منار الهدى في النصّ على إمامة الأئمّة الإثني عشر

الشيخ علي البحراني

منار الهدى في النصّ على إمامة الأئمّة الإثني عشر

المؤلف:

الشيخ علي البحراني


المحقق: السيد عبدالزهراء الخطيب
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار المنتظر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٢٠

عنا بابا او بابين) وهم في كل ما قالوا وجميع ما بينوا من الأحكام في الحلال والحرام والقصص والأخبار لم يكونوا ناقلين له عن استاذ ولا محدث ، بل يلقيه كل سابق منهم الى لاحقه الى ان ينتهي الى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، لا يرجعون في علومهم الا إليه لا الى رأي ولا قياس كغيرهم من بني ابيهم ، ومن جملة الناس وقد اقر بأعلميتهم على من سواهم من اخوانهم واعمامهم جميع العلماء وصنفت الكتب في فضائلهم دون غيرهم من الذرية الحسينية والحسنية من الخاصة والعامة فلا يذكر غيرهم من القبيلين الا بالعرض والاستطراد ، وملئت التواريخ بذكر كراماتهم ووصف علومهم دون بني ابيهم كما ذكرنا في اوّل الكلام ، ومن اراد الاطلاع على ذلك فعليه بالكتب التي اشرنا إليها وغيرها مما ذكر فيه اخبار الماضين ، وحيث كانوا اعلم اهل ازمنتهم وجب ان يكونوا هم الأئمة.

الرابع اجتماع الخصال الحميدة فيهم من الزهادة والعبادة والكرم والحلم واستجابة الدعوة والعفة والصيانة مما لم يجتمع بعضها لأحد من الناس ، قال ابن ابي الحديد في مفاخرة هاشم وعبد شمس : «ومن الذي يعد من قريش او من غيرهم ما يعده الطالبيون عشرة في نسق كل واحد منهم عالم زاهد ناسك شجاع جواد طاهر زاك ، فمنهم خلفاء مرشحون ابن ابن ابن ابن هكذا الى عشرة وهم الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي ، وهذا لم يتفق لبيت من بيوت العرب ولا من بيوت العجم (١) وقال في موضع آخر : واين انتم عن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب الذي يقال له : على الخير ، وعلى الأغر ، وعلى العابد ، وما اقسم على الله بشيء الا وابر قسمه؟ واين انتم عن موسى بن جعفر بن محمد ، واين انتم عن علي بن محمد بن الرضا لابس الصوف طول

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١٥ / ٢٧٣.

٦٢١

عمره مع سعة امواله وكثرة ضياعه وغلاته (١) وقال في موضع آخر : وجعفر بن محمد الذي ملأ الدنيا علمه وفقهه ويقال ان أبا حنيفة كان من تلامذته ، وكذلك سفيان الثوري وحسبك بهما في هذا الباب ـ الى ان قال ـ ومن مثل علي بن الحسين زين العابدين ، وقال الشافعي في الرسالة في اثبات خبر الواحد : وجدت علي بن الحسين وهو افقه اهل المدينة يعوّل على اخبار الآحاد (٢) انتهى. ما اردنا نقله من كلام المعتزلي وهو مصرح بما ذكرنا في ائمتنا ونسبناه إليهم من الأوصاف ، واجتماع الخصال الحميدة فيهم مما لم يتفق لغيرهم ، واعظم الأمور ان محمد بن ادريس الشافعي يستند في صحة قوله الى فعل إمامنا علي بن الحسين ويجعله حجة.

وروى ابن خلكان في تاريخه عن ابي العباس محمد بن يزيد المبرد في كتاب الكامل ما مثاله يروى عن رجل من قريش لم يسم لنا قال : كنت اجالس سعيد بن المسيب فقال لي يوما : من اخوالك؟ فقلت : امي فتاة ، فكاني نقصت في عينه ، وذكر مجيء سالم بن عبد الله بن عمر ثم بعد قيامه اتيان القاسم بن محمد بن ابي بكر الى ان قال ، فامهلت شيئا حتى جاءه علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب (عليه‌السلام) فسلم عليه ثم نهض قلت : يا عم من هذا فقال : هذا الذي لا يسع مسلما ان يجهله هذا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه‌السلام) الخبر (٢) فانظر الى قول سعيد في علي بن الحسين فانك تجده يكاد ان يصرح بامامته على ما نقول بل هو مصرح بها لأن من لا يسع المسلمين جهله واجبة معرفته عليهم ، وليس تجب على المسلمين بعد معرفة الله ورسوله معرفة احد الا الامام.

وقال في المناقب مختصر مناقب الحافظ ابي عبد الله محمد بن يوسف

__________________

(١) نقل ذلك عن الرسالة المذكورة ابن ابي الحديد في شرح نهج البلاغة ١٥ / ٢٧٣ و ٢٧٤.

(٢) الكامل للمبرد ١ / ٣١١.

