نبراس الضياء

السيّد محمّد باقر المشتهر بمحقّق الداماد

نبراس الضياء

المؤلف:

السيّد محمّد باقر المشتهر بمحقّق الداماد


المحقق: حامد ناجي اصفهاني
الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ١٥٢

١
٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

منك الاستيفاق يا عزيز يا عليم

سبحانك اللهمّ وبحمدك ، تعالى جدّك ، وتعاظم مجدك ، بدت آلاؤك الباهرة في السماء والأرض لأبصار العاليات والسافلات ، وسمت أسماؤك المستوية على عرش التقدّس والتأبّه (١) عن تغاير الجهات وتكثّر الحيثيّات ، لا مقل (٢) عقول ملائكتك المقرّبين ـ بطامحات (٣) التقديس والتمجيد ـ بلغت طوار (٤) كنه معرفتك ، ولا أنظار (٥) بصائر عبادك القدّيسين بمقاييس (٦) الفطن والأفهام (٧) قدرتك حقّ قدرك ؛ تباركت وتعاليت لا إله الّا أنت [ب ـ ١] منك البدأة واليك المصير.

صلّ أحمّ (٨) الصلاة ، وسلّم أتمّ التسليم على صفوتك ونصيّتك (٩) وخيرتك من بريّتك ، سيّدنا ونبيّنا محمّد ، وحامّته (١٠) الأقربين ، وعترته الأنجبين ، روقة (١١) أصفيائك

__________________

(١) التأبه : التنزّه.

(٢) المقل : بضم الميم وفتح القاف ، جمع المقلة ، شحمة العين ، أو هي السواد والبياض منها ، العين ذاتها.

(٣) الطامح : المرتفع من كلّ شىء.

(٤) الطوار : ما كان بحذاء الشيء أو على حدّه ، يقال : هذه الدار على طوار دارى ، اى حائطها متّصل بحائط دارى على نسق واحد.

(٥) خ : الطائر.

(٦) المقاييس : جمع المقياس ، المقدار.

(٧) خ : الأنظار.

(٨) أحمّ : أخصّ وأقرب.

(٩) النصية : البقية ، ونصيّة القوم ، خيارهم.

(١٠) الحامّة : خاصة الرجل من أهله وولده الذين يهتمّ لهم.

(١١) الروقة : الحسان ، الجميل جدا من الناس.

٣

وأبرارك ، وعفوة (١) أشعّتك وأنوارك ، إنّهم شجرة رحمتك ، وحفظة سنّتك ، وحملة أحكامك ، وخزنة أسرارك.

أمّا بعد فانّ أفقر المربوبين وأحوج المفتاقين (٢) الى رحمة ربّه الحميد الغني محمّد بن محمّد ، يدعي باقر بن داماد الحسيني ـ ختم الله له في نشأتيه بالحسنى ـ يقول : انّ الصدّيق الصراح (٣) والدّيّن (٤) القراح (٥) ، والفاحص الناهض (٦) ، والباحث الخائض ، والمستكشف المتبصّر ، والمستدرّ (٧) المتمصّر (٨) ، والبارع (٩) الفطن ، والقارع اللسن ؛ ذا الصبغة العقليّة ، والقريحة الملكوتية ، والطينة الايمانيّة ، والفطرة [الف ـ ٢] البرهانيّة ، والعرق النسبيّ ، والفضل الحسبيّ ، أحبّ الخلّان الدينيّة من أكارم التلامذة (١٠) الذين هم الأولاد المعنويّة الروعانيّة (١١) بلّغهم الله تعالى قصوى النهايات من كمالات القوّتين النظريّة والعمليّة ، وقصيا الغايات من سعادات النشأتين الدنيويّة والعقبويّة ـ ذاكرني أن أخفّاء الهام ، وسفهاء الأحلام من مخالفينا ........................................................ طالما (١٢) يعترضون على ما قد ورد في أحاديث سادتنا المعصومين ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ في البداء ؛ فالتمس (١٣) ، وتلمّس (١٤) ، وألحّ (١٥) ،

__________________

(١) العفوة : الصفوة ، عفوة الطعام أو الشراب أى خياره.

(٢) المفتاقين : المفتقرين ، المحتاجين.

(٣) الصراح : بضم الصاد ، الخالص من كل شيء خ : الطرح.

(٤) الدين : بتشديد وكسر الياء ، صاحب الدين ، المتمسك بدينه.

(٥) القراح : بفتح القاف ، الماء الخالص.

(٦) الناهض : المستعدّ.

(٧) المستدرّ : المستجلب.

(٨) المتمصّر : تمصّر الشيء أى تتبّعه.

(٩) البارع : الماهر.

(١٠) في بعض النسخ : المراد ، محمد حسين الچلپى. أيضا راجع : «الذريعة» ج ٢٤ / ٢٥.

(١١) الروعانية : القلبية.

(١٢) طالما : كلمة مركبة من طال وما ، ومعناها : كثيرا ما.

(١٣) خ : التمسوه.

(١٤) تلمّس : ـ الشيء أى تطلبه مرة بعد أخرى.

(١٥) ألحّ : ـ اصرّ ، واظب على السؤال.

٤

واقترح (١) أن أوضح هنالك سبيل الدين ، وأشرح في ذلك باذن الله صدور قوم مؤمنين ؛ ورأيت سائر العصبة (٢) الروعية ، والأولاد الروحانية ، أكبادهم الى هذا الفرات ظامئة (٣) ، وأفئدتهم الى هذا المنهل (٤) ملتاعة (٥) ، فاستخرت ربّي المهيمن (٦) الفيّاض ـ جلّ ذكره وعزّ مجده ـ وقلت لهم ها زمرة الظامئين الملحّين المقترحين ، ومعشر المتلمّسين لرحيق (٧) الحقّ من كأس اليقين! انيّ باذن الله العليم الحكيم آتيكم : ب «نبراس (٨) الضياء وتسواء (٩) السواء (١٠) فى شرح باب البداء ، وإثبات جدوى الدعاء» ، فيه جدد (١١) السّبيل الرشد ، (١٢) وأمم (١٣) الصراط السويّ ، (١٤) ومدى (١٥) الفحص الجرل (١٦) ، وقصوى القول الفصل في تحقيق حكم اللّوح والقلم وأمر القضاء والقدر على أقصى ما يتيسّر (١٧) لابن بجدته (١٨) من نوع

__________________

(١) اقترح : ـ الامر اى عرضه للبحث ، وأيضا : ابتدعه من غير مثال سابق.

(٢) العصبة : من الرجال والخيل والطير : الجماعة ، عصبة الامم أى جمعيّة الامم.

(٣) الظامئة : العطشان.

(٤) المنهل : بفتح الميم ، المورد ، موضع الشرب.

