منار الهدى في النصّ على إمامة الأئمّة الإثني عشر

الشيخ علي البحراني

منار الهدى في النصّ على إمامة الأئمّة الإثني عشر

المؤلف:

الشيخ علي البحراني


المحقق: السيد عبدالزهراء الخطيب
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار المنتظر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٢٠

بالسّنة وبرهة بالقياس فاذا فعلوا ذلك فقد ضلّوا واضلوا) (١) انتهى قلت : والادلة على بطلان القياس كثيرة قد تكفلت ببيانها كتب اصحابنا في الاصول وليس الغرض هنا التنصيص على بطلان القياس حتّى نستزيد من الادلة على فساده وانّما الغرض نفي كونه طريقا الى تحصيل الحكم التكليفي وهو حاصل بما ذكرناه ، وامّا الرجوع الى البراءة الاصليّة فظاهر انّه مستلزم لرفع احكام كثيرة لانّها عبادة عن اصالة براءة الذمّة من الوجوب والتّحريم فليست بطريق لبيان الاحكام فتبين ان لا طريق لمعرفة جميع احكام الله المطلوبة من المكلفين الّا بيان الامام لأن بيان الرّسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم يحصل في الجميع لكافة النّاس كما مرّ بيانه ووضح برهانه فلا بدّ من قائم مقامه في ذلك وهو خليفته والوارث منزلته ليبيّن للامّة ما احتاجوا إليه ، وحيث سلمت هذه المقدمات وصحت ثبت منها أن الحجة لله لا تقوم على العباد والعلة لا تزاح عنهم في جميع أزمنة التّكليف الا بهاد يهديهم الى الحق ومرشد يرشدهم الى الصّواب ودليل يدلهم على طريق الهدى وعالم لا يتغير علمه يبيّن لهم ما اختلفوا فيه من امر الدّين ويقيم لهم الكتاب ويوضح لهم متشابهات الآيات ويفصّل لهم مجملات السنة ويفسر لهم ما جهلوه من حدود الملّة وذلك هو الامام ، فاذن يجب في حكمة الله تعالى لذلك نصب امام يحصل به المطلوب في كل ازمنة التكليف ولا يجوز ان يخلو عصر من اعصار التكليف ولا وقت من اوقاته عمن يحصل به الغرض المذكور وتكون له تلك المرتبة الشّريفة.

الثالث (٢) : من الكتاب المجيد وهو قوله تعالى : (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ

__________________

(١) رواه السيوطي في الجامع الصغير ص ١٣٢ من طريق ابن عمر هكذا «تعمل هذه الأمة برهة بكتاب الله ثم تعمل برهة بسنة رسول ثم تعمل برهة بالرأي فاذا عملوا بالرأي فقد ضلوا).

(٢) أي من الأدلة على أن الامام منصوب من الله تعالى.

٨١

بِإِمامِهِمْ) (١) فانّه صريح في انّ لكل اناس إماما ، وإضافته الى ضميرهم يدل على تغيّره بتغيّرهم فيكون لكل عصر امام ، وقد قال المفسرون في معنى الآية انّه ينادى في الموقف يا اتباع فلان ويا اصحاب فلان فينادى كلّ قوم باسم امامهم ، وهو نص فيما قلناه من انّه لا بدّ في كل عصر من امام ، وانّه شخص انساني لا القرآن اذ لا يتغيّر بتغيّر الازمان ولا يكنى عنه بفلان ، وقوله تعالى : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) (٢) وهو أيضا نصّ في ان كل قوم لا بد ان يكون فيهم هاد يهديهم الى حكم الله ويدلهم على ما يقربهم إليه وليس عصر من الاعصار الا وفيه من هو كذلك ، فاذن وجود الامام واجب في كلّ اعصار التكليف ، وجملة من الآيات المتقدمة تومي إليه وكذا غيرها وان لم تكن صريحة فيه.

الرابع : الأخبار الدّالة على عدم خلو العصر من حجة لله على خلقه عالم لا يتغيّر علمه فمنها الخبر المشهور وهو قول النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (من مات بغير امام مات ميتة جاهليّة) (٣) وفي لفظ عبد الله بن عمر كما رواه الاسكافي (٤) (من مات ولا امام له مات ميتة جاهلية) ولفظ الصّدوق

__________________

(١) الاسراء : ٧١.

(٢) الرعد : ٧.

(٣) في رواية مسلم في صحيحه كتاب الامارة باب الأمر بلزوم الجماعة برواية عبد الله بن عمر : (ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية) ورواية الامام أحمد في المسند ٤ / ٩٦ : (من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية).

(٤) الاسكافي : هو ابو جعفر محمد بن عبد الله من متكلمي المعتزلة وأحد أئمتهم وإليه تنسب الطائفة الاسكافية منهم ، بغدادي أصله من سمرقند وكان المعتصم العباسي يعظمه ، ومن آثاره الباقية «نقض العثمانية» وهي رد على رسالة الجاحظ المعروفة ب «العثمانية» وكانا في عصر واحد ، وقد نقل ابن ابي الحديد معظم هذه الرسالة في مواضع من شرح نهج البلاغة ، وقد طبعت رسالة الجاحظ مع نقضها في مصر توفي الاسكافي سنة ٢٤٠.

