نبراس الضياء

السيّد محمّد باقر المشتهر بمحقّق الداماد

نبراس الضياء

المؤلف:

السيّد محمّد باقر المشتهر بمحقّق الداماد


المحقق: حامد ناجي اصفهاني
الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ١٥٢

المسيّب رأى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بني اميّة ينزون على منبره نزو القردة ، فساءه ذلك. وهذا قول ابن عبّاس في رواية عطاء ؛ والإشكال المذكور عائد فيه ؛ لأنّ هذه الآية مكيّة وما كان لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بمكة منبر ، ويمكن أن يجاب عنه : بأنّه لا يبعد أن يرى بمكة أنّ له بالمدينة منبرا يتداوله بنو اميّة.» ثمّ قال : «القول الثاني في الشجرة الملعونة : قال ابن عبّاس : الشجرة الملعونة في القرآن المراد بها بنو اميّة الحكم بن أبي العاص وولده ، قال : رأى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في المنام أن ولد مروان يتداولون منبره ، فقصّ رؤياه على أبي بكر وعمر ، وقد خلا في بيته معهما ، فلمّا تفرّقوا سمع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ الحكم يخبر برؤيا رسول الله ، فاشتدّ ذلك عليه واتّهم عمر في افشاء سرّه ، ثمّ ظهر أن الحكم كان يتسمّع [الف ـ ٢٣] إليهم ، فنفاه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ. وممّا يؤكّد هذا التأويل قول عائشة لمروان : لعن الله أباك وأنت في صلبه ، فأنت فضض (١) من لعنة الله (٢).» انتهى ما قاله في تفسير هذه الآية بعبارته.

ثم قال في تفسير سورة القدر في قوله تعالى (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) (٣) : «روى القاسم بن فضل عن عيسى بن مازن قال : قلت للحسن يا مسوّد وجوه المسلمين! عمدت إلى هذا الرجل فبايعت معد له (٤) ، يعنى : معاوية ، فقال : إنّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ارى في منامه بني اميّة يطؤون منبره واحدا (٥) بعد واحد ، وفي رواية : ينزون

__________________

(١) فضض بضادين المعجمتين بعد الفاء المفتوحة وبالتحريك ، رووه في صحاحهم وأورده علّامة زمخشر في «الكشاف» وفى «الفائق» [ج ٣ / ٣٠٣] قال ابن الاثير فى «النهاية» [ج ٣ / ٤٥٤] : «حديث عائشة ، قالت لمروان : إنّ النبيّ لعن اباك (وانت فى صلبه) فانت فضض من لعنة الله. أى قطعة وطائفة منها ، ورواه بعضهم. وفظاظة من لعنة الله ، بظاءين من الفظيظ ، وهو ماء الكرش ، وانكره الخطابيّ. وقال الزمخشريّ افتظظت الكرش [إذا] اعتصرت ماءها ، كانّه عصارة من اللّعنة ، أو فعالة من الفظيظ ، ماء الفحل : أى نطفة من اللعنة». انتهى كلامه. (منه).

(٢) «التفسير الكبير» ، ج ٢٠ / ٢٣٦.

(٣) القدر ، ٢.

(٤) معد له : طريقه.

(٥) في نسخة المؤلف : واحد.

٤١

على منبره نزو القردة ، فشقّ ذلك عليه ، فأنزل الله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (١) إلى قوله : (خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ). يعنى : ملك بنى اميّة. قال القاسم : فحسبنا ملك بنى اميّة فإذا هو ألف شهر. طعن القاضي (٢) في هذا الوجه ، فقال : ما ذكر من ألف شهر ليست في أيّام بني اميّة ؛ لانّه تعالى لا يذكر فضلها بذكر ألف شهر مذمومة ، وأيّام بني اميّة مذمومة. اعلم أنّ هذا الظنّ باطل ؛ لأنّ ايّام بني اميّة كانت أيّاما عظيمة بحسب السعادات الدنيويّة ، فلا يمتنع أن يقول الله تعالى : إنّي اعطيتك ليلة هي في السعادات الدينيّة أفضل من تلك الأيّام في السعادات الدنيويّة.» انتهى (٣) كلامه بألفاظه.

وقال نحريرهم البيضاويّ في تفسيره ، «أنوار التنزيل» : «وقيل رأى ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قوما من بنى امية يرقون منبره وينزون عليه نزو القردة ، فقال : هو (٤) حظّهم من الدنيا يعطونها (٥) بإسلامهم. وعلى هذا كان المراد بقوله (إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) ، ما حدثت (٦) في أيّامهم (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) (٧) عطف على الرؤيا» ثمّ قال : «وقد اوّلت بالشيطان وأبي جهل والحكم بن أبى العاص. (٨)» انتهى قوله.

قال أمين الدّين ، ثقة الإسلام ، أبو على الطبرسيّ ـ حفظه الله تعالى برحمته ـ في «مجمع البيان» و «جوامع الجامع» و «ثالثها» أى ثالث الاقوال إنّ ذلك رؤيا رآها النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فى منامه أنّ قرودا تصعد منبره [ب ـ ٢٣] وتنزل ؛ فساءه ذلك ، واغتمّ به. رواه سهل بن سعيد عن أبيه أنّ النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ رأى ذلك وقال : إنّه ـ عليه‌السلام ـ لم يسمع (٩) بعد ذلك ضاحكا حتّى مات ، ورواه سعيد بن يسار ، وهو

__________________

(١) القدر ، ١.

(٢) في هامش بعض النسخ : هو الباقلاني.

(٣) «التفسير الكبير» ، ج ٣٢ / ٣١.

(٤) في المصدر : هذا.

(٥) هكذا في الاصل ، وفي المصدر : يعطونه.

(٦) في المصدر : ما حدث.

(٧) الاسراء ، ٦٠.

(٨) «انوار التنزيل» ، ج ٢ / ٥٩٠.

(٩) خم : لم يستجمع.

٤٢

المرويّ عن أبي جعفر وأبي عبد الله ـ عليهما‌السلام ـ وقالوا [على هذا التأويل] إنّ الشجرة الملعونة في القرآن هي بنو اميّة ، أخبره الله سبحانه بتغلّبهم على مقامه ، وقتلهم ذريته. روى عن المنهال بن عمر ، وقال : دخلت علي بن الحسين ـ عليهما‌السلام ـ فقلت له : كيف أصبحت يا بن بنت رسول الله!؟ فقال أصبحنا والله بمنزلة بني اسرائيل من آل فرعون ، يذبّحون أبناءهم ويستحيون نساءهم ، وأصبح خير البرية بعد رسول الله يلعن على المنابر ، وأصبح من يحبّنا منقوصا حقّه ، بحبّه ايّانا! وقيل للحسين : يا ابا سعيد قتل الحسين بن علي ـ عليهما‌السلام ـ فبكى حتّى اختلج جبيناه. ثمّ قال وأذلّاه لامّة ، قتل ابن دعيّها ابن نبيّها (١).» انتهى ما قاله.

