منار الهدى في النصّ على إمامة الأئمّة الإثني عشر

الشيخ علي البحراني

منار الهدى في النصّ على إمامة الأئمّة الإثني عشر

المؤلف:

الشيخ علي البحراني


المحقق: السيد عبدالزهراء الخطيب
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار المنتظر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٢٠

ومنها قوله في خطبة يذكر فيها امر السقيفة (فنظرت فاذا ليس لي معين الا اهل بيتي فضننت بهم عن الموت ، واغضيت على القذى ، وشربت على الشجى ، وصبرت على اخذ الكظم ، وعلى امر من طعم العلقم) ومثل ذلك قوله (عليه‌السلام) : (لوجدت اربعين ذوي عزم) أفيجوز ان يكون هذا كله لترك القوم الأولى وهل يطلب مؤمن رجالا ذوي عزم ولو اربعين ليقاتل رجلا مسلما ترك الأولى أو يفعل هذا عاقل متدين؟ فكيف من هو مع الحق والحق معه؟ أليس ذلك القول منه صريحا في استحقاق المتقدمين عليه القتال؟ وهل يستحق القتل والقتال الا من هو ظالم غاصب ،؟ ولا يكون كذلك الا ان يكون على صاحب الأمر بنص النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، واما اذا لم يكن كذلك بل كان الأمر جائزا له ولغيره وان الراجح في الحكم ان يكون هو ولي الأمر وولاية غيره مرجوحة لم يجز له ما طلبه لأن فاعل المرجوح لم يستحق شيئا من اللوم فكيف يستحق ان يقاتل ويقتل؟ وأمير المؤمنين لا يفعل الحرام ولا يطلبه فننتج من ذلك ان من طلب قتالهم كانوا مستحقين ، وان ذلك لارتكابهم امرا عظيما حلت به دماؤهم وما هو الا ردّ النص ومخالفة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اذ لا غيره هناك فتأمل.

ومنها قوله (عليه‌السلام) : في كتاب كتبه لأخيه عقيل رواه ابن ابي الحديد عن ابراهيم بن سعيد بن هلال الثقفي في كتاب الغارات : (اللهم فاجز قريشا عني الجوازى فقد قطعت رحمي ، وتظاهرت علي ، ودفعتني عن حقي ، وسلبتني سلطان ابن امي ، وسلمت ذلك الى من ليس مثلي في قرابتي من الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وسابقتي في الاسلام الا ان يدعي مدع ما لا اعرفه ولا اظن الله يعرفه ، والحمد لله على كل حال) (١) وقوله

__________________

(١) كتابه (عليه‌السلام) الى عقيل رواه ابن هلال الثقفي في الغارات ص ٤٣١ كما نقله ابن ابي الحديد في شرح النهج عن الغارات ٢ / ١١٩.

٤٨١

(عليه‌السلام) : (الا ان يدعي مدع) الخ مشير الى بطلان ما اثبته العامة للثلاثة من الفضل في كل وقت ، بل صريح في نفيه بشديد المبالغة لقوله : (ولا اظن الله يعرفه) يعني انه لم يكن في علم الله لهم فضل يماثلون به عليا (عليه‌السلام) فضلا عن ان يكون برز ذلك للناس وظهر وصار معروفا ، فمن ادعى لهم ذلك فقد ادعى ما لا اعرفه لهم ولا يعرفه لهم فدعواه لهم مماثلتي باطلة ، ومنه يعلم ان الأخبار التي رواها الخصوم في التفضيل كلها باطلة مزورة ، وهذا ينضاف الى ما بيناه أولا من الاستدلال على بطلانها فاين يذهب بالقوشجي في قوله ان عليا (عليه‌السلام) قال : خير الناس ابو بكر ثم عمر ، كما مر أفلا يسمع هنا كيف نفى عنهم الفضل بالمرة ، وبالغ في تأكيد نفيه اشد المبالغة ، وهو تصديق ما قلناه هناك.

ومنها قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيما رواه الخصم عن ابي جعفر الإسكافي عن جابر عن ابي الطفيل قال : سمعت عليا (عليه‌السلام) يقول : (اللهم اني استعديك على قريش فانهم قطعوا رحمي ، وغصبوني حقي ، واجمعوا على منازعتي امرا كنت اولى به ، ثم قالوا : ان من الحق ان نأخذه ومن الحق ان نتركه) (١) فقد صرح في القول بغصب اقوم حقه وبخطئهم في قولهم ان اخذهم الأمر حق وتركه له كذلك ، ومعناه انه ليس من الحق ان يأخذوه كما قالوا ، واذا لم يكن اخذهم اياه حقا كان باطلا وباقي الكلام كالأول.

