منار الهدى في النصّ على إمامة الأئمّة الإثني عشر

الشيخ علي البحراني

منار الهدى في النصّ على إمامة الأئمّة الإثني عشر

المؤلف:

الشيخ علي البحراني


المحقق: السيد عبدالزهراء الخطيب
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار المنتظر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٢٠

كثروا قال الله تعالى : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) (١) وقال : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) (٢) وقال عزوجل : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) (٣) ومثله كثير يطول به الكلام والنّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قد بلغ جميع الوحي والاحكام وبينها لخلفائه الكرام فحصل المطلوب.

الرّابع : سلمنا العموم في الوجهين المبلغ والمبلغين والمبيّن والمبينين لهم لكن لا نسلم ان المراد تبيين جميع الوحي والاحكام لجميع النّاس وتبليغهم اياها تفصيلا ، لم لا يجوز ان الامر بالتبليغ والتّبيين لبعضهم تفصيلا في جميعها وللباقين تفصيلا واجمالا ، واحالتهم على من فصّل له الجميع فيما لم يبيّنه لهم مفصّلا؟ فيكون النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على هذا الوجه قد بلغ جميع الاحكام وبينها لجميع النّاس وسينكشف لك هذا الوجه في المقدّمة الآتية والنّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قد فعل ذلك فبيّن للامّة مفصّلا ما بيّن من الفرائض وحدودها والمحرمات ومواضعها ودلّهم على من يرجعون إليه في بيان ما لم يبيّنه لهم فقال : (اني مخلف فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي) (٤) وقال في شأن عترته (تعلموا منهم ولا تعلموهم فانهم اعلم منكم) (٥) وقال : (اقضاكم عليّ) (٦) يعني اعلمكم بالقضاء وقال لعلي

__________________

(١) آل عمران : ١٧٣.

(٢) البقرة : ١٩٩.

(٣) النساء : ٥٤.

(٤) حديث الثقلين مشهور بل متواتر حتى قال ابن حجر في الصواعق ص ٩٩ : «إن طرقه وردت عن نيف وعشرين صحابيا» بل جاء في العبقات ـ كما في طبعته الأخيرة بتعريب السيد الميلاني ـ رواه اكثر من ثلاثين صحابيا وما لا يقل عن مائتي عالم من كبار علماء اهل السنة بألفاظ مختلفة ومعنى متفق.

(٥) هذا تابع لحديث الثقلين انظر الصواعق ص ١٣٥.

(٦) الاستيعاب لابن عبد البر : ٣ / ٣٨.

٦١

(عليه‌السلام) فيما رواه ابو نعيم عن انس : (انت تؤدي عنّي وتبيّن لهم ما اختلفوا فيه بعدي) (١) الى غير ذلك ممّا سيأتي مشروحا عند ذكر النصوص على أمير المؤمنين (عليه‌السلام) ان شاء الله تعالى وكله مصحح عند الخصوم ، على انهم حيث اعتراض جماعة من محققي الامامية على رواية ابي بكر عن النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (نحن معاشر الأنبياء لا نورث) (٢) فقالوا كيف يبيّن النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ذلك لابي بكر ولم يبيّن لاهل الميراث أجابوهم بأنّه اذ بيّن المولّى من بعده فقد بيّن للامّة مع حكمهم بان ولاية المذكور ليست من قبل الرّسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وانما هي من وجه اختيار قوم من الصّحابة وهذا لازم فيما ذكرناه في الوجه الثالث وهنا من أن البيان للعترة بيان لجميع النّاس لا سيّما وولايتهم (عليهم‌السلام) كانت بنصّه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عليهم ودلالته واشارته إليهم بصريح القول وواضح المعنى ، وقد علم من جملة ما ذكرناه بطلان ما ادعوه من انّه ليس لله في غير ما نصّ عليه في الكتاب والسنّة من الاحكام حكم معيّن في الوقائع وسلمت مقدّمتنا الحاكمة بنقيض دعواهم من الايراد ، ومن ذلك يتّضح بطلان ما حكموا به من الاستغناء بالاجتهاد في غير المنصوص من الوقائع عن الرجوع الى مستحفظ الاحكام ومستودع الوحي والمخصوص بعلم التّأويل من النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ومن يحلّ محلّه من أطائب ذرّيته المخصوصين من الله بالتفهيم والالهام لبطلان ما بنوا عليه ذلك الحكم المردود من انتفاء حكم الله في جميع الوقائع والحوادث ، وبعد فكيف يجوّز عاقل على ربه الحكيم العليم عدم علمه بكثير من الأمور وانه لا يدري أهي

__________________

(١) شرح نهج البلاغة : ٩ / ١٦٩.

(٢) صحيح البخاري ٥ / ٨٢ كتاب المغازي باب غزوة خيبر ، وصحيح مسلم ٥ / ١٣٥ كتاب الجهاد والسير.

٦٢

داخلة في حيّز التحليل والتّحريم حتى يحكم فيها ربيعة الرّأي (١) وسالم بن ابي حفصة (٢). والاوزاعي (٣) وابو حنيفة (٤) واضرابهم فهنالك يحدث له العلم بحكمها وتتجدد له المعرفة بحدها ورسمها فلا يزال على هذا يخرج من جهل الى علم باستمداده من اهل الرّأي والقياس واستفادته من اجتهادهم المقرون بالشك والالتباس كما هو لازم قولهم الّذي دلهم عليه الوسواس الخناس اعوذ بالله من هذه الجرأة العظيمة المستلزمة لنسبة الجهل للخالق الحكيم الخبير كأنهم لم يسمعوا قوله تعالى : (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ، أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ ، إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) (٥) وغيرها من الآيات الكثيرة في الذكر الحكيم ، على ان صحة ما قلناه وبطلان قول الخصوم لا يحتاج من الدّليل الى اكثر ممّا ذكرناه من استلزام قولنا تنزيه البارئ تعالى عن النّقص واستلزام قولهم نسبة الجهل الى الحّي القيوم وتحصيله العلم ومعرفته الحكم في خلقه وبريّته وافعالهم من اجتهاد المجتهدين فلقد وقع الحق وبطل ما كانوا يعملون.