قلت : وحديث المنام ناصّ بمنطوقه على أنّ دين الإسلام بعد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لم يكن تدور رحاه إلّا مدّة تمكّن أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ من خلافة ، ولقد أوضحنا ذلك في معلّقاتنا على «الصحيفة الكريمة السجاديّة (٢)»

وبالجملة إذا كان الأمر على هذا السبيل فكيف يستصحّ [الف ـ ٢٤] ذو حظّ ما من الإسلام ، وذو قسط ما من البصيرة أن تكون بنو اميّة وهم القرود والشجرة الملعونة من أئمّة الدّين بعد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ النازلين منزلة القائمين مقامه.

وأمّا ثالثا : فلانّ من الخلفاء المستكمل بهم نصاب العدد الى عمر بن عبد العزيز يزيد بن معاوية بن أبي سفيان الامويّ ومروان بن الحكم بن أبي العاص بن اميّة بن عبد الشّمس مناف. فأمّا يزيد فمن أشقى المقرّبين في أصفاد اللعن ، وأخرى المقمحين بأغلال العذاب الشديد. وأمّا مروان فقد كان يقال له الطريد بن الطريد لما كان قد طرد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ونفاه الى الطائف ، وقيل : طرد ونفاه الى الربذة ، ثمّ إلى الطائف ، فأرجعهما عثمان إلى المدينة وأهله ، ونفى أبا ذر ـ رضى الله عنه ـ إلى الربذة. ومن المتّفق على صحّته أنّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لعنهما وسمّاهما الوزغ بن الوزغ والملعون بن الملعون.

__________________

(١) «مجمع البيان» ، ج ٣ / ٤٣٤.

(٢) ـ.

٤٣

قال شيخهم الحافظ الفقيه الدميري الشافعيّ في موضعين من كتاب «حيوة الحيوان» : «روى الحاكم في كتاب الفتن والملاحم من «المستدرك» عن عبد الرحمن بن عوف ، أنّه قال كان لا يولد لأحد مولود الّا اتى به إلى النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فيدعو له ، فادخل (١) عليه مروان بن الحكم ، فقال هو [ب ـ ٢٤] الوزغ بن الوزغ ، الملعون بن الملعون ، ثمّ قال صحيح الإسناد ، وروى بعده بيسير عن محمّد بن زياد قال : لمّا بايع معاوية لابنه يزيد قال مروان : سنة أبي بكر وعمر. فقال عبد الرحمن أبى بكر سنّة هرقل وقيصر. فقال له مروان : أنت الّذي أنزل الله تعالى فيك (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما) (٢) فبلغ ذلك عائشة فقالت : كذب والله ما هو به! ولكنّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لعن أبا مروان ومروان في صلبه ، ثمّ روى الحاكم عن عمرو بن مرّة الجهنّي ، وكانت له صحبة ـ رضى الله عنه ـ قال : إنّ الحكم بن أبي العاص استأذن على النبي (٣) صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ نعرّف صوته ، فقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ اايذنوا له ، لعنة الله تعالى عليه وعلى من يخرج من صلبه إلّا المؤمن منهم ، وقليل ما هم يشرفون (٤) في الدنيا ويضعون في الآخرة ذووا مكر وخديعة ، يعطون في الدنيا ، وما لهم في الآخرة من خلاق (٥)».

ومن بعده عبد الملك بن مروان الجائر الظلوم الغشوم المقدام على سفك الدماء ، وكلّ من عمّاله كالحجّاج بن يوسف وأخيه ، والملهّب وأبي صغره وغيرهم كان يلقّب برشح الحجر لبخله ، جاءته الخلافة وهو يقرأ في المصحف فطبّقه وقال : هذا فراق بيني وبينك. (٦)

ومن بعده الوليد بن عبد الملك ، وقد روى عن [الف ـ ٢٥] عمر بن عبد العزيز

__________________

(١) في المصدر : فدخل.

(٢) الاحقاف ، ١٧.

(٣) في المصدر : على الرسول.

(٤) فى المصدر : يشرخون.

(٥) «حيوة الحيوان» ، ج ٢ / ٤٢٢ ، مادّة «وزغ».

(٦) اقتباس من «الكهف» ، ٧٨.

٤٤

قال لمّا الحدث الوليد ارتكض (١) في اكفانه وغلّت يداه إلى عنقه ، نستعيذ بالله من عذاب الله.

فأمّا بعد عمر بن عبد العزيز ، فيزيد بن عبد الملك المعروف بالفاسق لمّا ولّى قال : خذوا بسيرة عمر بن عبد العزيز ، فسار بسيرته أربعين يوما ، فدخل عليه أربعون رجلا من مشايخ دمشق وحلفوا بسيرته له أنّه ليس على الخليفة حساب ولا عقاب في الآخرة! وخدعوه بذلك ، فانخدع لهم ؛ وتولّع بالفجور والفسوق ، وكان ولده وليد بن يزيد أوغل منه في المعصية ، فهمّ عمّه هشام بن عبد الملك بقتله لاشتهاره بالفسق ، واستخفافه بالدين ، وانهماكه (٢) في شرب الخمر ، وتظاهره بالمعاصي ، ومجاهرته بالكفر والزندقة ؛ ففرّ منه ، وصار لا يقيم بأرض خوفا منه على نفسه ، بويع له بالخلاف يوم موت هشام ، وهو إذ ذاك بالبريّة فارّا من مخافته ، فنبذ (٣) فى خلافته الآخرة وراء ظهره ، وتوغّل في الولوع بالمنكرات على شاكلة يزيد بن معاوية ، وركب شططا (٤) حتّى أنّه واقع جارية وهو سكران ، وجاءه المؤذّنون يؤذّنونه بالصلاة ، فحلّف أن لا يصلّي بالنّاس إلّا هي ، فلبست [ب ـ ٢٥] ثيابه ، وتنكّرت وصلّت بالمسلمين ، وهي سكرى ، متلطّخة (٥) بالنجاسات على الجنابة. وحكى الأخباريّون والمورّخون أنّه اصطنع بركة من خمر ، وكان إذا طرب ألقى نفسه فيها ، ويشرب منها حتّى يتبيّن النقص من أطرافها.

وحكى صاحب «الكشّاف» والماوردى والدميري أن الوليد تفأل يوما في «المصحف» فخرج له قوله تعالى : (وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) (٦) فمزّق «المصحف (٧)» وأنشأ يقول :

__________________

(١) في نسخة المؤلّف وبعض النسخ : ارتكص ، ولكن لم يستعمل في اللغة قطّ. ارتكض : تحرّك واضطرب.

(٢) انهماك : انهمك في امر أى جدّ فيه ولجّ.

(٣) نبذ : طرح.

(٤) الشطط : الجور ، الظلم ، البعد عن الحقّ.

(٥) المتلطّخة : المتلوّثة.

(٦) ابراهيم ، ١٥.

(٧) لم نعثر عليه في «الكشاف».