(٥) الملتاعة : المحترقة من الهمّ أو الشوق.

(٦) الظامئة : العطشان.

(٧) الرحيق : خالص لا شوب فيه.

(٨) النبراس : المشكاة.

(٩) التسواء : بكسر التاء في كلام المصنف ، وفي كتب اللغة بفتحها على وزن التفعال ، اى : الموضع المستوى. راجع : «لسان العرب» ج ٦ / ٤٤٦ ، ط بيروت.

(١٠) السواء : العدل.

(١١) الجدد : بفتح الجيم والدال ، منه المثال : «من سلك الجدد أمن العثار» أى من سلك طريق الاجماع ، وفى اللغة : الارض الغليظة المستوية.

(١٢) الرشد : بفتح الراء والشين أى الرشاد.

(١٣) أمم : طريقة ، وفى بعض الاحاديث «الأمم» بمعنى القرب واليسير. راجع : «النهاية» لابن الاثير ج ١ / ٦٩.

(١٤) السوي : المستوي.

(١٥) المدى : المنتهى والغاية.

(١٦) الجرل : جرل المكان أى صلب وغلظ.

(١٧) خ : تيسّر.

(١٨) البجدة : بضم الباء ، بجدة الامر أى باطنه وحقيقته ، يقال : «هو ابن بجدة الأمر» أى هو عالم به.

٥

البشر ممّن خلق له ، وهو له ميسّر (١) ، والله سبحانه (٢) وليّ العلم والحكمة ، به الاعتصام ومنه العصمة.

تقدمة

فيها اقتصاص وحكومة

إنّ (٣) مثير فتنة التشكيك إمام المشكّكين وعلّامتهم ، فخر الدّين الرازي قال في خاتمة كتابه «المحصّل» حاكيا عن سليمان بن جرير الزيديّ أنّه قال : «إنّ أئمّة الرافضة وضعوا مقالتين لشيعتهم لا يظفر معهما أحد عليهم.

الاولى : القول بالبداء ، فإذا قالوا : إنّه سيكون لهم أمر (٤) وشوكة ثمّ لا يكون الأمر على [ب ـ ٣] ما أخبروه ، قالوا : بدا لله تعالى فيه. قال زرارة بن أعين من قدماء الشيعة ، وهو يخبر عن علامات الظهور الامام :

فتلك أمارات تجيء لوقته

ومالك عمّا قدر الله مذهب

ولو لا البداء سمّيته غير فائت

ونعت البداء نعت لمن يتقلّب

ولو لا البداء ما كان ثمّ تصرّف

وكان كنار دهرها تتلهّب

وكان كضوء مشرق بطبيعة

والله عن ذكر الطبائع مرغب

والثانية : التقية ، فكلمّا أرادوا شيئا تكلّموا به ، فإذا قيل لهم هذا خطأ أو ظهر لهم بطلانه ، قالوا : إنّما قلناه تقية» (٥).

فقال حامل عرش التحصيل والتحقيق ، خاتم الحكماء المحصّلين ، نصير الملة

__________________

(١) اقتباس من حديث : «كلّ ميسّر لما خلق له» راجع : «الجامع الصغير» ج ٢ / ٩٣ و «المسند» لاحمد ج ١ / ٨٢٠٦.

(٢) خ : سبحان.

(٣) [الف ـ ٣].

(٤) فى مصدرنا : قوة وشوكة.

(٥) راجع : «تلخيص المحصل» ، ص ٤٢١.

٦

والدين ، الطوسي ـ رضوان الله تعالى عليه ـ في نقده (١) مجيبا عن ذلك : «إنّهم لا يقولون بالبداء ، وإنّما القول به (٢) ما كان إلّا في رواية رووها عن جعفر الصادق ـ عليه‌السلام ـ أنه [جعل اسماعيل ، القائم مقامه بعده ، فظهر من اسماعيل ما لم يرتضه منه ، فجعل القائم الف مقامه موسى ـ عليه‌السلام ـ فسئل عن ذلك ، فقال : «بدا لله في أمر اسماعيل.» وهذه ـ ٤] رواية ، وعندهم أنّ الخبر الواحد لا يوجب علما ولا عملا.

وأمّا التقيّة ، فإنّهم لا يجوّزونها إلّا لمن يخاف على نفسه أو على أصحابه ، فيظهر ما لا يرجع بفساد في أمر عظيم دينيّ ، أمّا اذا كان بغير هذا الشرط فلا يجوّزونها. (٣)» هذا كلامه.

ونحن نقول : أمّا ما حكاه إمام المشكّكين في البداء فممّا ينادى بأعلى الصوت وأجهر النداء أنّ المتعرّض به على دين الرافضة قسطه من تتبّع الأحاديث وتعرّف الأديان طفيف (٤) جدا. أليس ذكر البداء والقول به غير مختصّ بالأخبار المرويّة عن أئمّة الرافضة ـ الذين هم آل قدس العصمة ، وأهل بيت التطهير ، صلوات الله وتسليماته على أرواحهم وأجسادهم ـ؟ بل إنّه متكرّر الورود في أحاديث رسول الله ـ صلّى الله وسلّم عليه وآله الطاهرين ـ من طرق الجمهور ومسانيدهم على ما روته أئمّتهم المحدّثون كالبخاريّ ومسلم ومالك والنسائي والترمذي وأبي داود وابن ماجة والدار قطني وغيرهم من صناتيت (٥) أصحاب الحديث وصناديدهم ، كلّ في صحيحه أو جامعه أو [ب ـ ٤] موطّأه سننه أو مسنده أو مستدركه أو مصابيحه (٦) أو مشكاته (٧) مثلا ، وقد حاول رهط من حذّاق علمائهم المراجيح في شرح غريب الحديث كابن الاثير الجزريّ الموصليّ وعلّامة زمخشر صاحب «الكشاف» والهرويّ صاحب «الغريبين» وأبى موسى الأصفهاني ،

__________________

(١) اى «نقد المحصّل» او «تلخيص المحصّل».

(٢) في المصدر : بالبداء.

(٣) «تلخيص المحصّل» ، ص ٤٢٢ ، ط تهران.

(٤) الطفيف : غير التام ، القليل ، الحقير.

(٥) الصناتيت والصناديد : جمع الصنتيت والصنديد ، السيّد الشريف وقيل : السيّد الشجاع.

(٦) أى : «مصابيح السنة» للفراء البغوي.

(٧) أى : «مشكاة المصابيح» للتبريزى.