٦٢٢

البلخي الشافعي في ترجمة الحسين (عليه‌السلام) مشيرا الى ائمتنا بعد ان ذكرهم قال بعض أهل العلم : «علوم اهل البيت لا تتوقف على التكرار والدرس ولا يزيد يومهم فيها على ما كان بالأمس لأنهم المخاطبون في اسرارهم المحدثون في النفس فسماء معارفهم وعلومهم بعيدة عن الادراك واللمس ، ومن اراد سترها كان كمن اراد ستر وجه الشمس ، وهذا مما يجب ان يكون ثابتا مقررا في النفس ، فهم يرون عالم الغيب في عالم الشهادة ويقفون على حقائق المعاني في خلوات العبادة ، وتناجيهم ثواقب افكارهم في اوقات اذكارهم بما تسنموا به غارب الشرف والسيادة ، وحصلوا بتوجههم الى جناب القدس ما بلغوا به منتهى السؤال والإرادة ، فهم كما في نفوس اوليائهم ومحبيهم وزيادة ، فما تزيد معارفهم في زمان الشيخوخة على معارفهم في زمن الولادة ، وهذه امور تثبت لهم بالقياس والنظر ، ومناقب واضحة الحجول والغرر ، ومزايا تشرق اشراق الشمس والقمر ، وسجايا تزين عنوان التواريخ وعنون الأثر فما سألهم مستفيد او ممتحن فوقفوا ولا انكر منكر امرا من الأمور الا عرفوا ، ولا جرى معهم غيرهم في مضمار شرف الا سبقوا ، وقصر مجاريهم وتخلفوا ، سنة جرى عليها الذين سلفوا واحسن اتباعها الذين خلفوا ، وكم عاينوا في الجدال والجلاد امور فتلقوها بالرأي الأصيل والصبر الجميل ، فما استكانوا وما ضعفوا فبهذا وامثاله سموا على الأمثال وشرفوا تعدم الشقاشق اذا هدرت شقاشقهم وتصغي الأسماع اذا قال قائلهم ، ونطق ناطقهم ويكثف الهواء اذا قيست به خلائقهم ويقف كل ساع عن شأوهم ، فلا يدرك فائتهم ولا تنال طرائقهم ، سجايا منحهم بها خالقهم ، وفاز بها صادقهم فسر بها اولياؤهم واصدقاؤهم وحزن لها مباينهم ومفارقهم انتهى اقول والكلام في اوصافهم متسع قال فيه كل قائل بما احسن ، ونطق منه كل (١) (٢)

__________________

(١) أيضا ١٥ / ٢٧٨.

(٢) أيضا ١٥ / ٢٧٤.

٦٢٣

ناطق بما اتقن ، وقدرهم فوق ما قيل فيهم ، وشأنهم فاق مدح مادحيهم ، فلنكتف من القول في ذلك بهذه الجملة ففيها ما يبل الغليل ويشفي العليل.

واعلم انه ليس في الذرية النبوية من له جميع هذه الأوصاف غير من ذكرناهم بالاتفاق ، فوجب ان يختصوا بالامامة دون غيرهم من اخوانهم واعمامهم ، وبهذا كله يبطل مذهب الاسماعيلية والفطحية ومن ضارعهم مثل مذهب اصحاب جعفر الكذاب بن علي الهادي وغيرهم.

٦٢٤

توضيح مقال لدفع اشكال

المهدي هو ابن الحسن العسكري وهو مختف عن الناس لا يعرفون شخصه وهو يعرفهم وانه باق حتى يأذن الله له في الظهور والقيام بالسيف فيطهر الله الأرض به من الفساد ، ويملأها به قسطا وعدلا كما ملئت من الظلمة ظلما وجورا كما تواترت به الأخبار النبوية ، وينزل عيسى بن مريم إليه ويصلي خلفه ، ويملك سبع سنين كما وردت به الأخبار ، ثم يكون بعده ما شاء الله ان يكون من الكرة ، وليس هذا موضع تفصيل تلك الأمور ، وانما هو مقام اثبات الامامة له ، والبقاء بالدليل.

اما انه ابن الحسن العسكري فباجماع الامامية وتواتر اخبارهم ، انه ابنه وان مولده قبل وفاة ابيه بأربع سنين وقد قال بذلك جماعة من مخالفينا كمحيي الدين ابن عربي في فتوحاته وعبد الوهاب الشعراني في كتابه اليواقيت والجواهر والشيخ حسن العراقي وعلي الخواص وابي العباس الدمشقي وهؤلاء من اكابر السنّة والمذكورون قبل ابي العباس من اهل التصوف المعدودين عند خصومنا من الأولياء.

قال الشعراني في الكتاب المذكور : المهدي من ولد الامام الحسن العسكري ومولده ليلة النصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين وهو باق حتى يجتمع بعيسى سن مريم ، هكذا اخبرني الشيخ حسن العراقي المدفون

٦٢٥

فوق كوم الريش المطل على بركة الرطل بمصر المحروسة عن الامام المهدي حين اجتمع به ووافقه على ذلك سيدي على الخواص رحمهما‌الله تعالى انتهى.

وقال محيي الدين مسافر بن عربي : انه لا بد من خروج المهدي (عليه‌السلام) لكن لا يخرج حتى تمتلأ الأرض جورا وظلما فيملأها قسطا وعدلا وهو من عترة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من ولد فاطمة جده الحسين بن علي بن ابي طالب (عليه‌السلام) ووالده الامام الحسن العسكري بن الامام علي النقي بالنون بن الامام محمد التقي بالتاء بن الامام على الرضا بن الامام موسى الكاظم بن الامام جعفر الصادق بن الامام محمد الباقر بن الامام زين العابدين علي بن الامام الحسين بن الامام علي بن ابي طالب يواطئ اسمه اسم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يبايعه المسلمون بين الركن والمقام الى آخر (١) ما قال وقد نقل بعض اصحابنا عن

__________________

(١) كل ما نقل هنا عن الفتوحات المكية لابن عربي واليواقيت والجواهر للشعراني نقله المؤلف رحمه‌الله عن اسعاف الراغبين للصبّان المالكي ص ١٤١ وانظر نور الأبصار للشبلنجي ص ١٧٠ وقد نظم شيخنا الامام الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء عطر الله مرقده ما نقله المؤلف هنا في رائيته العصماء التي رد بها على الرائية الغفل التي ارسلت من احد علماء بغداد الى جماعة من علماء النجف الأشرف يشكك فيها بوجود الامام المهدي عجل الله فرجه فرد عليه جماعة منهم بقصائد على وزن قصيدته وقافيتها فندوا بها اقواله وبددوا حججه قال رحمه‌الله :

