منار الهدى في النصّ على إمامة الأئمّة الإثني عشر

الشيخ علي البحراني

منار الهدى في النصّ على إمامة الأئمّة الإثني عشر

المؤلف:

الشيخ علي البحراني


المحقق: السيد عبدالزهراء الخطيب
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار المنتظر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٢٠

قتلنا ابناءهم وآباءهم واخوانهم فقال عمر بن الخطاب : اذا كان ذلك قمت ان استطعت ، فتكلم ابو بكر فقال : نحن الأمراء وانتم الوزراء والأمر بيننا نصفان كشق الأبلمة (١) فبويع (٢).

وروى الطبري في التاريخ حديثا طويلا فيه ذكر السقيفة وذكر الفلتة من كلام عمر وفيه حكاية عمر قول ابي بكر للأنصار : يا معشر الأنصار انكم لا تذكرون فضلا الا وانتم له اهل ، وان العرب لا تعرف هذا الأمر الا لقريش اوسط العرب دارا ونسبا وقد رضيت لكم احد هذين الرجلين يعني عمر وأبا عبيدة ـ الى ان قال ـ : فلما قضى ابو بكر كلامه قام رجل من الأنصار فقال : «انا جذيلها المحكّك : وعذيقها المرجب (٣) منا امير ومنكم امير» وارتفعت الأصوات واللغط فلما خفت الاختلاف قلت لأبي بكر : ابسط يدك ابايعك فبسط يده فبايعته وبايعه الناس ثم نزونا على سعد بن عبادة فقال قائلهم قتلتم سعدا فقلت : اقتلوه قتله الله ـ الى ان قال ـ : خشيت ان فارقت القوم ولم يكن بيعة ان يحدثوا بعدنا بيعة فاما ان نبايعهم على ما لا نرضى او نخالفهم فيلوث فيكون فسادا ـ (٤) وفي رواية ابي بكر الجوهري من حديث احمد بن اسحاق عن احمد بن سيار عن سعيد بن كثير الأنصاري بعد كلام ابي بكر للأنصار فقال الأنصار : ما نحسدكم على خير ساقه الله إليكم ، ولا احد

__________________

(١) الأبلمة : الخوصة.

(٢) نقل ذلك عن الجوهري ابن ابي الحديد في شرح نهج البلاغة ٢ / ٥٣. ونقل البخاري في صحيحه ٤ / ١٩٤ في كتاب فضائل المهاجرين قريبا من ذلك.

(٣) جذيل ـ تصغير جذل ـ : وهو عود بنصب للإبل الجربى لتستشفي للاحتكاك به ، المحكّك : الذي كثر الاحتكاك به حتى صار أملس ، والعذيق تصغير عذق ـ بالفتح ـ والمرجب : المدعوم بالرجبة ، وهي خشبة ذات شعبتين تدعم بها النخلة اذا طالت وثقل حملها والمعنى أني ذو رأي شاف مثمر وقائل ذلك هو الحباب بن المنذر.

(٤) تاريخ الطبري ٤ / ١٨٢٣ طبع ليدن حوادث سنة ١١.

٤١

احب إلينا ولا ارضى عندنا منكم ، ولكنا نشفق فيما بعد هذا اليوم ونحذر ان يغلب على هذا الأمر من ليس منا ولا منكم (١) الى آخر ما ذكر ، فهذه الأخبار وغيرها من احاديثهم ناصة على ان غرض المسارعين الى عقد الامامة ليس ما ذكره المحتج من اداء الواجب الذي هو تعيين الإمام ، وانما كان غرضهم ما ذكرناه عنهم من الأمور الدنيوية ، وتنطق بأن الثلاثة الذين حضروا مع الأنصار من المهاجرين كان مطلبهم الا يلي الأمر غيرهم وليسوا قاصدين امرا وراء هذا من الأمور الراجعة الى الدين فقط كما قال ، وأيضا لو كان غرض من سارع الى عقد الامامة امرا دينيا لم يكن لإعراضهم عن المجلس الذي اجتمع فيه الناس لتجهيز الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وجه إذ جلوسهم في ذلك المجلس لم يكن مانعا لهم من اجالة الرأي وادارة المشورة فيما بينهم في تعيين الامام وعقد البيعة له هناك على برد ورضا فتركهم ذلك المجلس ومخاصمتهم في السقيفة وما جرى لهم من النزاع فيها المؤدى الى قول عمر : اقتلوا سعدا قتله الله وقول الحباب بن المنذر : ان شئتم لنعيدنها جذعة (٢) وقوله : والله لا يرد على احد ما اقول الا حطمت انفه وغير ذلك من الأقوال الغليظة المذكورة في الأحاديث التي نقلنا منها ما تقدم وغيرها دليل على ان القوم قصد كل منهم المغالبة والاستبداد بالأمر وانهم سارعوا إليه قبل ان يعقد لغيرهم فيفوتهم ما طلبوا من الرئاسة لأداء ما وجب عليهم من تعيين من يصلح للامامة وكل هذا ظاهر لمن نظر في الأخبار نظر متأمل ، فاذا كان أغراض القوم هي ما عرفت من المطالب النفسية والشهوات الدنيوية كيف يكون فعلهم اصلا يبني عليه القواعد الشرعية ، وحجة يعتمد عليها في الأصول الدينية؟ هذا بعيد من التحقيق وناء عن نظر أهل النظر بواد سحيق.

__________________

(١) انظر شرح نهج البلاغة : ٦ / ٨.

(٢) جدعة : فتية.