٤٥

أتوعد كلّ جبار عنيد

فما أنا ذاك جبّار عنيد

إذا ما جئت ربّك يوم حشر

فقل يا ربّ مزّقني الوليد

فأجمع أهل دمشق على خلعه وقتله ، فلمّا دخلوا عليه في قصره ، يوم كيوم عثمان ؛ فقتلوه وقطعوا رأسه وطيف به في دمشق.

فانظروا معاشر العقلاء! هل يستحلّ ذو مسكة ما أن يقال أنّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يقول : «لا يزال الإسلام عزيزا والدّين قائما ، ما ولّيهم اثنا عشر رجلا (١).» من أمثال هؤلاء الخلفاء من الشجرة الملعونة!؟

ثمّ إنّ المتتبّع المتمهّر (٢) إذا لطّف التدبّر ، ودقّق التأمّل في تواتر الأخبار وتناقل الآثار بزغ (٣) له كفلق الصّبح ، أنّ حديث نزو القرود ليس يتخصّص بهؤلاء ؛ بل إنّه مرتق منهم إلى معاوية بن [الف ـ ٢٦] أبي سفيان ، وهو الذي قد صحّ أنّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ دعا عليه في مواقع عديدة ، منها ما في صحيح مسلم وساير صحاحهم أنّه لمّا دعاه فقيل له : يا رسول الله! هو يأكل ، قال ـ عليه‌السلام ـ : «لا أشبع الله بطنه. (٤)» ثمّ منه إلى عثمان بن عفّان ، وهما من الشجرة الامويّة ؛ ثمّ إلى شيخى لصوص الخلافة ، وامامى سرّاق الإمامة ؛ فمن المستبين أنّ فعلتهما الّتي فعلاها من بدو الأمر كانت كالبذور ، وما ترتّب عليها من بعد كالزروع لها.

ومن ثمّ قال علّامة تفتازانهم في «شرح المقاصد» بهذه العبارة : «إنّ ما وقع بين الصحابة من المشاجرات (٥) على الوجه المسطور في كتب التواريخ ، والمذكور على السنة

__________________

(١) قد جاء هذا الحديث بطرق مختلفة والفاظ متلوّنه من طريق الخاصة والعامة.

انظر : «الصحيح» لمسلم ، ج ٣ / ١٤٥٢ ح ٦ كتاب العمارة ، «العمدة» ، ص ٤١٧ ، «مصابيح السنة» ، ج ٤ / ١٣٧ ح ٤٦٨٠ وأيضا كتاب «العوالم» ، ج (١٥ / ٣) ، ص ٩٥ ـ ١٠٠ من عدّة مصادرنا.

(٢) خ : المهر.

(٣) بزغ : طلع.

(٤) راجع : «الصحيح» لمسلم ج ٤ / ٢٠١٠ ح ٢٦٠٤ ، «المسند» للطيالسي ج ١١ / ٣٥٩ و «السبعة من السلف» ، ص ١٨٣.

(٥) في المصدر : المحاربات.

٤٦

الثقات يدلّ بظاهره على أنّ بعضهم قد جاوز (١) طريق الحقّ وبلغ حدّ الظّلم والفسق ؛ وكان الباعث له الحقد والعناد والحسد واللّداد وطلب الملك والرئاسة والميل إلى اللّذات والشهوات ؛ إذ ليس كلّ صحابيّ معصوما ، ولا كلّ من لقى النبيّ بالخير موسوما ، إلّا أنّ العلماء لحسن ظنّهم بأصحاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ذكروا محامل وتأويلات بما (٢) يليق ، وذهبوا إلى أنّهم محفوظون عمّا يوجب التضليل والتفسيق [ب ـ ٢٦] صونا لعقائد المسلمين عن الزيغ والضلالة في حقّ كبار الصحابة ، سيّما المهاجرين منهم والأنصار ، والمبشّرين بالثواب في دار القرار.

وأمّا ما جرى بعدهم من الظلم على أهل بيت النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فمن الظهور بحيث لا مجال للإخفاء ، ومن الشناعة بحيث لا اشتباه على الآراء تكاد تشهد به الجماد والعجماء (٣) ، وتبكى له الأرض والسماء ، وتنهد منه الجبال ، وتنشقّ له الصخور. ويبقى سوء عملهم على كرّ الشهور ومرّ الدهور ................. أو رضى أو سعى ، ولعذاب الآخرة أشدّ وأبقى.

فإن قيل : فمن علماء المذهب من لم يجوّز اللّعن على يزيد مع علمهم بأنّه يستحقّ ما يربوا على ذلك ويزيد.

قلنا : تحاميا عن أن يرتقى إلى الأعلى فالأعلى ، كما هو شعار الروافض على ما يروى في أدعيتهم ويجري في أنديتهم (٤) ؛ فرأى المعتنون بأمر الدين إلجام العوام بالكليّة طريقا الى الاقتصاد في الاعتقاد به (٥) بحيث لا تزلّ الأقدام عن السواء ، ولا تزلّ الأفهام بالأهواء ؛ وإلا فمن الّذي يخفى عليه الجواز والاستحقاق ، وكيف لا يقع عليهما الاتّفاق (٦).» انتهت عبارته بألفاظها.

__________________

(١) خم : جاز عن ، في المصدر : قد حاد عن.

(٢) في المصدر : بها.

(٣) العجماء : مؤنث الأعجم أى البهيمة.

(٤) أندية : مجلس القوم الذي يجتمعون فيه.

(٥) في المصدر : في الاعتقاد وبحيث.

(٦) راجع : «شرح المقاصد» ، ج ٢ / ٢٢٤ ، ط مصر.

٤٧

ومن المستغرب [الف ـ ٢٧] من إمام أحبارهم وحبر أئمّتهم صاحب كتاب «الملل والنحل» محمّد بن عبد الكريم الشارستاني (١) إذا نطقه الله الّذي أنطق كلّ شيء حيث قال في مقدمات كتابه ، : «المقدّمة الثالثة فى بيان أوّل شبهة وقعت في الخليفة ومن مصدرها فى الاوّل ، ومن مظهرها فى الآخر ؛ اعلم أنّ أوّل شبهة وقعت في الخليفة شبهة إبليس ـ عليه اللّعنة ـ ومصدرها استبداده بالرأى في مقابلة النصّ ، واختياره الهوى في معارضة الأمر ، واستكباره بالمادّة الّتي خلق منها ـ وهي النّار ـ على مادّة آدم ـ عليه‌السلام ـ وهى الطين. وانشعبت عن هذه الشبهة سبع شبهات ، وسارت في الخليفة وسرت في أذهان الناس حتّى صارت مذاهب بدعة وضلال ، وتلك الشبهات مسطورة في شرح الأناجيل الأربعة : انجيل لوقا ومارقوس ويوحنّا ومتّى ، ومذكورة في التوراة متفرّقة على شكل المناظرة بينه وبين الملائكة بعد الأمر بالسجود والامتناع منه. وذكر تلك السبع ، وما نشأت منها من الشبهات في ساير الامم (٢)».