٧

وشرّاح صحيحى البخاريّ ومسلم ، ومن عداهم من أترابهم وأضرابهم ومن في طبقتهم أو أعلى طبقة منهم ، تأويل ذلك وتفسيره على مطابقة الاصول والضوابط ، ولقد نطق التنزيل الكريم في القرآن الحكيم بإثباته في مواقع عديدة على ما سينكشف لك عن كتب من ذي قبل إن شاء الله العزيز. وعند ذلك يستبين معنى ما قاله زرارة بن أعين في شعره.

وأمّا ما قاله الناقد المحقّق في الفصيّة (١) عنه فممّا يستغرب مثله عن مثله أشدّ الاستغراب ، فهنالك أخبار جمّة (٢) صبّة (٣) متضافرة (٤) متظافرة ، (٥) متكثّرة الطرق ، معتبرة الأسانيد ، متفنّنة المتون بلفظة البداء وتصاريفها ، رواها أساطين الحديث وأعمدة الرواية كالأبي جعفرين الثلاثة ومن في مرتبتهم ـ رضى الله تعالى عنهم ـ وقد أخرجها تشعّب طرقها واختلاف أسانيدها من حيّز أخبار الآحاد ، أدخلها في حريم باب التواتر ، والأبو جعفران (٦) الأعظمان الأقدمان قد أفرد كلّ منهما لها بابا سمّاه باب البداء وإثبات مغزاها [الف ـ ٥] المروم ، والقول بمعناها المصطلح عليه من صراح ضروريّ الدين ؛ ومرّ المتواتر بالمعنى قطعا.

وليعلم أنّ الرواية الّتي ذكر أنّهم رووها عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ لم يرووها أحد منهم على ما أورده أصلا. كيف وقد ثبت وصحّ من طرقهم ورواياتهم ، بل ومن الطرق الجمهوريّة أيضا أن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قد نبّأ بأئمّة أمّته وأوصيائه من عترته!؟ وأنّ جبرئيل ـ عليه‌السلام ـ نزل بصحيفة من السماء فيها أسماؤهم وكناهم ـ عليهم‌السلام ـ شحنت (٧) بالروايات في ذلك كتب الحديث ؛ ونحن قد أخرجنا طائفة منها

__________________

(١) الفصيّة : التخلص فى خير أو شر.

(٢) الجمة : الكثيرة.

(٣) الصبة : صبّ الماء أى سبكه ، ولكن الصبة بضم الصاد بمعنى الاسم جماعة من الناس ، والمصنف ذكرها بفتح الصاد.

(٤) المتضافرة : المتعاونة.

(٥) متظافرة : المتعاونة.

(٦) كذا.

(٧) شحنت : ملأت.

٨

وفي «شرح تقدمة تقويم الإيمان» (١) ، وعن كلّ واحد منهم ـ عليهم‌السلام ـ نصوص قاطعة وتنصيصات بأنّه على امامتهم واحدا بعد واحد إلى قائمهم الحجّة ، (٢) فكيف تسوغ الرواية عن أبي عبد الله الصادق ـ عليه‌السلام ـ أنّه جعل اسماعيل القائم مقامه بعده.

وإنّما تلك الرواية على الوجه الذي أورده عروة الإسلام الشيخ الفقيه الرواية الصدوق أبو جعفر بن بابويه القمّي ـ رضوان الله تعالى عليه ـ في كتاب «التوحيد» حيث قال في باب البداء [ب ـ ٥] بهذه الألفاظ : «ومن ذلك قول الصادق ـ عليه‌السلام ـ ما بدا لله أمر (٣) كما بدا له في اسماعيل ابني ، يقول ما ظهر لله أمر كما ظهر له في إسماعيل ابني اذ اخترمه (٤) قبلي ليعلم بذلك أنّه ليس بإمام بعدي. وقد روى لي من طريق أبي الحسين الأسدي ـ رضى الله عنه ـ في ذلك شيء غريب ، وهو أنّه روى أن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : ما بدا لله بداء كما بدا له في إسماعيل [أبي] إذا أمر أباه [إبراهيم] بذبحه ثمّ فداه بذبح عظيم. وفي الحديث على الوجهين جميعا عندي نظر إلّا أنّي أوردته لمعنى لفظة البداء ، والله الموفّق للصّواب.» انتهى (٥).

فأمّا حديث التقيّة ، فالناقد هناك مصيب ، فالتقيّة فيما يبوء (٦) بفساد بيضة السنّة وانطماس (٧) شرعة الإسلام ، ولا في الامور العظيمة الدينيّة أصلا ، ولا سيّما للمشهورين في العلم ، المقتدى بهم في الدين ، وكذلك لا تقيّة في الدماء المحقونة ، ولا في سبّ النبيّ أو أحد من الأئمّة أو الأنبياء والبراءة عنهم أو عن دين الإسلام ، أعاذنا [الف ـ ٦] الله تعالى من ذلك كلّه. إنّما التقية فيما الخطب (٨) فيه سهل من الأعمال والأقوال لمن يخاف على نفسه أو على أمله وأصحابه ، وما يؤتى به من الوظائف الدينيّة والسنن الشرعيّة تقيّة يجب

__________________

(١) راجع : «شرح تقدمة تقويم الإيمان» ، ص ٤٧.

(٢) راجع لتفصيل أحاديثها وأسانيدها : «العوالم» ، ج (١٥ / ٣) ، في النصوص على الأئمّة الاثنى عشر.

(٣) في المصدر : «ما بدا الله بداء».

(٤) اخترم : أهلك ، أخذ.

(٥) «التوحيد» ، ص ٣٣٦ ، ح ١١ ـ ١٠.

(٦) يبوء : يرجع.

(٧) انطماس : انمحاء.

(٨) الخطب : الشأن.

٩

على العامل الآمل الآتي بها أن ينوى بذلك خلوص القربة ، ونصوح الإخلاص ، ومحوضة ابتغاء وجه الله الكريم من حيث انّ حكم الشرع في حقّه التقيّة عند المخافة ؛ كما المتيمّم مثلا فرضه التيمّم عند مظنّة الهلاك ومئنّة (١) المرض ، فينوى القربة لا دفاع المرض ، وإن وكان هو بحسب الشرع من أسباب تسويغ التيمّم وإيجابه ؛ وسواء عليه أكان ذلك من باب الرّخصة أم من باب العزيمة؟ فالعامل بالتقيّة يجب أن يكون في طينته (٢) ونيّته بحيث أن لو ساغ له من تلقاء الشرع ترك التقية لم يكن مستحرزا بها لحفظ مهجّته ، ولا متحرّزا من إتلاف نفسه ؛ وإذا كان مستدفعا للضرر (٣) بتقيّته قاصدا بها التحفّظ والدفاع ، دون الإخلاص والقربة ، كان سعيه من اللغو الباطل ، وعمله من الهباء المنثور بتّة.