٤٢

الثالث : ان الكلام الذي ذكره من قول أبي بكر وجواب الصحابة له على الوجه المذكور مما لا اصل له ولا ورد في شيء من اخبارهم على هذا النهج (١) بل اخبارهم ناطقة بان بيعة ابي بكر لم تكن عن مشاورة ومناظرة وانما كانت مغالبة ووقعت فلتة واجماع الناس على ذلك وما تقدم من الأخبار شاهد به ويكفيك من ذلك قول عمر على صهوة المنبر : ان بيعة ابي بكر فلتة (٢) وغيرها من الأخبار روى الجوهري في خبر سعيد بن كثير قال : لما قبض النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة ، ثم ذكر كلام سعد وما ردوا عليه من الإجابة الى توليته وما ترادوه بينهم من الكلام ـ الى ان قال ـ : فأتى الخبر عمر فأتى منزل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فوجد أبا بكر في الدار وعليا في جهاز رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وكان الذي أتاه معن بن عدي (٣) فاخذ بيد عمر وقال : قم فقال عمر أني عنك مشغول فقال انه لا بد من قيام فقام معه فقال له : ان هذا الحي من الأنصار قد اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة معهم سعد بن عبادة يدورون حوله انت المرجّي ونجلك المرجى وثم اناس من اشرافهم وقد خشيت الفتنة فانظر يا عمر ما ذا ترى واذكر لإخوتك واحتالوا لأنفسكم فأتى انظر الى باب فتنة قد فتح الساعة الا أن يغلقه الله ، ففزع عمر اشد الفزع حتى اتى أبا بكر

__________________

(١) أي على الوجه الذي سماه القوشجي عمدة الاجماع.

(٢) قول عمر (رضي الله عنه) : «كانت بيعة أبي بكر فلتة» رواه البخاري في صحيحه ٨ / ٢٥ في كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة ، باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت وابن هشام في السيرة ٤ / ٢٢٦ والطبري في التاريخ ٣ / ٢٠٠ وابن الأثير في النهاية مادة «فلت» والمحب في الرياض النضرة ١ / ١٦١ وابن حجر في الصواعق المحرقة ص ٥ و ٦ وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ٦ / ٢٣ و ٢٦ عن تاريخ الطبري.

(٣) معن بن عدي البلوي حليف الأنصار صحابي شهد المشاهد كلها وقتل يوم اليمامة في خلافة أبي بكر (اسد الغابة ٥ / ٤٠١).

٤٣

مع عمر فحدثه الحديث ففزع ابو بكر اشد الفزع وخرجا مسرعين الى سقيفة بني ساعدة ، وساق الكلام الواقع في السقيفة من خصام ابي بكر وصاحبيه للأنصار (١).

وقال ابو بكر الجوهري : سمعت أبا زيد عمر بن شبة يحدث رجلا بحديث لم احفظ اسناده قال : مر المغيرة بن شعبة بابي بكر وعمر وهما جالسان على باب النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) حين قبض فقال ما يقعد كما قالا : ننتظر هذا الرجل يخرج فنبايعه يعنيان عليا (عليه‌السلام) فقال أتريدون ان تنتظروا خيل الحلبة (٢) من هذا البيت وسعوها في قريش تتسع (٣) قال فقاما الى سقيفة بني ساعدة او كلاما هذا معناه وغير ذلك من اخبارهم المصرحة بخلاف ما ذكره هذا المحتج والناطقة بمغايرته ، على ان جميع اصحاب السيرة رووا كلام ابي بكر بعد قول عمر : ان رسول الله لم يمت ولا يموت حتى يظهره الله على دينه قالوا جميعا : فجاء ابو بكر وكشف عن وجه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وقال : بأبي وامي طبت حيا وميتا والله لا يذيقك الله الموتتين ثم جزع والناس حول عمر وهو يقول لهم : انه لم يمت ويحلف فقال : ايها الحالف على رسلك ثم قال : من كان يعبد محمدا فان محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت قال الله تعالى : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (٤) وقال : (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) (٥) هذا كلامه الذي نقله جميع

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٦ / ٦.

(٢) في شرح النهج «حبل الحبلة» هكذا بتقديم الباء على اللام وقال الاستاذ محمد ابو الفضل ابراهيم : «الحبلة في الأصل الكرم ، قيل في معناه حمل الكرمة قبل أن تبلغ ولعله كناية عن صغر عليّ».

(٣) شرح النهج ٦ / ٤٣.

(٤) الزمر : ٣٠.

(٥) آل عمران : ١٤٤.

٤٤

اهل السيرة من اوليائه (١) وليس فيه مما ذكره القوشجي من طلب ابي بكر من الصحابة تعيين الامام واجابتهم له بما ذكره هناك حرف واحد وما ذكرناه دليل واضح على ان القول المذكور لم يقع وانه شيء افتعله القوشجي من نفسه او غيره من متكلميهم ليصلحوا به أمرهم ، ويقووا به مذهبهم ، فلا حجّة فيما ذكر اذ لم يرد به خبر ، ولا وجد له في كتب الأخبار اثر ، والكذب لا تقوم به الحجة الشرعية عند اولي الألباب ، ومما بيناه استبان انه لا استشارة ولا جواب فضلا عن أن يكون وقع اتفاق من الصحابة على تعيين الامام ، وحصول الإجماع.

الرابع : ان خبره لو صح لكان مناقضا لغرضه ومعاندا لمطلبه لأن فيه بعد كلام أبي بكر وطلبه من القوم تعيين الامام قالوا : صدقت لكنا ننظر في هذا الأمر ، وهذا القول دال على التأني والمهلة لا على المسارعة والعجلة كما لا يخفى على من له اطلاع وممارسة بكلام العرب ومحاوراتهم ، فما احتج به الرجل على مراده مخالف له فلا يصح له الاحتجاج به لو صح وروده فكيف ودون ذلك اهوال؟ ومما ذكرنا من الوجوه يعلم يقينا اجتثاث اصل هذا الدليل وانقلاع أساسه وانطماس رسومه واعتفاء أثره مع أنه العمدة عندهم فزال عمادهم وبطل إليه استنادهم.

الثاني : (٢) من ادلته ان الشارع امر باقامة الحدود ، وسد الثغور ، وتجهيز الجيوش ، للجهاد وكثير من الأمور المتعلقة بحفظ النظام وحماية بيضة الاسلام مما لا يتم الا بالامام وما لم يتم الواجب المطلق الا به وكان مقدورا فهو واجب على ما مر.