ومنها ما رواه عن ابي القاسم البلخي عن سلمة بن كهيل عن المسيب بن نجبة قال : بينا علي (عليه‌السلام) يخطب اذ قام اعرابي فصاح : وا مظلمتاه فاستدناه علي (عليه‌السلام) فلما دنا قال له : (انما لك

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٤ / ١٠٤ وهذه الكلمة من خطبة له (عليه‌السلام) تأتي آخر الكتاب.

٤٨٢

مظلمة واحدة وانا قد ظلمت عدد المدر والوبر) (١).

ومنها مناشدته القوم يوم الشورى النصوص عليه من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وتصديق القوم اياه كخبر الغدير وخبر المنزلة وقصة براءة وغير ذلك مما ذكرناه أولا ، فقطع عبد الرحمن بن عوف كلامه ولم يلتفت الى تلك النصوص ، ولم يعدل بها عن بيعة عثمان ، واضاف الى ذلك تهديده بالقتل ان لم يترك الاحتجاج ، وينفذ لبيعة عثمان ، وقد ذكر ابن ابي الحديد ان ذلك مما استفاض في الروايات ، وهذا من ادل الأدلة على ما ذكرناه من ان القوم لم يعتنوا بنص النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وخالفوه تعمدا ، ويقوّى قولنا ان الذي منعه من ذكر النص في يوم ابي بكر ان صح انه لم يذكره علمه بانهم ينكرونه او لا يلتفتون إليه ، وربما يؤدي الأمر الى قتله ان اطال الخصام بالنصوص ، وما ابن عوف باشد من عمر ولا عثمان بارغب في الخلافة من ابي بكر ولا باقوى على ذلك منه ، والأمر واضح ، فبطل ما قال ابن ابي الحديد من ان ذكر النص كان اسهل عليه حين ساموه البيعة من التظلم والاستصراخ بالاحياء والأموات ، وتبين ان تركه ذكر النص ان كان اسلم له من كثير من الضرر.

ومنها قوله (عليه‌السلام) : حين اتوا به الى ابي بكر ليبايع وهو ينظر الى قبر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (ابن أم ان القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني) (٢) فجعل نفسه بمنزلة هارون وجعلهم بمنزلة عبدة العجل ، وكفى بهذا وضوحا في تضليله اياهم ، وقد روى الخصم هذا الكلام (٣) وهو صريح أيضا في انه (عليه‌السلام) كان مجبورا على بيعة ابي بكر مهددا بالقتل

__________________

(١) أيضا ٤ / ١٠٦.

(٢) الشافي في الامامة للشريف المرتضى ٣ / ١١٠ بتحقيقنا.

(٣) يعني بالخصم ابن ابي الحديد وكثيرا ما يعبر عنه بذلك.

٤٨٣

ان لم يبايع وهذا نص قول الامامية.

ومنها قوله (عليه‌السلام) في خطبة : (حتى اذا اقبض الله رسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) رجع قوم على الأعقاب ، وغالتهم السبل ، واتكلوا على الولائج ، ووصلوا غير الرحم ، وهجروا السبب الذي امروا بمودته ، ونقلوا البناء عن رص اساسه فبنوه في غير موضعه ، معادن كل خطيئة ، وابواب كل ضارب في غمرة قد ماروا في الحيرة وذهلوا في السكرة ، على سنة من آل فرعون من منقطع الى الدنيا راكن او مفارق للدين مباين) (١) وهذا الكلام من اصرح الصريح في إرادة الأول واتباعه ووصلهم غير الرحم تقديمهم غيره في مقام النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ومنعهم عليا (عليه‌السلام) من ذلك المقام ، وهو الأقرب الى الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وهجرهم السبب المأمورين بمودته تركهم قربى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وقد قال الله تعالى : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) (٢) ونقل البناء عن رص اساسه جعلهم الخلافة في غير موضعها ، ولا يجوز حمله على معاوية واصحابه كما قاله ابن ابي الحديد لأن الرجوع على الأعقاب متعقب في الكلام لقبض النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لا فاصل بينهما اذ هو جواب الشرط فهو متصل به ، وواقع بوقوعه ، ومعاوية قد تأخر امره عن وقت قبض النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بسنين ، ومقتضى الجملة حصول الرجوع على الأعقاب بحصول موت النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بلا فصل ، فجعل الكلام لمعاوية واصحابه ممتنع من جهة الدلالة اللفظية الا ان يدعى مدع ما لم يكن معروفا في العربية ، ولا مستعملا عند اهل اللسان ، وأيضا قوله : (معادن كل خطيئة وابواب كل

__________________

(١) نهج البلاغة من الخطبة ١٤٨.