ثم إنّ أئمّتنا الطاهرين ـ صلوات الله عليهم ـ لم يتّقوا أحدا في إظهار مرتبتهم والإعلان [ب ـ ٦] بدرجتهم ، وكان تثبّطهم (٤) عن طلب حقّهم والقيام بالأمر في رعيّتهم ، واستنقاذ (٥) منصبهم من أيدى غصبة حقوقهم لعوز (٦) الأنصار وفقد الأعوان ، رضى (٧) بما جرى به القلم ، وتسليما لما تأدّى إليه القدر ، وعملا بوصيّة سبقت من رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ـ ولم ين أحد منهم ـ عليهم‌السلام ـ في تبريز (٨) غوامض العلوم الحقيقيّة وغامضات المعارف الربوبيّة ، وتبيين شرايع الأحكام الدينيّة والحدود الإلهيّة على منهاج التنزيل ومرصاد (٩) التأويل بمصباح العلم والحكمة ومشكاة القدس والعصمة ؛ لا بمعونة مدارسة أو مؤونة ممارسة ، ومن دون مراجعة باب أو مطالعة كتاب ، وما صدر عنهم من

__________________

(١) المئنة : العلامة.

(٢) طينته : ضميره.

(٣) خ : للضرب.

(٤) تثبط : تعوّق ، تريّث.

(٥) الاستنقاذ : التخليص.

(٦) العوز : الضيق.

(٧) خ : يرضى.

(٨) التبريز : الإظهار.

(٩) المرصاد : المكان يرصد فيه ، الطريق.

١٠

الإفتاء على قانون التقيّة ، فربّما كانت عضّة (١) من ذلك على سنن التعليم بيانا لتسويغها عند الضرورة ، وثقة منهم بما قد كانوا أوضحوه للمؤمنين من جادّة الحقّ الصريح ، ومحجّة الدّين الحنيف ؛ وعضّة أخرى من جهة أنّ السائل كان مفتونا بمذهبه اللجلج (٢) ، مولعا بدينه الأعوج (٣) ، فهم ـ عليهم‌السلام ـ افتوه في مسألته على مذهبه وطريقة (٤) لا ترجى هدايته ، ولا ترقب [الف ـ ٧] استقامته.

وكذلك كان سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ عليه‌السلام ـ في صدر الأمر والزمن الأوّل ، حيث انّه لم ينهض بالجهاد على خلافته ، ولم يترك طلب حقّه ، ولم يهمل ادّعاء منصبه ، ولصوص (٥) الخلافة ومتقمّصوها (٦) والمتغلّبون بها ، كانوا يطالبونه بالبيعة ، ويقولون له : تبايع ، أو لنضربنّ الّذي فيه عيناك! فكان يقول لهم : أنتم بالبيعة لي أحقّ منّي بالبيعة لكم. وكان يقول : كنّا نرى أنّ لنا في هذا الأمر حقّا ، فاستبددتم علينا. وكان يقول : «أنا أول من يجثو (٧) للخصومة بين يدى الله.» وكان يقول : «واعجبا! أتكون الخلافة بالصحابة ، ولا تكون بالقرابة والصحابة ، وإنّى احتجّ عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار (٨)».

وهذه كلّها متّفق على صحّتها ، رواها جميعا البخاري ومسلم وغيرهما من أئمة حديث العامّة ، وأوردها ابن الاثير في «النهاية» ، ومن العجائب أنهم عن آخرهم متّفقون مع ذلك كلّه على صحّة الحديث عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ «علي مع

__________________

(١) العضة : من «عضا» ، عضّيت الشىء إذا فرّقته وجعلته أعضاء.

(٢) اللجلج : بسكون الجيم وفتح اللامين ، لجلج اللقمة في فيه أى أدارها من غير مضع ، لجلج أى تردّد.

(٣) الأعوج : اعوجّ اعوجاجا أى انحنى ، ضد الاعتدال.

(٤) خ : طريقه.

(٥) اللصوص : جمع اللصّ أى السارق.

(٦) متقمّصوها : تقمّص أى لبس القميص ، ويقال على الاستعارة : «تقمّص الولاية والأمارة» أى لبس ذلك كما يلبس القميص.

(٧) يجثو : جثا أى يجلس على ركبتيه. خ : بحثو.

(٨) «نهج البلاغة» ، الحكم ١٨١ ، ص ١١٧٣ ، ط فيض الإسلام.

١١

الحقّ ، والحقّ مع علي ، يدور معه حيثما دار (١)».

وقال حجّة اسلامهم ، وإمام دينهم وشيخ علمائهم ، أبو حامد الغزّالي في كتاب [ب ـ ٧] «إحياء العلوم» : «لم يذهب ذو بصيرة ممّا إلى تخطئة علي قطّ (٢)».

ومن المتّفق على روايته في صحاحهم وأصولهم «كان علي ديّان هذه الامّة بعد نبيّها. (٣)» وأورده علامة زمخشرهم في كتاب «اساس البلاغة» وفي كتابه «الفائق» (٤) وفسّره ، فقال : أى قاضيها. وقال ابن الاثير وهو صاحب جامع أصولهم في «النهاية» : «الدّيان هو القهّار ، وقيل الحاكم والقاضى ، ثم قال ومنه شعر الأعشى الجرماذيّ (٥) يخاطب النبيّ عليه الصلاة والسّلام يا سيّد الناس وديّان العرب. ومنه الحديث : كان على هذه الامّة بعد نبيّها (٦)».

ومن هناك ترى أحبار الجمهور ونحاريرهم يفوّضون أمر الإمامة بعد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ إلى اختيار الامة ، ثم لا يشترطون فيها إجماع أهل الحلّ والعقد ، بل يكتفون بالبيعة ولو من واحد. قال نحرير تفتازانهم في «شرح المقاصد» محتجّا على إمامة ابي بكر لنا وجوه : «الاوّل : وهو العمدة ، إجماع أهل الحلّ والعقد على ذلك ، وإن كان من البعض بعد تردّد وتوقّف ، على ما روى أنّ الأنصار قالوا منّا أمير ومنكم أمير ، وأنّ أبا سفيان قال : أرضيتم يا بني عبد مناف أن يلي عليكم تيم ، والله لأملانّ [الف ـ ٨] الوادي خيلا ورجلا. وذكر في «صحيح البخاريّ» وغيره من كتب الأصحاب أنّ بيعة علي كان (٧)

__________________

(١) راجع : «الغدير» ج ٣ / ١٨٠ ـ ١٧٦ و «ترجمه الإمام علي بن أبي طالب» ج ٣ / ١٥٨ ـ ١٥١ ح ١١٦٩ بمصادر عديدة والفاظ متلونة متظاهرة متظافرة.

