منار الهدى في النصّ على إمامة الأئمّة الإثني عشر

الشيخ علي البحراني

منار الهدى في النصّ على إمامة الأئمّة الإثني عشر

المؤلف:

الشيخ علي البحراني


المحقق: السيد عبدالزهراء الخطيب
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار المنتظر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٢٠

اختار ، فلو نظرت قريش من حيث نظر الله لها لوفقت واصابت ، فقال عمر : على رسلك يا بن عباس أبت قلوبكم يا بني هاشم إلا غشّا في أمر قريش لا يزول ، وحقدا عليها لا يحول ، فقال ابن عباس : مهلا يا امير المؤمنين لا تنسب قلوب بني هاشم إلى الغش فان قلوبهم من قلب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الذي طهره الله وزكاه ، وهم اهل البيت الذين قال الله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (١) وأما قولك : حقدا فكيف لا يحقد من غصب شيئه ويراه في يد غيره ، فقال عمر : اما انت يا عبد الله فقد بلغني عنك كلام اكره ان اخبرك به فتزول منزلتك به عندي ، قال : ما هو يا امير المؤمنين اخبرني به فان يكن باطلا فمثلى أماط الباطل عن نفسه وان يك حقا فان منزلتي عندك لا تزول به؟ قال : بلغني انك لا تزال تقول اخذ هذا الأمر منا حسدا وظلما قال : اما قولك حسدا ـ الى ان قال ـ : وأما قولك ظلما فأمير المؤمنين يعلم صاحب الحق من هو ، ثم قال يا امير المؤمنين ألم تحتج العرب على العجم بحق رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) واحتجت قريش على سائر العرب بحق رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فنحن احق برسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من سائر قريش ، فقال عمر : قم الآن فارجع الى منزلك فقام الخبر (٢).

قلت والشاهد على المدعي في مواضع من الخبر.

الأول قول ابن عباس : ان الله اختار من خلقه لذلك من اختار ، فانه صريح في ان هناك منصوصا عليه بالامامة ، معينا لها من الله ورسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اذ لا علم لعمر ولا ابن عباس بان الله اختار لهذا الأمر

__________________

(١) الأحزاب : ٣٣.

(٢) شرح نهج البلاغة ١٢ / ٥٢.

٥٠١

واحدا معينا الا من اخبار الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وذلك هو النص ، وابن عباس لم يقصر علم ذلك على نفسه ، بل قال لعمر : وقد علمت ذلك ، فأتى بقد المفيدة لتحقق الفعل ولا منصوص عليه الا علي (عليه‌السلام) ، وما يريد ابن عباس بما ذكر احدا غيره.

الثاني قوله : فكيف لا يحقد من غصب شيئه ويراه في يد غيره ، فانه صريح في ان الخلافة حق اهل البيت وقد اخذت منهم غصبا ، واذا لم يكن هناك نص على واحد معين منهم بان الخلافة له كيف يتحقق الغصب.

الثالث قوله : أخذ منا هذا الأمر حسدا وظلما ، وتقريره كسابقه.

الرابع قوله : امير المؤمنين يعلم صاحب الحق من هو ، فان علم عمر بصاحب الحق ومن له الأمر بالتعيين بدون نص من الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) غير ممكن كما لا يخفى ، فيجب ان يكون علمه بذلك من طريق النص وذلك هو المطلوب ثم ان عمر لن ينكر شيئا مما ادعا ابن عباس عليه علمه به فدل على انه كان عالما به لكنه لما عرف العجز من نفسه عن جواب حجة عبد الله بن العباس امره بالرجوع الى منزله حذرا منه ان يظهر من فساد امرهم اكثر مما اظهر ، ثم ان في قول عمر : كرهت قريش ان تجتمع لكم النبوة والخلافة ، ما يشير الى وجود النص لأنه يومي الى أن قريشا علمت بان الخلافة في بني هاشم باخبار النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فصرفوها عنهم الى من ارادوا مخالفة للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) هذا ما يتعلق بالدلالة على مدعانا.

واما ما يدل على بطلان كلام ابن ابي الحديد ورد دعواه من الخبر فهو في مواضع.

الأول قول عمر : كرهت قريش الى تمام الجملة ، فان صريحه ينطق بان

٥٠٢

قريشا لم تعدل بالخلافة عن بني هاشم لخوف امر يحدث في الدين ، ولا لحذر ثلم يكون في الاسلام ، وانما كان ذلك لكراهة تأمير قرابة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وتشريفهم ، وهو عين العداوة لهم.

الثاني قوله : فنظرت قريش لأنفسها ، فانه صريح في ان القوم لم يصرفوا الخلافة عن بني هاشم نظرا منهم للدين ، وحماية منهم على الاسلام ، وانما فعلوا ذلك نظرا لأنفسهم في امر دنياهم ليتشرفوا بالامارة ، وهذا كما ترى مناقض لما تقدم من قول المعتزلي : ان القوم ارادوا بما فعلوا الدين لا الدنيا ولم يميلوا الى هوى ، وانهم نظروا في ذلك الى مصلحة الاسلام ، فقد كذب قوله ، والكلامان منافيان أيضا لما قاله المتكلم في الخبر السابق من ان المانع لقريش من مبايعة علي (عليه‌السلام) استصغارها سنة ، وعنه اخذ اتباعه التنافي والتناقض في اقوالهم.