__________________

(١) ربيعة الرأي هو ربيعة بن فروخ التيمي بالولاء من فقهاء المدينة وانما قيل له ربيعة الرأي لأنه من أصحاب القياس وبه تفقه مالك توفي بالأنبار سنة ١٣٦.

(٢) سالم بن أبي حفصة ويقال له سالم التمار مولى بني عجل كوفي مات سنة ١٣٧.

(٣) الأوزاعي ابو عمرو عبد الرحمن بن عمرو إمام أهل الشام كان يسكن بيروت توفي سنة ١٥٧ ، والأوزاعي نسبة إلى وزاع بطن من همدان أو الى أوزاع قرية بدمشق عند باب الفراديس.

(٤) أبو حنيفة النعمان بن ثابت إمام المذهب ولد بالكوفة سنة ٨٠ وتوفي سنة ١٥٠ قال في نور الأبصار ص ٢٠٦ أراده المنصور للقضاء فامتنع فأمر بضربه ثم احضره بين يديه فدعا بسويق واكرهه على شربه ثم قام فقال له إلى اين؟ قال : الى حيث بعثتني فمضى به الى السجن فمات فيه.

(٥) ما بين القوسين ابعاض آيات من البقرة ٢٨٢ والتين ٨ والانعام ٥٧.

٦٣

المقدمة الثانية (١) :

ان النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم يبيّن جميع الاحكام مفصّلة لكل الامّة بل بيّن لجميعهم بعضا تفصيلا وبعضا اجمالا وبيّن الكل لخلفائه مفصّلا وامر الامّة : بالاخذ عنهم والتعلم منهم والادلّة على هذه المقدّمة ظاهرة متكثرة.

الاول : انّ الامة قد اختلفوا في الاحكام اختلافا شديدا ولو بيّن النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لجميعهم كل الاحكام مفصلة لما اختلفوا امّا الاولى فمن المشاهدات ، وامّا الثّانية فلأن اختلافهم في الحكم بعد بيان الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) امّا لتعمدهم مخالفته وميلهم الى الهوى وترك النّص الى الرأي أو لنسيان الجميع بيان الرّسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وكل منهما غير جائز عند مخالفينا لانّهم لا يجوّزون على الصّحابة الخطأ ولا مخالفة نصّ النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بل يحكمون بانهم متّبعون له في افعاله واقواله وان اجماعهم حجّة فلا سبيل الى الحكم عليهم في اختلافهم بتعمد مخالفة بيان النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ولا نسيانه إذ ذاك يخرج اجماعهم عن الحجّية فلم يبق الا الحكم على ان اختلافهم لعدم البيان إليهم على التفصيل وهو المطلوب ، وامّا نحن فلا ننكر تعمد البعض لمخالفة الرّسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في بعض الاحكام وتركهم نصه (٢) وحصول الشّبهة لبعض آخر بذلك حتى يخرج النص في نظره عن النّصية فيحمله على أبعد محامل التأويل لكن نمنع ذلك عن الكل في جميع الاحكام لو كانت كلّها مبيّنة بالتفصيل لا عن البعض في البعض ولا من جهة

__________________

(١) أي من المقدمات الخمس على اثبات أن لكل قوم هاد.

(٢) يراجع في ذلك كتاب النص والاجتهاد للسيد شرف الدين.

٦٤

الشّبهة ، ولذا انا نمنع اجتماع الامة على الخطأ في مثل وجوب الصّلوات الخمس وعدد ركعاتها ومقادير نصب الزكاة وكيفيّة الحج ومواقفه وغير ذلك من الضّروريات لأنّ الامام في جملتهم يقينا وهو لا يجوز عليه الخطأ ، فان قيل فمن أين جاء الاختلاف وأنتم قلتم : إن النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قد بلّغ الامة جميع الاحكام بعضها تفصيلا وبعضها إجمالا ودلّ العباد على من يرجعون إليه في بيان ما لم يفصّله؟ قلنا : جاء الاختلاف من مخالفتهم أمر النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بالرجوع الى من أمرهم بالأخذ عنه والتمسك به في رفع ذلك عنهم وعدولهم عنه الى آرائهم واجتهادهم الّا قليلا من الصّحابة ، فان قيل : من هذا الرّجل الّذي أمر النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) النّاس بالرّجوع إليه لرفع الاختلاف ببيان الحكم فعدلوا عنه الى ما ذكرتم؟ قلنا : ذلك عليّ بن ابي طالب (عليه‌السلام) وقد سبق ذكر يسير من الادلة الواردة في أمر النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بالتمسك به والأخذ عنه وسيأتي الكثير منه في موضعه ان شاء الله ومن بعده للطّيبين من ولده (عليهم‌السلام) فان قيل : فأنتم لم اختلفتم مع رجوعكم الى من بيّن له النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) جميع الاحكام مفصّلة على قولكم ولم لم يرفع الاختلاف عنكم ببيان الحقّ قلنا : انا لا ننكر الاختلاف بيننا في مسائل الفقه وانّما نشأ ذلك من جهة عدم تمكن الحجة (عليه‌السلام) من بيان الحق للخوف على شيعته من الطواغيت وذلك انه قد ثبت بالتواتر شدة الخوف على الامامية في زمن ظلمة من بني امية وبني العباس حتى آل الأمر الى استحلالهم دم من يتّهم بتشيّع أو يذكر أهل البيت بخير فكان الامام (عليه‌السلام) يفتي بعض شيعته بمرّ الحق ويفتي آخر بما يحتمل التأويل والوجوه ويفتي آخرين بما يوافق أقوال العامة لئلا تجتمع شيعته على أمر واحد فيعرفوا فيؤخذ برقابهم وليس مزج الحق بغيره أو اخفائه في حكم أو احكام في الفتوى للخوف على النفس من الازهاق باعظم من اظهار الكفر وسبّ الرسول (صلى الله عليه