وقال : «إنّها بالنسبة إلى أنواع الضلالات كالبذور ، وترجع جملتها إلى إنكار الأمر بعد الاعتراف بالحقّ ، وإلى (٣) الجنوح (٤) إلى الهوى في مقابلة النصّ.» وختم الكلام بقوله : «قال ـ عليه‌السلام ـ جملة لتسلكنّ سبل الامم قبلكم حذو القذّة بالقذّة (٥) والنعل بالنعل ، حتّى لو دخلوا [ب ـ ٢٧] حجر ضبّ (٦) لدخلتموه.»

ثم قال : «المقدمّة الرابعة فى بيان أوّل شبهة وقعت فى الملّة الاسلامية وكيف انشعابها ، ومن مصدرها ومن مظهرها ؛ وكما قرّرنا أنّ الشبهات التي وقعت في آخر الزمان هي بعينها تلك الشبهات التي وقعت في أوّل الزمان كذلك ؛ يمكن أن يقرّر في كلّ

__________________

(١) قد اشتهر الشهرستانيّ نسبة إلى «شهرستان» اصفهان ، والصحيح : الشارستانيّ نسبة إلى شارستان نيشابور! (منه).

(٢) «الملل والنحل» ، ج ١ / ٢٣.

(٣) كذا.

(٤) الجنوح : الاقبال.

(٥) قال ابن الاثير في «النهاية (ج ٤ / ٢٨) : «أى كما تقدّر كل واحدة منهما على قدر صاحبتها تقطع ، ويضرب مثلا فلشيئين يستويان ولا يتفاوتان». القذة : ريش السهم.

(٦) الضبّ : حيوان من الزحافات شبيه بالحرذون.

٤٨

زمان نبيّ ودور كلّ صاحب ملّة وشريعة ؛ إنّ شبهات امّته في آخر زمانه ناشئة من شبهات خصماء أوّل زمانه من الكفّار والمنافقين ـ واكثرها من المنافقين ـ وإن خفى علينا ذلك في الامم السالفة لتمادي الزمان ؛ فلم يخف من هذه الامّة أنّ شبهاتها كلّها نشأت من شبهات منافقي زمن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ إذ لم يرضوا بحكمه فيما كان يأمر وينهى ؛ وشرعوا فيما لا مشرع فيه للفكر ولا مسرى ، وسألوا عمّا منعوا من الخوض فيه والسؤال عنه ، وجادلوا بالباطل فيما لا يجوز الجدال فيه ؛ فهذا ما كان في زمانه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وهو على شوكته وقوّته وصحّة بدنه ؛ والمنافقون يخادعون ، فيظهرون الإسلام ويبطنون النفاق ، وإنّما يظهر نفاقهم في كل وقت بالاعتراض على حركات النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وسكناته ، فصارت الاعتراضات كالبذور ، وظهرت منها الشبهات كالزوع ؛ فاوّل تنازع وقع في مرضه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فيما رواه الإمام [الف ـ ٢٨] أبو عبد الله محمّد بن اسماعيل البخاريّ بإسناده عن عبد الله بن عبّاس ـ رضى الله عنه ـ قال : لمّا اشتدّ بالنبيّ مرضه الّذي توفّى فيه ، قال : ائتوني بدوات وقرطاس (١) ، أكتب لكم كتابا لا تضلّوا بعدي ، فقال عمر : إنّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قد (٢) غلبه الوجع ، حسبنا كتاب الله وكثر اللغط ، فقال النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قوموا عنّي لا ينبغي عندي التنازع. قال ابن عباس : الرزيّة كلّ الرزيّة ما حال بيننا وبين كتاب رسول الله (٣).» انتهى كلامه بألفاظه (٤).

وفي كلام إمامهم الآمدي أعلى مضاهاة (٥) ذلك. ونحن نقول : إنّ من تلك الاعتراضات والشبهات ما في صحيحى البخاري ومسلم وسائر صحاحهم واصولهم بما

__________________

(١) في البخارى : ائتونى بكتاب.

(٢) «قد» ليس فى أصل المصدر.

(٣) راجع : «الصحيح» للبخارى ، كتاب العلم ، باب كتابة العلم ، ج ١ / ١٢٠ ح ١١٢ وكتاب المرضى والعلل ، باب قول المريض ج ٧ / ٢٢٥ ح ٥٧٤. وأيضا انظر : «السبعة من السلف» ، ص ٤٩ ـ ٥٦ بمصادر عديدة.

(٤) «الملل والنحل» ، ج ١ / ٢٠.

(٥) المضاهاة : المشاكلة والمشابهة.

٤٩

صدر عن عمر في صلح الحديبيّة (١) ، وما صدر عنه في التمتّع فى حجّة الوداع.

وروى البلاذريّ أنّه لما قتل ذبيح الله الحسين بن على ـ عليهما‌السلام ـ ، كتب عبد الله بن عمر إلى يزيد بن معوية ، أمّا بعد فقد عظمت الرزيّة وجلّت المصيبة ، وحدث في الإسلام حدث عظيم ، ولا يوم كيوم الحسين ـ عليه‌السلام ـ فكتب اليه (٢) يزيد ، أمّا بعد يا أحمق! فإنّا جئنا إلى بيوت منجّدة (٣) وفرش ممهّدة ووسائد (٤) منضّدة ، فقاتلنا عنها ، فإن يكن الحقّ لنا فعن حقّنا قاتلنا ، وإن يكن الحقّ لغيرنا فأبوك أوّل من سنّ هذا وابتزّ (٥) واستأثر [ب ـ ٢٨] بالحقّ على أهله (٦)».

ومن هنالك قيل قتل الحسين يوم السقيفة ، وقيل بأسياف ذلك البغى أوّل سلّها أصيب على لا بسيف ابن ملجم.

وممّا يشدّ أعضاد إدخالهم ................ في رؤياه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ما رواه علّامه زمخشرهم في «الكشّاف» في الحديث الذي أسرّه النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ إلى بعض أزواجه ، واستكتمها إيّاه فافشت عليه سرّه ، إنّه قال ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لحفصة : إنّ أبا بكر وأباك عمر يملكان أمر أمّتى بعدي وقال لها : اكتمي على ، فأفشت على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ سرّه واخبرت بذلك عائشة وكانتا متصادقتين ، فأنبأ الله تعالى نبيّه واطّلعه على ما فرط منها من النظائر عليه ، وأنزل عليه سورة التحريم ، وما فيها من أشدّ التغليظ على حفصة وعائشة في الوعيد ، فعابتها ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ على ذلك وطلّقها ، فقال أبوها عمر : «لو كان في آل خطّاب خير لما طلّقك (٧)». وكذلك في «التفسير الكبير» لإمامهم الرازي (٨).

__________________

(١) لتفصيل هذا المقال فليراجع : «السبعة من السلف» ، ص ٤٩ ـ ١١٤.

(٢) خ : فكتب في جوابه.

(٣) المنجّدة : المجريّة.

(٤) الوسائد : جمع الوسادة أى المحّذة.

(٥) ابتزّ : ـ منه الشيء أى استلبه بحيلة.

(٦) لم نعثر عليه في القسم المطبوع من «أنساب الأشراف».

(٧) راجع : «الكشاف» ، سورة التحريم ، ج ٤ / ٥٦٦ ـ ٥٦٢.