الثالث قوله : ابت قلوبكم يا بني هاشم إلا غشا في امر قريش الخ. فانه صريح في ان عمر كان مطلعا على كراهة بني هاشم لخلافته وخلافة صاحبه ، ومن استخلفهما ورضي بخلافتهما ، وبقاء حقدهم عليهم.

الرابع قول ابن عباس ، فكيف لا يحقد من غصب شيئه فانه صريح في حقد بني هاشم على من تولى الأمر دونهم واخذ ذلك الشيء منهم وهذا كله مضاد لقول ابن ابي الحديد : ان عليا (عليه‌السلام) رضي بخلافة الرجلين ، ورءاها صلاحا أفيرضي علي (عليه‌السلام) ويحقد ابن عباس وباقي بني هاشم وهم ذلك الوقت لا يطلبون الخلافة الا له وليس فيهم من يجيز لنفسه التقدم عليه في اقل الأمور.

الخامس قوله : اخذ منا هذا الأمر حسدا وظلما ، وهو كسابقه في المعنى وهذا الخبر مضمونه نص مذهب الامامية فليصدق ابن ابي الحديد حديثه أو يكذبه ففي كلا الأمرين لنا عليه الفلج.

٥٠٣

ومنها : ما رواه ابن عباس أيضا قال : خرجت مع عمر الى الشام في احدى خرجاته فانفرد يوما يسير على بعيره فاتبعته ، فقال : يا بن عباس اشكو أليك ابن عمك سألته ان يخرج معي فلم يفعل ولا ازال اراه واجدا أفيم تظن موجدته؟ قلت : يا امير المؤمنين انك لتعلم ، قال : اظنه لا يزال كئيبا لفوت الخلافة ، قلت : هو ذاك انه يزعم ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اراد الأمر له ، فقال : يا بن عباس واراد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الأمر له فكان ما ذا اذا لم يرد الله تعالى ذلك ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اراد امرا واراد الله غيره فنفذ مراد الله ولم ينفذ مراد رسوله ، أو كلما اراده رسول الله كان انه اراد اسلام عمه (١) ولم يرده الله فلم يسلم (٢).

اقول غير خفي على ذوي الفطن ان معنى قول عبد الله بن عباس : ان رسول الله اراد الأمر له انه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عين عليا (عليه‌السلام) للخلافة وقصرها عليه من بعده ، وهذا هو النص المدعي ودل الخبر على ان عليا (عليه‌السلام) لا يزال واجدا على عمر وان موجدته عليه لانه خالف امر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيه ونصه عليه وعمر قد اقر بجميع ذلك في الخبر مرتين صريحا.

والثالثة اشارة وادعاء مع ذلك ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اراد غير ما اراد الله ولا ادري كيف ينسب الى رسول الله (صلى الله

__________________

(١) المراد بعمه ـ هنا ـ ابو لهب فان مسألة اسلام ابي طالب لم تثر الا في زمن الأمويين ، وركز عليها العباسيون والدليل على ذلك ان معاوية على كثرة ما جرى بينه وبين امير المؤمنين (عليه‌السلام) من المراسلات والمساجلات لم يذكر ذلك لأنه لم يكن معروفا لديه.

(٢) شرح نهج البلاغة ٢ / ٨٧.

٥٠٤

عليه وآله وسلم) إرادة ما لم يرده الله وهو الذي يقول الله فيه : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (١) ويقول فيه : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) (٢) ـ ويقول فيه : (قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي) (٣) وغير ذلك ولا ادري أما يريد بقوله ذلك أن يقول بالجبر في الأفعال أو انه لا يدري ما معنى الإرادة فيذهب الى ان كلما وقع فهو مراد الله فكفر أبي جهل عنده مراد الله ومخالف لإرادة رسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وكذلك كفر ابي لهب وان عدم اسلامه مراد الله ومخالف لمراد رسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فخلافة ابي بكر وخلافته ارادها الله ولم يردها رسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم)!! وها نحن نبين معنى الإرادة ونشرح مفهومها فنقول : للإرادة في الكتاب والسنة معان ثلاثة.

الأول الإرادة الأمرية الصادر عنها التكاليف فهي الأمر بالشيء من حيث المحبوبية وتقابلها الكراهة وهي النهي عن الشيء من حيث المبغوضية ، وعليها تدور الطاعة والمعصية والمخالفة والموافقة ، وعليها يترتب الثواب والعقاب ، ومن الإرادة بهذا المعنى قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (٤) وقوله تعالى : (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) (٥) وقوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) (٦) على احتمال هذه الإرادة مخالفتها ممكنة غير ممتنعة وضدها كذلك اذ لا جبر في التكليف على المكلفين ، والنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لا يخالف هذه الإرادة ابدا لأن مخالفتها

__________________

(١) النجم : ٤.

(٢) الحاقة : ٤٥ و ٤٦.

(٣) الأعراف : ٢٠٣.

(٤) البقرة : ١٨٥.

(٥) النساء : ٢٧.

(٦) النساء : ٢٨.