٦٥

وآله وسلم) الّذي جاز لعمّار بن ياسر (رضي الله عنه) وغيره من المؤمنين لدفع القتل عن نفوسهم حتّى انزل الله عذره وعذر غيره في الكتاب بقوله عزوجل : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) (١) وقوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) (٢) وقوله تعالى في رجال ونساء من اهل مكة آمنوا اظهروا الكفر خوفا من اهاليهم فلم يكونوا معروفين بالايمان ولأجل ان لا يصيبهم ضرر من المسلمين وهم لا يعلمون بهم صار صلح الحديبية (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (٣) بل كان دفع الضّرر عنهم سببا لدفع القتل عن الكفار فمن هذا جاء الاختلاف بيننا وقد صحّ في الرواية عن امير المؤمنين (عليه‌السلام) من الطريقين انه لما استشاره قضاته فقالوا بم نقضي بين النّاس؟ قال : (اقضوا كما كنتم تقضون حتّى يكون للناس جماعة) (٤) وهذا القول تصريح منه بان قضاءهم السّابق غير مرضيّ عنده ، ولو كان عنده مرضيّا لما علق الرخصة فيه الى غاية يمكن حصولها وتبيين منه بانّه لم يتمكن في تلك الحال من بيان الحق ، وحمل الناس عليه لعدم اذعانهم له بالطاعة التامة ، وعدم تسليمهم إليه المقادة واختلافهم عليه وعصيانهم أمره ، هذا وهو خليفة في النّاس فما ظنّك به في زمان تغلب من قبله وما ظنّك بالأئمة من ذريّته في حال تغلب الظلمة والطواغيت عليهم وعلى تابعيهم وما

__________________

(١) النحل : ١٠٦.

(٢) آل عمران : ٢٨.

(٣) الفتح : ٢٥.

(٤) رواه البخاري في صحيحه ٤ / ٢٠ في كتاب بدأ الخلق باب مناقب المهاجرين بلفظ «اقضوا كما كنتم تقضون فإني أكره الاختلاف حتى يكون للناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي» وفي كتاب الغارات للثقفي ص ١٢٤ أنه (عليه‌السلام) قال لشريح : «اقض بما كنت تقضي حتى يجتمع امر الناس».

٦٦

زال الخوف على الشيعة موجودا في وقت ظهور ائمتهم ولم يذهب شدة الخوف عنهم ويحصل لهم بعض الأمن في الجملة الا من بعد اختفاء الحجة (عليه‌السلام) واستتاره حيث أخاف الطواغيت سبيله وعلم الظلمة ان لا إمام ظاهر للشيعة فهناك حصل الاختلاف لهم لعدم الوصلة الى الامام الذي يزول الاختلاف ببيانه ولم يبق الّا الأخذ بما روي عن آبائه وهو على ما وصفنا لما ذكرنا فبقي الاختلاف الاوّل قائما كما هو ، ومع هذا فانا نقطع بان كل مسألة اختلفنا فيها أن احد الاقوال فيها هو حكم الله الّا انا لا نعلمه بعينه فليس اختلافنا كسبيل اختلاف الخصوم لأن خلافهم واختلافهم حصل من إعراضهم عن قول الحجّة ، واختلافنا مسبب عنه لحسن نظره إلينا ، واقوالنا لا تخلو من الحق واقوالهم تخالفه دواما أو غالبا فافترقت الحال بيننا وبينهم وحصل العذر لنا ولم يحصل لهم فان قالوا : انكم وافقتمونا في زمان غيبة إمامكم في الاجتهاد فأنتم مثلنا قلنا لهم : ولا سواء فان اجتهادنا باستعمال قوانين نصبها لنا الحجّة (عليه‌السلام) في تميز الحق من الباطل بقدر وسعنا وطاقتنا واجتهادكم باستعمال الأقيسة الّتي اخترعها ابليس واحتج بها على جواز ترك السّجود لآدم والآراء التي نصبها لردّ امر الله تعالى وبين الوجهتين غاية البعد ، وأيضا ان اجتهادنا في تحصيل حكم الله ممّن قوله الحجة فنعذر بعد بذل الجهد ان اخطأنا واجتهادكم انتم في تحصيل غير حكم الله اذ لا حكم له في تلك الواقعة عندكم فاجتهادكم لا لاحداث حكم لا يعرفه الله قبل ذلك بزعمكم ليحكم به عليكم وهو مع ما فيه من الزّلل العظيم تصرف في ملك الغير بغير اذنه ، وايجاب ما لم يوجبه الله او تحريم ما لم يحرّمه ، فالخطأ لازم له على كلّ حال ، والمعذورية مرتفعة على جميع الاحوال لأن حكم ما لم يحرّمه الله ولم يوجبه الاباحة البتة فإيجابه أو تحريمه خلاف حكم الله فكان اجتهادنا غير اجتهادكم فاجتهادنا مقدّمة للواجب وهو تحصيل حكم الله في الواقعة واجتهادكم لاخراج المباح عن الإباحة والتكليف بما لم يكلف الله به

٦٧

بزعمكم فزال اعتراضكم واندفع ايرادكم.