الجواب من وجهين (٣).

__________________

(١) نقل هذا الاجماع ابن أبي الحديد في شرح النهج ٢ / ٤٠.

(٢) أي من ادلة القوشجي على أن نصب الامام واجب على الخلق.

(٣) أي الجواب على ما انتصر به القوشجي للأشاعرة.

٤٥

الأول : منع توجه الخطاب بذلك لعامة المكلفين ابتداء ، بل الخطاب متوجه به كذلك الى الأئمة والمكلفون مأمورون بطاعتهم ومعاونتهم عليه ومنهيون عن التخلف عن امرهم فالخطاب به توجه إليهم بواسطة وجوب مؤازرة الأئمة عليهم في ذلك كله فهو خطاب ثانوي وقوله تعالى : (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) على القتال (١). وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) (٢) وقوله تعالى : (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) (٣) وقوله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٤). وغيرها من الآيات الجارية هذا المجرى وقول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيما استفاض : (لي عليكم أن لا تأمروني ولا ان تنهوني وإنما عليكم ان تسمعوا وتطيعوا) شواهد صدق على ما قلناه ، اذ الإمام في ذلك كله كالنبي لأنه خليفته فليس على المكلفين تعيين من يتوجه له الخطاب من الشارع بذلك كما انه ليس عليهم أن يعينوا شارعا يتوجه له الأمر من الله به ، بل على الشارع تعيين شخص لذلك كما كان على الله تعالى أن يبعث شارعا بما يريد من الشرع واستقلال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في حياته بتأمير الأمراء دليل على أن تعيين الأمير العام من بعده له وعليه لا للرعية ولا عليهم والا لفوض لهم ذلك في حياته فتبين أن عامة الناس ليسوا بمأمورين بتلك الأمور المذكورة على الاطلاق وبذلك بطل الدليل.

الثاني : إن التكليف بذي المقدمة بواسطة التكليف بذيها مشروط بقدرة

__________________

(١) النساء : ٨٤.

(٢) التوبة : ٧٣.

(٣) التوبة : ١٢٠.

(٤) النور : ٦٣.

٤٦

المكلف عليها كما ذكره في دليله وأما إذا لم يكن المكلف قادرا عليها كالوقت للصلاة والاستطاعة للحج والنصاب للزكاة لم يكلف بها ولا بذيها ، بل يكلف به اذا حصلت وتحصيل الامام غير مقدور للمكلفين من جهتين.

الأولى : انه يشترط في الامام المنصوب ان يكون مرضيا عند الله للامامة ومعرفة المرضي عند الله لذلك من دون نص عليه متعذرة على سائر المكلفين لعدم اطلاعهم على الغيب وانقطاع الوحي بموت النبي وعدم المؤيد على قول المستدل بالهام من الله وتفهيم وكون الظن لا يغني من الحق شيئا ولأن الظاهر قد يخالفه الباطن فربما يختار المكلفون من يؤدي نصبه الى الفساد المطلوب ازالته من نصب الامام وهم يظنون انه صالح فلا يكون لله رضا وحيث كان معرفة من يصلح للامامة عند الله ويكون نصبه لله رضا غير مقدور للرعية لم يجز أن يكونوا مأمورين به فبطل الدليل ، اللهم إلا أن يقولوا إن الامام لا يلزم ان يكون مرضيا عند الله ولا موسوما بالصلاح للامامة لديه فحينئذ نجيبهم ونقول : فما الفرق بين هذا الامام وبين الملوك المتغلبين على العباد بالقهر والجبر ، وأي فائدة في نصب هذا الامام للدين ، وأي مصلحة في حكومته للمسلمين ، وكيف يجوز طاعة من لم يكن مرضيا عند الله للأمر والنهي؟ على أنه لا يتم به الواجب المطلق لعدم قيامه بجميع الوظائف الشرعية ولسنا نتكلم في مثل هذا ولا موضع للقول فيه ولا اعتناء لنا بشأنه ولا حاجة لنا في ذكره الا بما يذكر أمثاله كنمرود وفرعون.

الثانية : ان الامام المرضي عند جميع المسلمين يستحيل أن يكون واحدا بعينه باتفاق لاختلاف الآراء وتشعب الأهواء وميل كل فرقة الى اختيار شخص لا سيما عند كثرة المسلمين وانتشارهم في البلاد وقبح الجبر فيما سبيله الاختيار وعدم جواز ترجيح اختيار البعض على البعض الآخر لفقد المرجح فأين قدرة المكلفين على تعيين واحد بعينه وما يختاره قوم يأباه قوم آخرون؟ وحديث ابي بكر مع الأنصار في السقيفة وما جرى بينه واصحابه وبين علي

٤٧

(عليه‌السلام) والزبير ومن معهما وحديث غضب طلحة وتابعيه لنص ابي بكر على عمر وعدم رضا علي (عليه‌السلام) والزبير ومن معهما او حديث غضب طلحة وتابعيه لنص أبي بكر على عمر وعدم رضا علي (عليه‌السلام) وجملة من الصحابة كعمار والمقداد وامثالهما ببيعة عثمان وعدم انقياد جماعة كثيرة لعلي (ع) ظنا منهم أن إمامته ببيعة من بايعه كالأولين دليل واضح وبرهان لائح على انه لم يل الخلافة من رضي به جميع أهل الحل والعقد من المسلمين ولا امكن لأحد تحصيل رضاهم بامامته فكيف يكلفون بما لا يمكن حصوله او يكلف أحدهم بما لا يمكن له تحصيله وهو رضا غيره باختياره فيقال له صير غيرك راضيا بما تختار ثم يكلف ذلك الغير بتصيير الأول راضيا بما يختار والأمران متقابلان والتكليفان متعاندان ولا يحصل بالقطع واليقين الا بالاكراه وتحكيم حد الحسام واعمال ماض السنان في الرءوس والأجسام ، واين هذا من الرضا المطلوب والاختيار المقصود؟ فبان ان نصب الامام على وجه لا يستلزم شيئا من المفاسد غير مقدور للانام فبطل تكليفهم به المدعى.