٥٠٥

معصية وهو معصوم عن العصيان ، بل أرادته (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) دائما تابعة لارادة الله لا يعصي لله امرا ، فلما كان (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قد اراد عليا (عليه‌السلام) للأمر علمنا ان الله سبحانه وتعالى اراده له بمعنى أمر نبيه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بنصبه فنصبه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كما تضمنه الخبر ، وقول الشيخ مستلزم لأن رسول الله قد خالف إرادة الله وعصى امره لأن الله امر بنصب ابي بكر وهو عين عليا (عليه‌السلام) ونسبة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الى مخالفة امر الله كفر بما انزل الله تعالى في محكم كتابه.

الثاني الإرادة الفعلية وهي عبارة عن ايجاد الشيء ومنه قوله تعالى : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (١) ولا تعلق لهذه الإرادة بامر التكليف ، ولا يستطيع أحد ردها ولا مخالفتها لأنها فعل من افعال الله تعالى القادر على ما يشاء ، ولا يجوز ان ينسب احد الى مخالفة هذه الإرادة اذ لا قدرة لأحد على ذلك ، حتى يقال : ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اراد ما لم يرده الله.

الثالث الإرادة العلمية ومعناها علم الله بما يصدر من المكلف طاعة أو معصية ، ووقت ذلك ومكانه ومتعلقه لا بمعنى المحبوبية والمبغوضية وعليها يحمل قوله تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) (٢). وقوله تعالى : (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) (٣) وهي قد توافق الإرادة الأمرية كما في المطيع ،

__________________

(١) النحل : ٤٠.

(٢) الأنعام : ١٢٥.

(٣) المائدة : ٤١.

٥٠٦

وقد تخالفها اذ لا ملازمة بينهما كما في العاصي ، وبهذا البيان يرتفع الجبر في الأفعال ، وهذه الإرادة هي التي كانت متعلقة بهم فان الله علم انهم يخرجون بسوء اختيارهم عن الطاعة وقبول الأمر الصادر من الله ومن رسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بالائتمام بعلي (عليه‌السلام) والانقياد لطاعته بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فهم قد خالفوا إرادة الله الأمرية وإرادة رسوله كذلك في امر الامامة ، ووافقوا إرادة الله العلمية بانهم يكونون عاصين فاذا كان اراد من قوله في الخبر ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أراد أمرا واراد الله غيره ان الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أمر عن أمر الله بطاعة علي (عليه‌السلام) من بعده وعلم الله انا لا نطيعه في امره فقد صدق لكن ذلك لا ينفعه ولا يجدي له عند الله عذرا ، وقد وضح لك ان الخبر المذكور ناطق بصدور النص من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على علي (عليه‌السلام) وان القوم قد خالفوه احالة على المقادير ، وبئست تلك المعاذير ، ومثل هذا الحديث ما قدمناه أولا من قول عمر في حديث ابن ابي طاهر : ولقد اراد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ان يصرح به في مرض موته فمنعته وقد مر عليك مبينا بأوضح بيان فراجعه.

ومنها ما رواه عن ابي بكر الجوهري مسندا عن ابن عباس قال مر عمر بعلي (عليه‌السلام) وعنده ابن عباس بفناء داره فسلم فسألناه اين تريد؟ فقال : مالي بينبع ، فقال علي (عليه‌السلام) : أفلا نصل جناحك ونقوم معك؟ قال : بلى؟ فقال لابن عباس : قم معه ، قال : فشبك اصابعه في اصابعي ومضى حتى اذا خلفنا البقيع ، قال : يا بن عباس اما والله ان كان صاحبك هذا لأولى الناس بالأمر بعد وفاة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الا أنّا خفناه على اثنتين ، قال ابن عباس : فجاء بمنطق لم أجد بدا معه من مسألته عنه ، فقلت : يا امير المؤمنين ما هما؟ قال : خشيناه على

٥٠٧

حداثة السن وحبه بني عبد المطلب (١) وهو صريح في المطلوب لأنّ اولوية (عليه‌السلام) بالأمر لا يعلم الا من جهة النص ، ثم ان الخبر متضمن لأمرين مخالفين لقول الخصوم.

الأول ان القوم لم يكونوا ناظرين اذ منعوا عليا (عليه‌السلام) من خلافة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الى مصلحة تعود الى الدين وانما هو لأمر راجع الى هوى النفس وهو كون علي صغير السن ، ومحبا لبني عبد المطلب ، وان الأولى بالخلافة من يكون كبير السن ويكون مبغضا لبني عبد المطلب ، وأي مصلحة للدين في هذا.

الثاني ان القوم كانوا مبغضين لقرابة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بغضا شديدا حتى جعلوا بغضهم شرطا في الامام وهذا يقتضي انهم لم يقدموا من قدموه الا لعلمهم بشدة بغضه لقرابة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وهذا عين ما تقوله الامامية لا يزيدون عليه حرفا ، فاين قول ابن ابي الحديد وامثاله : ان القوم لم يفعلوا ما فعلوا الا النظر للدين؟ وما باله يروي هذا الكلام ويغضي عن معناه كأنه لا يفهمه وهو اصرح من ان يخفى على مثله؟ فالحمد لله الذي اظهر الحق لأهله.