٨٢

منّا : (من مات وليس له امام ...) الى آخره وذكر بهاء الدين الشيخ الجليل محمّد بن حسين بن عبد الصمد العاملي في شرح الاربعين لفظ الحديثين هكذا (من مات ولم يعرف امام زمانه مات ميتة جاهليّة) (١) مشعرا بالاتفاق عليه وعلى كلّ حال فالخبر دالّ على انّه في كلّ زمان امام تجب معرفته على المكلّفين ولا يجوز لاحد جهله وانّ من مات من المسلمين ولم يأتم به مات ميتة كفر ولم ينفعه اسلامه ولا ما عمله من افعال الخير ، ولما قلناه طرق عبد الله بن عمر بن الخطاب على الحجّاج بابه ليلا ليبايعه لعبد الملك بن مروان فقال الحجّاج لحاجبه : قل له يأتي الصّبح فابى ان ينصرف قبل المبايعة وذكر الحديث (٢) مستدلا به وانّه خاف ان يطرقه الموت في تلك الليلة فيموت ولا امام له كما رواه العامة من امره وفعله ولا يجوز ان يكون المراد بالامام في الحديث المذكور القرآن كما زعم بعض اهل الخلاف لوجوه.

الاوّل : انّ القرآن لا يجهله احد من المسلمين ولا يزعم مخالفته احد ، والامام المذكور في الخبر ممّا تقع عليه الخفية وتعرض للنّاس فيه الجهالة ، وانّهم يكونون بين عارف به وجاهل ومؤمن به وتارك فيكون غير القرآن.

الثاني : ان الامام المذكور في الخبر ممّا يتغير بتغير الازمنة وتغيّر المكلّفين ولو لم يكن كذلك لم يعرض للنّاس عدم معرفته فيموت منهم من ليس عارفا به ولا معتقدا إمامته والقرآن لا يتغير بتغيّر الزمان فيكون الامام المذكور غير القرآن.

الثالث : انّ لفظ الامام ظاهر في شخص انساني له رتبة الامامة لأنه هو المتبادر منه عند الاطلاق ويرشد إليه ان الامام في الخبر لو كان المراد به القرآن

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١٣ / ٢٤٢ عن نقض العثمانية.

(٢) نفس المصدر :

٨٣

لكان المراد اما معرفة احكامه او العمل به او معرفة انّه كتاب الله وان ما فيه من الاحكام عن الله وهو التّصديق به المعبّر عنه بالمعرفة الاجمالية ، لا شيء غير هذه الثلاثة فان كان المراد الاوّل فاكثر المسلمين غير عارفين باحكام القرآن وانّما يعرفه الأوحديّ من العلماء والمقلد لا يطلق عليه لفظ المعرفة في العرف القديم ولا باعتبار اللغة العربية فيجب حينئذ ان يكون جميع الناس مكلّفين بمعرفة احكام القرآن ومعانيه عن نظر واجتهاد ومن قصر عن ذلك من المسلمين مات كافرا وهذا مخالف لاتفاق الامّة اذ لا يشترط احد من اهل العلم ذلك في صحة الايمان ثمّ كيف تحصل لاحد من العلماء معرفة معاني القرآن والاحاطة بما فيه من الاحكام على التمام مع اشتماله على المتشابه والمجمل والخاص والعام والناسخ والمنسوخ وغير ذلك من الوجوه ، وعلى هذا لا يموت احد من الناس الا كافرا لتعذر الاحاطة بمعرفة القرآن عليه ولا شك في بطلان هذا الوجه وملزومه ، وان كان الثاني فاكثر الناس غير عاملين بالقرآن بل نبذوا احكامه وتركوا أوامره وعصوا زواجره ولم يعمل به ولا يخالفه في جميع الاحكام الّا يسير بل ايسر من اليسير ومن عمل من الناس به لم يعمل من احكامه الا بالقليل فيجب على هذا انّ من مات وهو عاص فقد مات كافرا لعدم امتثاله لبعض احكام القرآن على ان ذلك لازم في اكثر الناس لما اخبر الله سبحانه في القرآن عن عصيان اكثر الناس بقوله : (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) (١) وقوله تعالى : (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) (٢) وبطلان هذا واضح كالاوّل لا سيّما عند الخصوم ، وان كان الثالث فذاك لا يجهله مسلم ولا ينكره مقر بنبوّة نبيّنا محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فلا معرض للجهالة فيه فلا معنى لتقسيم النّاس بين ميّت على معرفته وميّت على الجهل به كما هو مفاد الخبر فظهر من ذلك انّ المراد بالامام فيه غير القرآن ، ولا يجوز

__________________

(١) سبأ : ١٣.

(٢) الأعراف : ١٧.

٨٤

ان يراد منه امام المذهب مطلقا ـ كما انّه ربما يقول به متعصّب من القوم المخالفين لوجوه.

