منار الهدى في النصّ على إمامة الأئمّة الإثني عشر

الشيخ علي البحراني

منار الهدى في النصّ على إمامة الأئمّة الإثني عشر

المؤلف:

الشيخ علي البحراني


المحقق: السيد عبدالزهراء الخطيب
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار المنتظر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٢٠

النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) غيرهما ، فأي دليل على الامامة ووجوب الطاعة وتحريم عصيان العترة ادل من هذا وبه يبطل قول من قال : ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم يوص ، أفليست هذه وصيّة صريحة وايجاب طاعة للعترة على الناس ظاهرا ، فابلغ شاهد من هذا يريد منا الخصوم كابن ابي الحديد وأشباهه من المنكرين النص وتأمل الى قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (اذكركم الله في اهل بيتي) ويكررها ثلاثا وقوله : (فانظروا كيف تخلفوني فيهما) وقوله : (ان الله مسائلكم كيف خلفتموني في كتابه واهل بيتي) فانك تجده صريحا في التوصية بطاعتهم ، والانقياد لأمرهم ، وتحريم مخالفتهم ، والتوعد عليها باعظم القول ، وابلغ الوصية ، افترى الوصية بالامامة تحتاج الى اكثر من هذا اللفظ او تزيد على هذا القول حتى يقال : ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم يوص الى احد بعينه بعد اقرارهم بصدور هذا الكلام عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم)؟ وفي قوله : (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لا يفترقان حتى يراد علي الحوض) ايماء بل دلالة على بقاء الامامة واستمرارها الى انقضاء زمان التكليف ، وانها لا تنقطع وقد بين هذا في مقدمة الكتاب باحسن بيان.

واعلم انما ابطلت دلالة هذه الأدلة على الامامة عند المخالفين ، وقالوا : لا وصية ولا نص من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على احد بعينه ، مع وضوحها وكونهم ذوي فطن شبهة خلافة الثلاثة وتقدمهم ووثوقهم في الصحابة على جهل وتقليد واتباعهم السواد الأعظم فقابلوا الصريح في خلافهم بالأغراض ونظروا إليه نظرا اغماض فقد لعمري تركوا الحق وسفهوا الهدى (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً).

وما ورد بلفظ السيادة الحديث المتواتر وهو قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) للحسن والحسين : (هما سيدا شباب اهل الجنة وابوهما خير

٥٨١

منهما) (١) وفي بعض الروايات بصورة الخطاب (انتما سيدا شباب اهل الجنة وابوكما خير منكما) (٢) ولفظ المسند لأحمد بن حنبل عن حذيفة بن اليمان : (ان الحسن والحسين سيدا شباب اهل الجنة وفاطمة سيدة نساء العالمين) (٣) فلفظ الحسن والحسين سيدا شباب اهل الجنة متفق عليه وقد تقدم من البيان ان السيادة بمعنى الرئاسة والطاعة كما يقال : فلان سيد بني فلان يعني رئيسهم المطاع فيهم واكرمهم ، وأصل السيادة الملك ، ومنه سمى مالك العبد سيده ، وسمى الزوج سيدا للمرأة لأنه يملك امرها ، ثم استعمل اللفظ في المجد والشرف ، كل ذا نص عليه اهل اللغة ، وبالجملة فالسيد اذا اطلق في العرف العام من دون قرينة دل على الرئاسة والمجد والشرف واذا اطلق شرعا ولم تكن ثمة قرينة تعين احد معانيه فانه يفهم منه مالك الأمر الذي تجب طاعته ، فلما كان الحسن والحسين سيدي شباب اهل الجنة كان معنى ذلك انهما اشرف اهل الجنة ، ولا يجوز أن يكونا اشرف اهل الجنة وهما في الدنيا مشروفان ، بل يجب ان يكونا في الدنيا هما الرئيسان المطاعان ليحصل لهما الشرف العالي بعد ابويهما محمد وعلي صلوات الله عليهما وآلهما ، فهذا القول من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيهما إظهارا لامامتهما اذ لا يكون سيد في الجنة الا وهو السيد في الدنيا ويشهد لذلك صريحا قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في حديث ذكره كثير من المحدثين ورواه المعتزلي في شرحه (سادة اهل المحشر سادة اهل الدنيا انا وعلي وحسن وحسين وحمزة وجعفر) (٤) ـ فقد ثبت بهذا الحديث ان الحسن والحسين سيدا اهل الدنيا كما

__________________

(١) اسعاف الراغبين ١١٥ و ١١٦ وسنن ابن ماجه باب فضائل الصحابة ومستدرك الحاكم ٣ / ١٦٧.

(٢) شرح نهج البلاغة ٦ / ٣٧٦.

(٣) اسد الغابة ٥ / ٥٧٤ وحلية الأولياء ٤ / ١٩٠ ومسند أحمد ٥ / ٣٩١.

(٤) شرح نهج البلاغة ١٥ / ٧٢. ومستدرك الحاكم / ٢١١.

٥٨٢

انهما سيدا اهل الجنة فيكونان الرئيسيين الذين تحب طاعتهما.

فان قيل : ان لفظ السيادة لا يدل على ملك الأمر والرئاسة في هذا الحديث وانما يدل على المجد والشرف فيستفاد منه الأفضلية فقط ، لأن حمزة وجعفر ليسا عندكم بامامين ، وقد اثبت لهما النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) السيادة فلو كان المراد بها هنا الامامة لأخرجهما النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) منها لأنه لازم على قولكم وحيث لم يخرجهما وجب ان يكون اراد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بالسيادة هنا الأفضلية دون الرئاسة العامة.