ومنها ما رواه عن ابي بكر الجوهري قال : وحدثني ابو زيد قال : حدثنا هارون بن عمر باسناد رفعه الى ابن عباس قال : تفرق الناس ليلة الجابية عن عمر فسار كل واحد مع الفه ، ثم صادفت عمر تلك الليلة في مسيرنا فحادثته فشكى الى تخلف علي عنه ، فقلت : الم يعتذر أليك؟ قال : بلى ، فقلت : هو ما اعتذر به ، قال : يا بن عباس ان اوّل من ريثكم عن هذا الأمر ابو بكر ان قومكم كرهوا ان يجمعوا لكم الخلافة والنبوة ، قلت : لم

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٢ / ٧ و ٥ / ٥٠ مع اختلاف في بعض الألفاظ.

٥٠٨

ذاك يا امير المؤمنين الم ننلهم خيرا؟ قال : بلى ولكنهم لو فعلوا لكنتم عليهم خجفا خجفا (١).

اقول : ما في هذا الخبر قد تضمنه حديث ابن عمر المتقدم وتوضيحه يعرف مما ذيلنا به ذلك الخبر.

ومنها ما رواه ان عمر قال لعبد الله بن عباس يوما : ما منع قومكم منكم ، قلت : لا اعلم يا امير المؤمنين ، قال ، اللهم غفرا ان قومكم كرهوا ان تجتمع لكم النبوة والخلافة فتذهبوا في السماء بذخا وشمخا ، لعلكم تقولون : ان أبا بكر اراد الإمرة عليكم وهضمكم كلا ، لكنه حضره أمر لم يكن عنده أحزم مما فعل ولو لا رأي ابي بكر في بعد موته لأعاد امركم إليكم ، ولو فعل ما هناكم مع قومكم انهم لينظرون إليكم نظر الثور الى جازره (٢) اقول أي مصلحة للدين وأي صلاح للمسلمين في عدم اجتماع النبوة والخلافة في بيت واحد؟ وأي مفسدة للدين واهله في اجتماعهما في ذلك البيت؟ وكيف تكره قريش ما احبه الله من اجتماع النبوة والخلافة في بيت واحد؟ ومتى وجدنا احدا من اهل بيت النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) تكبر وتجبر وخرج عن قانون التواضع وحيز الرزانة حتى ينسبهم الى ما لا يجوز ان ينسب الى سائر المؤمنين! أليس هذا كله تصريحا بمخالفة الله ورسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وكاشفا عن بغض شديد لبني هاشم ، ثم ان الخبر مصرح بوجود النص على علي (عليه‌السلام) ، وأن أبا بكر إذ عهد الى عمر انما هو لهوى له فيه لا بجهله بصاحب الأمر من هو وذلك في قوله : ولو لا رأي ابي بكر فيّ لأعاد إليكم امركم ، لأن الاضافة هنا اما للملك او للاختصاص ، وعلى كلا الوجهين يفيد الكلام ان الأمر يعني

__________________

(١) المصدر السابق ٢ / ٨٧ والخجف : الكبر ، وقد تقدم.

(٢) نفس المصدر ١٢ / ٩.

٥٠٩

الخلافة حق لأهل البيت وليس لغيرهم فيها نصيب ، وكونها حقا لهم لا يعلم الا من النص ولا منصوص عليه منهم بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الا علي (عليه‌السلام) ، فتبين من القول ان أبا بكر إذ تأمر على أهل البيت يعلم ان الحق لهم وكذلك من ولي الأمر بعده وقوله : ولو فعل ما هناكم مع قومكم الى آخره نص في ان اولئك الصحابة من المهاجرين كانوا معتمدين مخالفة علي (عليه‌السلام) ومخالفة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيه ، ومنطوين على عدم اطاعته ان ولي الأمر كائنا ما كان لبغض مقيم عليه في قلوبهم ، وحسد قديم له لا لصلاح الدين ولا لخوف انتقاض العرب ، ولا لغير ذلك مما قاله في بعض كلامه ، وهذا القول منه من شواهد مدعانا عليهم ، فقد تبين صدق قولنا من قول عمر وثبت ما نقول ان القوم اخذوا الخلافة وهم يعلمون انها حق علي (عليه‌السلام) بنص الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم).

ومنها ما قال ابن ابي الحديد : حدثني الحسين بن محمد الشنى قال : قرأت على ظهر كتاب ان عمر نزلت به نازلة فقام لها وقعد وترنح لها وتقطر ، وقال لمن عنده معشر الحاضرين ما تقولون في هذا الأمر ، فقالوا يا امير المؤمنين انت المفزع والمنزع ، فغضب وقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) (١) ثم قال : أما والله اني واياكم لنعلم ابن بجدتها (٢) والخبير بها قالوا : كأنك اردت ابن ابي طالب : قال : وانى يعدل بي عنه ، وهل طفحت حرة بمثله ، قالوا : فلو دعوت به يا امير المؤمنين ، قال : هيهات ان هناك شمخا من هاشم ، واثرة من علم ولحمة من رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يؤتى ولا يأتي فامضوا بنا إليه ، فاقصفوا نحوه

__________________

(١) الأحزاب : ٧٠.

(٢) القيامة : ٣٦.

٥١٠

وافضوا إليه ، فالفوه في حائط له عليه تبان وهو يتركل على مسحاته ويقرأ : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) (١) الى آخر السورة ، ودموعه تهمى على خديه ، فاجهش الناس لبكائه فبكوا ثم سكت وسكتوا فسأله عمر عن تلك الواقعة فاصدر جوابها فقال عمر : أما والله لقد ارادك الحق ولكن ابى قومك ، فقال : يا أبا حفص خفض عليك من هنا وهنّا : (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً) (٢) فوضع عمر احدى يديه على الأخرى واطرق الى الأرض وخرج كأنما ينظر في رماد.