الاوّل : ان المتبادر من لفظ الامام في المقام ـ بل اذا اطلق مطلق ـ الرئيس العام المنصوب من قبل الملك العلام لا فقيه قلّده في فتاواه جملة من الرّعاع وحثالة من النّاس والتبادر أمارة الحقيقة.

الثّاني : انّ تسمية الفقيه الذي قلّده قوم على ما ذكرناه بالامام انّما هو شيء طار من متأخري مخالفينا واصطلاح جديد منهم ولم يكن معروفا في القديم ولا يعرفه الصّحابة ولا التّابعون ولا من بعدهم بطبقات متعددة وانّما يعرفون من الامام الرئيس العام ، فيلزم ان جعلنا لفظ الامام في الخبر واقعا على فقيه مقلّد لقوم ان يكون النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) خاطب اصحابه بما لا يعرفونه وكلفهم بما لا يفهمونه وذلك غير جائز.

الثالث : انّ الامام في الخبر لو كان كما يظنّ من انه الفقيه المذكور لوجب ان يكون الناس قبل اختراع المذاهب الاربعة ماتوا على الكفر حتى الأئمّة الاربعة لانّهم ماتوا ولم يعرفوا انّهم بالمنزلة الّتي جعلها لهم اكثر العامة ولا دخل في خلدهم ذلك ولا ظنّوا انهم يكونون ائمة لا يجوز مخالفتهم وقتا ما ، ويكون الصّحابة ومن بعدهم ماتوا كفّارا لأنّهم لم يعرفوا ان ائمة المذاهب يكونون فلانا وفلانا الى آخرهم ، وهذا ما لا يقول به مميّز ولا المراد السّلطان المتغلّب الجائر كما ذكره بعض العامّة اذ لا تجوز ولايته ولا الركون إليه بنصّ القرآن في قوله تعالى : (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) (١) فكيف يكفر من مات جاهلا به وغير معتقد إمامته ، وهذا لا يرتاب فيه ذو فهم ولقد رووا عن امامهم ابي حنيفة انّه قال : «لو دعاني اللص

__________________

(١) هود : ١٣.

٨٥

الدوانيقي الى حمل اجرة الى بناء مسجد ما أطعته» (١) واذا بطل ما احتملوه من الاحتمالات في الخبر في معنى الامام تعين ان يكون المراد منه ما ذكرناه وهو الرئيس العامّ المنصوب من الله لهداية الناس وحماية حريم الاسلام ، والظاهر من ابن ابي الحديد (٢) ظهورا يقرب الى التصريح ان المراد بالامام في الخبر الائمة بعد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وان من مات وهو عارف بهم كان مؤمنا ومن مات ولم يعرفهم مات فاسقا وخلّد في النار واراد بهم الخلفاء الاربعة ومن صحت إمامته بعدهم عند اصحابه ، وليس المراد من الامام من هو في زمان المكلّف الميّت ، وجوابه معلوم ممّا ذكرناه في أوّل الكلام على معنى الخبر ويؤيده ما رووه وهو أيضا من الراوين لفعل عبد الله بن عمر مع الحجاج وقد مرّ ذكره فانّه مصرح بانّه فهم من الامام المذكور في الخبر امام زمان المكلّف لا الامام الّذي مضى زمانه وانقضى دوره ، وان كان قصّر في النظر حيث جعل امام الفساق الّذي تجب عداوته كإمام الحق الذي تجب معرفته ، بل رجح الاوّل على الثّاني فقعد عن بيعة امير المؤمنين علي (عليه‌السلام) وخذله مع الخاذلين وفعل ما سمعت في بيعة عبد الملك ولقد ازرى عليه الحجّاج بذلك واستحقره حتّى انه لم يجلس له ولم يعطه يده بل اخرج احدى رجليه من اللّحاف وهو نائم وقال بايعها فانّ يدي عنك مشغولة (٣) وهذا من فرط جهله او شدة عداوته لأمير المؤمنين (عليه‌السلام) يرثها لا عن كلالة ، والحاصل ان الخبر واضح في ان لكل زمان إماما تجب معرفته على المكلفين ولا يسعهم جهله لا سيّما على ما ذكره البهائي في لفظ الحديث ، والاحتمالات مزيّفة وهو المطلوب روى ثقة الاسلام محمّد بن يعقوب

__________________

(١) في نور الأبصار للشبلنجي ص ٢٠٦ وكان أبو حنيفة يقول في المنصور وأشياعه : «لو أرادوا بناء مسجد وأرادوني على رد آجره لما فعلت».

(٢) شرح نهج البلاغة ٨ / ٣٧٣.

(٣) نفس المصدر.

٨٦

الكليني بسنده عن بريد قال سمعت أبا جعفر (عليه‌السلام) يقول في قول الله تبارك وتعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) (١) فقال : (ميت لا يعرف شيئا ونورا يمشي به في النّاس إماما يأتم به ، كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها قال : الذي لا يعرف الإمام) (٢) : وعن ابي بصير عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) في قول الله تعالى : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) (٣) قال : طاعة الله ومعرفة الإمام (٤) انتهى.