(٢) الشورى ٢٣.

٤٨٤

ضارب في غمرة) يبين ان الأولين هم المرادون لا معاوية لأن معاوية من جملة الضاربين في الغمرات فهم بابه اذ لولاهم ما ولى معاوية الشام ولا تأمر عثمان على المسلمين ، ولو لا قضية عثمان ما قوي معاوية على الخلاف والنزاع وايقاع الفتن ، لكن ابن ابي الحديد يصرف القول عن معناه ويحرف الكلم عن مواضعه محاماة على المشايخ وانى له بذاك وقد لاح الصباح؟ فانظر أيجوز أن يوصف بالرجوع عن الدين على الأعقاب وانه معدن كل خطيئة ، وباب كل ضارب في غمرة المشبه لآل فرعون في ضلالهم مع باقي الأوصاف من ترك الأولى وفعل المرجوح ولم يخالف نصا ولا غصب حقا ولا نهب ميراثا ثابتا بكتاب الله وسنة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، كلا ما يجوز ذلك الا لمن تعمد خلاف الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وانكار نصه ونهب ميراثه من مستحقه على معرفة ويقين وذلك ما نقول.

ومنها قوله (عليه‌السلام) : وقد سأله رجل من بني أسد : كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وانتم احق به فقال للسائل : (قد استعلمت فاعلم ، اما الاستبداد علينا بهذا المقام ونحن الأعلون نسبا ، والأشدون بالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) نوطا ، فانها كانت اثرة شحت بها نفوس قوم ، وسخت عنها نفوس آخرين ، والحكم الله والمعود إليه) (١) وهذا الكلام في غاية الوضوح في إرادة الأولين سؤالا وجوابا ، لأن من البين ان مراد السائل استعلام السبب الذي لأجله منعت قريش اهل البيت من مقام النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بعد وفاته مع انهم احق به في جميع الأحوال من كل احد من الناس واقامت في ذلك المقام غيرهم ، والاستخبار عن علة ذلك والدفع المسئول عنه هو ما كان بعد قبض النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لانه هو الفعل الحادث الذي تعلق السؤال بسبب حدوثه من القوم وما بعده

__________________

(١) نهج البلاغة الكلام ١٦٠.

٤٨٥

انما هو استمراره ، وليس المقصود أولا وبالذات السؤال عن استمرار ذلك الفعل الا ان يدخل من جهة اللزوم فأتى الجواب على طبق السؤال بانهم لم يدفعونا عن هذا المقام ويستبدوا علينا به لسبب اوجب ذلك ، ولا لعلة اقتضته من طريق الشرع ، وانما كان ذلك لشح نفوسهم عن تسليم حقنا إلينا ، وقصدهم الاستيثار به علينا ، وهذا القول من جملة مبطلات ما تعلل به قوم من ان الأولين انما عدلوا بالأمر عن امير المؤمنين خوفا من انتقاض العرب عليه ، اذ لو كان ذلك من قصدهم فضلا عن ان يكون صحيحا موجبا لما فعلوا لذكره (عليه‌السلام) فيما دعاهم الى دفعه عن مقام اخيه وابن عمه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وان خطأهم بعد فيه لكن ذلك لم يكن ، وقد عرفت ما قررناه ان الكلام سؤالا وجوابا لا يختص بيوم الشورى كما ادعاه ابن أبي الحديد ، بل لا يتوجه السؤال إليه الا تابعا للأمر الأول ولا الجواب الا كذلك ، على انه لا يندفع عن المعتزلي المعاند الوهن في مذهبه بما ادعاه لأنه اذا ثبت ظلم اهل الشورى عليا (عليه‌السلام) من جهة تقديمهم في مقام النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) غيره لأنه الأحق به من غيره ثبت ان اهل السقيفة ظلموه لذلك بالاجماع اذ لا قول بالفصل بين عثمان ومن قبله فكل من صحح بيعة عثمان صحح بيعة الشيخين وكل من ابطل بيعته ابطل بيعتهما وبالعكس ، فعلى صحة دعواه لا يصح مذهبه كما ترى.