قلنا : انا قد بينا ان لفظ السيادة له معان متعددة وان الأصل فيه ملك الأمر ، وانه اذا اطلق بدون قرينة انصرف الى هذا المعنى ، وان قامت قرينة على بعض معانيه انصرف إليه بسببها ، فالقرينة هنا في حمزة وجعفر المعينة لإرادة المجد والشرف من سيادتهما قائمة وهي الاتفاق الحاصل من الأمة على انهما ليسا بامامين فتنصرف السيادة المنسوبة إليهما الى الأفضلية تقديما للدليل القاطع على الظاهر وذلك بخلاف الحسن والحسين فان جميع الشيعة يقولون بامامتهما من جهة النص وقوم من الصحابة والتابعين قائلون بها فلا قرينة تصرف معنى السيادة فيهما الى غير الرئاسة العامة الي هي بمعنى الامامة.

وقولك : يلزم على قولكم ان السيادة بمعنى الامامة اخراج حمزة وجعفر منها لأنهما ليسا بامامين عندكم.

قلنا لا يلزم ذلك فانه غاية الأمر لزوم استعمال اللفظ المشترك في كلا معنييه على قولنا ولا بأس به فقد اجازه جملة من الأصوليين ويشهد لصحته وروده في القرآن الكريم قال الله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ) وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ

٥٨٣

وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (١) فجمع في اللفظ بين صلاة الله وهي الرحمة وبين صلاة الملائكة وهي الاستغفار واستعمل اللفظ فيهما معا على اختلافهما فزال الايراد ثم يقال ويلزم على قولك أيضا ما نريده لانا نوجب الامامة للأفضل ويفهم من كلام قوم من العامة القرب الى اختيار ذلك فاذا كان الحسنان افضل الناس وجبت لهما الامامة وكان الخبر نصا على إمامتهما ، وما ذكره المعتزلة من جواز تقديم المفضول على الأفضل قد ابطلناه فيما سبق ، ثم ان الخبر نص في افضلية امير المؤمنين والحسنين وحمزة وجعفر على جميع الصحابة ومن بعدهم وبذلك قال ابن ابي الحديد وجمع كثير من اصحابه المعتزلة كجعفر بن مبشر وبشر بن المعتمر وابي موسى وسائر قد ماء البغداديين من المعتزلة ، وابي القاسم البلخي وابي الحسين الخياط وهو شيخ المتأخرين من معتزلة بغداد ، وابي جعفر الإسكافي والتفضيل عندهم مرتب بين الخمسة فالأفضل علي ثم الحسن ثم الحسين ثم حمزة ثم جعفر ثم بعده ابو بكر ثم عمر ثم عثمان (٢).

قال ابو جعفر الاسكافي في هذا المقام : والمراد بالأفضل اكرمهم عند الله ، واكثرهم ثوابا ، وارفعهم في دار الجزاء منزلة (٣).

وقال ابن ابي الحديد : اعجبني هذا المذهب وسررت بان ذهب الكثير من شيوخنا إليه.

قلت : ويدل على افضلية حمزة وجعفر على ما سوى علي والحسنين من الصحابة قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (خير الناس حمزة وجعفر) وعلى ما رواه ابو الفرج الاصفهاني وغيره من محدثي القوم وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لجعفر : (اشبهت خلقي وخلقي) ذكره ابن ابي الحديد

__________________

(١) الأحزاب : ٣٣.

(٢) شرح نهج البلاغة ١ / ٧.

(٣) المصدر السابق.

٥٨٤

وغيره (١) وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (حمزة سيد الشهداء) وهو خبر مشهور بل متواتر وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لجعفر : (خلق الناس من اشجار شتى وخلقت انا وجعفر من شجرة واحدة) أو قال : (طينة واحدة رواه ابو الفرج أيضا (٢) وغيره.

ولما قدم جعفر من الحبشة وقد فتحت خيبر التزمه وجعل يقبل عينيه ويقول : (ما ادري بايهما انا اشد فرحا بقدوم جعفر أم بفتح خيبر) ذكره جملة من المحدثين (٣) وما اولانا هنا بذكر ابيات في هذا المعنى لحسان بن ثابت من قصيدة يرثى بها جعفر واصحابه بمؤتة قال في جملتها :

رأيت خيار المسلمين تواردوا

شعوب وخلق بعدهم يتأخر

غداة غدوا بالمؤمنين يقودهم

الى الموت ميمون النقيبة ازهر

اغر كضوء البدر من آل هاشم

أبيّ اذا سيم الظلامة اصعر

وكنا نرى في جعفر من محمد

وقارا وامرا حازما حين يأمر

وما زال في الاسلام من آل هاشم

دعائم صدق لا ترام ومفخر

هم جبل الاسلام والناس حولهم

رضام الى طود يطول ويقهر

بها ليل منهم جعفر وابن أمه

علي ومنهم احمد المتخير

وحمزة والعباس منهم ومنهم

عقيل وماء العود من حيث يعصر

بهم تفرج الغماء في كل مأزق

عماس اذا ما ضاق بالناس مصدر

هم اولياء الله انزل حكمه

عليهم وفيهم والكتاب المطهر

__________________

(١) أيضا ١٥ / ٧٢ و ١٩ / ٢٢١.

(٢) شرح نهج البلاغة ٥ / ٧٢ عن مقاتل الطالبين.

(٣) منهم ابن هشام في السيرة ٣ / ٢٣٢ وابو عمر في الاستيعاب ١ / ٢١٠ وابن الأثير في اسد الغابة ١ / ٢٨٧.

