعلمون ما يراد بكم ، وما أظللتم عليه من النقمة ، وابتزاز النعمة ، همة أحدكم أن يمسي مركوبا ويصبح مخمورا تباهون بالمعاصي ، وتبتهجون بها وآلهتكم البرابط مخنثون مؤنثون ، لا يتفكر متفكر منكم في إصلاح معيشة ولا استدامة نعمة ولا اصطناع مكرمة ، ولا كسب حسنة يمد بها عنقه يوم لا ينفع مال وبنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

أضعتم الصلاة ، واتبعتم الشهوات ، وأكببتم على اللذات وأعرضتم عن الغنيمات فسوف تلقون غيا ، وأيم الله لربما أفكر في أمركم ، فلا أجد أمة من الأمم استحقوا العذاب حتى نزل بهم لخلة من الخلال إلا أصيب تلك الخلة

٢٨٠