الثالث : من ادلتهم ان في نصب الامام استجلاب منافع لا تحصى واستدفاع مضار لا تخفى وكل ما هو كذلك فهو واجب أمّا الصغرى فتكاد ان تكون من الضروريات بل من المشاهدات وتعد من العيان الذي لا يحتاج الى البيان وذلك لأن الاجتماع المؤدي الى صلاح المعاش والمعاد لا يتم بدون سلطان قاهر يدرأ المفاسد ويحفظ المصالح ويمنع ما تتسارع إليه الطباع وتتنازع إليه الأطماع ، وكفاك شاهدا ما يشاهد من استيلاء الفتن والابتلاء بالمحن بمجرد هلاك من يقوم بحماية الحوزة ورعاية البيضة وان لم يكن على ما ينبغي من الصلاح والسداد ولم يخل عن شائبة شر وفساد ، ولهذا لا ينتظم امر أدنى اجتماع كرفقة طريق بدون رئيس لا يصدرون إلا عن رأيه ومقتضى أمره ونهيه ، بل ربما يجري مثل هذا فيما بين الحيوانات العجم كالنحل لها عظيم يقوم مقام الرئيس ينتظم به أمرها ما دام فيها واذا هلك انتشرت الأفراد

٤٨

انتشار الجراد وشاع فيما بينهم الهلاك والفساد ، واما الكبرى فبالاجماع.

والجواب اما المنافع الكثيرة في نصب الامام فامر معلوم وكذلك ان حفظ النظام منوط به وبدونه يختل أمر الدين وليس هذا محل النزاع ، واما دعوى تفويض الله نصبه الى الأمة الذي هو موضع النزاع فغير مسلمة على انها هي مطلوبهم والدليل غير ناهض بها ولا واف باثباتها وانما غايته الدلالة على وجوب نصب امام يحصل به النفع ويدفع به الضرر ، وعلى هذا يكون لطفا فيكون واجبا على الله تعالى : ولم تكن فيه دلالة على جعل ذلك للعباد ، وهذا المعنى هو المتنازع فيه وأيضا دلّ الدليل على وجوب نصب الامام لاستجلاب المنافع ودفع المضار والمفاسد ، وفي تفويضه الى المكلفين عكس ذلك المراد ونقيض الوجه المطلوب لما ذكرنا سابقا من اختلاف الآراء في الاختيار وميل كل طائفة من الناس الى شخص بعينه غير من مالت إليه الطائفة الأخرى فيقع بين العباد الجدال والخصام ويختل به النظام المطلوب التئامه من نصب الامام وميل كل من الناس الى هواه واخذ كل منهم برأيه ومشتهاه ، لا سيما اذا كان له الخيرة في ذلك وهذا امر مشاهد بالعيان المستغني عن البيان وحصول الفساد بذلك أمر معلوم باللزوم وتسليم الخصوم وقد منعوا به من نصب امامين في زمان واحد ، ومن المعلوم لدى كل فاهم ان الاختلاف والفتنة اللذين نشأ منهما الفساد في هذه الأمة فسفكت الدماء وعطلت الحدود وغيرت الأحكام واختل نظام دين الاسلام انما كانا من جعلهم نصب الامام الى الخلق واختلافهم في الاختيار (١) فتبين ان في جعل تعيين الامام الى الرعية لزوم مفسدة تزول بها المصلحة التي وجب لأجلها نصب الامام وذلك غير جائز على الحكيم ، فالواجب لدفع المفسدة التي لا تحصل المصلحة الا به ان يكون الامام منصوبا من قبل من لا يجوز لأحد من الرعية مخالفته ولا

__________________

(١) قال الشهرستاني في الملل والنحل ١ / ٢٤ : «اعظم خلاف بين الأمة خلاف الامامة إذ ما سلّ سيف في الاسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الامامة في كل زمان».

٤٩

تسوغ لأحد من الناس معصيته ليكون ذلك حاسما للنزاع وقاطعا لطريق ذوي الأطماع ، وليس كذلك الا من هو منصوب من الله تعالى ، فنصب الامام لذلك يكون واجبا عليه فالدليل ان لم يكن لنا لم يكن علينا.

وأما ما ذهب إليه الخوارج وما قال به ابو بكر الأصم وما ذهب إليه الفوطي واتباعه (١) فهو مع كونه فاسدا بما دل من الأدلة على وجوب الامام مطلقا مبني على جعل تعيين الامام موكولا الى العباد وقد أقمنا البرهان على بطلانه وزيفنا أدلته وهدمنا رفيع بنيانه ، واذا بطل الأصل تبعه في البطلان فرعه لا سيما وحجة الخوارج موجبة لبطلان الاختيار حيث قالوا : «ان في نصب الامام اثارة للفتن لأن الآراء مختلفة والأهواء متباينة فيميل كل حزب الى احد فتهيج الفتن وتقوم الحروب وما هذا شأنه لا يجب بل كان ينبغي ان لا يجوز الا أن احتمال الاتفاق على الواحد أو تعينه وتقرره باستجماع الشرائط وترجيحه من بعض الجهات منع الامتناع وأوجب الجواز» وأنت خبير بأن ما احتملوه غير حاصل ولا حصل فيما مضى فلم يبق الا أن يكون نصب الامام محرما وهو فاسد باتفاق المسلمين وواجبا على الله دون الرعية لازالة الخوف مما ذكروه من هيجان الفتن وقيام الحروب وهو المطلوب وحجة أبي بكر الأصم مبنية أيضا على أن مصلحة نصب الامام مقصورة على ازالة الخوف وتأمين سبل المسلمين وليس بصحيح فان للامام مصالح كثيرة غير ذلك قد مر ذكرها وسيأتي وحجة الفوطي منقوضة بأن من جملة المصالح التي لأجلها نصب الامام ازالة البدع واذهاب الفتن وإماطة الاختلاف وردع اهل المعاصي عنها فلا يكون وجودها مانعا من وجوب نصبه والأمر في ذلك ظاهر.