وهذا الخبر كما ترى مصرح بان امير المؤمنين كان ينسب القوم في تقدمهم عليه الى الظلم ، ويعدهم بالمطالبة يوم الفصل ، وحسبنا ذلك فيما ندعى ، وانكار ابن أبي الحديد للخبر لأن عليا (عليه‌السلام) كنى عمر ولم يسمه بالإمرة ، ولأن عمر مضى الى علي (عليه‌السلام) والعادة ان يرسل إليه انكار فاسد لأن العادة قد تختلف وينبغي ان يجعل هذا من جملة تواضع عمر الذي كانوا يصفونه به ، والخليفة قد يكنى خصوصا في مقام الحجة على ان ما ادعاه من ان عليا (عليه‌السلام) ما كنى عمر في خلافته ابدا وانما يدعوه بامرة المؤمنين دعوى ما اتى عليها بشهود واحالها على السير والتواريخ ، ولم يذكر حديثا على ما ادعى ، ولا ذكر في كتابه على كثرة ما ذكره من الأخبار موضعا دعا فيه علي (عليه‌السلام) عمر بامرة المؤمنين قط ، وذلك ادحض لحجته ، مع انه روى ان الزبير قد ادمى انف آذن عمر لما حجبه عنه فلما لامه عمر جعل يمطمط في كلامه يحكي كلام عمر أتفعل هكذا يا زبير! وقال مغضبا : أتحتجب يا بن الخطاب (٣) فلم يكنه فضلا عن ان يقول امير المؤمنين

__________________

(١) النبأ : ١٧.

(٢) شرح نهج البلاغة ٢ / ٧٩.

(٣) المصدر السابق ١٢ / ٤٥.

٥١١

ولم نره طعن في صحة الرواية بمخالفة العادة ، وبما فيها من الجرأة العظيمة على عمر.

وروى أيضا ان عمر لما اراد ان يوصي بالشورى واحضر الستة وقال في كل واحد ما قال انه نظر الى طلحة فقال : اقول أم اسكت؟ قال له طلحة : قل فانك لا تقول من الخير شيئا (١) ولم يستبعد ذلك بمخالفته العادة ولم ينكر الرواية لتضمنها جرأة طلحة على عمر بهذا القول الغليظ ، وليس علي (عليه‌السلام) عند عمر وعند الناس بدون الزبير وطلحة حتى يحتمل عمر منهما الجرأة الشديدة ولا يحتمل من علي (عليه‌السلام) في وقت من الأوقات ان يكنيه ولا يدعوه بامرة المؤمنين مع ان ذلك حال عن ادنى جرأة ، فسبحان الله لا يكون الرد بخلاف العادة الا لما وافق قولنا من اخبارهم ، فهذا دليل عنادهم فقد بطل انكاره.

ومنها ما رواه مرفوعا الى ابن عباس قال : دخلت على عمر يوما فقال : يا بن العباس لقد اجهد هذا الرجل نفسه في العبادة حتى نحلته رياء ، قلت : من هو ، قال : هذا ابن عمك ، يعني عليا (عليه‌السلام) ، قلت : وما يقصد بالرياء يا امير المؤمنين؟ قال : يرشح نفسه بين الناس للخلافة ، قلت : وما يصنع بالترشيح قد رشحه لها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فصرفت عنه ، قال : انه كان شابا فاستصغرت العرب سنه وقد كمل الآن ، ألم تعلم ان الله لم يبعث نبيا الا بعد الأربعين ، قلت : يا امير المؤمنين أمّا اهل الحجي والنهي فانهم ما زالوا يعدونه كاملا منذ رفع الله منار الاسلام ، ولكنهم يعدونه محروما مجذوذا ، فقال : ما انه سيليها بعد هياط ومياط (٢) ثم تزل فيها قدمه ، ولا يقضي منها اربه ، ولتكونن شاهدا

__________________

(١) نفس المصدر ١ / ١٨٥.

(٢) يقال : ما زالوا في هياط ومياط : أي ما زالوا في ضجيج واختلاف ورواح ومجيء.

٥١٢

ذلك يا عبد الله ثم يبين الصبح لذي عينين ، وتعلم العرب صحة رأي المهاجرين الأولين الذين صرفوها عنه بادئ بدء ، فليتني اراكم بعدي يا عبد الله ، ان الحرص محرمة وان دنياك كظلك كلما هممت به ازداد عنك بعدا.

قال ابن ابي الحديد : نقلت هذا الخبر من أمالي ابي جعفر محمد بن حبيب (١).