ومنها : قول النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في حديث الثقلين (لم يفترقا حتى يردا عليّ الحوض) فبيّن بذلك انّه لا بدّ من متمسك به مع القرآن من عترته في كل زمان لا ينقطع في وقت ما دام التكليف باقيا حتى يردا عليه الحوض وهو وقت انقطاع التكليف وذلك المتمسّك به الّذي هو قرين القرآن هو الامام المدّعى اذ لا يجوز ان يكون غيره فيكون باقيا ما بقي التكليف كبقاء القرآن فيجب ان يكون في كل عصر من هو كذلك حتّى تصدّق القضيّة الّتي لا يجوز عليها الكذب.

ومنها : ما رواه الحاكم وصححه على شرط الشّيخين من قول النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (النجوم امان لأهل الأرض من الغرق واهل بيتي امان لأهل الأرض من الاختلاف) (٥) وروى احمد بن حنبل عن النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (اذا ذهب النّجوم ذهب اهل السّماء واذا ذهب اهل بيتي ذهب اهل الأرض) (٦) وروى جماعة من محدّثيهم عن النّبي (صلى الله عليه

__________________

(١) الأنعام : ١٢٢.

(٢) الكافي : الأصول ١ / ١٤٢ ورواه العياشي في تفسيره ١ / ٣٧٥.

(٣) البقرة : ٢٦٥.

(٤) الكافي : الأصول ١ / ١٤٢ ورواه العياشي في التفسير ١ / ١٥٠.

(٥) مستدرك الحاكم ٣ / ١٤٩.

(٦) رواه المحب الطبري في ذخائر العقبى ص ١٧. وقال : «اخرجه احمد في المناقب.

٨٧

وآله وسلم) قال : (النّجوم امان لأهل السّماء واهل بيتي امان لأمّتي) (١) وفي رواية اخرى (اهل بيتي امان لأهل الأرض فاذا هلك اهل بيتي جاء اهل الارض من الآيات من كانوا يوعدون) (٢) قال في اسعاف الراغبين وهو من اشد المخالفين بعد نقل هذه الاخبار وقد يشير الى هذا المعنى قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) (٣) قيام اهل بيته مقامه في الأمان لأنهم منه وهو منهم كما ورد في بعض الطرق انتهى (٤).

اقول وهذه الأخبار صريحة في انه ما دام التكليف باقيا فلا بدّ من شخص من العترة يؤمن به اهل الأرض من الاختلاف وان الأرض لا يمكن خلّوها من شخص بهذه المثابة ولو خلت منه لهلك اهلها وذهبوا ، فهم امان لأهل الأرض من الهلاك والاختلاف ، وليس كذلك الا من ذكرناه وهو الامام المنصوب من قبل الله لبيان الأحكام ورفع الاختلاف وازالة الاشتباه عن المكلفين في الحلال والحرام لا مع جميع قرابة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اذ ليس كلهم ممن يرضى مذهبه ويحمد طريقه.

وبالجملة انّه لا يصلح لرفع الاختلاف ويكون امانا منه ومن الهلاك للعباد الا من هو مؤيد من الله بالالهام ومخصوص من النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بالاعلام لا يتغيّر علمه ولا يتبدّل حكمه وما سواه لا يكون كذلك كما هو ظاهر ، وهذا تصديق ما روي عن ائمتنا (عليهم‌السلام) في هذا المعنى روى الشّيخ الجليل محمّد بن يعقوب الكليني عن عليّ بن ابراهيم عن محمّد بن عيسى عن يونس عن ابن مسكان عن ابي بصير عن احدهما

__________________

(١) رواه الحاكم في المستدرك ٣ / ٤٥٨ وفيه «ذهب» مكان «هلك».

(٢) رواه بهذه الصورة المحب في الذخائر ص ١٧.

(٣) الانفال : ٣٣.

(٤) اسعاف الراغبين ص ١٢٩ ويلاحظ أن المؤلف نقل كل تلك الأحاديث عن الاسعاف.

٨٨

(عليهما‌السلام) قال : (قال : ان الله لم يدع الأرض بغير عالم ولو لا ذلك لم يعرف الحقّ من الباطل) وعن عليّ بن ابراهيم عن محمّد بن عيسى عن محمّد بن الفضيل عن ابي حمزة قال : قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : تبقى الأرض بغير امام؟ قال : (لو بقيت الأرض بغير امام لساخت) وعن عليّ بن ابراهيم عن محمّد بن عيسى عن محمّد بن الفضيل عن ابي الحسن الرّضا (عليه‌السلام) قال : قلت له : اتبقى الأرض بغير امام؟ قال : (لا) قلت : فانا نروي عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) انها لا تبقى بغير امام الا ان يسخط الله على اهل الأرض او على العباد فقال : (لا تبقى اذا لساخت) (١) وعن عليّ بن ابراهيم عن محمّد بن عيسى عن ابي عبد الله المؤمن عن ابي هراسة عن ابي جعفر (عليه‌السلام) قال : (لو أنّ الامام رفع من الأرض ساعة لماجت باهلها كما يموج البحر باهله) وعن الحسين بن محمّد عن معلّى بن محمّد عن بعض اصحابنا عن ابي عليّ بن راشد قال : قال ابو الحسن (عليه‌السلام) : (ان الأرض لا تخلو من حجّة وانا والله ذلك الحجّة) (١) الى غير ذلك من الأخبار الكثيرة التي يضيق بنقل بعضها المقام.