٥٨٥

روى ذلك محمد بن اسحاق بن يسار في كتاب المغازي (١) وما ادري ما تصنع الأشاعرة في هذا الحديث الذي صرح بافضلية حمزة وجعفر على ائمتهم؟ وما ذا يقولون فيه وقد رواه محدثوهم كالديلمي وغيره ولفظه في روايته (نحن بنو عبد المطلب سادات اهل الجنة انا وحمزة وجعفر والحسن والحسين والمهدي) مع انهم يقولون ان افضل الصحابة ابو بكر ثم عمر ثم عثمان ، ويبنون على ذلك ثبوت إمامتهم وهذا الحديث وغيره يبطل ما زعموه ، ولازم ذلك بطلان إمامة مشايخهم كما ترى وما عسى ان اقول في الفريقين فان كلا منهما فارق الصواب وتاه في غمرات الشك والارتياب.

ثم نرجع الى اتمام الكلام واستيفاء المرام في اثبات النص على السبطين بالامامة فنقول : ومما يصرح بما ذكرناه من ذهاب قوم من الصحابة الى إمامة الحسنين من جهة النص ما رواه ابن ابي الحديد قال : لما تقاعس محمد يوم الجمل وحمل علي بالراية فضعضع اركان عسكر الجمل دفع إليه الراية وقال امح الأولى باخرى وهذه الأنصار معك وضم إليه خزيمة بن ثابت ذا الشهادتين في جمع من الأنصار كثير منهم من اهل بدر فحمل حملات كثيرة ازال بها القوم عن مواقفهم وابلا بلاء حسنا فقال خزيمة بن ثابت لعلي (عليه‌السلام) اما أنه لو كان غير محمد اليوم لافتضح الى ان قال وقالت الأنصار : يا امير المؤمنين لو لا ما جعل الله للحسن والحسين ما قدمنا على محمد احدا من العرب ، فقال علي (عليه‌السلام) : «اين النجم من الشمس والقمر اما انه قد اغنى وابلا وله فضله» ـ الى ان قال ـ : فقالوا : يا امير المؤمنين انا والله ما نجعله كالحسن والحسين ولا نظلمهما له ولا نظلمه لفضلهما عليه

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٤ / ١٨ وشرح نهج البلاغة ١٥ / ٦٣ والأبيات من وصيدة مطلعها :

تأوبني ليك بيثرب اعسر وهمّ ـ

اذا نوم الناس ـ مسهر

وانظر ديوان حسان ص ١٧٩.

٥٨٦

حقه قال : فقال خزيمة بن ثابت فيه :

محمد ما في عودك اليوم وصمة

ولا كنت في الحرب الضّروس مغردا

ابوك الذي لم يركب الخيل مثله

على وسماك النبي محمدا

وانت بحمد الله اطول غالب

لسانا وأنداها بما ملكت يدا

واقربها من كل خير تريده

قريش واوفاها اذا قال موعدا

واطعنهم صدر الكمي برمحه

واكساهم للهام عضبا مهندا

سوى اخويك السيدين كلاهما

امام الورى والداعيان الى الهدى

الأبيات ... (١) فاثبت خزيمة (رحمه‌الله) لهما الامامة بمحضر من الأنصار وغيرهم من الصحابة ، ولا يجوز ذلك لغير نص اذ على القول بان الامامة لا تثبت الا باختيار المسلمين ، ولا يكون الامام إماما الا بالبيعة من نفر تثبت بمبايعتهم له الامامة والحسن والحسين اذ ذاك غير امامين اذ لم تجر لهما بيعة ولا وقع للمسلمين اختيار فيهما فيكون اثبات الامامة لهما غير جائز ، ولكان امير المؤمنين (عليه‌السلام) والصحابة لا يقرون خزيمة على ذلك ، لكنه اثبت لهما الامامة وهو ذو الشهادتين وقرره علي (عليه‌السلام) الذي لا يقرر على باطل قط وخيار الصحابة فيجب ان يكون استفاد إمامتهما من النص وباقي الجماعة مطلعون على ذلك فلنا ما قرروه على ما قال فيثبت المطلوب ، وما ذلك النص إلى ما نذكره هاهنا وامثاله مما رواه الصحابة.

وروى ابن ابي الحديد أيضا عن نصر بن مزاحم في حديث قال : قام الأعور الشني الى علي (عليه‌السلام) في صفين فقال : يا امير المؤمنين زاد الله في سرورك وهداك ، نظرت بنور الله فقدمت رجالا واخرت رجالا عليك ان تقول وعلينا ان نفعل انت الامام فان هلكت فهذان يعني حسنا وحسينا

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١ / ٢٤٥.

٥٨٧

الحديث (١) والأمر فيه كالأول فانه اثبت للحسن والحسين الامامة ، فان كان من حيث البيعة لهما فلم تجر لهما بيعة على الناس في ذلك الوقت ، وان كان لنص معلوم عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بين الصحابة والتابعين ، أو لأن الامامة ميراث النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فهي لاقرب الناس إليه وهما الأقرب ، فقد ثبت ما نقول وتقرير امير المؤمنين (عليه‌السلام) اياه مع باقي الجماعة الأخيار حجة ظاهرة في المقصود.

وما ورد بلفظ المودة فقوله تعالى : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) (٢) وينبغي أولا ان نذكر من المراد بالقربى ثم نبين بعد ذلك دلالة الآية على الامامة.