(فائدة جليلة)

هي فرع ما اصلناه ونتيجة ما أبرمناه ، اعلم أرشدنا الله واياك الى الحق

__________________

(١) مرت آراء الخوارج والأصم والفوطي في أول المبحث الثاني.

٥٠

ان اصحابنا الامامية وبعض فرق الشيعة قالوا انه لا يجوز خلو زمان التكليف من امام معصوم تقوم به الحجة لله على خلقه وتزاح به علتهم ، وتجتمع به كلمتهم ، وتحصل به الفتهم ، ويدلهم على مراشدهم ويهديهم الى سبيل نجاتهم ، ويبين لهم ما اختلفوا فيه من امر دينهم وينتظم به أمر دنياهم ، وتنجح به مطالبهم ومصالحهم في معاشهم ومعادهم ، ويزول به الشك ويتضح به الحق وترتفع به الحيرة ويقمع به الباطل ويقام به الأود ويثقف به العوج ، ويستبين بنوره طريق الهدى ويستضيئون بضياء علمه في حنادس الجهل وغياهب الظلماء ، ولا يشترط تمكنه ولا على الله تمكينه من اقامة عمود الدين واعزاز دولة الاسلام بنفسه ، بل يجب عليه القيام بذلك مع وجود المعين والناصر وبذل الطاعة ممن يحصل به النصرة والانتصار على الأعداء ، وخالفنا في ذلك مخالفونا القائلون بان نصب الامام من قبل الرعية من المعتزلة والأشاعرة وغيرهم ، فجوزوا خلو العصر من امام بتلك المثابة على أن مقتضى ادلة الطائفتين كما عرفت وجوب نصب الامام على العباد في كل زمان وان تركه اخلال بالواجب عقلا كما عن المعتزلة أو شرعا كما عن الأشاعرة ، ولازم ذلك ارتكاب الجميع منهم العصيان بتركهم نصب الامام الذي تحصل به حماية حوزة الاسلام ويدفع به الضرر عن المكلفين في جميع الأزمان ، إذ لا نراهم فعلوا ما أوجبوه على أنفسهم والتزموا به في مذهبهم من قديم الأعصار فدخلوا باخلالهم بالواجب عندهم في زمرة العاصين وكانوا بتركهم اياه في عداد الفاسقين ، وحسبك بلزوم الفسق لهم وتوازرهم عليه لاهمالهم ما وجب عليهم بحكمهم دليلا على فساد قولهم وبطلان مذهبهم ، ومن ثم كان الصحيح ما عليه اصحابنا ، ولنا على ذلك مضافا الى الأصل ادلة كثيرة من العقل والنقل.

الأول : انا بينا ان الامام لطف وان اللطف منحصر فيه ، واللطف واجب على الله تعالى والازمان متساوية والمكلفون متماثلون ، فليس زمان

٥١

أولى باللطف من زمان ولا مكلف احق به من مكلف آخر وليس يجوز في حكمة الله منع بعض المكلفين اللطف ، فوجب اذن كون الامام موجودا في جميع أزمنة التكليف فلا يجوز على الله تعالى بمقتضى حكمته اخلاء زمان من أزمنة التكليف من امام بالمعنى المذكور وذلك بخلاف النبي فانه وان كان لطفا إلا ان اللطف غير منحصر فيه لقيام الامام مقامه فيما بعث له من المصالح والفوائد فلذا جاز خلو الزمان من رسول حي ولم يجز خلوه من امام ولذا قال العلامة جمال الدين الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي عطر الله مرقده في بعض كتبه.

«الامامة لطف عام والنبوة لطف خاص لإمكان خلو الزمان من النبي الحي بخلاف الامام» انتهى وللشيخ الصدوق ابي جعفر محمد بن علي بن بابويه في هذا المقام كلام طويل لا بأس بنقل جملة منه لما فيه من الفوائد الجليلة قال روح الله روحه ونور ضريحه : «والفترات بين الرسل (عليهم‌السلام) كانت جائزة لأن الرسل مبعوثة بشرائع الملة وتجديدها ونسخ بعضها بعضا وليس الأنبياء والأئمة (عليهم‌السلام) كذلك ، ولا لهم ذلك لأنه لا ينسخ بهم شريعة ولا تجدد بهم ملة ، وقد علمنا ان بين نوح وابراهيم وبين ابراهيم وموسى وبين موسى وعيسى وبين عيسى ومحمد (صلى الله عليه وآله وعليهم) أنبياء وأوصياء يكثر عددهم ، وانما كانوا مذكرين لأمر الله مستحفظين مستودعين لما جعل الله تعالى عندهم من الوصايا والكتب والعلوم ، وما جاءت به الرسل عن الله عزوجل الى اممهم ، وكان لكل نبي منهم مذكر عنه ووصي ومودع استحفظ من علومه ووصاياه ، فلما ختم الله عزوجل الرسالة بمحمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم يجز ان تخلو الأرض من وصي هاد مذكر يقوم بأمره ويؤدي عنه ما استودعه ، حافظا لما ائتمنه عليه من دين الله عزوجل فجعل الله ذلك سببا لامامة منسوقة منظومة متصلة لما اتصل أمر الله عزوجل لأنه لا يجوز أن تتدارس آثار الأنبياء والرسل