(٢) لم نعثر عليه ، ولكن انظر : احياء العلوم» ، ج ٤ / ٤٣٨.

(٣) راجع : «إحقاق الحقّ» ج ٤ / ٢٧٣. وفي «البحار» ج ٢٥ / ٢٤٤ بإسناده : «قال رسول الله (ص) أخبرني جبرئيل عن الله عزوجل أنّه قال : علي بن أبي طالب (ع) حجّتى على خلقي وديّان ديني».

(٤) «اساس البلاغة» ، ص ٢٠٩ و «الفائق في غريب الحديث» ، ج ١ / ٢٥.

(٥) في المصدر : الجرمازى.

(٦) «النهاية» ج ٢ / ١٤٨ ، مع التلخيص.

(٧) في هامش نسخة المصنف : «ظ : كانت».

١٢

بعد توقّف (١) ، وفي إرسال أبي بكر وعمر أبا عبيدة الجرّاح إلى علي [رضى الله عنه] رسالة لطيفة ، روتها (٢) الثقات بإسناد صحيح تشتمل على كلام كثير من جانبين ، وقليل غلظة من عمر ، وعلى أنّ عليا جاء إليهما ودخل فيما دخلت فيه الجماعة ، وقال ـ حين قام من المجلس ـ : بارك الله (٣) فيما ساءني وسرّكم. فما (٤) روى أنّه لمّا بويع لأبي بكر وتخلّف علي والزبير والمقداد وسلمان وابو ذر أرسل أبو بكر من الغد إلى علي فأتاه مع أصحابه ، فبايعه هو ، وسائر المتخلّفين محلّ نظر.» انتهى قوله بألفاظه (٥). وقال فيه أيضا : «وتنعقد الإمامة بطرق ، أحدها بيعة أهل الحلّ والعقد من العلماء والرؤساء ، ووجوه الناس [الذين يتيسّر حضورهم] من غير اشتراط عدد ، ولا اتفاق كلّ من فى ساير البلاد ، بل لو بايع واحد مطاع كفت بيعته (٦)».

ثمّ قال فيه : «طريق ثبوت الإمامة (٧) عندنا وعند المعتزلة والخوارج والصالحيّة خلافا للشيعة (٨) [هو] اختيار أهل الحلّ والعقد ، وبيعتهم من غير أن يشترط إجماعهم على

__________________

(١) «كان بعد توقف» قطة فى المصدر. وقال المحشى في الهامش : «رفع من هذا الموضع من المصنّف بياض ، مقدار ما يسع فى كلمتان»!

(٢) في المصدر : رواها.

(٣) «بارك الله» : أى بارك الله لي فيه ، ولا أذاقني مرارة تبعته في الدنيا والآخرة ، وامّا على رواية «لا بارك الله» كما في بعض الطرق ، فالمراد لا بارك الله لكم فيه. (منه).

(٤) أيضا في «الشرح» : «فقال : ما خلقك يا علي عن أمر الناس؟ فقال : عظمت المصيبة ، ورأيتكم استغنيتم برأيكم ، فاعتذر إليه أبو بكر ، ثمّ أشرف على الناس فقال : هذا علي بن أبي طالب ، ولا بيعة لي في عنقه ، وهو بالخيار في أمره ...».

(٥) «شرح المقاصد» ، البحث الخامس ، ج ٢ / ٢٠٩ ، ط مصر.

(٦) في متن «المقاصد» : «بل لو تعلّق الحلّ والعقد بواحد مطاع كفّت بيعته».

(٧) في المصدر : طريق ثبوتها عندنا.

(٨) عند الشيعة أنّ الامامة تكون بالاستحقاق الذاتيّ لها والتنصيص يكشف عنها ، وأهل السنّة ينكرون الاستحقاق الذاتيّ في جميع الأبواب رأسا ، ويذهبون إلى أنّ البيعة مثبة للإمامة ، لا كاشفة عن تحقّقها ؛ إذا عرفت ذلك فاعلمن أنّه لا يجوز أن يكون البيعة طريق ثبوت الإمامة ؛ والّا لزم أن يكون الزمان من حين موت النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ إلى وقت انعقاد البيعة خاليا عن الإمام ؛ وذلك باطل باتّفاق الامّة.

أمّا على مذهب الشيعة فلأنّهم لا يجوّزون خلوّ الزمان إلى قيام الساعة. وأمّا على طريقة أهل السنّة فلأنّهم يوافقون الشيعة في ذلك الى ثلاثين سنة ، لروايتهم عنه ـ عليه‌السلام ـ : «الخلافة بعدي ثلثون سنة» ثمّ

١٣

ذلك ، ولا عدد محدود ؛ بل ينعقد بعقد واحد منهم ، ولهذا لم يتوقف ابو بكر (١) إلى انعقاد الإجماع ؛ بل تقلد الخلافة ، إذ بايعه عمر. قال : وهذا مذهب الأشعريّ إلّا أنّه [ب ـ ٨] يشترط أن يكون ذلك العقد بمشهد من الشهود لئلّا يدّعى آخر عقدا سرّا متقدّما على هذا العقد (٢)».

وكذلك في كتاب «المواقف» وشرحه لعضد نحاريرهم وشريف أحبارهم أيضا بهذه العبارة (٣) : «وإذا ثبت حصول الإمامة بالاختيار والبيعة. فاعلم أنّ ذلك (الحصول) لا يفتقر إلى الإجماع (من جميع أهل الحلّ والعقد) إذ لم يقم عليه (أى على هذا الافتقار) دليل من العقل والسمع ؛ بل الواحد والاثنان من أهل الحلّ والعقد كاف (فى ثبوت الإمامة ووجوب الاتباع للامام على أهل الإسلام ، وذلك) لعلمنا أنّ الصحابة مع صلابتهم في الدّين (وشدّة محافظتهم على امور الشرع كما هو حقّها) اكتفوا (فى عقد الامامة) بذلك (المذكور من الواحد واثنين) كعقد عمر ابي بكر وعقد عبد الرحمن بن عوف لعثمان بن عفان ، ولم يشترطوا (في عقدها) اجتماع من في المدينة (من أهل الحلّ والعقد ،) فضلا عن إجماع الامّة (من علماء أمصار الإسلام ، ومجتهدي جميع أقطارها) ، هذا (كما مضى) [الف ـ ٩] ولم ينكر عليهم أحد وعليه (أى على الاكتفاء بالواحد والاثنين في عقد الإمامة) انطوت الأعصار بعدهم إلى وقتنا هذا ، وقال بعض الاصحاب : يجب كون ذلك (العقد من واحد أو اثنين) بمشهد بيّنة عادلة ، كفّا للخصام في ادّعاء من يزعم عقد الإمامة له سرّا قبل من عقد له جهرا (فإنّه اذ لم تشترط البيّنة العادلة توجّهت المخاصمة بالعقد سرّا ، وإذا اشترطت اندفعت ؛ لأنّ ذلك العقد غير صحيح)». انتهت

__________________

انّه يلزم بحكم الإجماع أن يكون للناس قبل انعقاد البيعة إمام ، وليس هو بأبي بكر لعدم حصول ما به امامته ، ولا غير علي ؛ وأبى بكر بالاجماع المركّب غير إمام ؛ فتعيّن أن يكون علي ـ عليه‌السلام ـ هو الإمام أوّلا ويلزمهم أن يرتكبوا أنّ البيعة كانت على عزله ونصب أبى بكر ، وذلك من السخافة بحيث لا يتمطّاه عاقل ؛ فليتبصّر! (منه).