قال رحمه‌الله :

وحسبي بمحي الدين نقضا فان في

الفتوح عليك النقض قد جاء والنصر

وكم في يواقيت الجواهر جوهر

به عاد شعرانيكم وله الفخر

لواقح انوار له انظر فان للعراقي

فيه قصة عدوها نضر

وصدقه فيه الخواص علي من

كراماته لا يستطاع لها ذكر

وتجد القصيدة كاملة في الزام الناصب ٢ / ١٠٧.

٦٢٦

حجة الاسلام ابي حامد الغزالي في بعض كتبه اظنه المنخول مثل ذلك ، لكن الكتاب لا يحضرني لأنقل عبارته.

وقال ابو العباس الفصل الحادي عشر في ذكر الخلف الصالح الامام ابي القاسم محمد بن الحسن العسكري رضي الله عنه عند وفاة ابيه خمس سنين اتاه الله فيها الحكمة كما اوتيها يحيى وكان مربوع القامة ، حسن الوجه ، والشعر ، أقنى الأنف ، اجلا الجبهة ـ الى ان قال ـ واتفق العلماء على ان المهدي هو القائم في آخر الوقت ، وقد تعاضدت الأخبار على ظهوره وتظاهرت الروايات على اشراق نوره ، وستسفر ظلمة الأيام والليالي بسفوره ، وينجلي برؤيته الظلم انجلاء الصبح عن ديجوره ، ويسير عدله في الآفاق فيكون اضوء من البدر المنير في مسيره انتهى وكذلك ذكره جماعة من اهل التاريخ كشمس الدين ابن خلكان فقد ذكر انه محمد بن الحسن العسكري واثبت مولده في التاريخ المتقدم ، وذكر انه الرجل الذي تدعى الامامية انه امامهم الثاني عشر وذكره ابن زولاق في تاريخه ، هكذا الا انه زعم ان مولده قبل التاريخ المذكور وكذلك غيرهما من اهل التواريخ والسير ، وقد تلخص من هذا كله ان ولادة المهدي الذي هو ابن الحسن العسكري وقعت يقينا وحصلت جزما فلا التفات لمن انكر ذلك عصبية وعنادا كابن ابي الحديد وامثاله من اصحابه وغيرهم ، ومن هذا يعلم بطلان ما ذكره في اسعاف الراغبين من ان المهدي من ذرية الحسن السبط بن امير المؤمنين (عليه‌السلام) ويعلم منه أيضا وهن قوله : ان رواية كونه من ذرية الحسين واهية (١) بل قوله هو الواهي ولعلهم رأوا في رواية انه من ولد الحسن يعنى به العسكري فظنوه الحسن السبط فأخطئوا فقد روى ابن قتيبة في كتاب غريب الحديث عن امير المؤمنين (عليه‌السلام) : (ان المهدي من ذرية

__________________

(١) اسعاف الراغبين ص ١٣٧.

٦٢٧

الحسين) (١) ورواه أيضا قاضي القضاة عن كافي الكفاة اسماعيل بن عباد باسناد متصل به (عليه‌السلام) فلا محيص عن القول به.

واما اختفاؤه فلخوفه من الطواغيت ان يفعلوا به كما فعل بآبائه وليخرج وليس في عنقه بيعة لأحد من الظلمة.

واما عدم معرفة الناس لشخصه ومكانه فلخوف الاذاعة فاذا عرف شخصه ومحله قصد من الجائرين بالايذاء.

واما بقاؤه حتى يؤذن له في الظهور فلوجوه.

الأول اتفاق الامامية عليه وموافقة جملة من المخالفين لهم على صحته كما سمعت.

الثاني تواتر الأخبار عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) والأئمة بعد المفروغية من اثبات كون قولهم حجة باثبات إمامتهم بما ذكرناه من النصوص المتقدمة ، والوجوه المتعددة.

الثالث انا قدمنا في اوّل الكتاب انه لا يجوز خلو زمان من ازمنة التكليف من امام يكون حجة لله على خلقه ، وبينا هنا ان الأئمة اثنى عشر ، وانه تمام عدتهم فوجب الحكم ببقائه لئلا يكون زمان التكليف خاليا من الحجة لله على خلقه ، على انا نقول لهم ان جماعة من مؤرخيكم قد اثبتوا ولادته كما قلنا فنحن نطالبكم باثبات موته ، وبالدلالة على موضع مدفنه ، وليس لهم حجة على ذلك الا الشبهة التي تمسك بها منكروا ولادته او بعضهم وهي مخالفة العادة والطبع ، فان العادة قد قضت بانه لا يعيش احد هذا