ونحن نذكر هنا ما حكاه من سؤاله النقيب أبا جعفر العلوي واجابة النقيب اياه فانه كلام جيد ، وجواب متين ، ونكتفي به في تمام تقرير الخبر قال المعتزلي : وسألت أبا جعفر يحيى بن محمد العلوي نقيب البصرة وقت قراءتي عليه عن هذا الكلام وكان (رحمه‌الله) على ما يذهب إليه من مذهب العلوية منصفا وافر العقل ، فقلت له : من يعني (عليه‌السلام) بقوله : (كانت اثرة شحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين)؟ ومن القوم الذين عناهم الأسدي بقوله : كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وانتم احق به؟

٤٨٦

هل المراد به يوم السقيفة او يوم الشورى؟ فقال : يوم السقيفة ، فقلت : ان نفسي لا تسامحني ان انسب الى الصحابة عصيان الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ودفع النص ، فقال : وانا فلا تسامحني أيضا نفسي ان انسب الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الى اهمال امر الامامة ، وان يترك الناس فوضى سدى مهملين ، وقد كان لا يغيب عن المدينة الا ويؤمر عليها اميرا وهو حي ليس بالبعيد عنها. فكيف لا يؤمر وهو ميت لا يقدر على استدراك ما يحدث ، ثم قال : ليس يشك احد من الناس ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كان عاقلا كامل العقل ، اما المسلمون فاعتقادهم فيه معلوم ، واما اليهود والنصارى والفلاسفة فيزعمون انه حكيم تام الحكمة ، سديد الرأي ، اقام ملة وشرع شريعة ، فاستجد ملكا عظيما بعقله وتدبيره ، وهذا الرجل العاقل الكامل يعرف طباع العرب وغرائزهم ، وطلبهم بالثارات الدخول (١) ولو بعد الأزمان المتطاولة ، ويقتل الرجل من القبيلة رجلا من بيت آخر فلا يزال اهل ذلك المقتول واقاربه يطلبون القاتل ليقتلوه حتى يدركوا ثأرهم منه ، فان لم يظفروا به ، قتلوا بعض أقاربه وأهله ، فان لم يظفروا أبا حدهم قتلوا واحدا أو جماعة من تلك القبيلة ، وان لم يكونوا رهطه الأدنين ، والاسلام لم يحل طباعهم ولا غير هذه السجية المركوزة في اخلاقهم ، والغرائز بحالها فكيف يتوهم لبيب ان هذا العاقل وتر العرب وعلى الخصوص قريشا وساعده على سفك الدماء وازهاق الأنفس وتقلد الضغائن ابن عمه الأدنى وصهره ، وهو يعلم أنه سيموت كما يموت الناس ويتركه بعده وعنده ابنته وعنده منها ابنان يجريان منه مجرى ابنين من ظهره حنوا عليهما ، ومحبة لهما ، ويعدل عنه في الإمرة بعده ولا ينص عليه ولا يستخلفه فيحقن دمه ودم بنيه وأهله باستخلافه؟ الا يعلم هذا العاقل الكامل انه اذا

__________________

(١) الذحول جمع ذحل وهو الثأر.

٤٨٧

تركه وترك بنيه واهله سوقة ورعية فقد عرض دماءهم للإراقة بعده ، بل يكون هو الذي قتلهم واشاط بدمائهم ، لأنهم لا يعتصمون بعده بامر يحميهم ، وانما يكونون مضغة للأكل وفريسة للمفترس ، يتخطفهم الناس ، ويبلغ فيهم الأغراض ، فأما اذا جعل السلطان فيهم والأمر إليهم فانه يكون قد عصمهم ، وحقن دماءهم بالرئاسة التي يصولون بها ، ويرتدع الناس عنهم لأجلها ، ومثل هذا معلوم بالتجربة ، ثم ذكر لهذا مثالا وقال بعده : أفترى ذهب عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) هذا المعنى أم احب ان يستأصل أهله وذريته من بعده؟ واين موضع الشفقة على فاطمة العزيزة عنده الحبيبة الى قلبه؟ ، أتقول انه احب ان يجعلها كواحدة من فقراء المدينة تتكفف الناس ، وان يجعل عليا المكرم المعظم عنده الذي كانت حاله عنده معلومة كأبي هريرة الدوسي وانس بن مالك الأنصاري يحكم الأمراء في دمه وعرضه ونفسه وولده فلا يستطيع الامتناع وعلى رأسه مائة الف سيف تتلظى أكباد اصحابها عليه؟ قد قتل ابناءهم واخوانهم وآباءهم واعمامهم (١) انتهى المراد من كلامه.