الثاني : قوله تعالى : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (١) وتوضيح ذلك ان الردّ الى اولي الأمر عند الاختلاف اما لجهل المختلفين الحكم أو لا فان كان الاول ثبت أنّ النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم يبيّن لجميع الامّة كل الاحكام بالتفصيل بل بينها جميعها كذلك الى اولياء الأمر بعده فيثبت المطلوب وان كان الثّاني كان التكليف بالردّ الى اولي الامر تحصيلا للحاصل وهو ممتنع ، فالتكليف به قبيح لا يكلّف الله به على انه لا فائدة في الردّ الى ولاة الامر مع العلم بالحكم من بيان النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فالأمر به عبث ، هذا كلّه مع ظهور الآية من قوله تعالى : (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) في الاوّل وهو كون الفائدة في الردّ الى أولي الأمر حصول علم للمستنبطين كانوا قبل الردّ الى اولي الأمر يجهلونه لكون هذا الجملة جواب الشّرط في قوله (وَلَوْ رَدُّوهُ) وحصول الجواب متوقف على حصول الشّرط ومفقود قبله فعلم المختلفين بالحكم قبل الردّ الى اولي الأمر مفقود واذا فقد العلم ثبت ضده وهو الجهل فاتضح من هذا أنّ المختلفين قبل ردهم ما اختلفوا فيه الى اولي الأمر واستعلامهم الحال منهم غير عالمين بحكم الله الواقعي في تلك الواقعة وما ذاك الّا لعدم البيان التفصيلي لهم من النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وهو المراد.

الثالث : ما ثبت عند الخصوم من ان عند بعض الصّحابة من القرآن ما ليس عند البعض الآخر وانه قتل من الصّحابة في حرب مسيلمة (٢) قوم

__________________

(١) النساء : ٨٣.

(٢) مسيلمة الكذاب ابن ثمامة الحنفي متنبئ بني حنيفة ضرب بكذبه المثل «اكذب من مسيلمة) ولد ونشأ باليمامة وكان من المعمرين وفد على رسول الله (صلى الله عليه

٦٨

يقرءون من القرآن شيئا لم يكن عند باقي الصحابة ولهذا لما اراد ابو بكر وعمر جمع القرآن كان من جاءهم بشيء منه واقام عليه بيّنة قبلوه منه ومن لم يقم بيّنة على ما اتاهم به منه ردّوه واتفق الخصوم على انّه لم يكن يحفظ القرآن جميعه في عصر النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من الصّحابة الّا عليّ بن ابي طالب (عليه‌السلام) وهذا اوضح دليل على انّ النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم يبيّن جميع لفظ القرآن لكل الصّحابة بل يقرأ ما ينزل عليه منه على من حضره منهم فما ظنّك بمعانيه وبباقي الاحكام وقد روى مخالفونا ان زيد بن ثابت (١) لما انكر عليه عمر في دعواه شيئا سمعه من رسول الله (صلى الله

__________________

وآله وسلم) فيمن وفد من قومه ولكنه تخلف في الرحل فذكروا للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) مكانه فأمر له بمثل ما امر لهم وقال : (إنه ليس بشركم مكانا) لأنه قام بوظيفة يتوقف عليها أمرهم فلا ينبغي أن يكون دونهم ، ولكنه لما رجع ادعى النبوة كاتب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في أن تكون الأرض مناصفة بينهما فأجابه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) ووضع مسليمة أسجاعا يريد أن يضاهي بها القرآن الكريم بزعمه مثل : «سبح اسم ربك الأعلى ، الذي أولد الحبلى فاخرج منها نسمة تسعى» ومثل قوله لسجاح المتنبئة وقد سألته ما ذا أنزل عليك : «أنتن معشر النساء لنا أزواجا ، نولجه ... إيلاجا ، ونخرجه ... اخراجا» فآمنت به وتزوج بها في قصة مشهورة ، قتل مسيلمة سنة ١٢ قتله وحشي قاتل حمزة في الحرب التي جرت بين المسلمين والمرتدين من بني حنيفة وقد قتل في هذه الوقعة من المسلمين الف ومائتا رجل منهم أربعمائة وخمسون صحابيا. انظر تفصيل ذلك في كتب التاريخ.

(١) زيد بن ثابت الأنصاري الخزرجي من بني النجار كان عمره لما قدم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) المدينة أحد عشر عاما وأول مشاهدة الخندق ، وكان من كتاب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ثم كتب لأبي بكر وعمر ، واستخلفه عمر على المدينة ثلاث مرات مرتين في حجتين ومرة عند مسيره الى الشام ، وكان عثمان يستخلفه إذا حج ، وكان عثمان قد جعله على بيت المال ، وقال ابن الأثير في اسد الغابة : «وكان زيد عثمانيا ولم يشهد مع علي شيئا من حروبه» توفي بالمدينة وصلى

٦٩

عليه وآله وسلم) من جهة ان المنكر لم يسمعه جبهه بكلام قال فيه : لقد علمت انه يؤذن لي وادخل وانت تمنع في كلام آخر وصريحه دعوى زيد انّه سمع من النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ما لم يسمع عمر ولا من كان في طبقته وقد صدق عمر في دعواه في روايتهم تلك وادعى عبد الله بن مسعود (١) علم ما لم يعلمه زيد بن ثابت المذكور الى غير ذلك مما هو مزبور في التواريخ والسير ممّا يعطي انّ الصّحابة كانوا مقرّين بان النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بيّن لبعضهم ما لم يبيّن لبعض آخر وكفى بذلك شاهدا على ما ندّعيه.