٥٢

واعلام محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وملته وشريعته وفرائضه وسنته وأحكامه ، أو تنسخ وتخفى عليها آثار رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وشرائعه اذ لا رسول بعده ، ولا نبي والامام ليس برسول ولا نبي ولا داع الى شريعة ولا ملة غير شريعة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وملته فلا يجوز بين الامام والامام الذي بعده فترة والفترات بين الرسل جائزة فلذلك وجب أن لا بد من امام محجوج به ، ولا بد أيضا أن يكون بين الرسول والرسول وان كان بينهما فترة امام وصي يلزم الخلق حجته ويؤدي عن الرسل ما جاءوا به عن الله تعالى وينبه عباده على ما اغفلوا يبين لهم ما جهلوا ليعلموا ان الله عزوجل لم يتركهم سدى ولم يضرب عنهم الذكر صفحا ولم يدعهم من دينهم في شبهة ولا من فرائضه التي وظفها عليهم في حيرة ، والنبوة والرسالة سنة من الله جل جلاله والامامة فريضة والسنن تنقطع ويجوز تركها في حالات والفرائض لا تزول ولا تنقطع بعد محمد (صلوات الله عليهم) واجلّ الفرائض واعظمها خطرا الامامة التي تؤدى بها الفرائض والسنن وبها كمال الدين وتمام النعمة فالأئمة من آل محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لأنه لا نبي بعده يحملون العباد على محجة دينهم ويلزمونهم سبل نجاتهم ويجنبونهم موارد هلكتهم ، ويبينون لهم من فرائض الله عزوجل ما سد عن أفهامهم ويهدونهم بكتاب الله عزوجل الى مراشد امورهم فيكون الدين بهم محفوظا لا يعترض فيه الفسقة وفرائض الله عزوجل مؤداة لا يدخلها ذلل واحكام الله خالصة لا يلحقها تبديل ولا يزيلها تغيير ، فالرسالة والنبوة سنن والامامة فرائض الله الجارية بمحمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لازمة لنا ثابتة علينا لا تنقطع الى يوم القيامة مع انا لا ندفع الأخبار التي رويت انه كان بين محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وعيسى (عليه‌السلام) فترة لم يكن فيها نبي ولا وصي ولا ننكرها ونقول انها اخبار صحيحة ولكن تأويلها غير ما ذهب إليه مخالفونا من انقطاع الأنبياء والأئمة

٥٣

الرسل (عليهم‌السلام) وانما معنى الفترة انه لم يكن بينهما رسول ولا نبي ولا وصي ظاهر مشهور كمن كان قبله وعلى ذلك دلّ الكتاب المنزل ان الله عزوجل بعث محمدا على حين فترة من الرسل لا من الأنبياء والأوصياء ولكن قد كان بينه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وبين عيسى انبياء وائمة مستورون خائفون منهم خالد بن سنان العبسي نبي لا يدفعه دافع ولا ينكره منكر لتواطؤ الاخبار به بذلك عن الخاص والعام وشهرتها عندهم وان ابنته ادركت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ودخلت عليه فقال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (هذه ابنة نبي ضيعه قومه خالد بن سنان العبسي) (١) وكان بين مبعثه وبين نبينا صلوات الله عليه وآله خمسون سنة ، وهو خالد بن سنان بن بعيث بن مريطة بن مخزوم بن مالك بن غالب بن قطيعة بن عبس حدثني بذلك جماعة من اهل الفقه والعلم» ـ الى ان قال ـ : «وبعد فلولا الكتاب المنزل وما خبرنا الله عزوجل على لسان نبينا المرسل (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وما اجتمعت عليه الأمة من النقل عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في الخبر الموافق للكتاب انه لا نبي بعده لكان الواجب للحكمة انه لا يجوز أن تخلو العباد من رسول منذر ما دام التكليف لازما لهم ، وان يكون الرسل متواترة إليهم على ما قال الله عزوجل : (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً) (٢) فلما اخبر الله عزوجل

__________________

(١) روي أن المحياة ابنة خالد بن سنان العبسي وفدت على رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فرحب بها وقال : (ابنة نبي ضيعه قومه) وهو الذي رد نار الحرتين بكهنها وكانت ببلاد بني عبس ، وقد ذكرها المؤرخون في كتبهم والشعراء في اشعارهم قال الشاعر.

كنار الحرتين لها زفير

تصمّ مسامع الرجل السميع

(انظر سفينة البحار ج ١ / ٤٠٥ مادة «خلد» وج ٢ / ٦٢٠ مادة «نور».

(٢) المؤمنون : ٣٣.

٥٤

انه قد ختم رسله وانبيائه بمحمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) سلمنا ذلك وايقنا انه لا رسول بعده وانه لا بد لنا ممن يقوم مقامه وتلزمنا حجة الله عزوجل به» ـ الى ان قال ـ : «فالرسل والأنبياء والأوصياء لم تخل الأرض منهم وقد كانت لهم فترات من خوف واسباب لا يظهرون فيها دعوة ولا يبدون امرهم الا لمن أمنوه حتى بعث الله محمدا (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فكان آخر اوصياء عيسى (عليه‌السلام) رجلا يقال له ابي ويالط ـ وروى في ذلك اخبارا جمة» ـ الى اخر ما قال .. (١) ولنقتصر مع ما ذكرناه في صدر الاستدلال في هذا الوجه على كلامه فقد بلغ منه المرام فجزاه الله خيرا عن المسلمين والاسلام.

الثّاني : (٢) انّ الحجّة لا تقوم لله تعالى على خلقه بدون مرشد مأمون يبيّن للنّاس أمر الدّين وتزاح به علة المكلفين ويهدي العباد الى طريق الصّواب ويرفع عنهم الاختلاف والحيرة ويؤيده قوله تعالى : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) (٣) الدّال على ان كلّ قوم لا بدّ لهم من هاد يهديهم الى سبل الحق واعلم ان مبنى هذا الدّليل على خمس مقدّمات.

الاولى : انّ الله سبحانه وتعالى في كلّ واقعة حكما معينا لا يختلف باختلاف المجتهدين ويدل على هذه المقدّمة آيات كثيرة مثل قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (٤) وقوله تعالى : (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) (٥) وقوله تعالى : (ما فَرَّطْنا فِي

__________________

(١) إكمال الدين وتمام النعمة ص ٦١٦.

(٢) أي الثاني من الأدلة على أن نصب الامام لطف.

(٣) الرعد : ٧.

(٤) الحجر : ٢١.

(٥) يس : ١٢.