(٨) «التفسير الكبير» ، ج ٣٠ / ٤٣.

٥٠

وقال ثقة الإسلام أبو علي الطبرسيّ من أصحابنا في تفسيريه «مجمع البيان» و «جوامع الجامع» [الف ـ ٢٩](وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً) (١) «يعني حفصة ، عن الزجاج قال : ولمّا حرّم مارية القبطيّة أخبر حفصة أنّه يملك من بعده أبو بكر وعمر.» ثمّ قال : «وقريب من ذلك ما رواه العيّاشي بإسناده عن عبد الله بن عطاء المكّي عن أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ إلّا أنّه زاد في ذلك أنّ كلّ واحدة منهما حدّثت أباها بذلك.» (٢).

قلت : ومن نوادر الغرائب أنّ في هذا الباب أفشت حفصة على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ سرّه في أمر أبي بكر وعمر ، وأبوها عمر أفشى عليه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ سرّه في أمر مروان وبينه من الشجرة الملعونة الامويّة على ما قد سبق. ثمّ إنّ من لطائف أسرار التنزيل الكريم قوله جلّ سلطانه (إِنْ تَتُوبا) خطاب لحفصة وعائشة على طريق الالتفات ، ليكون أبلغ في معاتبتهما ؛ (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) مالت عن طريقة الايمان.

وقرأ ابن مسعود فقد زاغت (وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ) وإن تتعاونا على النبيّ ـ صلّى الله عليه ـ بالاذاة (٣) والإفراط فيما يسوءه وقرئ تظّاهرا وتتظاهرا وتظهّرا (فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ) الذي يتولى حفظه وحياطته ونصرته (وَجِبْرِيلُ) أيضا معين له وناصر [ب ـ ٢٩] يحفظه (وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ).

في «الكشّاف» : «عن ابن عباس لم أزل حريصا على أن أسأل عمر بن خطاب عنهما حتّى حجّ ، وحججت معه ؛ فلمّا كان ببعض الطريق عدل وعدلت معه بالإداوة (٤) ، فسكبت الماء على يده فتوضّأ ، فقلت له : من المرأتان اللّتان تظاهرتا على رسول الله فقال ـ

__________________

(١) التحريم ، ٣.

(٢) «مجمع البيان» ، ج ٥ / ٣١٤ و «جوامع الجامع» ، ص.

(٣) الاذاة : يقال آذيت فلانا تؤذيه أذيّة ، واذاة وأذى ؛ ولا نقل إيذاء ، فإنّه غلط. ذكر ذلك أئمّة علوم اللسان والحذّاق المراجيح ـ [كذا] ـ في العربية. (منه).

(٤) الإداوة : إناء صغير من الجلد.

٥١

عليه‌السلام ـ عجبا يا ابن عبّاس كانّه كره ما سالته عنه ، ثمّ قال : هما حفصة وعائشة (١).» وكذلك أورده البخاري فى صحيحه (٢).

وفي «مجمع البيان» : «وردت الرواية من الخاص والعام ، أنّ المراد بصالح المؤمنين : أمير المؤمنين على ـ عليه‌السلام ـ ، وهو قول مجاهد. وفي كتاب «شواهد التنزيل (٣)» بالإسناد عن سدير الصيرفي عن أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ : «قال لقد عرّف رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عليا ـ عليه‌السلام ـ أصحابه مرّتين ، أمّا مرة فحيث قال : «من كنت مولاه فعليّ مولاه» ، وامّا الثانية : فحيث نزلت (فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) (٤) أخذ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بيد علي فقال أيّها الناس هذا صالح المؤمنين».

وقالت أسماء بنت [الف ـ ٣٠] عميس (٥) سمعت النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يقول : «وصالح المؤمنين علي بن أبي طالب». (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ) (٦) أى بعد الله وجبريل وصالح المؤمنين» (٧) (ظَهِيرٌ) (٨) أى : فوج مظاهر له ، كأنّهم يد واحدة على من يعاديه ، فهذا من الواحد الّذي يؤدّي معنى الجمع كقوله سبحانه : (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) (٩) ثمّ إنّ الله سبحانه ضرب هنالك لهما مثلين في مطاوى ما تضمّناه من أسرار البلاغة ما لا يبلغه إحصاء الأنظار البالغة».

ولقد صحّ في باب الحشر من مشكاتهم ومن مصابيحهم وفي مواضع وأبواب من صحيحى بخاريّهم ومسلمهم وفي ساير صحاحهم واصولهم عن ابن عبّاس ـ رضى

__________________

(١) «الكشاف» ، ج ٤ / ٥٦٦.

(٢) «الصحيح» للبخاري ، كتاب التفسير ، سورة التحريم ، ج ٦ / ٥٤٣ ح ١٣٣٩.

(٣) «شواهد التنزيل» ، ج ٢ / ٢٦٣ ح ٩٩٦.

(٤) التحريم ، ٤.

(٥) راجع «شواهد التنزيل» : ج ٢ / ٢٥٧ ـ ٢٥٦ ح ٩٨٦ ـ ٩٨٢.

(٦) التحريم ، ٤.

(٧) راجع : «مجمع البيان» ، ج ٥ / ٣١٥ ـ ٣١٦.

(٨) التحريم ، ٤.

(٩) النساء ، ٦٩.

٥٢

الله عنهما ـ عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ إنّه قال لأصحابه : «انّكم محشورون حفاة عراة غرلا (١) ثم قرأ (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [وَعْداً عَلَيْنا] إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) (٢) ألا! وإنّ أوّل من بكى يوم القيامة ابراهيم ، وإنّ ناسا من أصحابي ، ويؤخذ بهم ذات الشمال ، فأقول : أصيحابي أصحابي! فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك! إنّهم لن يزالوا مرتدّين على أعقابهم مذ فارقتهم ، فأقول [ب ـ ٣٠] كما قال العبد الصالح (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٣) (٤).

ومن طريق آخر : «سيجاء برجال من أصحابي فيؤخذ بهم ذات الشمال ، فأقول يا ربّ أصحابي! فيقول : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، إنّهم لا يزالون مرتدّين على أعقابهم منذ فارقتهم (٥)».

ومن طريق آخر : «يرد على يوم القيامة رهط من أصحابي فيحلّئون عن الحوض ، يا ربّ أصحابي! فيقول : إنّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك! إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى (٦)».

ومن طريق آخر : «فيقال إنّهم كانوا يمشون بعدك القهقرى (٧)».

قال ابن الاثير في «النهاية» : «فيحلّئون عن الحوض ، أى يصدّون عنه ويمنعون من وروده (٨).» وقال : «يمشون بعدك القهقرى ، قال الأزهريّ معناه ارتداد عمّا كانوا عليه ، وقد قهقر وتقهقر والقهقرى مصدر. ومنه قولهم رجع القهقرى أى : رجع الرجوع الّذي

__________________

(١) غرلا : غير مختون ، غملة : القلفة والجلدة التي تقطع في الختان. والمراد هاهنا : انهم يحشرون كما خلقوا.