فنقول قد ذكرنا في بيان العترة ما يدل من الأخبار صريحا على ان القربى علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم‌السلام) وابن أبي الحديد قد وافقنا على ذلك واثبت ان القربى في الآية هم العترة ، وقد سمعت النقل عنه هنالك ان العترة مختصة بمن ذكرناهم دون باقي العشيرة وسائر الذرية ، وتقدم عن ابن حجر في الصواعق : ان القربى مؤمنو بني هاشم والمطلب ، وقال صاحب المواهب : المراد بالقربى من ينسب الى جده الأقرب عبد المطلب ، وقال ابن عطية : قريش كلها قربى ، وقال في اسعاف الراغبين : وفي الآية تفسير آخر وهو ان المعنى ولكن اسألكم ان تودوني وتكفوا عني اذاكم بسبب ما بيني وبينكم من القرابة انتهى (٣) ولا ريب في بعد هذا المعنى او عدم كونه مقصودا من اللفظ ، لأنه لو كان هذا هو المراد تعين ان تكون الآية خاصة بقريش او ببعضهم على ما يقتضيه معنى القرابة في اللغة فيكون

__________________

(١) أيضا

(٢) الشورى : ٢٣.

(٣) اسعاف الراغبين : ١٠٥.

٥٨٨

الخطاب لهم خاصة دون باقي الأمة فلا تجب عليهم مودة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من هذه الآية لفقدان سببها فيهم وهو القرابة بين النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وبينهم ، وهذا باطل قطعا والاتفاق على ان الخطاب في الآية لجميع الأمة حاصل فالوجه المذكور فاسد باليقين.

واخبرني بعض الاخوان عن بعض اهل التعصب انه كان يقول : أن المراد بالقربى العمل والمعنى قل لا أسألكم عليه اجرا الا المودة فيما يقربكم الى الله وهو اقرب الى اللفظ من سابقه لكنه مقدوح فيه بما ذكره جماعة من اهل اللغة من ان القربى لا يستعمل الا في الرحم كالقرابة ، والقربة فيما يقرب الى الله تعالى ذكره في المصباح المنير وتبطل هذه الأقوال جميعها غير الأول بما قدمنا في معنى العترة من قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لما نزلت الآية فسئل من قرابتك الذين نزلت فيهم الآية؟ قال : (علي وفاطمة وابناهما) وما رواه السدى عن ابي مالك عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً) (١) قال : «المودة لآل محمد» (٢) ومما يدل صريحا على اخراج قريش من القربى واختصاصها بمن ذكرنا ما رواه ابن ابي الحديد فيما قدمناه عن احمد بن حنبل من قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (قدموا قريشا ولا تقدموها) قال : (ايها الناس اوصيكم بحب ذي قرباها اخي وابن عمي علي بن ابي طالب) (٣) فخصص (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ذا القربى بعلي (عليه‌السلام) وأخرج سائر قريش وبني هاشم منها.

__________________

(١) الشورى : ٢٣.

(٢) الصواعق ص ١٠١ وقال : «اخرجه احمد عن ابن عباس» وفي الكشاف / عن السدي.

(٣) شرح نهج البلاغة ٩ / ١٧٢.

٥٨٩

اما فاطمة والحسن والحسين فهم مثل امير المؤمنين لم يقل احد باختصاصه (عليه‌السلام) دونهم بالقرابة وما رواه أيضا عن احمد بن حنبل من قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (اني قائل لكم قولا غير محاب فيه لقرابتي ان السعيد كل السعيد حق السعيد من احب عليا في حياته وبعد موته) (١) فخص القرابة بعلي (عليه‌السلام) كما ترى فصح من هذا كله ان المراد بالقربى علي وفاطمة والحسن والحسين ومن حل محلهم من الأئمة كما ذكرناه في العترة ، فمعنى القربى ذي القربى ومعنى المودة المحبة ، وقد ورد في لزوم محبّة اهل البيت احاديث كثيرة بلغت حد التواتر فمنها ما تلوناه عليك فيما سبق.

ومنها ما رواه الترمذي والحاكم وصححه على شرط الشيخين عن ابن عباس قال قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (احبوا الله لما يغنيكم به واحبوني بحب الله واحبوا اهل بيتي بحبي) (٢).

واخرج الحاكم عن ابي هريرة ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : (خيركم خيركم لأهلي من بعدي) (٣) واخرج ابن سعد والملّا في سيرته انه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : (استوصوا باهل بيتي خيرا فاني اخاصمكم عنهم غدا ومن اكن خصمه اخصمه ومن اخصمه خصمه الله) (٤)

__________________

(١) رواه المحب في ذخائر العقبى ص ٩٢ وقال : «اخرجه احمد»

(٢) اسعاف الراغبين ص ١١١ وقال : «رواه الترمذي والحاكم وصححه على شرط الشيخين» والظاهر ان ما في المتن نقله المؤلف (رحمه‌الله) عن الاسعاف.

(٣) اسعاف الراغبين ص ١١١ وقال : «اخرجه الحاكم عن ابي هريرة».

(٤) رواه المحب في الذخائر ص ١٨ وقال : «اخرجه ابو سعد والملأ في سيرته» والصحيح «عن ابي سعد» كما في الذخائر العقبى فاني فحصت عن هذا الحديث في طبقات ابن سعد فحصا دقيقا فلم اجده بهذا اللفظ والذي فيه كما في ج ٢ ق ٢ ص بسنده عن ابي سعيد الخدري.

٥٩٠

وقال في اسعاف الراغبين : وروى انه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : (الزموا مودتنا اهل البيت فانه من لقي الله عزوجل وهو يودنا دخل الجنة بشفاعتنا والذي نفسي بيده لا ينفع عبدا عمله الا بمعرفة حقنا) (١).