٦٢٨

العمر الطويل والطبيعة الانسانية لا يمكن بقاء شخص منها هذه المدة والعمر الطبيعي مائة وعشرون سنة ، وهذه الشبهة منقوضة عليهم ومقلوبة بما صح في كتبهم وتواريخهم من بقاء خلق كثير اضعاف ما ذكروه للعمر الطبيعي ، فقد ذكر ان آدم (عليه‌السلام) عاش ستمائة سنة ، وان نوحا بنص القرآن لبث من قومه الف سنة الا خمسين عاما ، بعد مبعثه قبل الطوفان ، وانه بعث وله خمسون سنة وقيل أربعمائة سنة ، وعاش بعد الطوفان ثلاثمائة سنة فعمره يكون على الرواية الأولى الفا وثلاثمائة سنة ، وعلى الثانية الفا وستمائة وخمسين سنة ، وان عمر سام ستمائة سنة ، وعمر ارفخشد أربعمائة سنة وخمس وستون سنة ، وان عمر شالخ بن ارفخشد أربعمائة وثلاثون سنة وان كالب بن يوفنا عاش الف سنة في بني اسرائيل وان انوش بن شيث عاش تسعمائة وخمسا وستين سنة ، وابنه قينان عاش سبعمائة وعشرين سنة وابنه مهلاييل عاش تسعمائة وخمسا وستين سنة ، وادريس رفع وهو ابن ثلاثمائة وخمس وستين وبقي ابوه بعد رفعه خمسمائة وخمسا وثلاثين سنة ، وعاش متوشلخ بن ادريس تسعمائة واثنين وثمانين سنة وابنه لملك سبعمائة سنة ، وذكر في انوار التنزيل ان لقمان الحكيم عاش الف سنة ، وصح ان لقمان بن عاد عاش عمر سبعة انسر.

قال القرماني ابو العباس في تاريخ الدول وقد اختلف الناس في عمر النسر وعامتهم انه يعيش خمسمائة سنة ، فعلى هذا ان لقمان عاش ثلاثة آلاف وخمسمائة سنة ، قال : وقيل انه عاش ثلاثة آلاف وثمانمائة سنة ، لأنه قبل ان يأخذ النسور له ثلاثمائة سنة انتهى اقول وقد ذكر شعراء العرب لقمان هذا اشارة وتصريحا قال سالم بن عوانة الضبي في ابيات له.

لا تهزئي مني ربيب فما

في ذاك من عجب ولا سخر

أو لم ترى لقمان اهلكه

ما اقتات من سنة ومن شهر

٦٢٩

وبقاء نسر كلما انقرضت

ايامه عادت الى نسر

ما طال من امد على لبد

رجعت محاربة الى قصر

وقال التابعة الذبياني :

امست قفارا وامسى اهلها احتملوا

اخنى عليها الذي اخنى على لبد

يعني به نسر لقمان وغير ذلك

وذكر القرماني أيضا ان عوج بن عناق عاش مثل عمر لقمان بن عاد على الرواية الأولى.

وكثير من العرب عاش عمرا طويلا فمنهم عبيد بن شريد الجرهمي عاش ثلاثمائة وخمسين سنة ، وروى عنه انه رأى من عاش الف سنة ، وان الربيع بن ضبيع الفزاري عاش قريبا من أربعمائة سنة ، وان سويا الكاهن عاش ثلاثمائة سنة ، وان شداد بن عاد عاش تسعمائة سنة ، وعاش اكثم بن صيفي التميمي ثلاثمائة سنة ، وعاش المستوغر عمرو بن ربيعة احد بني سعد بن زيد مناة التميمي ثلاثمائة وعشرين سنة ، وعاش الحارث بن كعب مائة وستين سنة ، وعاش دريد بن زيد النهدي القضاعي أربعمائة سنة وستا وخمسين سنة ، وعاش زهير بن جناب العذري الكلبي مائتين وعشرين سنة ، وعاش ذو الأصبع حرثان بن محرث العدواني احد بني قيس عيلان بن مضر ثلاثمائة سنة ، وعاش معدي كرب الحميري عمرا طويلا حتى قال.

اراني كلما افنيت عمرا

اتاني بعده يوم جديد

يعود بياضه في كل فجر

ويأبى لي شبابي ما يعود

وعاش ابو الطمحان القيني حنظلة بن الشرفي الكناني مائتي سنة ، وعاش عبد المسيح بن بقيلة الغساني ثلاثمائة وخمسين سنة ، وعاش النابغة الجعدي قيس بن كعب من بني عامر بن صعصعة مائة وثمانين سنة ، على رواية ابن الكلبي ومائتي سنة على رواية ابن دريد عن ابي حاتم ، وغير هؤلاء ممن عاش

٦٣٠

عمرا طويلا كثيرا لو اردنا ذكر جميع من يمكننا ذكره ، وكل من انتهى إلينا خبره لطال الكلام فاين العادة؟ واين العمر الطبيعي؟ فاذا صح عند خصومنا جواز الزيادة على العمر الطبيعي وخرق العادة فيمن ذكرناهم على كثرتهم ومن تركنا ذكره اكثر كيف يمنعون ذلك في المهدي دون غيره لتلك العادة المنخرمة المنخرقة؟ ما هو الا تشبث بما لا يجدي نفعا ثم انهم اثبتوا ان الخضر حي موجود الى ان يقوم المهدي (عليه‌السلام) وهو قبل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بزمان طويل لأنه كان على مقدمة ذي القرنين الأكبر الذي كان في زمن ابراهيم الخليل (عليه‌السلام) على رواية المسعودي في اخبار الزمان ، وقيل هو ايليا بن ملكا بن فالغ بن عابر ، وقيل الخضر بن ميشا بن افرائيم بن يوسف الصديق ، وعلى كل حال فهو قبل نبينا (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بمدة طويلة وصححوا ان معمر أبا الدنيا علي بن عثمان بن الخطاب الهمداني حي موجود من زمان نبينا الى ان يقوم المهدي واثبتوا ان الدجال حي موجود الى قيام المهدي ، ونزول عيسى من السماء فيقتلانه ، وان الياس حي موجود في السحاب فاثباتهم طول البقاء لهؤلاء وانكارهم البقاء منهم للمهدي عناد صرف ، وتعصب محض لا حجة عليه ، وبعد فما ينكرون من ان يكرم الله نبيه محمدا (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيما اكرمه بان يعمر رجلا من عترته الى وقت معلوم عنده كما فعل بغيره؟ على ان لازم ما رووه عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من قوله : (لتحذون حذو الأمم من قبلكم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة) وقوله : (ليكونن فيكم ما كان في الأمم قبلكم) او ما اشبه هذا اللفظ ان يكون في اولياء هذه الأمة معمرون كما كان في اولياء الأمم السالفة ، وفي هذا كفاية لصحة بقائه (عليه‌السلام) الى وقت معلوم عجل الله فرجه وسهل مخرجه ، وجعلنا من انصاره واكرمنا بجواره.