وممّا يدلّ على المطلب من كلمات امير المؤمنين (عليه‌السلام) واقواله الّذي ثبت عن النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في حقّه (انه مع الحقّ والحقّ معه) كثير نذكر منه شيئا.

فمنها : قوله لكميل بن زياد في كلام طويل (اللهم بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجّة اما ظاهرا مشهورا واما خائفا مغمور لئلا تبطل حجج الله وبيّناته وكم ذا واين؟ اولئك والله الاقلّون عددا الاعظمون عند الله قدرا يحفظ الله حججه وبيناته حتى يودعوها نظراءهم ويزرعوها في قلوب اشباههم هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة وباشروا روح اليقين واستلانوا ما

__________________

(١) جل ما نقله المؤلف في المتن من الروايات نقلها من الكافي ١ / ١٣٦ و ١٣٧.

٨٩

استوعره المترفون وانسوا بما استوحش منه الجاهلون ، وصحبوا الدّنيا بابدان ارواحها معلّقة بالمحلّ الأعلى أولئك خلفاء الله في ارضه والدّعاة الى دينه ، اه اه شوقا الى رؤيتهم) (١) وهذا الكلام نصّ صريح في وجوب دوام الحجّة وبقاء الخليفة في الأرض ما دام التكليف باق لا يموت واحد حتّى يخلفه من يقوم مقامه وحمل ابن ابي الحديد هذا الكلام على الأبدال السائحين (٢) في الأرض فاسد يردّ قوله (عليهم‌السلام) : (وخائفا مغمورا) فان الأبدال الذين عناهم ابن ابي الحديد لا خوف عليهم من احد ثم انّه من اين يكون لأحد هذا المقام الّذي ذكره امير المؤمنين (عليه‌السلام) وهذه الأوصاف غير الأئمة بالمعنى الّذي قدمناه خصوصا قوله (عليه‌السلام) : (لئلا تبطل حجج الله وبيناته» وقوله : «هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة» الى آخر الاوصاف اذ من المعلوم البتة انّه ليس احد من المقلد الذين لا يعرفون الحلال والحرام الا من فتوى الى ابي حنيفة ومالك والشّافعي واضرابهم الّذين يقيسون الدّين برأيهم بقائم لله بالحجّة وهو مقلّد لمن لم يقم بها فمن اين هجم العلم بهؤلاء على حقيقة البصيرة؟ بل من اين حصلت لهم البصيرة هم مقلّدون لمشايخهم ، وهم مختلفون؟ والخارج عن تقليد المشايخ الاربعة غير صحيح العبادة عند المعتزلي فمن اين يكون قائما بحجّة الله الى آخر الاوصاف؟ ومن ارادهم بقوله لم ينالوا من البصيرة ما يبل صدى الظمئان؟ على انا لا نعرف الأبدال السّائحين في الأرض ولم ندرك منهم من هو مصداق هذه الاوصاف حتّى نجعل من لم نره منهم بحكمه كما رأينا الامام الظاهر وجعلنا الغائب بحكمه بل انا لا نعرف السّائحين الّا القوم الّذين يقال لهم الكلندرية والعامّة يسمونهم اولياء ويطلق عليهم الناس لفظ الدّراويش وهؤلاء قوم لا يصلون فضلا عن ان يكونوا يحسنون الصلاة افترى هؤلاء الّذين عناهم امير المؤمنين بان باشروا

__________________

(١) نهج البلاغة برقم ١٤٧ حكم.

(٢) شرح نهج البلاغة : ١٨ / ٣٥١.

٩٠

روح اليقين او انّهم خلفاء الله في ارضه والدّعاة الى دينه؟ وسائحا غير هؤلاء لا نعرفه ، ان صريح كلام امير المؤمنين (عليه‌السلام) ان القوم الذين وصفهم منهم ظاهر ومنهم مستور وكلام المعتزلي مصرّح بان جميع السّائحين مستورون لا يعرفون ، فلا يطابق كلامه لفظ الخبر ومعناه فلا يصح ان يحمل عليه ، وبالجملة ان كلام المعتزلي لا معنى له وانّما هو من ضيق الخناق فيتعلل بما لا يجدي نفعا والله الهادي.