وروى الديلمي والطبراني والبيهقي وابو الشيخ بن حيان مرفوعا انه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : (لا يؤمن عبد حتى اكون احب إليه من نفسه وتكون عترتي احب إليه من عترته واهلي احب إليه من اهله وذاتي احب إليه من ذاته) (٢).

وفي الاسعاف وروى ابو الشيخ عن علي (عليه‌السلام) قال خرج رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) مغضبا حتى استوى على المنبر فحمد الله واثنى عليه ثم قال : (ما بال رجال يؤذونني في اهل بيتي والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يحبني ولا يحبني حتى يحب ذريتي) (٢).

وروى احمد مرفوعا : (من ابغض اهل البيت فهو منافق).

وعن ابي سعيد انه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : (لا يبغضنا اهل البيت احد الا ادخله الله النار) رواه الحاكم وصححه على شرط الشيخين (٣).

واخرج مسلم من حديث ابي هريرة انه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال في حسن وحسين (عليه‌السلام) : (اللهم اني احبهما واحب من يحبهما) (٤).

__________________

(١) اسعاف الراغبين ص ١١٣.

(٢) اسعاف الراغبين ١١٣.

(٣) أيضا ص ١١٤.

(٤) الذي في صحيح مسلم ٧ / ١٢٩ كتاب فضائل الصحابة باب فضائل الحسن والحسين رضي الله عنهما هكذا : «عن ابي هريرة عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) انه قال لحسن : (اللهم اني احبه فاحبه واحبب محبيه) اه».

٥٩١

وروى الترمذي واحمد عن علي (عليه‌السلام) قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (من أحبني واحب هذين واباهما وامهما كان معي في درجتي يوم القيامة) (١) والأحاديث في هذا الباب لا تحصى كثرة وكلها مصرحة بوجوب حبهم وتحريم بغضهم واستحقاق مبغضهم دخول النار.

قال الفخر الرازي : ان اهل بيته يعني النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ساووه في خمسة اشياء الى ان قال وفي المحبة قال الله تعالى : (فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) (٢) وقال تعالى : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) (٣).

واعلم انه يفهم من هذه الأخبار ان المحبة واجبة لمن ذكرناهم دون قريش وسائر بني هاشم وبعضها مصرح بذلك لتخصيص المحبة فيها بعلي وفاطمة والحسنين فيحمل عليه غيره وأيضا لو وجبت المودة لقريش وبني هاشم كافة لوجبت معرفتهم لأنها هنا مودة خاصة بمعنى المتابعة لهم ومخالفة من يخالفهم ، وليست بمودة عامة كمودة سائر المؤمنين بعضهم لبعض من حيث الايمان والاخوة في الدين واذا كانت المودة هنا بمعنى المتابعة التامة كما سنبينه وحيث معرفة متعلقها لأن من ليس بمعروف ليس بمتبوع فليس بمحبوب ، بل مطلق المحبة اذا وجبت وجب ان يعرف من وجبت له وليس تجب معرفة احد من ذوي رحم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بالاجماع غير الأئمة وفاطمة (عليهم‌السلام) فيتعين ان يكونوا هم المعينين بالمودة والمخصوصين بالقربى والمجتبين للمتابعة دون من سواهم ، اذا تحققت ذلك فاعلم ان الآية دالة

__________________

(١) نقله في اسعاف الراغبين ص ١١٦ عن الترمذي واحمد.

(٢) آل عمران : ٣١.

(٣) الشورى : ٢٣ وقد مر هذا منقولا عن تفسير الرازي.

٥٩٢

على إمامة ذوي القربى من جهة وجوب مودتهم ولزوم محبتهم ، وحقيقة المحبة الميل الى المحبوب وايثار مرضاته ومحبوباته على مرضاة النفس ومحبوباتها ، والتأدب بآداب المحبوب والتخلق باخلاقه كما يشير إليه قوله تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) وهذه الحالة هي المتابعة او انها تستلزمها ، وقد قال الصبان الشافعي في معنى المحبة : ان المحبة المعتبرة الممدوحة هي ما كانت مع اتباع سنة المحبوب (١) وبالجملة ان المحبة الحقيقية اما انها نفس المتابعة للمحبوب لأنها عبارة عن الميل إليه وانجذاب النفس الى طلب رضاه ومرجعها الى طاعة المحب للمحبوب ، واما انها مستلزمة للمتابعة يجعلها حالة في النفس لأجلها يطلب مراضي المحبوب ويجتنب لها مسخوطاته الا ان الأول هو المراد من الآية لأنه تعالى أراد المودة الخاصة التي هي بمعنى الموالاة لهم وقبول اقوالهم والأخذ بها ويوضح هذا المعنى انه تعالى اوجب مودة ذوي القربى على المكلفين ولا يكلف الله العباد ما لا يطيقون لأنه قبيح عقلا ومنفي شرعا ، ومن المتيقن ان المكلفين قادرون على المودة التي هي بمعنى المتابعة وليسوا بقادرين على تحصيل تلك الحالة التي تدعو الى المتابعة لأنها من فعل الله لا من فعل المكلف فلا يستطيع احد ان يلقي في نفسه محبة احد ولا بغض احد ، وانما تحدث المحبة باسباب اخر خارجة عن نفس إرادة الانسان كما قال الله تعالى : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) (٢) فلا تكون المحبة بهذا المعنى مطلوبة من المكلف لعدم قدرته عليها وقبح تكليف الانسان بما ليس في وسعه ، والحاصل ان هذه المودة قبل حصولها لا تطلب من المكلف لخروجها عن طاقته وبعد حصولها له لا معنى لطلبها منه ، لأنه تحصيل حاصل وهو ممتنع ، ولأن المطلوبية تقتضي

__________________

(١) اسعاف الراغبين ص ١١٨.