واما الشبهة في استتاره بانه كيف يكون موجودا ولا يعرف بشخصه

٦٣١

فمندفعة بان الخضر موجود عندهم قطعا وهو لا يعرف بشخصه ، وذكر شيخهم الأكبر مسافر بن عربي ان الياس يجتمع مع الخضر عند سد يأجوج ومأجوج وفي مكة وعرفات ، روى ذلك عنه القرماني في تاريخ الدول ومن المتفق عليه انه لم يكن احد من الناس يعرف الخضر والياس بشخصيهما فما المانع ان يكون المهدي كذلك؟ ثم من المتفق عليه أيضا ان الدجّال موجود ولم يكن احد يعرفه بشخصه ولا ادعى احد من الناس معرفته فكيف يجوز ان يخفى الخضر والياس والدجال على الناس ولا يعرفون اشخاصهم ولا يجوز ذلك في غيرهم وهو المهدي لو لا التعسف وتمحل المحال ، وقد ورد في كلام امير المؤمنين (عليه‌السلام) ما يصرح بوجود هذا الامام المنتظر واستتاره عن البشر وانه حجة الله على خلقه وخليفة انبيائه.

فمنه ما في خطبة اومي فيها الى الملاحم قال في جملتها : (هذا ابان ورود كل موعود ودنو من طلعة ما لا تعرفونه ، الا وان من ادركها منا يسرى فيها بسراج منير ، ويحذو فيها على مثال الصالحين ليحل فيها ربقا ويعتق فيها رقا ويصدع شعبا ويشعب صدعا في سترة عن الناس لا يبصر القائف اثره ، ولو تابع نظره ، ثم ليشحذن فيها قوم شحذ القين النصل يجلي بالتنزيل ابصارهم ، ويرمي بالتفسير في مسامعهم ، ويغبقون كأس الحكمة بعد الصبوح) (١) انتهى.

فانظر الى قوله (عليه‌السلام) بعد ذكر اوصاف القائم (في سترة من الناس لا يبصر القائف اثره) فانك تراه اصرح شيء في مدعانا واوضح قول في مرامنا.

واما قول ابن ابي الحديد بعد اعترافه بدلالة الكلام على استتار هذا

__________________

(١) نهج البلاغة من الخطبة ١٤٨.

٦٣٢

الانسان المشار إليه : وليس ذلك بنافع للامامية في مذهبهم ، وان ظنوا ان ذلك تصريح بقولهم وذلك لأنه من الجائز ان يكون هذا الامام يخلقه الله تعالى في آخر الزمان ويكون مستترا وله دعاة يدعون إليه ويقررون امره ثم يظهر بعد ذلك الاستتار ، ويملك الممالك ويقهر الدول ويمهد الأرض كما ورد في الخبر (١) فباطل غاية البطلان والكلام نافع لنا في مذهبنا غاية النفع وجواز أن يكون هذا الامام يخلقه الله تعالى في آخر الزمان معارض بجواز أن يكون خلقه قبل زمان ابن ابي الحديد ، بما يربى على المئات من السنين ويزيد ، وقد اقمنا البرهان على وجوب وجوده في الأرض اثبتنا النقل على حصول ولادته منا ومن الخصوم ، ونحن لا ننكر ما اجازه لو كان الخلف لم يوجد ، ولم يولد ، ولا يضرنا في الحجة نحن ندعي انه (عليه‌السلام) خلق فكان على المعتزلي ان يقيم دليلا على منع ايجاده ، وابطال ميلاده وانّى له بذاك؟ واذا كان يجوز ان يكون ولد والأخبار منا ومنهم وردت بوقوع ذلك الجائز الذي لم يقدر الخصم على منعه وجب ان يكون استتار المنتظر من وقت ميلاده الى وقت ظهوره في هذه الأزمان لا في ذلك الزمان الذي ادعاه المعتزلي ، على انه لو كان كما ذكر لم يكن الامام مستترا عن الناس لأن من يبث الدعاة الى الخلق يدعونهم الى طاعته ومبايعته ويطلبون منهم الانقياد الى امره والوثوب الى نصرته ليس بمستتر عن الناس ، بل مظهر لهم نفسه مبد لهم امره معرف لهم شأنه ملق إليهم خبره ، ومن كان هذا شأنه كيف لا يبصر القائف اثره ولو تابع نظره ، ودعاته يشيرون إليه ويدلون الناس عليه ، وانما يصح الاستتار الذي عناه امير المؤمنين وصرح به في الوقت الذي ليس لهذا الامام ابن السادة الكرام داع يدعو الناس الى مبايعته ولا مشير يشير إليه ويدل عليه ، فهو مخفى الأثر ولذلك انكر وجوده من انكر كهذا القائل ، وهذه الحال لم تكن الا في هذه

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٩ / ١٢٨.