(١) في هامش نسخة الأصل والمصدر : «لم يتوقف أبى بكر إلى انتشار الأخبار في الأقطار ، ولم ينكر أحد ، وقال عمر لأبي عبيدة : ابسط يدك لابايعك! فقال : أتقول هذا وأبو بكر حاضر!؟ فبايع أبا بكر وهذا».

(٢) المصدر ، ج ٢ / ٢٠٦.

(٣) بين القوسين عبارات «شرح المواقف».

١٤

عبارتهما (١).

فمن ذلك فليتعجّب المتعجّبون ، وعلى أحلام هؤلاء السفهاء المتوقّحين فليضحك الضّاحكون ........................... وكيف يلعبون بدين الله!!.

وقد اعترف إمامهم الرازي في كتاب «نهاية العقول» بأنّه : «لم ينعقد الإجماع على خلافة أبي بكر في زمانه ؛ بل إنّما تمّ انعقاده بموت سعد بن عبادة ، وكان ذلك في خلافة عمر. (٢)

قال : ونحن انّما نتمسك (٣) بهذا الإجماع ، وقد استبان لك أنّ البيعة الّتي

__________________

(١) «المواقف» ، المرصد الرابع ، المقصد الثالث ، ص ٤٠٠ ، ط بيروت و «شرح المواقف» ، ج ٨ / ٣٥٢ ، ط مصر ١٣٢٥.

(٢) انّما كانت الامامة عهد الله ، لقوله سبحانه : «لا ينال عهدي الظالمين» [البقرة / ١٣٤] وقد فسّره المفسرون بعهد الامامة (منه).

راجع : «الكشاف» ، ج ١ / ١٨٤.

(٣) هذه شبهة تصعّب (كذا) على الأذهان الفصية عنها ، والخروج الى المنتدح عن مضيقها بناء على تسليم تكاذيب أو ضياعهم الكاذبة ، والمماشاة معهم في تخاليط موضوعات اصولهم الفاسدة. تقريرها على وجهه : أنّ كلّ ما انعقد عليه الإجماع في عصر من الأعصار لا يصحّ أن يحكم عليه بأنه خطأ أو جدل بالإجماع وامامة أبي بكر وان لم يكن ممّا عليه انعقاد الإجماع في زمانه ، الّا أنّ عند موت سعد بن عبادة في زمن عمر قد انعقد الاجماع على أنّها كانت حقّا في زمان وقوعها ، اذ كان المخالف في ذلك منحصرا في سعد بن عبادة ، وانصرم الخلاف بموته ، فيلزم إمّا بطلان حكم هذا الاجماع ، أو حقّية امامة أبي بكر في زمانه.

وأصحابنا انّما تفصّوا عن ذلك بمنع انحصار المخالف فيه ، فهذا خروج عن قانون فنّ الجدل ، ولم يأت أجدّ عن سنن التسليم وسنة المماشاة هناك بشيء يستحقّ الاصغاء اليه والاضافة له ، فلا جرم كان من الواجب على ذمّتنا تحقيق القول فيه وايفاؤه حقّه.

فاعلم انّه قد اقترّني مقرّه في علم الاصول أنّ الاجماع مطلقا حجّة ولكنّه على ضربين :

أحدهما : ما لا يجوز الاجتهاد في مقابله أصلا ، ويجب الحكم على ما يعارضه من الدلائل بأنّه شبهة مغالطية بتّة ، وهو ما يكون ثابتا بالنقل المتواتر في جميع الطبقات ، ويكون معلوما بالقطع أنّ أهل الحلّ والعقد المجمعين على الحكم لم يروموا بألفاظهم الدالة على ذلك الّا المعاني الحقيقيّة ، ولم يكن اظهارهم ذلك لمخافة وتقيّة وتورية وما في حكمها ؛ بل كانت عباراتهم القوليّة في التعبير عنه على مطابقة اعتقادهم القلبي ، كالاجماع على كون صلاة الصبح ركعتين ، وصلاة الظهر أربع ركعات مثلا.

وثانيهما : ما يحلّ للمجتهدين أن يجتهدوا في مقابلته ، ويحكم بخلافه لمعارضته بما يحلّ هو أقوى منه من الأدلة ، كما الأمر في الاجماعات الظنية المنتفى فيها أحد الشرطين.

والامامة عند الشيعة من اصول الاعتقادات الايمانية التي لا يصحّ فيها الّا بالتمسك بالادلة القطعية المفيدة للعلم البتّى ، وعند أهل السنّة وان كانت هي من الفروع الّا انّه ممّا لا بدّ فيه الاجماع القطعي ، والاجماع

١٥

يختلقونها (١) ، ويدّعون وقوعها من أمير المؤمنين ـ صلوات الله تعالى عليه ـ بعد الزهراء البتول ـ عليها‌السلام ـ لم يكن صدورها منه بزعمهم عن إذعان لها ، واعتراف بحقّيتها ؛ بل إنّما صدرت عن استكراه ومساءة له ، وإعلان منه بغصب حقّه ، والاستبداد عليه».

وبالجملة فكلمّا صدر أئمّتنا على تقيّة وتورية لمخافة ومصلحة ، كان مسبوقا ومقرونا [ب ـ ٩] منهم ببيان صراح الدين لأهله ، واظهار مرّ الحقّ عند حزبه ، وذلك ممّا لا حزازة (٢) فيه أصلا ؛ وليست التقيّة ممّا تنفرد به الشيعة ، بل إنّها ثابتة في الجملة عند ساير الفرق ؛ ومنها التورية في اليمين عند الضرورة.