(٢) النساء : ١٢٩.

٥٩٣

التكليف وهو يستلزم المشقة ولا مشقة في المودة بعد حصولها ، وانما المشقة في تركها فلا فائدة في التكليف بها حينئذ فيتعين ان المطلوب هو المودة بالمعنى الأول ، عنى المتابعة لأنها هي المقدور عليها والحصول المشقة فيها وتعلّق فائدة التكليف وهو بيان المطيع من العاصي بها ، فالتكليف بها حسن ويشير الى ما ذكرنا قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيما رواه ابن خالويه : (من مات على حب الى محمد مات شهيدا الا ومن مات على حب آل محمد مات مؤمنا الا ومن مات على حب آل محمد يزف الى الجنة كما تزف العروس الى زوجها) (١) لعدم حصول الايمان وغيره من المذكورات بدون المتابعة في القول والعمل اذ لو كان المراد غير المتابعة من المحبة في الخبر لاستحق ما ذكر الفساق بل الكفار اذا حصل لهم حالة تقتضي الميل الى آل محمد وهذا باطل البتة ، فالمعنى من مات على متابعة آل محمد مات شهيدا الخ نعم المودة بمعنى المتابعة يحصل منها المعنى الآخر لأن متابعة شخص لآخر وقبول قوله ورضاه بحكمه مما يبعث على زيادة الميل إليه والأخذ عنه واقتفاء آثاره في افعاله فاذا تكررت صارت صفة حاصلة في النفس حتى تصير ملكة كباقي الملكات لا ينكر هذا ذو روية ، ومن جملة ما حررناه تبين وتعين ان المراد بالمودة في القربى هي متابعتهم ، واذا وجبت متابعتهم في الأقوال والأفعال وجب ان يكونوا هم الأئمة اذ لا مفروض طاعته غير الامام ولا يجب اتباعه على التعيين الا الرئيس العام ، على ان حمل الآية على المعنى الثاني من المودة لا يضرنا في الاستدلال بها على المقصود ، لأن فرض المتابعة وفرض ما لأجله تحصل المتابعة سيان في

__________________

(١) ونقله كل من الزمخشري والرازي في تفسير أية المودة من تفسيريهما وعلق الرازي على هذا الحديث بقوله : «آل محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) هم الذي يئول امرهم إليه ، فكل من كان امرهم إليه اشد واكمل كانوا هم الآل ، ولا شك ان فاطمة وعليا والحسن والحسين كان التعلق بينهم وبين رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اشد التعلقات وهذا كالمعلوم بالنقل المتواتر فوجب ان يكونوا هم الآل».

٥٩٤

افادة ايجاب الطاعة وانما ذكرنا ما ذكرنا لبيان ان المودة في الآية لا يصح جعلها بمعنى الحالة المستلزمة للمتابعة لمكان المطلوبية ولا يطلب غير المقدور والا فالآية على الاطلاق تدل على مطلوبنا.

ومما يناسب المقام ما اخرجه السلفي عن محمد بن الحنفية في قوله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) (١) انه قال : لا يبقى مؤمن الا وفي قلبه ود لعلي (عليه‌السلام) واهل بيته ، قال في الاسعاف : وذكر النقاشي في تفسيره انها نزلت في علي (٢) (عليه‌السلام) فيكون المراد ان محب علي واهل بيته لا بد ان يكون مؤمنا ، وان المؤمن لا محالة يكون مودا لهم ومبغضهم ليس بمؤمن البتة فصح ان الايمان لا يتم الا بمتابعتهم ، وما لا يتم الايمان الا بمتابعته فهو امام بلا شك.

وما ورد بلفظ الاعتصام ما اخرجه الثعلبي في تفسير قوله تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً) عن جعفر الصادق انه قال : (نحن حبل الله) وهو مناسب لما تقدم من جعل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الكتاب والعترة حبلين ممدودين (٣) وفي معناه ما رواه في الاسعاف عن جماعة من اصحاب السنن عن عدة من الصحابة ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : (مثل اهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجيء ومن تخلف عنها هلك) ، وفي رواية (غرق) ، وفي اخرى (زج في النار) قال : وفي اخرى عن ابي ذر زيادة وسمعته يقول : (اجعلوا اهل بيتي منكم مكان

__________________

(١) رواه لمحب في الرياض ٢ / ٢٠٧ عن محمد بن الحنفية ـ كما في المتن ـ وقال : «أخرجه الحافظ السلفي ، وكذلك رواه ابن حجر في الصواعق ص ١٠٢ والشبلنجي في نور الأبصار ص ١١٢.

(٢) اسعاف الراغبين ص ١١٠.

(٣) الصواعق ص ٩٠ ـ كما في المتن ـ واسعاف الراغبين ص ١١٠.