ومنها : قوله (عليه‌السلام) في خطبة له (والهجرة قائمة على حدّها الأوّل ما كان لله في اهل الارض حاجة من مستسرّ الامّة ومعلنها لا يقع اسم الهجرة على احد الا بمعرفة الحجّة في الأرض فمن عرفها واقرّ بها فهو مهاجر ولا يقع اسم الاستضعاف على من بلغته الحجّة فسمعتها اذنه ووعاها قلبه) (١) وهذا الكلام من اصرح الصّريح في ان الأرض لا تخلو من امام تجب معرفته وان من عرفه صح عليه اسم الهجرة فسمّى مهاجرا وان من لم يعرفه سمّي مستضعفا لا دين له وهو قوله (عليه‌السلام) ، لا يقع اسم الهجرة على احد الا بمعرفة الحجّة في الأرض ولا يقع اسم الاستضعاف الى آخره وان ذلك باق ما دام التكليف موجودا وهو قوله (عليه‌السلام) «ما كان لله في اهل الأرض حاجة» وقد اعترف المعتزلي بذلك فانّه لما ذكر الفرق بين هذه الهجرة الّتي ذكرها امير المؤمنين وبين الهجرة التي ذكرها النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بقوله : (لا هجرة بعد الفتح) وخصّ الاولى بالهجرة الى الامام قال : ثمّ ذكر يعني امير المؤمنين انه لا يصح ان يعد الانسان من المهاجرين الا بمعرفة امام زمانه وهو معنى قوله : (الا بمعرفة الحجة في الأرض) قال : فمن عرف الامام واقرّ به فهو مهاجر قال : ولا يجوز ان يسمّى من عرف الامام مستضعفا ـ الى ان قال ـ : وشيعة الامام ليست الهجرة بالبدن مفروضة عليهم بل تكفي معرفتهم به واقرارهم بامامته فلا يقع اسم الاستضعاف

__________________

(١) نهج البلاغة من الخطية ١٨٧.

٩١

عليهم (١) انتهى قوله : ولازم قوله انّه من المستضعفين لانّه لا امام له على طبق مذهبه والخلفاء الفسّاق الذين في زمانه من بني العبّاس لا يصلحون للامامة على الوجه المذكور في قول اصحابه ، وإمامنا المستور عن اهل الغرور لا يثبت هو وجوده بل ينفيه في مواضع كثيرة بالصّريح من كلامه فبقي حينئذ بلا امام عدل فهو من المستضعفين لا محالة ، والعجب منه في هذا الموضع انّه لم يذكر ان الامام الّذي معرفته تكون هجرة هو القطب الّذي كان يدّعيه في شرح كثير من خطب امير المؤمنين المشابهة في المعنى لهذه الخطبة ، واظنّه هنا نسي ذلك ولم يتصوّر ان الكلام نصّ في مذهب الاماميّة ليتصدى لدفعه ولو بالرّاح ولستره ولو بالزّجاج ، وانت خبير بان الكلام المذكور صريح وايّ صريح فيما ندّعيه.

واعلم انّ امير المؤمنين (عليه‌السلام) اراد بالمهاجر والمستضعف في قوله المذكور واشار به الى ما في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) (٢) الآية فمن عرف الامام في زمانه كان مهاجرا في الأرض وان لم يخرج من منزله ومن جهل امام زمانه فهو مستضعف وان جاب الاقطار.

ومنها : قوله في خطبة (وانما الأئمة قوام الله على خلقه وعرفاؤه على عباده ولا يدخل الجنّة الّا من عرفهم وعرفوه ولا يدخل النّار الّا من انكرهم وانكروه) (٣) الخطبة ، وهي وفق المدّعى لأنّ قوله (عليه‌السلام) : «الأئمة قوام الله على خلقه» صريح في دوام وجود الامام واستمراره باستمرار زمان التّكليف ، لأن القائم على الخلق والعريف عليهم يستحيل ان يكون غير موجود ولا حيّ ولا عارف باحوالهم ، وقوله (عليه‌السلام) : «لا يدخل الجنّة»

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١٣ / ١٠٤.

(٢) النساء ٩٧.

(٣) نهج البلاغة من الخطبة ١٥٠.

٩٢

الخ .. معناه انّه لا يدخل الجنّة الّا من عرفهم بالامامة واقرّ لهم بها وعرفوه بالاقرار لهم بذلك فيجب حينئذ ان يكون في كلّ عصر امام قائم لله على خلقه وعريف عليهم يدخل الجنّة من اقرّ له بالامامة ويدخل النّار من انكر إمامته ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيى من حيّ عن بيّنة وهو المطلوب ، والكلام ظاهر في سعة علم الامام لتمكنه من معرفة عارفيه ومنكريه مع بعد ديارهم وكثرتهم ، وهو تصديق ما ورد من طرقنا عن اهل البيت ان الامام يعرف اولياءه واعداءه في أقاصي الأرض وادانيها ، وانّ الدنيا عند الامام بمنزلة الدّرهم في كف الانسان يقلبه يعلم اعلاها واسفلها كما رواه المشايخ الكبار مثل محمد بن الحسن الصّفار ومحمّد بن يعقوب وابن بابويه وغيرهم من اكابر محدّثينا في كتبهم ، وليس المراد انّ الأئمة يعرفون اولياءهم يوم القيامة خاصة كما ذكره ابن ابي الحديد في شرح الخطبة (١) لأن الذين لا يعرفون اولياءهم الّا في الآخرة لا يسمون عرفاء الله على خلقه في الدّنيا لأنّ العريف النقيب والرئيس ، على ان معرفة الولي والعدوّ في الآخرة لا يختص بالأئمة بل الخلق كلّهم ينكشف لهم حينئذ الغطاء فيعرف اهل الجنّة اولياءهم ويكونوا (اخوانا على سرر متقابلين) ، ويعرف اهل النّار اولياءهم (كلما دخلت أمّة لعنت اختها) ويعرف المظلوم ظالمه وان كان بعد موته بذكر سيئ ويعرف المحسن من احسن إليه كذلك كما هو معلوم لدى العارفين فلا فضل للأئمة في هذا يوم القيامة على غيرهم ثم ان المتبادر من قوله : «لا يدخل الجنة» الخ .. انّه لا يدخل الجنة الّا من عرفهم في الدّنيا بالامامة وعرفوه في الدّنيا بالاقرار لهم بها ولا يدخل النار الا من انكر إمامتهم في الدّنيا وانكروه ، اي لم يعرفوه في الدّنيا بالاقرار لهم بالامامة وهو يؤيد المطلب ويوضحه ، وكلام امير المؤمنين (عليه‌السلام) في هذا المعنى كثير وسيأتي بعض منه في آخر الكتاب في موضع يشبه هذا الموضع او هو فرعه إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٩ / ١٥٤.