٦٣٣

الأزمان التي تغلب فيها على اهل الايمان اهل البغي والعدوان ، وذوو الكفر واولياء الشيطان لا الزمان الذي يدعى فيه لذلك الامام ، وينادى باسمه بين الخاص والعام ، فان ذلك وقت اسفار العدل بسفوره ، وظهور صبح الحق بظهور نوره ، وانهزام ليل الباطل وزوال ديجوره ، بضياء نهار الهدى وسناء تنويره.

ذاك وقت ايامنا فيه بيض

والليالي غر كليل العروس

وليت شعري كيف خفي على المعتزلي هذا المعنى من الظهور والخفاء فلم يعرف الظاهر من المستور واما قوله كما ورد في الخبر ، فهو متعلق بقوله : تملك الممالك الى آخر الكلام لا بقوله : يخلقه الله في آخر الزمان اذ لا خبر بذلك عندهم ، ولو كان ثمة خبر ولو من اضعف الأخبار لصال به علينا وجال لكن لم يجد الى ذلك سبيلا فرجع الى الاستدلال بالامكان ، وترك ما حصل وكان.

ومنه قوله في خطبة اخرى يشير الى الخلف الصالح : (قد لبس للحكمة جنتها واخذها بجميع ادبها ، من الإقبال عليها والمعرفة بها والتفرغ لها فهي عند نفسه ضالته التي يطلبها وحاجته التي يسأل عنها فهو مغترب اذا اغترب الاسلام ، وضرب بعسيب ذنبه والصق الأرض بجرانه ، بقية من بقايا حجته ، خليفته من خلائف انبيائه) الخطبة (١) فقوله (عليه‌السلام) :(مغترب اذا اغترب الاسلام) دال على استتار ذلك الامام اذا عاد الاسلام غريبا كما بدأ غريبا دل عليه الحديث النبوي ، وصار كالبعير البارك الذي يضرب الأرض باصل ذنبه وهو المراد بالعسيب ، ويلصق الأرض بصدره وهو جرانة فلا يكون له تصرف ولا نهوض ، وكل ذا كناية عن عود الإسلام

__________________

(١) نهج البلاغة من الخطبة ١٨٠.

٦٣٤

مغلوبا مقهورا معطلة حدوده ، مضيعة احكامه ، فيكون غريبا في الناس لا يعرف لاستيلاء اهل الضلالة على ذوي الهدى ، وغلبة الظلمة المغيّرين لأحكام الشريعة الغراء ، والعاملين في الناس بالشهوات والأهواء فيغترب حينئذ الحجة الذي هو بقية حجج الله وخليفة خلائف انبيائه ، فلا يعرف بشخصه ولا يدرى اين موضعه ، وهذا الكلام كما ترى صريح في وجود هذا الرجل واستتاره في زمان دولة اهل الجور والفساد ، وانه حجة الله ، وخليفة الخلفاء وهو عين ما قلناه من انه ختام الأئمة ، فان بقية الحجج ، وخليفة الخلفاء اخرهم بلا خفاء.

واما ما ذكره ابن ابي الحديد عن الصوفية ان المراد به ولى الله ، فان كان مرادهم به الامام لأنه عندنا حجة الله ووليه على عباده لا ولي على العباد غيره فذلك قولنا ، وان ارادوا به غير الامام وهو القطب عندهم الذي تدور عليه الأوتاد والأبدال فذلك مما لا برهان عليه ولا دليل وهو من الخرافات التي احدثها الصوفية بآرائهم واهوائهم ، والحق ان القطب بالمعنى الذي ذكروه وهو الخليفة الذي نحن نعنيه لا قطب غيره ، فجعلهم اياه غيره من وساوس النفوس ، ولا يطلق لفظ الحجة في كلام امير المؤمنين على الصوفي الكبير الذي سموه قطبا حاش لله.

واما ما نقله عن اصحابه ان المراد به العلماء الذي يتم الاجماع (١) وان امير المؤمنين (عليه‌السلام) يشير الى صفات كل واحد منهم ، فبعيد ظاهر الفساد ، اذ من اليقين انه لا يطلق لفظ الحجة والخليفة على غير الامام العام في كلام النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وعلي واولاده ، وعلى المدعي اثبات ذلك ، نعم ورد في كلامهم اطلاق لفظ العالم على الامام وهو عكس ما قاله المعتزلة كما ورد عنهم (لا تخلوا الأرض من عالم) ، و (لا تكون الا وفيها

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١٠ / ٩٦ ونقله المؤلف (رحمه‌الله) ملخصا.

٦٣٥

عالم) وهو في أحاديثنا كثير ، ثم ان الكلام يعطي بصريحه ان المراد به شخص واحد على الحقيقة لا جماعة واحد هم هكذا ، ويعطي أيضا بالصريح ان ذلك الشخص مغترب غير معروف بين الناس ، واذا كان مما لا يتم الاجماع بدونه عند الناس لزم ان يكون معروفا عندهم غير مجهول فلم يكن مغتربا البتة ، فاين اذن مصداق قوله عليه‌السلام (مغترب) الخ.