٥٩٥

الرأس من الجسد ومكان العينين من الرأس ولا يهتدى الرأس الا بالعينين). (١)

أقول : وهذه الأحاديث مصرحة بوجوب اتباع العترة والاقتداء بهم ، ناصّة على نجاة متبعهم وهلاك مخالفهم ، وان الهداية لا تحصل الا بهم ، لأن الاعتصام والركوب وجعلهم كالعينين من الرأس كله كناية عن متابعتهم وعبارة عن الأخذ بقولهم لا معنى له غير ذلك ، وهذه هي الامامة بعينها اذ لا يجب على المكلفين متابعة غير الامام ، فهذه من اوضح النصوص على إمامة العترة وبطلان اقوال جميع من سواهم من الناس مما يخالف اقوالهم وفسادها ، لأن من عمل بقول غيرهم أو مخالفهم في قول او عمل فقد ترك الاعتصام بحبل الله وتخلف عن سفينة النجاة ، وتبع العجز وترك الرأس ومن كان كذلك زج في النار فاين يذهب بابن ابي الحديد واصحابه والأشعري وفريقه ومن اعرض عن اهل البيت ، وقدم عليهم غيرهم ، وفضله عليهم مع علمهم بورود هذه الأدلة أليسوا بذلك قد تعمدوا الهلاك واقتحموا في غمرة الضلال فتراهم يكفرون من لعن احدا من الصحابة ولا يكفرون معاوية وتابعيه اذ لعنوا امير المؤمنين (عليه‌السلام) واولاده وهو تاج الصحابة وسيد المسلمين مع اشتهار قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيه بينهم (من سبك فقد سبني ومن سبني فقد سب الله) (٢) وهذا من ادل الأدلة على تركهم العمل بمضمون ما رووه في حق اهل البيت (عليه‌السلام) ، واعراضهم عنه على عمد ، ومن اعجب الأمور انكارهم النص عليهم والوصية من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) واي نص اصرح من هذه النصوص واي وصية ابلغ من هذه الوصية؟ وما ادري لو أراد احد ان يوصي بمتابعة آخر عند هؤلاء ما ذا يقول باجلا من هذه الأقوال ينطق كلا ؛ ولكنهم مالوا عن الحق

__________________

(١) اسعاف الراغبين ص ١١١.

(٢) مستدرك الحاكم ٣ / ١٢١.

٥٩٦

واعرضوا عنه صفحا.

ومما ورد في ان الولاية والوصية والوراثة في اهل البيت قول امير المؤمنين في بعض خطبه في النهج : (لا يقاس بآل محمد من هذه الأمة احد ولا يسوي بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا هم اساس الدين وعماد اليقين إليهم يفيء الغالي وبهم يلحق التالي ولهم خصائص حق الولاية وفيهم الوصية والوراثة الآن اذ رجع الحق الى اهله ونقل الى منتقله) (١) الخطبة والمراد بالولاية ولاية النبي (عليه‌السلام) على الأمة بقوله تعالى : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) (٢) وهذه هي الامامة ، والمراد بالوصية وصية النبي (عليه‌السلام) بمتابعتهم ونصه عليهم بالامامة ، والمراد بالوراثة وراثة العلم والمنزلة وهي الامامة اذ لا نبوة بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وليس كما ذكره ابن ابي الحديد من ان الوصية ليست النص والخلافة ، بل هي امور اخر كما تقدم ذكره عنه اذ لا تمدح ولا فضيلة في الوصية بدون الخلافة من الأمور التي عظمها هناك ، وليس مقصود امير المؤمنين (عليه‌السلام) من الكلام كله الا اظهار إمامة الآل وتقدمهم على جميع الأمة بسبب ولاية الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ووصيته إليهم بالأمر ، ولهم بالطاعة من الأمة والمتابعة ، ولو كان غير ذلك لما كان فيه عظيم خطر يوجب ألا يقاس بهم احد ، فقد اوصى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الى كثير من اصحابه في امور عهد إليهم في اشياء كثيرة كسلمان وابي ذر وحذيفة وعمار حين قال له : (تقتلك الفئة الباغية) (٣) وغيرهم من الصحابة يطول تعدادهم وعهد الى جملة من الانصار أن يقاتلوا مع علي الناكثين والقاسطين

__________________

(١) نهج البلاغة من الخطبة ٢.

(٢) الأحزاب : ٦.

(٣) صحيح البخاري كتاب الطلاق. وكتاب الجهاد والسير وصحيح مسلم كتاب الفتن ٨ / ١٨٥ فما بعدها من عدة طرق.

٥٩٧

والمارقين كما روى عن ابي أيوب الأنصاري (١) وقد روى المعتزلي وغيره ، ذلك ولم يقل احد انهم اوصياء رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لذلك ، وعهد الى عائشة والزبير (٢) انهما يخرجان الى قتال علي (عليه‌السلام) وهما له ظالمان ، واخبر عائشة انها تركب الجمل الازب وتنبحها كلاب الحوأب يقتل حولها قتلى كثير كلهم في النار وتنجو بعد ما كادت رواه المعتزلي (٣) وغيره ، وأخبر معاوية على ما رووا انه يلي الأمة ويتخذ السنة بدعة والبدعة سنة (٤) الى غير ذلك ، ولم يصر احد من هؤلاء وصي رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بذلك فليس المراد من الوصية الا النص والخلافة ، لأنهما هم المتبادران من قولنا : فلان وصي النبي ، وأيضا ان مقام المدح يقتضي اختصاص الممدوح بتلك الصفة دون غيره ، ومن المعلوم ان امير المؤمنين (عليه‌السلام) قصد اختصاص اهل البيت بهذا الوصف

__________________

(١) عهد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لأبي أيوب الأنصاري بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين مروي في كثير من الكتب منها مستدرك الحاكم ٣ / ١٣٩ واسد الغابة ٤ / ٣٤ وتاريخ بغداد للخطيب ٨ / ٣٤٠ و ١٣ / ١٨٦ في حديث طويل لعلقمة والأسود مع ابي أيوب الأنصاري ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٧ / ٢٣٨ و ٩ / ٢٣٥.