(٢) الأنبياء ، ١٠٤.

(٣) المائدة ، ١١٨ ـ ١١٧.

(٤) راجع : «الصحيح» للبخاري كتاب الأنبياء ، ج ٤ / ٥٩٦ ح ١٥٠٥ و «الصحيح» لمسلم ، كتاب الجنة وصفة نعيمها ، ج ٤ / ١١٩٥ و «مصابيح السنة» ، ج ٣ ح ٤٢٨٧.

(٥) راجع : «الصحيح» ، للبخاري ، كتاب التفسير ، سورة المائدة ، ج ٦ / ٣٩٠ ح ١٠٥١ مع اختلاف يسير.

(٦) راجع : «الصحيح» للبخاري ، الجزء الثامن ، ص ١٢٠ ، ط مصر مكتبة عبد الحميد الحنفي ، «العمدة» ، ص ٤٦٨ نقلا من «الجمع بين الصحيحين» ، «جامع الاصول» ، ج ١١ / ١٢٢.

(٧) راجع : المصدر الآتى.

(٨) «النهاية» ، ج ١ / ٤٢١.

٥٣

يعرف بهذا الاسم : لأنّه ضرب من الرجوع (١)» (٢).

وإذ قد استبان من تواتر هذه الأحاديث وتناقل هذه الأخبار أنّ أصحاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ تقهقروا ونكبوا (٣) عن السبيل من بعده ، وتغلّبوا واستأثروا بالحقّ على أهله ؛ فإذن قد استتبّ ما استصحّوه [الف ـ ٣١] واستثبتوا ، وأطبقوا على روايته في مصابيحهم ومشكاتهم وصحيحيهم وسننهم الأربعة واصولهم الجامعة عن أبى سعيد الخدري ـ رضى الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «لتتّبعنّ سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع ، حتّى لو دخلوا حجر ضبّ تبعتموهم! قيل يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال فمن؟ (٤)» ومن طريق آخر إنّه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قال : «ستحذو امّتي حذو بني إسرائيل حذو النعل بالنعل ، وحذو القذّة بالقذّة ، حتّى لو دخلوا حجر ضبّ لدخلوا فيه (٥)».

وإذ قد اعتلى عرش هذا المقام وبلغ بنا حقّ الكلام ذروة هذا السنام (٦) ، فلنرجع بإذن الله العزيز العليم إلى ما نحن في سبيله.

[تحليل مسألة البداء]

قال عروة الإسلام في الأوّلين والآخرين ، شيخ الدين ورئيس المحدّثين ، أبو جعفر محمّد بن يعقوب بن اسحاق الكليني ـ رضوان الله تعالى عليه ـ فى جامعه «الكافى» باب البداء ، ومخرّجه فيه ستة عشر حديثا ، ونحن سنخرج ان شاء الله العزيز وردا ممّا يجب تخريجه أوّلا ، ومن بعد ذلك نشرح ما خرّجه ثمّ نكّر ، فنأتى بحقّ القول في شرح ما

__________________

(١) «النهاية» ، ج ٤ / ١٢٩.

(٢) ولتفصيل مصادر هذا المبحث يراجع : «بحار الانوار» ، ج ٢٨ / ٢٢ ـ ٢٩ ، «جامع الاصول» ، ج ١١ / ١٢٠ ـ ١٢٢ و «العمدة» ، ص ٤٦٦ ـ ٤٦٨.

(٣) نكب : عدل وتنحّى.

(٤) راجع : «بحار الانوار» ، ج ٢٨ / ٣٠ نقلا من «جامع الاصول» ، ج ١٠ / ٤٠٩ ؛ «مشكاة المصابيح» ، ص ٤٥٨ ط حيدرآباد ، «الصحيح» لمسلم ، كتاب العلم ج ٤ / ٢٠٥٤ و «الطرائف» ، ص ٣٨٠.

(٥) «بحار الأنوار» ، ج ٢٨ / ٣٠ نقلا من الترمذي ، «جامع الاصول» ، ج ١٠ / ٤٠٨.

(٦) السنام : حدبة في ظهر البعير.

٥٤

خرّجناه باذن الله سبحانه.

وهذا الباب لعظيم جدواه في مذهب المعرفة ومنهل الايمان ، قمين (١) بركض (٢) النظر في سبيل مغزاه ، محقوق [ب ـ ٣١] ببسط القول في تحصيل معناه ، ردّا على اليهود فى استنكارهم كتاب المحو والاثبات في الاحكام التكوينيّة ، وجواز النسخ والتبديل في الحكام التشريعيّة ، وذبّا عن حريم الدين ، ودفعا لطوارق الشّك عن سبيله من اعتراض المخالفين ؛ فلنبذل فيه المجهود ابتغاء لوجه الله الكريم ، مستوفقين من المهيمن الفيّاض الحقّ المبين.

فنقول البداء ممدود على وزن السماء ، وهو في اللّغة اسم لما ينشأ للمؤمن الرأى في أمر ، ويظهر له من الصواب فيه ، ولا يستعمل الفعل منه مفطوما عن اللّام الجارّة ، وأصل ذلك من «البدوّ» بمعنى الظهور ؛ يقال : بدا الامر يبدو بدوّا أى ظهر ؛ وبدا لفلان في هذا الأمر بداء ، أى نشأ وتجدّد له فيه رأى جديد يستصوبه ؛ وفعل فلان كذا ثمّ بدا له ، أى تجدّد وحدث له رأى بخلافه ، وهو ذو بدوات بالتاء ، قاله الجوهرى في «الصحاح (٣)» والفيروزآباديّ في «القاموس» (٤) وصاحب «الكشّاف» في «أساس البلاغة (٥)» وذو بدوان بالنون ، قاله ابن الاثير في «النهاية (٦)» لا يزال يبدو له رأى جديد ، ويظهر له أمر سانح ، ولا يلزم ان يكون ذلك البتّة عن ندامة وتندّم [الف ـ ٣٢] عمّا فعله ، بل قد وقد ، وربّما وربّما ، اذ يصحّ أن تختلف المصالح والآراء بحسب اختلاف الأوقات والآونة ، فلا يلزم أن لا يكون بداء الّا بداء تندّم.

وأمّا بحسب الاصطلاح فالبداء منزلته فى التكوين منزلة النسخ في التشريع ، فما في الأمر التشريعي والأحكام التشريعيّة التكليفيّة والوضعية المتعلّقة بأفعال المكلّفين نسخ ،

__________________

(١) قمين : جدير.

(٢) ركض : حركة.

(٣) «صحاح اللغة» ، ج ١ / ٣٥.

(٤) «قاموس اللغة» ، ج ١ / ٨.

(٥) «اساس البلاغة» ، ص ٣٤.

(٦) «النهاية» ، ج ١ / ١٠٤.