واما ما ذكره عن الفلاسفة من ان المراد بالحجة هو العارف عندهم ، فذاك مما لا يعرف ولا يلتفت إليه وهل يرضى عاقل او يتصور فاهم ان يكون اراد امير المؤمنين (عليه‌السلام) بحجة الله خليفة خلفاء انبيائه مثل ابي نصر الفارابي (١) وابي علي بن سينا (٢) وابي البركات البغدادي (٣) وشهاب الدين يحيى السهروردي (٤) واشباههم من اكابر فلاسفة الاسلام الذين اكثر اقوالهم مخالفة لنصوص الكتاب والسنة واجماع المسلمين؟ فهؤلاء هم العارفون بالفلسفة ، ولو كان مثل هؤلاء هو المقصود لما صدق قوله (عليه

__________________

(١) الفارابي ـ نسبة الى فاراب التركية ـ : ابو نصر محمد بن طرخان الحكيم المشهور ولد في فاراب ونشأ بها ثم انتقلت به الاسفار الى بغداد وحلب ودمشق وتوفي بها سنة ٣٣٩ ويلقب بالمعلم الثاني له كتب في الفلسفة والحكمة تخرج بها الحكماء كالرئيس ابي علي بن سينا وغيره.

(٢) ابن سينا ابو علي الحسين بن عبد الله بن سينا الملقب بالشيخ والرئيس ولد في بخارى من مؤلفاته الاشارات والقانون توفي بهمدان سنة ٤٥٨.

(٣) المراد يأبى البركات كمال الدين بن عبد الرحمن سكن بغداد وكان من ائمة النحو ثم اعتزل الناس وانقطع للعبادة الى ان توفي سنة ٥٧٧.

(٤) شهاب الدين السهروردي عمرو بن محمد بن عبد الله كان من اهل الرياضة والتصوف والعبادة وكان معاصرا للناصر العباسي ، اما يحيى السهروردي فهو يحي بن حبش ولقبه بهاء الدين صاحب كتاب حكمة الاشراق اتهم بانحلال العقيدة فافتى فقهاء حلب بقتله فقتل سنة ٧٨٥ بأمر الملك الظاهر بن صلاح الدين وعمره ستة وثلاثون سنة والله العالم بحاله والى الله ترجع الأمور.

٦٣٦

السلام) : (مغترب) لأن هؤلاء وامثالهم معروفون غير منكورين وظاهرون غير مستورين ومعظمون عند العامة غير مغتربين وبهذا أيضا يبطل قول المعتزلة لأن العلماء الذين ادعوا ان الاجماع لا يتم الا بهم معلومين غير مجهولين ان ارادوا مثل الجاحظ والجبائيين والقاضي عبد الجبار وابي القاسم البلخي وثمامة بن اشرس وابي الهذيل العلاف وابراهيم بن سيار النظام وواصل بن عطاء وعمرو بن عبيد وابي الحسين الخياط (١) وامثالهم ممن يطول تعدادهم وكلهم مذكورون في طبقاتهم ، معروفون عند اصحابهم فأين هم والاغتراب؟ وهل يجوز ان يكون مثل الجاحظ وهو المبغض لأمير المؤمنين (عليه‌السلام) حجة الله على خلقه ، وخليفة انبيائه؟ او يجوز ان يكون امير المؤمنين (عليه‌السلام) اراد بتلك الأوصاف مثله وامثاله؟ ومن هذا بطل ما ادعاه المعتزلي من جواز اطلاق الحجة والخليفة على العارف والولي عند الفلاسفة واهل التصوف ، وعلى العالم مثل ابي الهذيل عند المعتزلة وتبين ان ذلك قول منهم بألسنتهم وهوى قلوبهم ، وان كلام امير المؤمنين (عليه‌السلام) لا يوافق قول احد منهم ، وانما هو يوافق ما نقول لا سيما والمنصف المتأمل اذا ضم كلام علي (عليه‌السلام) بعضه الى بعض علم انه يريد بهذه الأوصاف رجلا من ذريته ، وهو الذي عناه في كلامه الأول بقوله : (الا وان من ادركها منا) الى آخره وقد اعترف المعتزلي بذلك حيث قال : وليس يبعد عندي أن يريد به القائم من آل محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في آخر الوقت اذا خلقه الله تعالى وان لم يكن الآن موجودا فانه ليس في الكلام ما يدل على وجوده الآن ، وقد وقع اتفاق الفرق من المسلمين اجمعين على ان الدنيا والتكليف لا ينقضي الا عليه (٢) انتهى وحيث أقر أن المراد هو القائم من آل محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فلا يضرنا ما قال من انه لم يكن مخلوقا

__________________

(١) مر ذكر هؤلاء.

(٢) شرح نهج البلاغة ١٠ / ٩٦.

٦٣٧

لأن هذا القول قد دللنا قبل على ابطاله ، وبينا في هذه الخطبة وجه الدلالة على فساده واسترحنا من كلفة الجواب هنا على هذه الهينمة بما قدمناه فتذكر.

ومنه قوله (ع) في حديث كميل بن زياد : (اللهم بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة اما ظاهرا مشهورا أو مستترا مغمورا لئلا تبطل حجج الله وبيناته) (١) فهذا الكلام نص صريح في ان الامام القائم لله بحجته لا تخلو الأرض منه ، وهو اما ان يكون ظاهرا مشهورا يعرفه الناس تشير إليه الأكف ، واما ان يكون مستترا مغمورا لا يعرف بشخصه ، وان الامامة لا تنقطع من الأرض اذ بانقطاعها يجب بطلان حجج الله وبيناته ، وذلك محال ممتنع ، فانقطاع الامامة مثله ، وحيث لا امام ظاهر على الوجه المذكور في الكلام من بعد ابي محمد الحسن بن علي العسكري وجب الحكم بوجود امام مختف من بعده ، وما هو الا صاحبنا اذ لم يدع احد من الناس ذلك لغيره ، فوجب ان يكون هو القائم بحجة الله المستتر ، وفي هذا كفاية لصحة قولنا ، ومما يدل على عناد ابن ابي الحديد قوله في شرح هذا الكلام : (وهذا يكاد يكون تصريحا بمذهب الامامية الا ان اصحابنا يحملونه على ان المراد به الابدال الذين وردت الأخبار النبوية عنهم انهم في الأرض سائحون الى آخر كلامه) (٢) وما ادري كيف قال هذا ولا نعرف الأبدال الذين يقول بهم؟ وان الكلام لا يشير الى ما ذكره قطعا وجزما ولا شك انه لا يدري ما يقول وانت خبير ببطلان كلامه بعد الاحاطة بما سبق من القول ، وقد قررنا في مسألة عدم جواز خلو الأرض من الإمام في جميع ازمنة التكليف تقريرا شافيا في هذا الحديث ينفعك هنا فراجع.