الرّابع : انه قد صحّ ان النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) خصّ بعض الصّحابة من العلوم بما لم يخصّ به سائرهم فأفضى من العلوم والاسرار والاحكام لعلي (عليه‌السلام) بما لم يفض بجزء منه الى جميع الصّحابة ثم بيّن لهم ذلك بقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) «انا مدينة الحكمة وعليّ بابها فمن اراد الحكمة فليأتها من بابها) (٢) وقال فيه (عليّ خازن علمي وعيبة علمي) (٣) وما اشبه ذلك من الاقوال ولهذا قال علي (عليه‌السلام) على المنبر

__________________

عليه مروان واختلف في سنة وفاته.

(١) عبد الله بن مسعود الهذلي من فقهاء الصحابة واحد حفاظ القرآن شهد مع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) مشاهده كلها ، وأرسله عمر الى الكوفة ليقرئهم القرآن ويعلمهم الأحكام فبث فيهم علما كثيرا ويعرف عبد الله بابن أم عبد وقد جاء في الحديث : (من سره ان يقرأ القرآن عضا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أمّ عبد) انظر النهاية في غريب الحديث لابن الأثير ٣ / ٣٧٠ مادة غضض توفي ابن مسعود سنة ٣٢.

(٢) هذا الحديث رواه جماعة من المحدثين منهم الترمذي ٢ / ٢٢٩ وابو نعيم في الحلية ١ / ٦٤ وتجده بحروف ما في المتن في تاريخ بغداد ١١ / ٢٠٤.

(٣) الكلمتان من حديثين شريفين (انظر فيض القدير للمناوي ٤ / ٣٥٦ وكنز العمال ٦ / ١٥٦.

٧٠

وقد وضع يديه على بطنه (هذا سفط العلم هذا لعاب رسول الله هذا ما زقّني رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) زقّا أيّها النّاس سلوني قبل ان تفقدوني فو الله لو سألتموني عن فئة تضل مائة وتهدى مائة لاخبرتكم بقائدها وسائقها الى يوم القيامة وما من آية من كتاب الله نزلت في ليل او نهار او سهل او جبل او حضر او سفر مكّيها ومدنيّها الّا وانا عالم بتفسيرها وتأويلها وناسخها ومنسوخها) (١) وفيمن نزلت وقال لكميل بن زياد (٢) (يا كميل ان هنا ـ واشار الى صدره ـ لعلما جمّا لو أصبت له حملة) وكثيرا ما يقول ما يضارع هذه المقالات ولما خطب يوما وذكر كلاما يخبر فيه عن قوم من الاتراك وما يفعلون في بلاد الاسلام من الفساد وقت خروجهم قال بعض اصحابه وكان كلبيّا لقد اعطيت يا امير المؤمنين علم الغيب ، فضحك (عليه‌السلام) وقال للرّجل (يا اخا كلب ليس هو بعلم غيب وانّما هو تعلم من ذي علم وانّما علم الغيب علم السّاعة وما عدده الله سبحانه اذ يقول : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) (٣) الآية ، فهذا علم الغيب لا يعلمه أحد الّا الله وما سوى ذلك فعلم علمه الله نبيّه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فعلمنيه ودعا بأن يعيه صدري وان تضطم عليه جوانحي) الى غير ذلك وكذلك خص النّبي (صلى الله عليه وآله

__________________

(١) قال ابن ابي الحديد عن هذه الخطبة التي نقل المؤلف منها هذا الكلام منها : «هذه الخطبة ذكرها جماعة من أهل السيرة وهي متداولة منقولة مستفيضة خطب بها علي (عليه‌السلام) بعد انقضاء أهل النهر وأن» وقد رواها الثقفي في الغارات ص ٦ ونقل مختارها الشريف الرضي في نهج البلاغة ، واستعرضت مصادرها في مصادر نهج البلاغة واسانيده ٢ / ١٧٨.

(٢) كميل بن زياد النخعي اليماني من خواص أصحاب أمير المؤمنين (عليه‌السلام) وصاحب سره ، وخريج مدرسته عاش الى أيام الحجاج فقتله في حدود سنة ٨٣ وكان امير المؤمنين (عليه‌السلام) قد أخبره بذلك ودفن بظهر الكوفة (النجف الأشرف) وقبره مزار مشهور.

(٣) لقمان : ٢٤.

٧١

وسلم) حذيفة بن اليمان (١) من احوال المنافقين وفسر له من أسمائهم ما لم يفسر بعضه لكثير من الصّحابة حتّى ان عمر احتاج أن يسأله عن نفسه أهو من المنافقين أم لا كما رواه مخالفونا واسرّ لسلمان اشياء كثيرة لم يظهرها لغيره من اصحابه وهكذا ممّا يطول ذكره.

الخامس : أنه لو لم يكن النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بين لقوم ما لم يبيّن لغيرهم ولشخص ما لم يبيّنه لآخر من الاحكام لسقطت اخبار الآحاد وحرم العمل بها ، وبيانه ان مضمون خبر الواحد لم يطلع عليه الّا راويه ولم يسمعه من النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الّا هو والمفروض انّ النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم يخصّ احدا ببيان حكم دون أحد وانّه بيّن جميع الاحكام لكافة الصّحابة فما هو من بيان النّبي فهو معلوم لجميعهم وما ليس معلوما لجميعهم فهو ليس من بيانه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وخبر الواحد غير معلوم لكافّتهم فيجب ان لا يكون من بيان النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيكون مكذوبا ومخالفونا لا يرضون بذلك ولا يجوز عندهم اسقاط اخبار آحاد الصّحابة وكيف يرضون به وهو مبنى صحّة مذهبهم ولو لا العمل بها لزال أساس ائمّتهم كما لا يخفى على العارف بالحال ومنه يثبت المدّعى.