تعقيب

أرأيت الّذي حكى عنه إمام المشكّكين ما حكاه ............ (٣) ما أجسره بمقالته المحكيّة ........ (٤) وما أفظع (٥) جلاعته (٦) وأشدّ وقاحته ، كيف وسعه! وهو على ظاهر الأخذ بذمة الإسلام أن يقع في أئمّة الرافضة من آل محمّد ـ صلوات الله عليه وعليهم ـ آل القدس والعصمة ، وأصحاب آية التطهير ؛ وإنّ نسبتهم إلى النبيّ نسبة وتين (٧) [الف ـ ١٠] القلب إلى جوهر النفس ، ونسبة شجرة النّخاع

__________________

القطعى على أنّه لا يجوز لأحد من المجتهدين أن يجتهد في مقابلته ويحكم بخلافه لتعارض الأدلّة الظنيّة ؛ بل المخالف في ذلك كفر غير محقون الدم بالاتفاق.

وحينئذ نقول : إن ريم بالاجماع المتمسّك به الضرب الأوّل ، فأنّى لأحد أن يدّعى ذلك؟ ولقد استبان سبيل الأمر بما قد أوردناه في الكتاب. وإن ريم به الضرب الثاني ، فممّا لا يجدي هنالك أصلا ، فليتعرّف وليتبصّر. (منه).

(١) يختلقون : يفترون.

(٢) الحزازة : بفتح الحاء ، التعسّف في الكلام.

(٣) فضّ الله فاه : نثر أسنانه.

(٤) فلّ السيف : ثلمه ، كسره.

(٥) أفظع : أشنع ، أشدّ شناعة.

(٦) الجلاعة : هى اسم امرأة التي لا تستر نفسها إذا خلت مع زوجها ، أى قليلة الحياء ، وأيضا يقال للامرأة التي تكلمت بالقبيح.

(٧) وتين : عرقين في القلب يجرى فيهما الدّم.

١٦

إلى أمّ الدماغ ، وهم أهل بيت النبيّ الكريم وعترته ، وشقيق القرآن الحكيم وشريكه ، وإنّهما تريكتا رسول الله في امّته ، وحجّتا دين الله على بريّته ، وهما الثقلان اللّذان لن يضلّ من تمسّك بهما أبدا ، ولن يهتدي من اتّخذ من دونهما ملتحدا.

[حديث الثقلين] :

أليس حديث الثقلين المتمسّك بهما ممّا أطبقت الامة على صحّته عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ـ ولأضابير (١) حفّاظ الحديث وأئمّة الرواية في روايته قدد (٢) وطرائق.

منها : أنّه ـ عليه‌السلام ـ قام خطيبا بماء يدعى خمّا بين مكّة والمدينة ، فحمد الله تعالى ، وأثنى عليه ، ووعظ وذكّر ، ثمّ قال : «ألا أيّها الناس إنّما أنا بشر (٣) يوشك أن يأتيني رسول ربّي ، فاجيب ؛ وإنّي تارك فيكم الثّقلين ، ما ان تمسّكتم بهما لن [ب ـ ١٠] تضلّوا بعدي أبدا ، أوّلهما : كتاب الله ، حبل ممدود من السماء إلى الأرض ؛ وعترتى : أهل بيتي ، اذكّركم الله في أهل بيتي ، أذكّركم الله في أهل بيتي ، أذكّركم الله في أهل بيتي ، ولن يتفرّقا (٤) حتّى يردا على الحوض ، فانظروا كيف تخلّفوني (٥) فيها (٦)».

قال عالمهم النّاقد النحرير ، مجد الدّين ابن الاثير ، في نهايته على طباق ما قاله شيخ مشيختهم ، أبو عبد الله المازريّ ، شارح «صحيح مسلم» في شرحه : «سمّاهما ثقلين ، لأنّ

__________________

(١) الأضابير : جمع إضبارة ، أى الجماعة.

(٢) القدد : بكسر القاف وفتح الدال ، جمع القدة أى القطعة من الشيء ، يقال كنّا طرائق قددا ، أى فرقا مختلفة الأهواء.

(٣) خ : بشير.

(٤) في هامش الأصل : «خ : يفترقا».

(٥) في هامش الأصل : «خ : تخلفونني».

(٦) راجع : «مصابيح السنة» ، ج ٤ / ١٨٥ ح ٤٨٠٠ ، باب المناقب ، «الصحيح» لمسلم ج ٤ / ١٨٣ ، كتاب فضائل الصحابة ، «مشكاة المصابيح» ، ص ٥٦١ ط حيدرآباد ، «بصائر الدرجات» ، ص ٤٣٣ ، «البحار» ، ج ٢٣ / ١٠٧ ، «اثبات الهداة» ، ج ٢ / ٢٩٠ ، «المناقب» لابن المغازلي ، ص ٢٣٦ ح ٢٨٤ و «المسند» لأحمد ، ج ٤ / ٣٦٧.

١٧

الأخذ بهما والعمل بهما ثقيل ، ويقال لكلّ خطير نفيس ثقل ، فسمّاهما ثقلين إعظاما لقدرهما ، وتفخيما لشأنهما (١)» وقال الطيبي في «شرح المشكاة (٢)» : «شبّه بهما الكتاب والعترة في أنّ الدين يستصلح بهما ، ويعمر كما عمرت الدنيا بالثّقلين ، وسمّى [الف ـ ١١] الجنّ والإنس ثقلين ؛ لأنّهما فضّلا بالتمييز على سائر الحيوان ، وكلّ شيء له وزن وقدر يتنافس فيه (٣) فهو ثقل».

[حديث السفينة] :

وممّا على إثبات صحّته أطباق الامّة من الخاصّة والعامّة ، أنّه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ قال : «ألا إنّ مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح ، من ركبها نجا ، ومن تخلّف عنها هلك. (٤)» كذلك رواه أحمد بن حنبل فى مسنده ، والحاكم في مستدركه ، وأورده السيوطي في جامعه الصغير ، والطيبي في [شرح] المشكاة. ومن طرق عديدة جمهوريّة : «من تخلّف عنها غرق (٥)

ومن طرق كثيرة خاصيّة وعاميّة : «من تخلّف عنها زخّ (٦) في النّار.» بالزاء والخاء المعجمة. وكذلك من طريق الخاصّة في «الصحيفة المكرّمة الرضوية» وفي «كتاب عيون أخبار الرضا». وأورد ابن الاثير في «النهاية» : «من تخلّف عنها زخّ به في النّار ـ وفسّره فقال ـ أى دفع ورمى. (٧)»

__________________

(١) «النهاية في غريب الحديث» ، ج ١ / ٢١٦.

(٢) أى : شرح «مشكاة المصابيح» ، ولم توجد نسخة منها إلى الآن.

(٣) يتنافس فيه : يرغب فيه.

(٤) أخرجه من طريق أحمد بن حنبل «مشكاة المصابيح» ، ج ٣ / ٢٦٥ ، ط مصر ، «المستدرك» ؛ ج ٢ / ٣٤٣ وج ٣ / ١٥١ ، «الجامع الصغير» ، ج ٢ / ١٣٢ ، ١٦١ و «منتخب كنز العمال» ، ج ٥ / ٩٥ ، ٩٢.