٥٥

فهو (١) في الأمر التكويني والإفاضات التكوينيّة في المعلومات الكونيّة والمكوّنات الزمانية بداء ؛ فالنسخ كأنّه بدء تشريعيّ ، والبداء كأنّه نسخ تكوينيّ ، ولا بداء في القضاء ولا بالنسبة الى جناب القدّوس الحقّ والمفارقات المحضة من ملائكته القدسيّة ، ولا في متن الدهر الّذي هو ظرف الحصول القارّ ، والثبات الباتّ ، ووعاء نظام الوجود كلّه ؛ انّما البداء في القدر وفي امتداد الزمان الذي هو افق التقضّي والتجدّد ، وظرف السبق واللحوق والتدريج والتعاقب ، وبالنسبة الى الكائنات الزمانيّة والهويّات الهيولانيّة ؛ وبالجملة بالنسبة الى من في عالمى المكان والزمان ، ومن في عوالم المادّة وأقاليم الطبيعة.

وكما حقيقة النسخ عند التحقيق انتهاء الحكم التشريعيّ وانقطاع استمراره لا رفعه وارتفاعه عن وعاء الواقع ، فكذلك حقيقة البداء (٢) عند الفحص البالغ واللحاظ الغائر انبتات (٣) استمرار الأمر التكوينيّ ، وانتهاء اتّصال الافاضة ونفاد تمادي الفيضان في

__________________

(١) كذا.

(٢) اعلم يا صاحب البصيرة وطالب الحقيقة ، إنّ تخصيص البداء وحكمه على الوجه المقصود في المقام بصورة تحديد زمان الكون والتكوين وتخصيص وقت الافاضة من كون تعميمه بحيث يعمّ صورة ارتفاع بعد تقديره فى اللوح وتصويره ، وأن يكون حكمه ومنزلته حكم النسخ المعروف في الأحكام التشريعيّة ومنزلته ، محلّ خطر خطير ، ومحل حذر حذير ؛ بل التحقيق بالعكس كما رآه طائفة من المحقّقين كأنّه اولى وأقرب وأشبه ولعلّ البرهان تقوم عليه بعده ، وان تنزلنا عن هذا التخصيص فكان ذلك التعميم له محل وقيع ومجال وسيع ومشهد رفيع ومنظر منيع.

فانّ الامر القدري والحكم التكويني التدرّجى الواقع على حسب اختلاف القوى والاستعدادات طبيعية جارية على المجرى الطبيعي أو غير طبيعية غير جارية على مقتضى جريان الامور الطبيعية ؛ وقد يجرى على مجرى العادة ومقتضى الطبيعة وقد يرتفع أثره بعد ثبته في دفتر اللوح القدري ، ويمحى عن اللوح قبل وقوع أثره فى العين والخارج ، وفى عالم المادة المستعدة لوقوعه فيها على مجرى العادة الطبيعية لمعارضة سبب من الأسباب والأمور الغير الطبيعية كصلة الرحم والتصدّق والدعاء والتضرّع ـ مثلا ـ الموجبة لطول العمر وازدياده بعد ان استحقّ الشخص بموجب الأسباب والأحوال الطبيعية بخلاف ذلك ، وهذا أمر البدائية المانعة عن وقوع خلافه من الأصل مع ثبت حكم خلافه في اللوح على مقتضى الاسباب الطبيعية ، والمعدّات العادية قبل ظهور أثر الحكم في العين والخارج فارتفع أثره من كون أن يقع ويظهر في المادة ، انصرم وانقطع مدّته كالنسخ في الأحكام العملية الشرعية التي يقع في بعض الأزمنة ثم تنسخ ، فافهم واغتنم!. (نورى).

(٣) انبتات : انقطاع.

٥٦

المجعول [ب ـ ٣٢] الكوني والمعلول الزماني ، ومرجعه إلى تحديد زمان الكون وتخصيص وقت الافاضة بحسب اقتضاء الشرائط والمعدّات ، واختلاف القوابل والاستعدادات. لا أنّه ارتفاع المعلول الكائن. عن وقت كونه وبطلانه فى حدّ حصوله ؛ هذا على مذاق الحقّ ومشرب التحقيق.

والصدوق ابو جعفر بن بابويه ـ رحمه‌الله تعالى ورضى عنه ـ مسلكه في كتاب «التوحيد (١)» جعل النسخ من البداء ، وهذا الاصطلاح ليس بمرضيّ عندي.

وأمّا علماء الجمهور فمحقّقوهم يصطلحون على تفسير البداء بالقضاء ، فها ابن الاثير في «النهاية» أورد بعض أحاديث البداء وفيه «بدا لله عزوجل أن يبتليهم» ثمّ شرحه ، فقال يعلم وذلك : «أى قضى بذلك وهو معنى البداء هاهنا لأنّ القضاء سابق ، والبداء استصواب شيء علم بعد ان لم يعلم ، وذلك على الله غير جائز. ومنه الحديث : السلطان ذو عدوان وذو بدوان ، أى لا يزال يبدو له رأي جديد (٢)» وكذلك في شروح الصحيحين.

ونحن نقول هذا ركيك جدا [الف ـ ٣٣] ؛ لأنّ القضاء السابق متعلّق بكلّ شيء وليس البداء في كلّ شيء ، بل فيما يبدو ثانيا ويتجدّد أخيرا. ولا يكون لأحد بداء في لغة العرب حقيقة ، الّا اذا ما كان بدوّه له على خلاف ما قد كان يحتسبه ، كما قال عزّ من قائل في تنزيله الكريم : (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) (٣).

شكّ وتحقيق

عسيتم أن تنزعج أفئدتكم بما يتشكّك المتشكّكون ، أنّ استناد المتغيّر بما هو متغيّر الى الثابت الحقّ من كلّ وجه ، والتدريجيّ بما هو تدريجيّ الى القارّ المحض من

__________________

(١) «التوحيد» للصدوق ، ص ٣٣٥.

(٢) «النهاية» لابن اثير ، ج ١ / ١٠٩.

(٣) الزمر ، ٤٧.

٥٧

كلّ جهة ، ممّا لا يكاد يتصحّح (١) أصلا ، أليس الاستناد والفيضان على طباق التأثير والافاضة!؟ فاذا استندت المتغيّرات الى القيّوم الحقّ على سبيل التدريج.

[١] : فامّا أن يكون التأثير والافاضة على التدريج ، فيكون المؤثّر المفيض ، تدريجيّ الصنع ، زمانيّ الحقيقة ؛ تعالى عن ذلك قدّوسيته الحقّة.

[٢] : أو دفعة واحدة ، لا على التدريج ؛ فيختلف الأثر الفائض عن نحو التأثير والافاضة.

وبالجملة المتعالي عن عالمى الزمان والمكان ، المتمجّد (٢) عن علائق المادّة وعوارض الطبيعة يمتنع أن يفعل شيئا بعد شيء وأن يبدو له أمر [ب ـ ٣٣] غبّ (٣) أمر. فلذلك ذهبت اليهود الى أنّ الله تعالى قد فرغ من الأمر. وذهب النظام وبعض أصحابه من المعتزلة الى أنّه سبحانه أخرج جميع الموجودات من العدم إلى الوجود معا ، لا بتقدّم وتأخر.