السّادس : انه قد صحّ عن النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) انه قال :

__________________

(١) أبو عبد الله حذيفة بن اليمان العبسي صحابي عداده في الأنصار سكن الكوفة ومات في المدائن بعد بيعه علي (عليه‌السلام) بأربعين يوما ، قال ابن الأثير في اسد الغابة ١ / ٣٩١ : «حذيفة صاحب سرّ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في المنافقين» وقال : «وكان عمر اذا مات ميت يسأل عن حذيفة فان حضر الصلاة عليه صلى عليه ، وان لم يحضر حذيفة الصلاة عليه لم يحضر عمر».

٧٢

(امرنا معاشر الأنبياء ان نكلم الناس على قدر عقولهم) (١) ومن المعلوم انّه ليس في وسع جميع الصّحابة معرفة جميع الاحكام الالهيّة ولا في قدرة كافتهم حمل كلها وحفظ عامّتها فوجب بمقتضى ذلك ان يخصّ بعضهم دون بعض بقدر ما يحتمله من العلم وقد روى عن عبد الله بن مسعود قال : «ما حدثت رجلا حديثا لا يبلغه عقله الّا كان له فتنة» ويروى مثله عن ابن عبّاس ، والعقل السّليم يحكم بصدق مضمونه ، وقد صحّ عن امير المؤمنين (عليه‌السلام) انه قال : (ان امرنا صعب مستصعب لا يحتمله الا عبد امتحن الله قلبه للايمان ولا يعي حديثنا الّا صدور أمينة واحلام رزينة) (٢) وكلّ ذا مرويّ عند مخالفينا في بعض كتبهم ويشير إليه من التنزيل قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) (٣) وما اشبهه ، وكلّ هذه الادلّة سالمة من القدح فيها يثبت المطلوب.

المقدّمة الثالثة

انّ الله سبحانه وتعالى اراد من العباد العمل في كلّ واقعة بما هو حكمها عنده لا بما ادى إليه نظرهم واجتهادهم ، يدل على ذلك آيات كثيرة من القرآن كقوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) (٤) وفي اخرى (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) وفي ثالثة (فَأُولئِكَ

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٨ / ١٨٦ ورواه الكليني في الكافي ١ / ١٨ في كتاب العقل والجهل ح ١٥ بهذا اللفظ : (إنا معاشر الأنبياء امرنا) الخ وابن شعبة في تحف العقول ص ٣٢.

(٢) بصائر الدرجات ص ٦ اصول الكافي ١ / ٤٠١.

(٣) البقرة : ٢٨٦.

(٤) المائدة : ٤٤.

٧٣

هُمُ الْفاسِقُونَ) وقوله تعالى : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) (١) وقوله سبحانه : (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ) (٢) وهذه الآية والتي قبلها وما اشبههما من اوضح الادلّة على بطلان الاجتهاد لنفيه في الاولى حكم من سواه ونهيه في الثانية عن القول بالتّحليل والتّحريم بدون دلالة من قوله وكلّ ذلك ينافي بصريحه الرّخصة في الاجتهاد كما ترى ، وقوله عزوجل : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (٣) علق حصول الايمان من المكلّفين على تحكيمهم النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيما اختلفوا فيه ورضاهم بحكمه وتسليمهم لقضائه وهو يناقض رضاه منهم بالاجتهاد ومثلها قوله تعالى : (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (٤) وقوله تعالى : (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (٥) والآيات الدّالة على هذا المطلب كثيرة جدا.

ومنها آيات الرّد الى الله والى الرّسول والى اولي الأمر فانّها صريحة فيه ، اذ لو رضي الله من المجتهدين بالعمل باجتهادهم ، لم يكن في الردّ إليه والى رسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) والى ولاة الامر عند التنازع والاختلاف فائدة ، بل يكون عبثا لا يأمر به الحكيم فيجب ان يكون الرّد المذكور لطلبه منهم العمل بحكمه المعيّن في الواقعة لا بما ادّى إليه نظرهم وحصل من اجتهادهم وهو واضح لا يحتاج الى زيادة البيان ، والآيات النّاهية عن اتباع

__________________

(١) الأنعام : ٥٧.

(٢) النحل : ١١٦.

(٣) النساء : ٦٥.

(٤) الحشر : ٧.

(٥) المائدة : ٥٠.

٧٤

الظن وعن القول على الله بغير علم مثل قوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (١) وغيرها والآيات الواردة في ذمّ المقلّدين لاسلافهم كلها على كثرتها صريحة فيه ، وتعدادها يوجب التطويل فلنكتف بالاشارة إليها مع ما ذكرناه ، فان قال قائل : فانكم اختلفتم في كثير من المسائل الشرعيّة أفترى انّ الله اراد منكم الاختلاف ولم يرد منكم العمل بالحكم المعيّن في تلك المسائل فان قلتم : نعم ، قال : خصومكم فنحن مثلكم قد اراد منّا الاختلاف دون الحكم المعيّن وبطلت مقدّمتكم ، وان قلتم لا ، ناقضتم انفسكم واثبتم مخالفتكم لمراد ربّكم وعلى كلا الوجهين لا يصحّ قولكم؟ قلنا اما نحن فانّ الله تعالى رخّص لنا في الاختلاف فيما اختلفنا فيه من المسائل الشرعيّة ولم يرد منّا الاجتماع على الحكم المعيّن فيه في زمان تغلب الظّلمة على الائمّة الحق ومنعهم ايّاهم من التّصرف ، والدّليل على ذلك ما ثبت في الشّريعة المطهّرة من اختلاف الاحكام باختلاف الاحوال والاشخاص ، فانا نعلم يقينا انّ الله عزوجل اراد من مكلف في مسألة حكما معينا في حال واراد منه في حال اخرى حكما آخر واراد من بعض افراد المكلفين حكما في شيء واراد فيه حكما آخر من آخرين فقد علمنا انّ الله تعالى اوجب على واجد الماء الوضوء للصّلاة أو الغسل واوجب على فاقده التيمّم ، وأوجب على المرأة في حال خلّوها من الحيض والنّفاس الصّلاة والصّيام وأوجب تركهما عليها في وقتهما ، وأوجب على الآمن الحاضر اتمام الصّلاة واوجب على الخائف مطلقا وعلى المسافر قصر الصّلاة الرّباعيّة ، وأوجب الجمعة على الحر الصحيح الحاضر الّذي بينه وبين محلّتها أقل من فرسخين واسقطها عن العبد والمرأة والمريض والمسافر ومن هو بعيد عنها باكثر من فرسخين ، واوجب الزكاة على من ملك النّصاب ولم يوجبها على من لم يملكه والحجّ على المستطيع

__________________

(١) الاسراء : ٣٦.