اقول لم يكن لابن ابي الحديد من دفع إرادة امير المؤمنين (عليه‌السلام) ومن سأله يوم السقيفة الا استبعاده صدور العصيان من الصحابة ، وهذا وان كان في نفسه ليس بدليل معتمد ، لأن الصحابة ليسوا بمعصومين عنده ، بل عند جميع الأمة ، فقد عارضه استبعاد النقيب من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اهمال امر الأمة وتركه دم عترته قريبا من السفك ، وبعيدا من الصيانة ، وكل الشيعة على هذا الوجه يعولون ، وهذا اقوى وارجح واقرب الى العقل السليم من الأول ، وان شئت قلت ان العقل لا يجوز صدور خلافه عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، فهو على كل حال مقدم عليه ، ومن ذلك يثبت النص فافهم على ان استبعاد المعتزلي إرادة الأولين من

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٩ / ٢٤٨.

٤٨٨

الكلام لما ذكره من السبب يستلزم استبعاده من إرادة اهل الشورى ، لأنهم منهم ومن اعوانهم ما خلا الزبير ، وأيضا الشورى كانت بامر من عقد الأمر لأبي بكر في السقيفة ودفع عليا (عليه‌السلام) عنه ، وهو عمر بن الخطاب وهو الذي جعل امر الشورى كله لعبد الرحمن بن عوف وما فعله ابن عوف كله برأيه وعن امره ، ؛ فالدافع عليا يوم الشورى عن مقام النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) هو بنفسه دافعه عنه يوم السقيفة ، فان لم يكن هو ومن وازره على ذلك المقصودين من السؤال والجواب لم يبق احد يقصد منهما ولا يعني بهما فلزم ان يكون السؤال وقع لا عن احد والجواب مثله ، وهذا محال ، ولم يبق لأحد تشبث بقصد معاوية واصحابه من القول ، لأن امير المؤمنين (عليه‌السلام) ذكر حالهم بعد جوابه المذكور للأسدي بما هو نص في ان الأسدي لم يقصدهم بسؤاله ، وان عليا (عليه‌السلام) لم يقصدهم بجوابه ، والخصم مقر بذلك ، وانما تردده بين إرادة الأولين وتابعيهم جميعا ومنهم اهل الشورى وبين اختصاصه باهلها كما سمعت في سؤاله هذا كله ، مضافا الى ما ذكرناه من عدم اندفاع المحذور ، لو صح ما قال.

ومنها الشعر المنسوب الى امير المؤمنين (عليه‌السلام) بالاشتهار روى منه ابن ابي الحديد ابياتا ، (١) كذلك وذكره بعض الخصوم بتمامه ، ونحن نذكره كذلك وسببه على ما روى ان معاوية كتب الى علي (عليه‌السلام) يفتخر بأشياء يزعم ان فيها مفخرا فغضب علي (عليه‌السلام) وقال أيفتخر علي ابن اكلة الأكباد اكتب إليه يا غلام :

محمد النبي اخي وصنوى

وحمزة سيد الشهداء عمى

__________________

(١) رواه ابن ابي الحديد ٤ / ١٢٢ كما رواه غيره بتقديم وتأخير وزيادة ونقصان نذكر منهم الحموي في معجم الأدباء ١ / ١١٩ ، وابن طلحة الشافعي في مطالب السؤال ص ١١ والسبط في التذكرة ص ٦٢ ، وابن حجر في الصواعق ٧٩ وابن كثير في البداية والنهاية ٨ / ٨ الخ ...