قال صاحب «الملل والنحل» من مذهبه : «أنّ الله تعالى خلق الموجودات دفعة واحدة على ما هى [عليه] الآن : معادن ونباتا وحيوانا وانسانا» ، ولم يتقدّم خلق آدم ـ عليه‌السلام ـ على خلق أولاده [غير أنّ الله تعالى أكمن بعضها في بعض] ، والتقدّم والتأخّر انّما يقع في ظهورها [من مكانها] دون حدوثها ووجودها. وانّما أخذ هذه المقالة من أصحاب الكمون والظهور من جملة الفلاسفة» (٤).

فان أعضل بقولكم الأمر في هذا الشكّ ، اعلموا أنّ الله سبحانه كما يتقدّس في ذاته وصفاته وشؤونه وأسمائه عن التدريج والتعاقب ، اذ لا يكون ذلك الّا من تلقاء الزمان الّذي هو ظرف المتغيّرات فكذلك هو متقدّس عن المعية الزمانيّة والدفعة الآنية.

اذ ليس ذلك الّا من جهة الزمان ومن جهة الآن الذي هو حدّ من حدود الزمان ،

__________________

(١) كذا ، وهذه الصيغة لم تستعمل فى لغة العرب قطّ.

(٢) المتمجّد : المتعظّم.

(٣) غبّ : بعد.

(٤) «الملل والنحل» ، ج ١ ، ص ٥٨. ط محمد بدران.

٥٨

وهو بعلوّ مجده متعال عن الزمان والدهر ، وأنّ الحركة ماهيتها التدريج والسيلان ، والزمان حقيقته امتداد التقضّي والتجدّد ، وهما باتّصالهما موجودا في الواقع بهويّة امتدادية غير قارّة ، يمتنع بالنظر الى نفس ذاتها أن [الف ـ ٣٤] يجتمع جزءان من أجزائها ، أو حدّان من حدودها في حدّ واحد ، والحوادث الزمانيّة متخصّص كلّ منها بحدّ بعينه من حدود ذلك الامتداد ، لاستحقاق ماديّ وامكان استعداديّ ، والله سبحانه هو الجاعل المخرج للمبدعات والكائنات جميعا من كتم العدم الصريح إلى الوجود في الدهر الذي هو وعاء الزمان ؛ أمّا المبدعات ففي متن الدهر ؛ وأمّا الكائنات فكلّا منها في وقت الذي هو حدّ من حدود الامتداد الزماني الواقع في متن الدهر.

كلّ مبدع له ضربان من الحدوث الذاتي والدهري ؛ وكلّ كائن له انحاء الحدوث الثلاثة : الذاتيّ والدهريّ والزمانيّ ، جميعا ؛ ولا يتوهّم في الدهر امتداد وسيلان وتقضّ وتجدّد. ولو لا الحركة والزمان لم يكن يتصحّح حدوث زمانيّ ، ووجود مسبوق بعدم يوصف بالامتداد والاستمرار (١) أصلا ؛ فالتسابقات والتعاقبات والتقدّمات والتأخّرات بين الزمانيّات إنّما هي بحسب امتداد الزمان وبقياس بعضها إلى بعض في ذلك الامتداد ، لا بحسب متن الدهر ، ولا بالنسبة الى من يتقدّس ويتعالى عن عالمى الزمان والمكان وهو بكلّ شيء محيط.

وهذه المفاحص (٢) قد استبانت في [ب ـ ٣٤] حكمة ما فوق الطبيعة ، ونحن قد أوفيناها حقّها من البيان في صحفنا الحكميّة ولا سيّما كتاب «الإيماضات والتشريقات» وكتاب «خلسة الملكوت».

فاذا الثابتات والقارّات والمتغيّرات والمتجدّدات التدريجيّات والدفعيّات والزمانيّات الغير المنطبقة على امتداد الزمان بقضّها (٣) وقضيضها ، (٤) وصغيرها وكبيرها ،

__________________

(١) قوله : «بالامتداد والاستمرار» ، الأولى تبديل «الاستمرار» بالتقضّي والسيلان التصرّمي ؛ فافهم. (نورى).

(٢) المفاحص : جمع مفحص : الموضع الذي تفحص القطاة التراب عنه لتبيض فيه.

(٣) قضّ : صغار الحصى.

(٤) قضيض : جميع.

٥٩

رطبها ويابسها ، مجعولة الجاعل الحقّ ومخلوقة الخلّاق على الاطلاق. وليس ابداعه وايجاده وصنعه وافاضته بشيء من الأشياء تدريجيّا كما شاكلة الحركة القطعيّة وما على سنّتها ؛ ولا دفعيّا كما الشأن فى الآنيّات والحصولات الآنيّة ؛ ولا زمانيّا حاصلا في الزمان ؛ لا على سبيل الانطباق عليه كما الأمر في الحركة التوسطيّة (١) وما على شاكلتها ؛ بل على نحو آخر وراء سبيل الوهم ، متقدّس عن ذلك كلّه.

وكلّ ثابت وقارّ وتدريجيّ ودفعيّ وزمانيّ حصوله في نفس الزمان من دون الانطباق عليه فهو من فيضه وصنعه ومن تلقاء ايجاده وافاضته ؛ فايجاده وافاضته للمفارقات المحضة والعقول القدسيّة من بعد العدم الصريح «ابداع» ، وللأجرام السماويّة «اختراع» ، وللكائنات المسبوقه بالعدم الممتدّ والمرهونه [الف ـ ٣٥] بالامكان الاستعداديّ «تكوين».

واذا دريت ذلك وتعرّفته انصرح لك أنّ قول اليهود قد فرغ من الأمر انّما كان يعقل لو كان في اقليم الدهر ، وفي حريم جناب الربوبيّة امتداد موهوم وحدود مفروضه ، فيكون الصنع والايجاد في حدّ والفراغ والتعطيل في ساير الحدود ، وذلك من اختلاف الاوهام السوداوية وتهويشات (٢) القرائح الظلمانيّة ، انّما الأمر هنالك على سنن الثبات الصراح وسنّة الفعليّة المحضة ، فهناك أبديّة الفيض والصنع ودوام الفيّاضيّة والفعّاليّة ، من دون تصوّر فراغ وتعطيل ، ولا توهّم امتداد وسيّاليّة ؛ والأشياء كلّها مخلوقه له ، فائضة عنه جلّ سلطانه في الآزال والآباد على الاستمرار الدهريّ والاتّصال الواقعيّ على سنّة متعالية عن مسالك (٣) الأوهام ، وراء الاستمرار السيّال والاتّصال الامتداديّ ، (قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) (٤).

فأمّا كلام النظّام على ما نقله صاحب «الملل والنحل» فلو كان لم يعن بقوله «دفعة

__________________

(١) قوله : «كما [الأمر] في الحركة التوسطيّة» غير مطابق وغير ملائم لمشربنا ـ مشرب اخوان الصفا ـ فانّها شأن دهريّ ، مرتفع صقعه عن افق الزمان. (نورى)

(٢) تهويشات : خلط.

(٣) خ ، مسلك.

(٤) المائدة ، ٦٤.

٦٠