٧٥

وأسقطه عن غير المستطيع ، وحرم الميتة والدّم ولحم الخنزير على العباد وأحل ذلك للمضطر غير الباغي والعادي ، وحرم قتل المسلم وأحل قتل الباغي والعادي وقاطع الطريق ، وحرم الكفر وأحلّ اظهاره عند الاكراه والخوف على النّفس وعدم القدرة على دفع العدو عنها كما مر ذكره في قضيّة عمّار الى غير ذلك ممّا ورد في الشريعة الاختلاف فيه ، ولا يخفى على ذوي الخبرة مواضعه.

وبالجملة ان الممنوع اختلاف حكم الله باختلاف المجتهدين ورضاه بالاجتهاد في دينه لا تغيير الله حكم المكلّف بتغيّر احواله واذا اثبت اختلاف حكم الله على المكلفين باختلاف احوالهم فيما ذكرناه وفي غيره ممّا يطول المقام بنقله صحّ ان يرخّص الله للامام بل يريد منه في حال عدم تمكّنه من تشخيص الحكم المعين في الواقعة لاتباعه وعدم تمكنهم من العمل به على التّعيين لخوفه الضرر على نفسه في بيانه وعليهم في العمل به إلقاء الخلاف بينهم وخلط الحق بغيره في كثير من المسائل وان يريد من كلّ واحد من شيعة الامام العمل بما القى إليه الامام من الحكم وما فهمه من قول الحجة لانّ في ذلك دفع ضرر عن النّفس ودفع الضّرر عنها واجب ، وكلّ ما توقّف عليه الواجب وكان مقدورا فهو واجب عقلا وسمعا فاذا حصل الأمن وذهب الخوف عنا زالت الرّخصة في الاختلاف وتعيّن على الامام تعيين الحكم المعين لرعيّته وعليهم العمل به ، نسأل الله تعجيل الفرج.

وامّا خصومنا فانّ الله اراد منهم ما اراد منّا من الاقرار للامام بالامامة والانقياد لطاعته والتّسليم لأمره ، والأخذ عنه والرجوع إليه في الأحكام ، ولو انّهم فعلوا ذلك اذن لزال الخوف عن الامام في بيان الحق لأتباعه اذ لا مخالف له وعنهم في العمل به لانّ المسلمين على هذا كلّهم يكونون اتباع الامام فلا خوف لأحد منهم على احد ، لكن الخصوم لم يفعلوا شيئا من ذلك فلم يؤدّوا ما اراد الله منهم من طاعة الامام ، بل انكروا إمامته وخالفوه

٧٦

ومنعوه واتباعه من مخالفتهم والزموه واياهم بموافقتهم ، وتوعّدوه بالقتل ان لم يفعل وقتلوا من الأئمة من لم يقبل ما طلبوا منه من موافقتهم ، ومن اتهموه بتبعية الامام من المسلمين ، فكان اختلافهم في الشّرعيّات ناشئا عن مخالفتهم ما اراد الله من طاعة الامام وفرعا على معصيته في حكمه المعيّن عليهم من تحري مخالفة الامام فلم يكن الله ليريد منهم الاختلاف المسبب عن مخالفتهم مراده ولا ليرخص لهم فيه لأن أصل اختلافهم في أحكامه خروجهم عن طاعته في أمره وردّهم عليه حكمه ، والله تعالى لا يرخص لأحد من الخلق في معصيته وردّ أمره ولا في اصل ذلك وفرعه ، فكانت حالنا غير حالهم ولم يكونوا مثلنا لأنا غير قادرين على ازالة المانع من اظهار الحق وهم متمكنون من ازالته ببذل الطّاعة للامام فافترقت الحال بيننا وبينهم ، فان قالوا : فما منع الامام من جهاد العدوّ ودفعهم ليتمكن من بيان الحق وما منع اتباعه من معونته على ذلك؟ قلنا : المانع للجميع عن الامرين كون اتباع الامام في جميع الاوقات لقلتهم بالإضافة الى مخالفيهم غير متمكنين من نصرة الامام الى حدّ يبلغ به الغلبة على اعدائه ودفعه الضرر عن نفوس اوليائه ليحصل له الامكان من تعيين الحكم الواقعي فكان حكم الله في حقّه وحقهم السكوت والكفّ فسبيلهم في هذه الحال سبيل المسلمين في مكة قبل الهجرة فان الله اوجب عليهم الكف وترك الجهاد واخبر عن ذلك بقوله عزوجل : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) الآية (١) وذلك لضعف المسلمين يومئذ عن مدافعة المشركين ولزوم اتيان المشركين عليهم لو جاهدوهم لكثرتهم ، وقد علم جميع الناس ان من جاهد من ائمة الحق لإحياء الدّين قهر وقتل افظع قتلة ، وذلك لقلّة ناصريه وسالم من قبله لكثرة خاذليه ولم يبلغ سيّد أئمة الهدى مطلبه ولم يدرك مأربه من اقامة عمود الدّين ،

__________________

(١) النساء : ٧٧.