ومنه قوله (ع) في خطبة له : (فانظروا اهل بيت نبيكم فان لبدوا

__________________

(١) نهج البلاغة الحكمة ١٤٧.

(٢) شرح نهج البلاغة ٨ / ٣٥١.

٦٣٨

فالبدوا ، وان استنصروكم فانصروهم ، فليفرجن الله الفتنة برجل منا أهل البيت بأبي ابن خيرة الاماء لا يعطيهم الا السيف هرجا هرجا) موضوعا على عاتقه ثمانية حتى تقول قريش لو كان هذا من ولد فاطمة لرحمنا يغريه الله ببني امية حتى يجعلهم حطاما ورفاتا : (مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) الخطبة.

قال ابن ابي الحديد فان قيل من هذا الرجل الموعود به الذي قال (عليه‌السلام) (بابي ابن خيرة الاماء) قيل : اما الامامية فيزعمون انه امامهم الثاني عشر وانه ابن امة اسمها نرجس ، واما اصحابنا فانهم يزعمون انه فاطمي يولد في مستقبل الزمان لأم ولد ، وليس بموجود الآن (١) انتهى.

قلت : نحن والحمد لله قاطعون بذلك غير زاعمين ، قد وضحت به حجتنا وقامت عليه ادلتنا كما ترى.

فان قيل : لم استتر هذا الامام من الظلمة ولم لا يظهر فيقاتلهم ويجالدهم.

قلنا : قد قدمنا من القول في جواب قعود امير المؤمنين (عليه‌السلام) عن القتال في زمن الثلاثة ما يكفي في الجواب هنا عن هذا الايراد ونزيد عليه في هذا المقام فنقول : اخبرونا عن انبياء الله ورسله حين عمل قومهم بالمعاصي وكفروا بالله كقوم نوح وقوم ابراهيم وقوم لوط ، وعن بني اسرائيل حين عبدوا العجل بمشهد من هارون ولم يقاتلوهم وغير اولئك ممن عصوا الله وافسدوا في الأرض ولم تقاتلهم الأنبياء لم لا قاتلوهم وجالدوهم فما تجيب به عن هذا هو جوابنا عن ايرادك فاختر من الجواب ما شئت فان قيل : انما وجب نصب الامام لاقامة الملة ومنع حوزة الاسلام ، واخذ الحقوق ، واقامة

__________________

(١) نفس المصدر ٧ / ٥٩.

٦٣٩

الحدود ، وجباية الفيء وجهاد المشركين ، وقتال الباغين ؛ وارشاد العباد ، ورفع الفساد ، ولا خفاء ان المستتر المتوارى لا تحصل به هذا المصالح فاي فائدة في امام مستتر.

قلنا : صدقت في قولك : ان الامام منصوب لهذه المصالح لكن لا يجب عليه القيام بها الا اذا سلمت له الرعية المقادة ، وبسطت له يد الطاعة لو وجد ممن يطيعه اعوانا ينتصر بهم على من يعصيه من الأمة ، فاما اذا منعته الرعية طاعتها ولم تلق له زمام قيادها ، بل تركت نصرته واخافته ولم يجد من اهل طاعته من يقوم بنصرته على اهل المعصية فانه لا يجب عليه القيام بجميع تلك المصالح كما ذكرت ، وجاء منع اللطف من قبل الرعية حيث فوتوا انفسهم منه بكفهم يد الامام عن التصرف ، ولم يلزم من ذلك بطلان إمامة الامام المنصوب من الله لأن سبيله سبيل النبي ، فكما ان النبي (عليه‌السلام) مبعوث لتلك المصالح وغيرها ولا تبطل نبوته بعدم القدرة على القيام بها لعدم طاعة الرعية له كما ذكرنا في الكلام على الايراد الأول ولم يقتض ذلك عدم وجود النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فكذلك لا تبطل إمامة الامام اذ كانت من الله بمنع الرعية اياه عن التصرف ، ولا يلزم من ذلك عدمه لأن الامامة خلافة عن النبوة وما لا يبطل به الأصل لا يبطل به الفرع ، وهذا كاف في الجواب عن ترك ائمتنا (عليهم‌السلام) بعد الحسين القتال وقعودهم عن مجاهدة الظلمة ، وقولك اي فائدة في امام مستتر؟ قلت : بلى فيه فائدة جليلة ولطف ظاهر وذلك ان المكلفين اذا علموا ان في العالم إماما مختفيا وانه سيظهر فينتصف للمظلوم من الظالم ويرد الحقوق الى اهلها ويعاقب العاصين وجوزوا ظهوره في كل وقت ، فانهم يكونون الى الصلاح اقرب ومن الفساد ابعد ، فهذه فائدة من اعظم الفوائد في وجود الامام المستتر ، وذلك بخلاف ما اذا علموا ان ليس في العالم امام بذلك الوصف فانهم يكونون على طرف النقيض من الأول ، والحاصل ان وجود الامام لطف

٦٤٠