٤٨٩

وجعفر الذي يضحي ويمسي

يطير مع الملائكة ابن امي

وبنت محمد سكنى وعرسى

منوط لحمها بدمى ولحمي

وسبطا احمد ولداي منها

فايكم له سهم كسهمي

سبقتكم الى الاسلام طرا

غلاما ما بلغت أوان حلمي

وصليت الصلاة وكنت طفلا

مقرا بالنبي في بطن امي

واوجب لي ولايته عليكم

رسول الله يوم غدير خم

فويل ثم ويل ثم ويل

لمن يلقى الإله غدا بظلمي

انا البطل الذي لا تنكروه

بيوم كريهة وبيوم سلم

فقد صرح بقوله : واوجب لي ولايته البيت ، بدعوى النص عليه يوم الغدير لأن ولاية النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الامامة ، وهذه الأقوال المذكورة ومثلها من اقواله مما لم نذكره مصرحة بدعوى النص عليه وبظلم من تقدمه في الخلافة ، ونسبتهم الى منع الحق وغصب الأمر ونهب الميراث وغير ذلك ، وهو عندنا وعند المعتزلة صادق لا يكذب ، ولا يجوز الشك في صحة قوله ، ولا اظن الأشاعرة يجوزون تكذيبه وان جوزوا مخالفته ، وجلها قيل في ايام خلافته حين كان له بعض القدرة على الاخبار عما في نفسه على الأولين ، وصار للسانه بعض الانبساط في التعبير عما في ضميره منهم ، وهو دليل ظاهر وشاهد عادل على بقاء اعتقاده فيهم الظلم ، وانه لم يكن لهم عاذرا ، وان ذلك ليس من ترك الأولى في شيء ، وهذا يبطل ما ذكره ابن ابي الحديد من ان امير المؤمنين (عليه‌السلام) كان في مبدأ الأمر يظن ان العقد لغيره كان لغير نظر في المصلحة ، وانه لم يقصد به الا صرف الأمر عنه والاستيثار عليه فظهر منه ما ظهر من الامتناع والقعود في بيته الى ان صح عنده وثبت في نفسه انهم اصابوا فيما فعلوه ، وانهم لم يميلوا الى هوى ، ولا ارادوا الدنيا ، وانما فعلوا الأصلح في ظنونهم ، وانه لو ولى الأمر لفتقت عليه العرب فتقا يكون فيه استئصال شافة الاسلام ، وهدم اركانه ، فاذعن

٤٩٠

بالبيعة ، وجنح الى الطاعة ، وامسك عن طلب الأمرة ، وان كان على مضض ورمض الى آخر ما اتى به من الكلمات الواهنة.

وأقول هذا الرجل وان كان ابطل ما دبر ونقض ما ابرم ، وكفانا مئونة الجواب عما موه به من الزبرج في القول ، بقوله : ان امساك امير المؤمنين (عليه‌السلام) عن طلب الأمرة كان على مضض ورمض (١) ـ ، اذ لو كان ثبت عنده انهم اصابوا الحق لكان المضض والرمض منهم خطأ منه ، وكيف يحترق قلبه ويتألم من فعل قوم اصابوا الحق ، وعملوا بالصواب وحفظوا الدين عن صولة الكفار ، وكلمة المسلمين عن الانتشار ، ليس هذا من سجية المؤمنين ، ولا من خلق الصالحين ، فكيف يصدر من سيدهم ومقتداهم ومن هو اكثرهم عناء في اظهار الدين ونصر الاسلام والمسلمين ، ونكاية المشركين؟ بل الواجب لمثله (عليه الصلاة والسلام) ان يسر ويفرح بما فعلوه اذ كان موافقا لغرضه ، ويثني عليهم اذ كان ما دبروه مطابقا لمقصده والمعروف من حاله (عليه‌السلام) انه لا يحزن للدنيا ولا يفرح لها ولا نظر له فيها وانما حزنه وسروره للدين ، ونظره الحق اين كان وكيف كان ، فمضضه ورمضه فيما فعلوه من تقديم الأول عليه لا بد أن يكونا راجعين الى امر الدين ، وما ذلك الا لارتكابهم قبيحا لا حسن فيه ، وفعلهم خطأ لا صواب يلم به ويدانيه ، فقد قضى ببقائهما المعتزلي على ائمته اذ اقر بمضض علي (عليه‌السلام) ورمضه منهم وهذا كاف في اثبات دعوانا عدم رضاه عنهم ، وان امرهم غير صحيح عنده ولا جائز لديه ، فيكون كفه لعدم القدرة على انتزاع حقه منهم كما بينا مرارا ، الا انا نتعرض لذكر ما يرد على جمل كلماته فنقول : اما قوله : ان امير المؤمنين كان يظن ان عقد الامر لغيره لم يقصد منه الا صرف الأمر عنه الخ فجوابه ان امير

__________________

(١) المضض : وجع المصيبة ، والرمض ـ هنا ـ : احتراق القلب من شدة الألم.

٤٩١

المؤمنين ما كان يظن ذلك بل يتيقنه ويعلمه ويعتقده الى ان انتقل الى جوار ابن عمه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في مقعد صدق عند مليك مقتد ، الا تراه يقول لعمر حين الزمه ببيعة أبي بكر : اشدد له اليوم امره ليرده عليك غدا ، وقوله لعبد الرحمن بن عوف حين عدل عنه بالبيعة لعثمان : ما هو بأول يوم تظاهرتم فيه علينا ، وقوله للأسدي في الخبر المذكور من قريب : انها اثرة شحت بها نفوس قوم ، وغير ذلك من كلماته وقد سبق ذكر جملة منها ، وكيف يجهل ذلك أو يرتاب فيه وقد اخبره الصادق الأمين به وعهد إليه بغدر القوم به ، وما يرتكبون منه ، وفصّل له الأمر تفصيلا ، وأزاح عنه فيه غبار الظنة واوصله فيه الى درجة اليقين ، وقد سبق بيان هذا في الأخبار المتقدمة.