٩٣

احتج قوم من الخصوم على جواز خلوّ العصر من امام بقوله تعالى : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) (١) وبقوله تعالى : (وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) (٢) واجاب اصحابنا عنه بأنّ الآيتين نفي للرّسول لأنّ النذير هو الرّسول كما يدل عليه قوله في الآية الثانية (وَما أَرْسَلْنا) وقوله تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) (٣) وكثير من الآيات وليس في الآيتين نفي الأنبياء والأوصياء الهادين الى الله تعالى والاوّل نقول به فانّا نجوّز خلوّ العصر من رسول مبعوث بل من نبيّ ولا نجوّز خلّوه من وصيّ هاد تقوم به الحجة لله على العباد والآيتان لا تنفيانه فلا حجّة لكم فيهما على ما ادعيتم اقول امّا قوله تعالى في الأولى : (ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) (١) وفي الثّانية : (وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) (٢) فمحتمل لان يكون الله تعالى اخبر انه لم يرسل في قريش رسولا منهم قبل النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وان كان ارسل فيهم من غيرهم وبلغتهم دعوة الرّسل (عليه‌السلام) الى توحيد الله تعالى فليس في الآيتين دلالة على انتفاء الرّسل مطلقا وانما اقصى دلالتهما على انتفاء رسول الى قريش عن انفسهم قبل النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ويؤيد ما قلناه قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) (٤) فانّها ناصّة على انّه لا تخلو أمّة من الامم من رسول إليهم منذر يخوفهم من العقاب وقد اعترف بذلك شيخ المعتزلة ابو علي الجبائي (٥) فقال وفي هذا دلالة على انّه لا

__________________

(١) السجدة : ٣.

(٢) سبأ : ٤٤.

(٣) فاطر : ٤٢.

(٤) فاطر : ٢٤.

(٥) أبو علي الجبائي محمد بن عبد الوهاب المعتزلي توفي سنة ٣٠٣ ويقال له ولولده أبي هاشم عبد السلام المتوفى سنة ٣٢١ الجبائيان وكلاهما من أكابر شيوخ المعتزلة.

٩٤

احد من المكلفين الّا وقد بعث إليهم الرّسول وانه سبحانه اقام الحجّة على جميع الامم انتهى ومثل ما قلناه في الآيتين قال به الحسن البصري في قوله تعالى : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ) (١) فقال : (لم يأتهم نذير من أنفسهم وقومهم وان جاءهم من غيرهم) ويحتمل أيضا أنّ المراد ما أتاهم من نذير من قبلك على حسب ما جئت به وكذلك في الآية الثانية وهذا كما قاله قوم في (لِتُنْذِرَ قَوْماً) الآية فتبيّن أنّ الآيتين اللّتين احتج بهما الخصم لا تدلان على خلوّ العصر من الرسل فضلا عن أن تدلّا على خلّوه من الأوصياء الهادين فسقط الاحتجاج بهما رأسا ،

وأما الآية الثالثة وهي قوله تعالى : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) فقد عرفت ما قيل فيها مما لا ينفي وجود الرّسل إلى قريش من غيرهم ، على أنّ المروي عن عكرمة (٢) في معناها لتنذر قوما كما انذر آباؤهم بجعل ما مصدريّة لا نافية وحرف التشبيه محذوف كما حذف في قوله تعالى : (وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) (٣) وهذا القول ادل على المطلوب من الاوّل ويعضده آيات كثيرة (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ) الآية ، وآيات نفي الحجّة للنّاس على الله بعد الرّسل وقوله تعالى : (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ) (٤) وقوله تعالى : (قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٥) جوابا لقولهم

__________________

(١) يس ٦ ورأي الحسن البصري نقله الطبرسي في مجمع البيان ٨ / ٤١٦.