(٢) تقدم عهد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لأم المؤمنين عائشة بقول لأزواجه : (ايتكن صاحبة الجمل الأدبب) الخ وقوله لها : (اياك ان تكوني انت) قد تقدم كما تقدم عهده (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) للزبير : (اما انك ستقاتله وانت ظالم له).

(٣) شرح نهج البلاغة ٩ / ١٩١ ورواه ابن عبد البر في الاستيعاب ٤ / ٤٦١ بعين الألفاظ المذكورة في المتن الا انه ذكر مكان «الأزب» «الأديب» ومعنى الأدبب الطويل الوبر وفي بعضها «الأذنب» وهو طويل الذنب.

(٤) شرح نهج البلاغة ٤ / ٧٩ قال روى العلاء بن حريز القشيري ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال لمعاوية : (لتتخذن يا معاوية البدعة سنة والقبيح حسنا اكلك كثير وظلمك عظيم).

٥٩٨

واخويه دون من سواهم من الأمة كما يصرح بذلك قوله في اوّل الكلام : (لا يقاس بآل محمد من هذه الأمة احد ولا يسوى بهم من جرت نعمتهم عليه) ثم ذكر ما لهم من الأوصاف التي اختصوا بها ولم تكن في غيرهم حتى يصح ما قاله من عدم مقايسة غيرهم بهم وعدم تسويته بهم فقال : (هم اساس الدين) الى آخر الأوصاف التي من جملتها ان فيهم الوصية ، ولو شاركهم غيرهم في هذه الصفات اذن لارتفع المدح بزوال الاختصاص ، ولم يقع الكلام موقعه والوصية ببعض الامور كما ذكر الخصم لا يختصون بها لما ذكرناه من ايصاء النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بامور مخصوصة لأناس كثير من اصحابه بالخصوص ولجملتهم بقوله : (خلفت فيكم الثقلين) وقوله : (اخرجوا المشركين من جزيرة العرب حتى لا يبقى فيها الا مؤمن) او قال : (مسلم موحد واجيزوا الوفد بمثل ما أجيزه) وقوله : (كفنوني في كذا وكذا وادخلوا علي فوجا فوجا للصلاة علي) ولقريش خاصة بقوله : (اوصيكم بالأنصار خيرا فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم) (١) وكثير من امثال هذا ، ولما كانت الوصية ببعض الأمور ليست مما تميزوا بها عن غيرهم واختصوا بها دون من سواهم وجب حمل الوصية على ما لم يشاركهم فيه غيرهم ، وليس الا النص والخلافة وثبت المطلوب واما قول ابن ابي الحديد : لعلها اي تلك الأمور اذا لمحت اشرف واجل يعني من النص والخلافة ، فهو باطل مخدوش اذ لا منصب اجل من الامامة ، ولا منزلة أشرف من الخلافة ، فانها مقام الأنبياء ومنزلته الأولياء الأصفياء قال الله تعالى لابراهيم : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ

__________________

(١) هذه الوصايا وردت عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في كثير من الكتب وقد مر حديث الثقلين ، وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (اخرجوا المشركين من جزيرة العرب» رواه الطبري في تاريخه ٦ / ١٨٠٦ ليدن ، وابن ابي الحديد في شرح نهج البلاغة ١٣ / ٣١ عن تاريخ الطبري.

٥٩٩

إِماماً) (١) فمن عظمها عنده قال : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) يعني واجعل من ذريتي إماما فكان فرحه بها اعظم من فرحه بالنبوة لسر لا يعلمه ابن ابي الحديد ولا اصحابه وقال تعالى لداود : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) (٢) فاي مقام اشرف وأعلى من مقام يمن الله على انبيائه الكرام بجعلهم من اهله وإعطائهم اياه ، ولعمري ما عرف ابن ابي الحديد واصحابه قدر الامامة ، بل ولا فهموا معناها وانما فهموا منها ما فهمه بعضهم حيث جعلها من امور الدنيا ولم يدر انها الشرف الأسنى ، والمقام الأعلى الذي لا يصلح له الا الأنبياء وكرام الأوصياء ، وان جميع الأمور الدينية والدنيوية تبع لها ، والأعمال مشروطة بها ومنوط صحتها بمعرفتها ، وان (من مات ولم يعرف امام زمانه مات جاهليا) ولو عرف المعتزلي ذلك حق المعرفة لما تفوه بما قال ولما حكم بان غير المنصب من الله والمنصوص عليه من رسول الله اهل للامامة ، فقد لعمر الله جهل هو واصحابه مقامها ، وصغروا قدرها ، وهونوا امرها ، وحقروا جلالتها ، ووضعوا شرفها ، وجعلوا امرها إليهم وزمامها بايديهم ، وهي التي جعلها الله لرسله واوصيائهم ، واختص بها انبيائه والأصفياء من اوليائهم فقال : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) وكذلك الوراثة كما ذكرنا ليس كما قال ابن ابي الحديد : انها وراثة العلم خاصة ، لما بيناه في لفظ الوصية لأن الكلام يقتضي اختصاصهم بالوراثة دون سائر الأمة وعدم مشاركة احدهم فيها ، اذ لو لا ذلك لما كانوا هم الوارثين خاصة ؛ بل هم شركاء غيرهم وحملها على وراثة العلم يزيل الاختصاص فان كثير من الصحابة قد أخذوا عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) علما ورواية كعبد الله بن مسعود وسلمان وابي ذر والمقداد وعمار وابي بن كعب وجابر بن

__________________

(١) البقرة : ١٢٠.

(٢) ص : ٢٦.

٦٠٠