قلت : وقد اعرب هذا عما في قلبه لأمير المؤمنين (عليه‌السلام) حتى رام ابطال عباداته بنسبتها الى الرياء ليحط قدره ، ويزيل من القلوب منزلته ، ويسقط منها رتبته ، ومع ذلك فقد اقر بالنص من الرسول على علي (عليه‌السلام) حيث انه اعترف بدعوى ابن عباس ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قد رشح عليا (عليه‌السلام) للخلافة ، والترشيح للشيء التأهيل له وهو تعيينه لها ، وذلك النص ، بانها قد صرفت عنه بعد نص النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عليه ، وان اهل العقل والرأي الصحيح يعدونه محروما مجذوذا من حقه ، ولم ينكر من ذلك شيئا وذهب يتعلل في مخالفة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بما لم يزل يتعلل به من صغر السن وخوف العرب ، وما أدري ما يقول ابن أبي الحديد ومن على شاكلته اذا سئلوا أهم اعرف بالمصالح وكمال الناس أم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) حيث اهل عليا (عليه‌السلام) للخلافة وهو صغير السن ، أفيقولون ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اهله بغير امر الله فأخطأ وانهم اصابوا حيث صرفوا الأمر الى من هو اكبر منه سنا ، أم يقولون ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لا يعلم سن علي (عليه‌السلام)؟ أفليس في قوله هذا تصريح بانهم خالفوا نص رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على علي

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١٢ / ٨٠.

٥١٣

(عليه‌السلام) بآرائهم ، وما ابعد قوله : فاستصغرت العرب سنة من قوله ، وتعلم العرب صحة رأي المهاجرين الى آخره ، فان الأول يدل على ان العرب هم الذين صرفوا الأمر عن علي لصغر سنه ، والثاني يدل على ان العرب قد انكرت على المهاجرين صرف الأمر واعتقدوا بطلان رأيهم ، وانه لا يبين للعرب صحة رأي المهاجرين الأولين ، ويعلمونه الا اذا تولى علي (عليه‌السلام) الأمر وحاربه من يحاربه من بقية اولئك المهاجرين ومن يتبعهم من الطلقاء وأبناء الطلقاء ، والحاصل ان هذا الخبر مصرح بما نقول به من وجود النص على علي (عليه‌السلام) ، فهو شاهد بدعوانا وكاشف عن صحة مذهبنا بأوضح كشف واصرح بيان.

ثم ان في قول عبد الله لعمر : اما اهل الحجى والنهى فما زالوا يعدونه كاملا الخ اشارة ظاهرة الى ان الذين قدحوا في كمال علي (عليه‌السلام) بصغر السن ليسوا من اهل العقل والتمييز ، لأن اهل ذلك ما زالوا حاكمين بكمال علي (عليه‌السلام) فلو كان هؤلاء القوم منهم لحكموا بحكمهم ، والأمر كما قال عبد الله بن العباس.

واما قول عمر : انه سيليها ثم تزل فيها قدمه الخ فلا يصح لأنه ان اراد بزلة قدمه عدم طاعة اهل الضلال له فليس عليه في ذلك بأس عند الله ولا تزل قدمه اذا كان على الحق بل زلت قدم من خالفه ، فقد قاتل الكفار رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فلم يضره في دينه ونبوته خلافهم له وقتالهم اياه ، وكذلك امير المؤمنين لم تزل قدمه بقتال الضالين المكذبين ، بل كانوا هم الذين زلت اقدامهم عن الحق وكان هو الثابت القدم على الصراط القويم والهدى الواضح ، لانه يقاتل على تأويل القرآن كما قاتل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على تنزيله ، وان اراد بزلة قدمه خروجه عن الحق فهو يعلم انه مع الحق وأن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أمره بقتال

٥١٤

اولئك الأقوام ووعده انه مع الحق حتى تمنى الشيخان تلك المنزلة وسألاها النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فما ادركاها ، وقد مضى بيان ذلك ومن هذا فهم عمر سيقاتلون عليا (عليه‌السلام) فقال ما قال.

واما قضاء الأرب من الخلافة فان كان يريد ارب الدنيا فليس لعلي (عليه‌السلام) في الدنيا من ارب ، وان اراد عدم تمكنه من اقامة عمود الحق لمخالفة الفجرة امره فليس ذلك بضائر في دينه ولا بناقص ليقينه ، والدبرة على الضالين المكذبين ظفروا او ظفر بهم.

واما وعظه لابن عباس وهو يريد غيره فليته وعظ من خالف نص الرسول على علي كما اعترف به.

ومنها ما رواه عن ابي بكر الأنباري في أماليه : ان عليا (عليه‌السلام) جلس الى عمر في المسجد وعنده قوم فلما قام عرض واحد بذكره ونسبه الى التيه والعجب ، فقال عمر : حق لمثله ان يتيه ، والله لو لا سيفه لما قام عمود الاسلام ، وهو بعد اقضى الأمة وذو سابقتها وذو شرفها ، فقال له ذلك القائل : فما منعكم يا امير المؤمنين عنه؟ قال : كرهناه على حداثة السن وحبه بني عبد المطلب (١).

قلت وما رواه ابن ابي الحديد من طرق العامة مما يعطي هذا المعنى كثير فلنقتصر على ذكر ما اوردناه لحصول الكفاية.

ثم الآن نتكلم على جملة اخبار هذا الوجه بكلام عام فنقول لمنكري النص من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على علي (عليه‌السلام) : قد اشتملت هذه الأخبار على الإقرار بالنص تارة على علي (عليه‌السلام) وبأنه اولى الناس بهذا الأمر واحقهم به اخرى ، وثالثة على انه مظلوم والمظلوم لا

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١٢ / ٨٢.