(٥) راجع : «المناقب» لابن المغازلي ، ص ١٣٤ ـ ١٣١ ومصادر ذيلها.

(٦) زخّ : دفع ، رمى.

(٧) «صحيفة الإمام الرضا» ، ص ١١٦ ، ح ٧٧ ومصادر ذيلها ، «عيون أخبار الرضا» ، ج ٢ / ٢٧ ح ١٠ ، «النهاية» ، ج ٢ / ٢٩٨. ولتفصيل المصادر انظر : «احقاق الحق» ، ج ٩ / ٢٨٩ ، ٣٧٠ وج ١٨ / ٢٨٤ ، ٣٢١ ؛ فاغتنم.

١٨

قلت : على هذه الرواية الباء ليست للتعدية [ب ـ ١١] بل إمّا مزيدة لدعامة (١) المعنى ، والعائد ل «من» من ، وإمّا للسببيّة ، والعائد لمصدر الفعل ، أى دفع ورمى في النار بسبب التخلّف. قال في «شرح المشكاة» : «شبّه الدنيا بما فيها من الكفر والضلالات والبدع ، والأهواء الزائغة (٢) ببحر لجيّ يغشاه موج من فوقه ، موج من فوقه سحاب ، ظلمات بعضها فوق بعض ؛ وقد أحاط بأكنافه وأطرافه الارض كلّها ، وليس منه خلاص ولا مناص (٣) إلّا بتلك السفينة».

[تنبيه بوجوب ظهور أوصياء النبيّ قبل انقراض العالم] :

وممّا على حدّ حريم التواتر عند ضبائر (٤) الفرق جميعا من الخاصّة والعامّة عنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أن أوصياءه وخلفاءه وأئمّة امّته من بعده اثنا عشر إماما ، عدد نقباء بني اسرائيل.

«لا يزال الدين بهم قيّما قويما ، والإسلام بهم قيّما مستقيما إلى أن يقوم الساعة ، وإنّ الله تعالى جعل الإمامة في عقب الحسين ، وذلك قوله عزوجل (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) (٥) (٦).

وإنّه ـ عليه‌السلام ـ قال : «يكون بعدي اثنا عشر أميرا (٧).» وقال «لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقى منهم اثنان (٨)». وفي رواية «ما بقى من الناس اثنان».

__________________

(١) الدعامة : الركن.

(٢) الزائغة : المائلة عن الحقّ.

(٣) المناص : الملجأ ، المفرّ.

(٤) الضبائر : جماعات من الناس.

(٥) الزخرف ، ٢٨.

(٦) راجع : «العوالم» ، ج (١٥ / ٣) ، ص ١٦٣ ، النصوص على الأئمة الاثنى عشر ، «البحار» ، ج ٢٥ / ٢٥٢ ، و «احقاق الحق» ، ج ١٣ / ٣٠٦.

(٧) «الصحيح» للبخارى ج ٩ / ٧٢٩ ح ٢٩٣٤ كتاب الأحكام فى باب الاستخلاف.

(٨) «العمدة» لابن بطريق ، ص ٤١٦ ، ح ٨٥٨ نقلا من البخاري.

١٩

وقال ـ عليه‌السلام ـ : «لا يزال أمر الناس ماضيّا ، ما ولّيهم اثنا عشر أميرا رجلا (١)».

وقال ـ عليه‌السلام ـ : «إنّ هذا الدين لا ينقضي حتّى يمضى فيه اثنا عشر خليفة (٢)».

وقال ـ عليه‌السلام ـ : «لا يزال الإسلام عزيزا إلى اثنى عشر [الف ـ ١٢] خليفة (٣)».

وقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : «لا يزال هذا الدين عزيزا منيعا الى اثنى عشر خليفة» (٤)

وإنّه ـ عليه‌السلام ـ قال : «لا يزال هذا الدين قائما ، حتّى تقوم الساعة ، ويكون عليهم اثنا عشر خليفة (٥)».

وقال ـ عليه‌السلام ـ : «لا يزال الإسلام عزيزا إلى اثنى عشر خليفة ، كلّهم من قريش (٦)»

وفي رواية : «لا يزال الدّين قائما حتّى تقوم الساعة ، ويكون عليهم اثنا عشر خليفة ، كلّهم من قريش (٧)». وفي رواية «أو» مكان الواو (٨).

وفي رواية : «لا يزال أمر الناس ماضيا ما ولّيهم اثنا عشر رجلا ، كلّهم من قريش (٩)».

وإنّه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قال : «إنّ عدّة الخلفاء من بعدي عدّة نقباء موسى (١٠)».

فهذه الروايات بأسرها مستصحّة الأسانيد من طرق العامّة ، مثبتة الصحّة في

__________________

(١) «العمدة» ، ص ٤١٧ ح ٥٩. نقلا عن مسلم.

(٢) «الصحيح» لمسلم ج ٣ / ١٤٥٢ ح ٥ ، كتاب العمارة و «العمدة» ، ص ٤١٧ ، ح ٨٦٢.

(٣) «العمدة» ، ص ٤١٧ ، ح ٨٦٠.

(٤) «الصحيح» لمسلم ج ٣ / ١٤٥٢ ح ٨ ، كتاب العمارة و «العمدة» ، ص ٤١٨ ، ح ٨٦٣ و ٨٦٥.

(٥) «الصحيح» لمسلم ج ٣ / ١٤٥٣ ح ٩ ، كتاب العمارة.

(٦) «مصابيح السنة» ، ج ٤ / ١٣٧ ح ٤٦٨٠ ، كتاب المناقب و «العمدة» ، ص ٤١٧ ، ح ٨٦٣.

(٧) راجع : المصدر السابق.

(٨) «العمدة» ، ص ٤١٨ ، ح ٨٦٦. نقلا من مسلم.

(٩) «العمدة» ، ص ٤٢٠ ، ح ٨٧٢ ولتفصيل مصادر هذا البحث من طريق الخاصة فليراجع : «الخصال» ، ج ٢ / ٤٦٦ ـ ٤٨٠ ، ح ٦ ـ ٥١.

(١٠) راجع : «الخصال» ، ج ٢ / ٤٦٨ ـ ٤٦٩ ح ١١ ـ ٩ ، «الجامع الصغير» ، ج ١ / ٣٠٤ ، «المناقب» لابن شهر آشوب ، ج ١ / ٢٩٥ ، «الكامل» لابن عدى ، ج ٣ / ٨٨٨. و «العمدة» ، ص ٤٣٣ ح ٩٠٩ ـ ٩٠٨.

٢٠