٥٥

الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) (١) وما اشبهها من الآيات وكلّها ظاهرة غاية الظّهور في ان لكل امر وفعل حدا وحكما عند الله تعالى وليس شيء عنده مهملا غير محدود بحد ولا محكوم عليه بحكم ، وقد استفاض في الرّوايات عن النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من طرق اصحابنا انّ الله جعل لكل شيء حدا وجعل لمن يتعدى ذلك الحد حدّا ، وامّا ما يحتجّ به للمخالفين النّافين تعيين حكم الله تعالى في كل واقعة من قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) (٢) وقوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (٣) فضعيف وتقرير حجّتهم انّ النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) مأمور بتبليغ الامّة ما انزل إليه من ربّه وبيانه لهم ، ومن المعلوم انّه لم يخالف الامر فقد بلغ ما انزل الله إليه وبيّنه وما بلّغه الامّة وبيّنه لهم لم يف ببيان جميع الاحكام فلو كان لله تعالى في كلّ واقعة حكم لانزله الى نبيّه ولو انزله إليه لبلغه وبيّنه لانّه مأمور بذلك ولو بلغه وبيّنه لنقل إلينا وحيث لم ينقل إلينا مع توفر الدّواعي على نقله من حكم الشّريعة الّا ما نقل علمنا أنه لم ينزل عليه شيئا غيره فلم يكن لله في ذلك الغير حكم وكان الحكم فيه الاجتهاد فما أدّى إليه نظر المجتهد في الواقعة الغير المنيّة فهو حكم الله في حقّه وحق مقلّديه وهذه الحجة هي العمدة في احتجاجهم وليس لهم غيرها ما يعتنى به أو يحتاج الى الجواب عنه وهذه حجّة منقوضة وشبهة مردودة بوجوه :

الاوّل : منع العموم في آية التبليغ وإرادة الخصوص منها كما يشير إليه قوله تعالى فيها : (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) (٤) فانّه لا يستقيم الّا بجعل مسمّى رسالته المفعول لبلغت مغايرا لمصداق (ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ)

__________________

(١) الانعام : ٣٨.

(٢) المائدة : ٦٧.

(٣) النحل : ٤٤.

(٤) المائدة : ٦٧.

٥٦

ليكون المعنى بلغ هذا الأمر الخاص فان لم تبلغه كنت بمنزلة من لم يبلغ ما سبق من الرّسالة التي بلغتها ولو كان المراد العموم فيما انزل أليك لم يكن لقوله تعالى : (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ) الخ موقع لأنّ معناه يكون على هذا بلغ جميع ما انزل أليك وإن لم تبلغ جميع ما انزل أليك لم تبلغ جميع ما انزل أليك فوازنه وزان اضرب زيدا فانّك ان لم تضربه لم تضربه ومن البين لدى أولى الفطنة ان الكلام على هذا التقدير غير مفيد لانّ الجزاء هو عين الشّرط فلم يحصل جزاء إذا لا بد في إفادة الجملة الشرطيّة من تغاير الشّرط والجزاء ، فعلى المعنى المذكور من العموم يجب ان يكون الجزاء كلاما آخر مثل أسقطنا أجرك وعاقبناك وما جرى هذا المجرى واقل ما فيه ان تكون الآية على هذا الوجه خارجة عن قانون البلاغة والفصاحة التي نزل بهما القرآن فيكون مرغوبا عنه وممّا يقوي ما ذكرناه من إرادة الخصوص من الآية بل يعيّنه انّها نزلت بعد نزول اكثر القرآن وبعد تبليغ النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كثيرا من الفرائض والاحكام في اصول الدّين وفروعه فيكون المقصود من الجملة انّك ان لم تبلغ ما أنزل أليك من ربّك في هذا الأمر الخاص كنت كأنك لم تبلغ ما بلغت سابقا من رسالة ربك لكتمانك هذا الأمر ، وفائدتها الحثّ والتأكيد على المسارعة الى تبليغ ذلك الامر الخاص وهذا واضح لمن تأمّل وذلك الامر المذكور وهو تبليغ النّاس أمر ولاية امير المؤمنين علي (عليه‌السلام) لا جميع الاحكام اي بلّغ ما انزل أليك من ربّك في ولاية علي (عليه‌السلام) وهو المروي عن ابن عبّاس وجابر بن عبد الله من طريق الكلبي عن ابي صالح رواه الحاكم ابو القاسم الحسكاني أبو إسحاق احمد بن محمّد بن ابراهيم الثعلبي في تفسيره (١) وقال بمضمونه ومن اصحابنا رواه من الطريق المذكور

__________________

(١) شواهد التنزيل للحسكاني ١ / ١٨٩ ونقله عن الحسكاني الطبرسي في مجمع البيان ٣ / ٢٢٣.

٥٧

العياشي في تفسيره (١) وهو المتفق عليه في الرّواية عن ائمتنا (عليهم‌السلام) بين أهل النّقل عنهم ، وهو الأصلح أو أن الله بعث النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) برسالة ضاق بها ذرعا وهاب قريشا فانزل الله عليه الآية لازالة تلك الهيبة وهو المروي عن الحسن البصري (٢) وليس فيه ظهور مخالفة للقول الاوّل لاحتمال ارادته من الرسالة الوجه الاوّل وهو تبليغ ولاية علي (عليه‌السلام) ويومي إليه قوله وهاب قريشا اذ لم يرد أن النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) هاب قومه في تبليغ أمر إلّا ولاية علي فانّه خاف منهم أن يكذّبوه فيها وينسبوه الى المحاباة كما جاء في الرّواية عن ابن عباس وجابر بن عبد الله الانصاري برواية الحسكاني والثعلبي ، أو المراد بلغ ما انزل أليك من آيات القرآن وهو مروي عن ابن عباس أيضا وهو محتمل منها ويدخل الاوّل فيه بالعموم لانّ ولاية علي منزلة في الآيات وبالجملة فكافّة المفسّرين قائلون بانّ المراد من (ما انزل) أليك الخصوص ولم ينقل انّها نزلت في الأمر بتبليغ جميع الوحي الّا عن عائشة وليس قولها ممّا يعارض ما ذكرناه مع أن في تصديق روايتها لو خلت عن معارض غاية الاشكال فكيف وقد خالفت جميع الاقوال التي كلّها متفقة على أنّ المراد من الآية الخصوص لا العموم المؤيدة بظهور الآية بل صراحتها في ذلك على أن قولها لا يستلزم العموم لانّ المروي عنها انّ النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم يكتم شيئا من الوحي للتقيّة ونحن نقول بذلك ونعتقد أنّ النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم يكتم للتقيّة شيئا من الوحي وانّما كتمه لمصلحة أخرى لأجلها أمر بكتمانه كعدم حاجة النّاس إليه في زمانه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فلم يبيّنه لجميعهم او غير ذلك من المصالح وكلامها لا ينفي ما أثبتناه فانتفى الخلاف عما نقول وآية التّبيين يحتمل فيها ما ذكر عن ابن عبّاس أخيرا في آية التبليغ هو تبيين آيات القرآن أو تبيين