٥١٥

يكون الا بأخذ حق له يختص به فيكون الخلافة على هذا حقه وان المتقدم عليه فيها ظالم له غاصب حقه ، واخرى بانه محروم وهو مثل السابق ، واخرى بان الأمر له ، واخرى بان شيئه قد غصب ، فحينئذ ان كان عمر علم بأن الخلافة حق لعلي (عليه‌السلام) وانه صاحبها واولى الناس واحقهم بها حتى يكون من اختزلها عنه غاصبا وظالما من نص الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عليه بذلك ، اما بالتعيين لها كما نقول ، وكما تضمنته جملة من اخبار هذا الباب من قول ابن عباس وعمر ، أو بما استوضحه الرجل من قصد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في اشاراته إليه ، او من جهة جمعه للخصال الحميدة كالقرابة من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، والعلم والشجاعة والسبق الى الدين وكثرة الجهاد ، وعلم من قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ان صاحب هذه الصفات هو الأولى بمقامه ، فذلك هو النص من الرسول على علي (عليه‌السلام) وثبت مدعانا وثبت مخالفتهم لنص النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في توثبهم لأخذ الخلافة ومبادرتهم الى تحصيل الامارة من مهاجرين وانصار ، وثبت رجوعهم على الاعقاب ما خلا من كان مع امير المؤمنين (عليه‌السلام) ، وجاء تصديق قوله تعالى : (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) (١) وصح ما نسبه عمر إليهم من ظلمهم عليا وغصبهم حقه ، وذلك هو مطلوبنا ومرادنا لا نزيد في القول على هذا ، وان كان عمر علم ذلك من غير نص الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فليس غير النص بطريق يعلم منه هذا فكيف ينسب إليهم الظلم والغصب فيظلمهم بهذا النسبة ، فأي الأمرين تختارون!

واما اعتذاره عن مخالفة النص على علي (عليه‌السلام) بحداثة السن فقد اجاب عنه ابن عباس واجبنا عنه فيما تقدم ، ونقول هنا : ان مقصودنا

__________________

(١) آل عمران : ١٤٤.

٥١٦

من ايراد اقوال عمر بيان أنهم خالفوا نص النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على علي (عليه‌السلام) بآرائهم واهوائهم وذلك اقرار منه بالمقصود واعتراف بالمطلوب ، فما زاد في عذره على ان اثبت حجتنا عليهم.

واما اعتذاره بخوف انتقاض العرب فقد اجبنا عنه مرارا بأوضح بيان ، ونزيد في هذا المقام فنقول له : اخبرنا أي العرب وأي الناس استشيروا في بيعة علي (عليه‌السلام) فأبوها؟ أم أي العشائر والقبائل بلغهم ان المهاجرين والأنصار بايعوا عليا (عليه‌السلام) فردوا بيعته ولم يقبلوها؟ وهل جاء منعه عن الخلافة إلا ممن حضر السقيفة ، وهل وهن امره عند الناس الا منهم ، وما آفته غيرهم ، فكيف ينسبون فعلهم الى سواهم ، ويحملونه غيرهم ، ثم لو سلمنا لك ما تدعى لاجبناك بان اللازم عليكم طاعة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ومراعاة أمره وليس عليكم ان تضل العرب او تهتدي ، والله سبحانه يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) (١) فلم لا بايعتم عليا واطعتم الله ورسوله فيه وقاتلتم من خالفه حتى تذللوا له العرب فتستقيم له الأمور وتجتمع عليه الكلمة كما فعلتم ذلك حين بايعتم غيره؟ وما لكم عصيتم وبدأتم بالمخالفة لتوهمكم ان غيركم ربما يعصي؟ هذا كله مع ما في فعلكم من مخالفة قول النبي وحكمه باجتهادكم ومن جوز لكم ذلك وسوغكموه (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) (٢)

وأما اعتذاره بحب بني عبد المطلب فهو اوهن الأعذار وأوهاها ، فانه لم يقل أحد بأنه يشترط في الامام ان يبغض قرابته ويكره عشيرته ، فليس حب الامام ذوي قرابته قادحا في صحة إمامته حتى يكون ضده شرطا لها ، ولو كان ذلك قادحا في إمامة علي (عليه الصلاة والسلام) لوجب ان يكون قادحا في نبوة

__________________

(١) المائدة : ١٠٥.

(٢) يونس : ٢٩.

٥١٧

النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لأن حبه لبني عبد المطلب متعالم مشهور ، وحثه الناس على إكرامهم تارة بالتخصيص وتارة بالتعميم ، وشدة حنوه عليهم امر ظاهر معروف ومذكور لا يجوز أن يجهله سائر الناس فضلا عن عمر بن الخطاب وعناية الله ببني عبد المطلب اكراما للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) واضحة مكشوفة حيث امره الله ان يبدأ بانذارهم ، ويفتتح دعوة الاسلام بدعائهم فقال : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (١) وأوجب لهم حقا عليه فقال : (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) (٢) ثم اوجب لهم المودة على الأمة اعظاما لهم واجلالا ، كل ذلك لتكريم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وتفخيمه ، ولقد احتج ابن عباس على عمر بذلك فما استطاع انكاره في حديث عبد الله بن عمر السابق ان ابن عباس لما قام بعد قول عمر : قم الآن فارجع الى منزلك هتف به عمر لما انصرف : ايها المنصرف إني على ما كان منك لراع حقك ، فالتفت ابن عباس فقال : ان لي عليك يا امير المؤمنين وعلى كل المسلمين حقا برسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، فمن حفظه فحق نفسه حفظ ، ومن أضاعه فحق نفسه اضاع ، ثم مضى فقال عمر لجلسائه ، واها لابن عباس ما رأيته لاحى احدا قط الا خصمه ، فمن كان هذا شأنهم يجب ان يكون حبهم شرطا في الامام لا مبطلا لامامته ، وجعل بغضهم شرطا في صحة الامامة مخالفة لله وردّا لكتابه ومراغمة لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم).