٧٧

واظهار الحقّ ونشر الاحكام لقصور اهل طاعته عن مقاومة مناويه وقلّة مواليه عن عدد معاديه ، فمن اين تحصل قدرة الباقين على ذلك مع تفاقم الخطب واشتداد شوكة الظّالمين وتشييد اركان دولة الفاسقين واحتياج الامام في ازاحة الظلم والعدوان الى اشتباك الحروب واستمرار القتل واستعار نار الوغا وإزهاق النّفوس وليس معه من يقوم ببعض ذلك ويصبر عليه؟ ، فانزاح الاعتراض واتضح من جملة ما قلناه دفع الايراد وثبوت المراد بتوفيق من بيده التوفيق للسّداد.

المقدّمة الرّابعة

انّه لا يجوز ان يكلف الله العباد بما لا سبيل لهم الى معرفته ولا طريق لهم الى استعلامه لانه تكليف ما لا يطاق ، والله تعالى منزّه عن التكليف به ، وهذه المقدّمة قد دل عليها العقل والنّقل ، فامّا العقل فان العقلاء يستقبحون مؤاخذة الغافل ومعاقبة من لم يعلم قبل التّنبيه والاعلام حتى شاع عند أولي الالباب انّه لا تكليف الّا بالبيان ، وامّا النّقل فالآيات كثيرة مثل قوله تعالى : (ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ) (١) وقوله تعالى : (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) (٢) وقوله : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (٣) وقوله : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (٤) وقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ

__________________

(١) الانعام : ١٣١.

(٢) القصص : ٥٩.

(٣) الاسراء : ١٥.

(٤) النساء : ١٦٥.

٧٨

مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى) (١) وقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) (٢) (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) (٣) وقوله تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٤) وأيّ حرج اعظم من تكليف الانسان بما لا يعلمه ولا دليل له عليه فيكون منفيّا بعموم الآية؟ ، والآيات الدّالة على هذا المعنى بالصّريح غير ما ذكرناه كثيرة لا نطيل بذكرها القول ، ومن السنّة قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) المستفيض (لا ضرر ولا ضرار في الدّين) وتكليف الانسان بما لا يعلم ضرر عليه ظاهر ، وكثير من السنّة صريح في المعنى مما لا حاجة الى ذكره ، ولا يخفى على الفطن الخبير على ان ذلك هو المعروف من سيرة النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فانّه ما قاتل احدا من المشركين الا بعد الانذار والاعذار إليه واقامة الحجة ان طلبها منه ، وهذه كانت سيرة امير المؤمنين (عليه‌السلام) وبالجملة فالأمر في هذا واضح ومنكر ذلك مكابر لا يلتفت إليه لأنه قائل بوقوع المحال وهو محال واولئك بعض حشوية العامّة وبعض اهل الضّلال النّاسبين الى الله تعالى القبيح قبّحهم الله واعمى بصائرهم واعاذنا من مقالتهم.

المقدّمة الخامسة

انّه لا طريق الى معرفة الحكم المعيّن عند الله في الواقعة الّا من بيان خليفة الرّسول (صلوات الله عليه) ، والدّليل على ذلك ان نصوص الكتاب والسّنة لا تفي الا بيسير من الاحكام الشرعية ، وظواهرهما لا تفيد اليقين

__________________

(١) طه : ١٣٤.

(٢) البقرة : ٢٨٦.

(٣) الطلاق : ٧.

(٤) الحج : ٧٨.

٧٩

لكثرة الاختلاف فيهما واحتمالها الوجوه المتعددة ، وباطن الكتاب لا تبلغه عقول الرجال ولا افهام الناس كيف والله تعالى يقول : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) (١) وليس الرّاسخ في العلم الّا الامام المؤيد من الله بالالهام كما سيأتي فيه البيان التام ، واخبار الآحاد لا تفيد الّا ظنا مع ان كلا من ظواهر الكتاب والسّنة النبويّة المتواترة واخبار الآحاد ، لا تستوعب الاحكام والوقائع ، والاجماع الضّروريّ لم يحصل الّا في قليل من احكام الشرائع ، وما ليس بضروريّ لا يفيد العلم مع انّ حجّيته بدون دخول من لا يجوز الخطأ عليه في الاحكام في جملة المجمعين غير ثابتة لجواز الخطأ على الآحاد فيجوز على الجملة ، ولا قدح في ذلك بالأخبار المتواترة لانّها اخبار عن محسوس والاجماع اخبار عن أمر نظري ، وليس يتطرق الى المحسوسات من الخفاء والاشتباه ما يتطرّق للأمور النظريّة غير اليقينية فلذلك امتنع الاشتباه في المحسوسات على الخلق الكثير عادة دون النظريات وحصل القطع باخبار جماعة كثيرة لا يحتمل تواطئهم على الكذب فيها دون النّظريات والمعاني المعقولة فان احتمال اتفاق الافهام على الخطأ فيها قائم فتبين الفرق وزال القدح ، والقياس لا يفيد الّا وهما غير معتبر في الشّرع ، لأن المطلوب معرفة الحكم باليقين لا بالوهم ، على ان اصحابنا أبطلوه من الاصل واحتج لابطاله شارح الباب الحادي عشر بان مبنى شرعنا على اختلاف المتّفقات كوجوب الصّوم آخر رمضان وتحريمه أوّل شوال ، واتّفاق المختلفات كوجوب الوضوء من البول والغائط ، واتّفاق القتل خطأ والظهار في الكفّارة ، هذا مع انّ الشارع قطع سارق القليل دون غاصب الكثير ، وجلد بقذف الزنا واوجب فيه اربع شهادات دون الكفر وذلك كلّه ينافي القياس ، وقد قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (تعمل هذه الامّة برهة بالكتاب وبرهة

__________________

(١) آل عمران : ٧.

٨٠