__________________

(١) تفسير العياشي ١ / ٣٣٢.

(٢) نقل رأي الحسن البصري هذا أبو علي في مجمع البيان ١ / ٣٣٢.

٥٨

الشرائع والدلائل على توحيد الله تعالى ، ويحتمل أن يكون المبلّغ والمبيّن بفتح اللّام والياء في الآيتين الفرائض الدينيّة والاحكام الكليّة والحدود الشّرعية لا جميع الاحكام حتّى الجزئية في الوقائع المتجدّدة ولا جميع الوحي ، وهذا الوجه وان لم يذكره أحد من المفسرين الّا أنّه قريب من مفهوم الآيتين واذا لم يكن المبلغ والمبيّن في الآيتين عامّين سقط احتجاج الخصوم بهما على مطلبهم ، اذ لا دليل لهم فيهما إلّا على تقدير عموم المبلغ والمبيّن وشمولهما لجميع الاحكام كما هو ظاهر.

الثاني : سلمنا انّ مفاد الآيتين ظاهر العموم ولكن قد عارضتهما آيات اخر دالّة على انّ لله في كل واقعة حكما معيّنا وأن لكل شيء عنده حدا مثل الآيات المتقدّمة ومثل قوله جلّ وعلا : (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (١) فانّها ظاهرة بل صريحة في ان كلّ ما حصل فيه اختلاف بين الأمّة فلله فيه حكم معيّن ولم يكن مهملا عند الله تعالى والمنصوص لا يكون فيه اختلاف ومثل آيات الردّ عند الشارع الى الله والى الرّسول والى أولي الأمر ، وبيان توجيهها ان الردّ الى الله والى الرّسول والى اولي الأمر عند التنازع في الحكم اما ان يكون لبيان الحكم ورفع الاختلاف فيه في تلك الواقعة أو لا والثاني باطل قطعا وعلى الاول اما ان يكون لله تعالى في تلك الواقعة حكم معين بيّنه لرسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وبيّنه الرّسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لوليّ الأمر أو لا فان كان الثّاني فلا فائدة عليه في الردّ عند التنازع الى الرّسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اذ الاختلاف على هذا لا يرتفع بالرّد إليه لأن جوابه على هذا الوجه للمختلفين اذا رجعوا إليه انّه ليس لله فيما اختلفتم فيه حكم معين بيّنه لي وانتظر بيانه لي حتى اخبركم به فيزول الاختلاف عنكم بل الحكم في واقعتكم

__________________

(١) الشوري : ١٠.

٥٩

هذه دائر مدار الاجتهاد فما ادّى إليه اجتهاد احدكم فهو حكمه فليعمل عليه وهكذا يكون الجواب من ولي الأمر بعد الرّسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ومن الله أيضا فأيّ فائدة على هذا في الردّ إليهم عند التنازع اذا لم يكن الاختلاف مرتفعا به ، بل يكون عبثا والله لا يأمر به فيثبت الاوّل وهو كون الردّ إليهم لبيان الحكم المعيّن في الواقعة ورفع الاختلاف فيها بالبيان للمختلفين ذلك الحكم ومنه يثبت انّ لله فيها حكما معيّنا وهو المطلوب ، ومثل ذلك آيات أخر سيأتي ذكرها ، وحيث حصل التعارض وجب الجمع بحمل الآيتين على إرادة تبليغ احكام خاصّة وتبيينها لا على جميع الاحكام وقول النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) للمظاهرة (وما اظنك الا وقد حرمت عليه) بعد قوله (لم ينزل على فيك قرآن) (١) شاهد بان كل واقعة تقع فلله فيها حكم معيّن وانّ النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ينتظر الحكم فيها من الله تعالى حتّى يحكم به.

الثالث : سلمنا عموم الآيتين وشمولهما لجميع الاحكام وعدم تخصيصهما من الوجه السابق لكن لا نسلّم وجوب التّبليغ والتّبيين لجميع المكلّفين لم لا يجوز ان يكون تبليغ جميع الاحكام وتبيينه للبعض من المكلّفين وهم أولو الأمر وبه يحصل امتثال الأمر وآية الرد إليهم عند الاختلاف شاهدة بذلك بما مر من التقريب وما سيأتي ، ولا ينافيه لفظ النّاس وفي آية التبيين الظاهر في الجميع لاطلاق الناس في القرآن العزيز على الواحد وعلى الجماعة قلّوا او

__________________

(١) الظاهر أن المؤلف رحمه‌الله وهم فنقل ما هو حجة عليه لأن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لا يحكم بالظن. والذي قال لها ذلك زوجها ـ كما في فتح القدير للشوكاني ٥ / ١٨٤ ـ قال لها : ما أظنك إلا حرمت عليّ فانطلقي الى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فاسأليه فأتت النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فقال : (يا خولة ما أمرنا في أمرك بشيء) الخ وفي رواية الزمخشري في الكشاف ٤ / ٦٩ (ما عندي في أمرك شيء).

٦٠