واما قوله الى ان صح عنده وثبت في نفسه انهم اصابوا فيما فعلوه الخ فجوابه ان يقال له : متى كان هذا في حياتهم أم بعد هلاكهم وهو في الحالين يشكو ظلمهم ويحكم بغصبهم حقه ونهبهم تراثه ، أفيجوز ان يقال في ميت مضى على اصابة الحق واحراز الدين انه ظالم غاصب ناهب الميراث وما شاكل هذه الكلمات لا يكون ذلك الا ويكون القائل ظالما قد قال زورا وافترى افكا ، وانت تنزهه عن الظلم والكذب فصح ان الثابت عنده والمستقر في نفسه انهم اخطئوا فيما فعلوه ومالوا الى الهوى وارادوا الدنيا وانه ما صوبهم يوما من الدهر.

واما قوله لو ولى الأمر لفتقت عليه العرب فتقا الخ فكلام مأخوذ عن عمر ولقد اطال المعتزلي واسهب في ذكره بما لا حاجة إليه من شرح امر حرب الجمل وصفين ، وهذا القول قد عرفت جوابه فيما سبق باحسن البيان وسيأتي منه ذكر أيضا ، ونقول هنا اخبرنا أي العرب انف من إمرة علي (عليه‌السلام) ، واستنكف عنها؟ الست رويت عن ابي بكر الجوهري ان الأنصار

٤٩٢

لما فاتهم الأمر في السقيفة قالوا وقال اكثرهم : لا نبايع الا عليا ورويت من اشعارهم في ذلك الكثير الواسع مثل قول النعمان بن عجلان وكان من أشرافهم.

وكان هوانا في علي وانه

لأهل لها يا عمرو من حيث لا تدري (١)

ومثل : قول حسان بن ثابت في علي (عليه‌السلام) :

سبقت قريشا بالذي انت اهله

فصدرك مشروح وقلبك ممتحن

تمنت رجال من قريش اعزه

مقامك هيهات الهزال من السمن (٢)

وغير ذلك مما ذكرناه فيما مضى ، ورويت ان جماعة من الأنصار سعوا في نقض بيعة ابي بكر ليبايعوا عليا ومعهم جماعة من المهاجرين ، وقد مرت الرواية والأنصار في ذلك الوقت هم ركن الاسلام ، وبهم قامت الدعوة ، وحصلت للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) النصرة ، وتم له بهم على العرب الانتصار ، ولما هدده عامر بن الطفيل بعسكره قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في جوابه : (يكفي الله منك وبنوا قيلة) (٣) فمن يأنف من سائر العرب ذلك الوقت ممن قدمه هؤلاء عليهم مع شهرته في الحسب والنسب عند جميع العرب ، الست رويت ان العباس بن عبد المطلب وأبا سفيان بن حرب عرضا على علي البيعة ورضيا له عليهما بالإمرة وهما اذ ذاك شيخا بني عبد مناف الست رويت ان خالد بن سعيد بن العاص طلب الإمرة لعلي (عليه‌السلام) ورضي بامرته عليه وهو من عمال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وأمراء اجناده ، ومن اهل السبق الى الاسلام ، ومن اشراف بني عبد

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٦ / ٣١ في ثمانية عشر بيتا نقلها ابن ابي الحديد عن الموفقيات للزبير بن بكار كما تقدم.

(٢) المصدر السابق ٦ / ٣٥ في ابيات نقلها ابن ابي الحديد عن الموفقيات.

(٣) شرح نهج البلاغة ٢٠ / ١٨٤ وكامل المبرد ٢ / ٣٢٤.