(٢) عكرمة بن عبد الله البربري المدني مولى ابن عباس من التابعين كان عالما بالتفسير وبالمغازي اتصل بنجدة الحروري وتأثر برأيه وخرج الى المغرب وأخذ عنه أهلها رأي الصفرية من الخوارج وعاد الى المدينة فطلبه أميرها فتغيب حتى مات حسنة ١٠٥.

(٣) النمل : ٨٨.

(٤) المؤمنون : ٤٤.

(٥) آل عمران : ١٨٣.

٩٥

(لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ) (١) الآية كما قاله بعض الافاضل واما في الظاهر فهي جواب لقول اليهود (أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ) (٢) كما قصّه الله من قولهم فلا حجة فيها على المقصود فهذه الآيات دالة على انّ الله عزوجل لم يترك أمّة بغير رسول تقوم به الحجّة عليهم وقال الشيخ الصّدوق : «ان معنى الآية الأولى وهي قوله تعالى : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) (٣) أي ما جاءهم رسول بتبديل شريعة ولا نسخ ملّة ولم ينف الهداة الدعاة من الأوصياء» (٤) انتهى وهو محتمل أيضا.

أما قوله : تعالى : (وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها) (٥) فلا دلالة فيه على نفي الرّسول وانّما غاية دلالته على انّه لم ينزل الله على قريش كتبا من السّماء بلسانهم قبل القرآن وهذا ما لا ينكره أحد ولا ينفع الخصم اذ لا يجب في كلّ رسول أن يكون معه كتاب وله شريعة بل يجوز ارسال الرّسل يدعون الى شريعة واحدة ولتأكيد ما في العقول كما ذهب إليه الامامية وأبو علي الجبائي واتباعه من المعتزلة ، ودلّ على الأوّل الاتفاق على أن لا شريعة لاحد من الأنبياء إلّا لآدم ونوح وابراهيم وموسى وعيسى ومحمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وان كلّ الرسل غيرهم يدعون الى الشرائع السّابقة على شريعتنا ، والحاصل انّ الآيات لا تدل على نفي الرسل مطلقا بوجه من الوجوه ، ولو نزلنا للخصم عن الحجّة وقلنا بدلالتها على ذلك لم تكن دالة على نفي امام هاد تقوم به الحجّة لله على العباد كما عرفت من البيان ، وقد وضح من ذلك سلامة ادلتنا الدالّة على وجوب وجود امام في كلّ زمان من ازمنة التّكليف عن

__________________

(١) طه : ١٣٤.

(٢) آل عمران : ١٨٣.

(٣) القصص : ٤٦.

(٤) إكمال الدين واتمام النعمة ٦٢٤ وقد نقله المؤلف هنا ملخصا.

(٥) سبأ : ٤٤.

٩٦

معارض فتعيّن القول به والمصير إليه ، ولا بأس بنقل بعض الاخبار عن ائمتنا (عليهم‌السلام) في هذا المعنى روى ثقة الاسلام محمّد بن يعقوب الكليني بسنده عن ابي بصير قال : قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) فقال : رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) المنذر وعلي الهادي ، يا أبا محمد هل من هاد اليوم؟ قلت : بلى جعلت فداك ما زال منكم هاد بعد هاد حتى دفعت أليك فقال : (رحمك الله يا أبا محمّد لو كان اذا نزلت آية على رجل ثم مات ذلك الرّجل ماتت الآية مات الكتاب ولكنه حيّ يجري فيمن بقي كما جرى فيمن مضي) (١)

وروى الصدوق رئيس المحدثين بسنده عن ابي الصباح عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) قال : (ان الله تبارك وتعالى لم يدع الأرض الا وفيها عالم يعلم الزيادة والنقصان فاذا زاد المؤمنون ردهم واذا نقصوا شيئا اكمله لهم ولو لا ذلك لالتبست على المؤمنين امورهم).

وبسنده عن عبد الأعلى بن اعين عن ابي جعفر (عليه‌السلام) قال سمعته يقول (ما تترك الأرض بغير عالم ينقص ما زادوا ويزيد ما نقصوا ولو لا ذلك لاختلطت على النّاس امورهم) (٢).

وعن سليمان الأعمش عن الصادق جعفر بن محمد في حديث قال : (ولم تخل الأرض منذ خلق الله الخلق من حجّة الله فيها ظاهر مشهور أو غائب مستور ولا تخلو حتى تقوم السّاعة من حجة لله فيها ولو لا ذلك ولم يعبد الله) قال سليمان فقلت للصّادق فكيف ينتفع الناس بالحجة الغائب المستور؟ قال : (كما ينتفعون بالشمس اذا سترها سحاب) (١) اللهم ثبتنا على

__________________

(١) الكافي ١ / ١٤٧.

(٢) المنقول هنا عن الصدوق تجده ما بين ص ١٩٧ ـ ٢٠١ من كتابه إكمال الدين واتمام النعمة.

٩٧

الحق وموالاة الحجّة انّك تثبت الّذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدّنيا وفي الآخرة.

__________________

(١) نفس المصدر.

٩٨

الفصل الأول

في شروط الامام

وهو يشتمل على مسائل :

٩٩
١٠٠