وبعد فما يكون في حب الرجل عشيرته من النقص لمرتبته عن الامامة اذا لم يخف منه لذلك جور في حكم ، ولا ايثار بمال ، ولا حيف في قسمه ، وامير المؤمنين بمعزل عن هذه التهمة ، أو لم يأن لعمر بن الخطاب ان يعلم بطول

__________________

(١) الشعراء : ٢١٤.

(٢) الاسراء : ٢٦.

٥١٨

المعاشرة لعلي (عليه‌السلام) ما هو عليه من قوة الذين ، وما هو فيه من صحة اليقين ، فيعلم بذلك ان حبه لبني ابيه لا يكون له صارفا عن اتباع الحق ، ولا مقتضيا له للميل والهوى ، ولا داعيا للجور والحيف في شيء من الأحكام ، ودع ذا أليس قد علم من قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (عليّ مع الحق والحق مع عليّ يدور معه حيثما دار) وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (وادر الحق معه حيث ما دار) (١) وقوله في قصة ماعز (اما لو كان فيكم ابو الحسن ما اخطأتم) (٢) وامثالها ان عليا لا يعدل عن الحق لقرابة ، ولا يميل للباطل لحب احد ولا لبغض احد ، فيكون اذن اجهل الناس حيث يجهل ما كان ظاهرا كلا بل علم ذلك وتيقنه ، وكيف لا وهو يقول لابن عباس في حديث رواه ابن ابي الحديد ينساق مساق ما ذكرناه في المقام من الأخبار تركنا نقله بعد ان عاب عليّا (عليه‌السلام) وانتقصه بالدعابة ، وجعلها مانعة من استحقاقه الامامة وعاب غيره بما عابه قال : ان احراهم ان وليها ان يحملهم على كتاب ربهم وسنة نبيهم لصاحبك ، اما ان ولى الأمر حملهم على المحجة البيضاء والصراط المستقيم ، فانظر الى التناقض في هذه الأقوال.

ثم نجيب عن هذه الوجوه الثلاثة فنقول : ان الله حين امر رسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بنصب علي خليفة من بعده كان عالما بحداثة سنه ، وانتقاض العرب عليه إذا ولي الأمر ـ لو انتقضوا ـ وبحبه بني عبد المطلب ، وهو اعلم بالصلاح والفساد ، فلو علم سبحانه بعدم صلاحيته للامامة لتلك

__________________

(١) اما قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (علي مع الحق والحق مع علي) رواه الخطيب في تاريخ بغداد ١٤ / ٣٢١ وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (وادر الحق معه حيث دار) رواه الترمذي ٢ / ٢٩٨ والفخر الرازي في التفسير ١ / ٢٠٥ .. الخ.

(٢) شرح نهج البلاغة ٦ / ٣٢٧ و ١٢ / ٥٢.

٥١٩

الأمور لما امر نبيه بنصبه (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) ، فوضح من جملة ما ذكرناه ان الاعتذار بحداثة السن ، وانتقاض العرب ، وحب بني عبد المطلب اعتذار مضمحل فاسد لا عذر به في مخالفة النص.

واما الاعتذار بالدعابة فهو باطل بالجواب العام عن الوجوه السابقة ، لأنه كما ترى شامل له ، وما هو الا اقتراح على الله وتطلب عليه ، ولعمري ان كانت طلاقة الوجه ، وبشاشة اللسان ، وسجاحة الأخلاق ، وظهور البشر للمؤمنين ، وكثرة الحلم عيبا مانعا من الامامة فيجب ان يكون الأنبياء ظاهري الغضب ، ذوي غلظة وفظاظة لا رفق فيهم لأن الامامة منصبهم بالاصالة ، وذاك خلاف ما وصف الله به انبياءه من الحلم والرأفة فقال في ابراهيم (عليه‌السلام) : (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) (١) وقال في حق نبينا (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٢) وقال في حق قوم مدحهم : (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) (٣) وقال : (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) (٤) وهذه صفة امير المؤمنين فيجب ان تكون شرطا في الامام لوجودها في النبي الذي انتقلت الامامة منه الى الامام ، ولو كانت الغلظة والشدة وصفا حسنا فضلا عن ان تكون شرطا للامام لما نهى الله نبيه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عنها وجردها عنه في قوله تعالى : (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ) الآية (٥). وعذر ابن ابي الحديد عنه في امر الدعاية ونسبة امير المؤمنين إليها بانه خشن الطبع ، وان الكلمات القبيحة تخرج منه على مقتضى جبلته

__________________

(١) هود : ٧٥.

(٢) التوبة : ١٢٨.

(٣) الفتح : ٢٩.

(٤) المائدة : ٥٤.

(٥) آل عمران : ١٥٩.

٥٢٠