٤٩٣

شمس؟ الى غير ذلك مما يطول عده فمن هؤلاء العرب الذين أبوا ولاية علي عليهم بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، دلنا عليهم حتى نعرفهم فانا ما رأينا احدا من الناس استكبر عن ولاية علي (عليه‌السلام) عليه بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) إلا أصحاب السقيفة ومن انضم إليهم ، واهل الإحن والحقد على علي (عليه‌السلام) من قريش واضاربهم ، وداهنهم قوم آخرون ممّن حليت الدنيا في أعينهم طمعوا في امور منتهم بها انفسهم. واتبعهم غوغاء الناس والعامة فحصلت لهم بذلك الغلبة ووهن الراغبون في علي (عليه‌السلام) عن النصرة تواكلا وتخاذلا ، ولو لا هؤلاء : لم يختلف على علي (عليه‌السلام) احد ممن ذكرناهم فما ظنك بسائر العرب الذين ليس لهم في امر الخلافة حل ولا عقد ، واحب الأمراء إليهم من كان بهم ارفق ، أفرأيت لو أن هؤلاء بايعوا بعد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عليا وبايعه بنو هاشم وشيعتهم ، وبايعه جماعة الأنصار يتخلف عن بيعته طلحة وعثمان وابن عوف وابن ابي وقاص واشباههم ، واذا بايعه كل هؤلاء يأبى من بيعته ابن العاص وابن الوليد وابن ابي معيط اذن لضربت اعناقهم قبل ان يرتد إليهم طرفهم ، وتأبى عن طاعته العرب من الأعراب وغيرهم ، أو يفتقوا عليه مقدار خرق ابرة وقد سارت تحت راياته فرسان المسلمين من المهاجرين والأنصار ، فمن اولئك العرب الذين ينطقون في النقض عليه بعد هذا بكلمة فضلا عن ان يفتقوا عليه فتقا يكون فيه استئصال شافة الاسلام وكذا وكذا مما ذكره المعتزلي؟ ومن يستطيع منهم ذلك وهم لا يستطيعوا منه شيئا في ولاية ابي بكر حيث نفذ حكمه من المهاجرين والأنصار أفعلي (عليه‌السلام) عند العرب أدنى من أبي بكر نسبا وحسبا أم ابو بكر أنبه من علي (عليه‌السلام) عند العرب ذكرا أم اشد بأسا وأقوى قلبا؟ فما هذا الكلام الذي لا يتصوره عاقل ولا يتفوه به لبيب.

واما قوله : جنح الى الطاعة الخ فهو صحيح لكن على ما ذكره واثبته من

٤٩٤

المضض والرمض وذلك خارج عن قانون الرضا ولا شك عندنا انه (عليه‌السلام) أذعن بطاعتهم ، وانقاد لأمرهم فيما يتعلق بامور الامارة حقنا لدمه ودماء اهل بيته حيث لم يجد معينا يعينه ولا ناصرا ينصره ، فلو امتنع بعد ذلك عن بيعتهم لا هريق دمه كما فعل بابنه الحسين حذو النعل بالنعل فكان تسليمه لهم وكفه عنهم كرها لا اختيارا ، وليس النزاع في انه سلم وكف ظاهرا عن طلب الأمر ، وانما النزاع في انه رضى طوعا لا جبرا فقد سلم الحسن لمعاوية وكف الحسين عن منازعته بعد الحسن والمقطوع به انهما ليسا راضيين بخلافته وامثال هذا كثير ، ومما يؤكد ان القوم غير مصيبين عنده امتناعه يوم الشورى على عبد الرحمن بن عوف عن المبايعة على سيرة الشيخين ، وقوله : بل على كتاب الله وسنة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وفي هذا اشارة بنية الى أن في سيرتهما ما يخالف الكتاب والسنة وذلك السر في امتناعه لا ما فهمه ابن ابي الحديد ، وفي الكلام دلالة على ان عبد الرحمن بن عوف ومن معه لا يريدون من يسير فيهم بكتاب الله وسنة نبيه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، بل غرضهم فيمن يعمل فيهم بالرأي ويؤثرهم بالمال ، ويستشيرهم في الأحكام ، وصريح هذا المعنى عدول القوم عن نصوص الكتاب والسنة الى ما يشتهون ، واوضح من ذلك قول امير المؤمنين (عليه‌السلام) في خطبة يحرض فيها اصحابه على قتال معاوية واصحابه : (سيروا الى بقية الأحزاب ، سيروا الى نبذة الكتاب ، سيروا الى قتال من يقاتل على دم حمال الخطايا) (١) ، والمراد ببقية الأحزاب معاوية ومن معه من قريش وبحمال الخطايا عثمان لا معاوية كما قال ابن ابي الحديد لأن معاوية بزعمه يقاتل على دمه ، وليس يقاتل احد في صفين على دم معاوية لأنه حي بين ظهرانيهم ، وهو الذي اغواهم وساقهم بخدعه الى الضلال وقادهم

__________________

(١) نفس المصدر ٢ / ١٦٤ وفيه «انفروا» بدل «سيروا».

٤٩٥

الى قتال امامهم ، فدعوى ان عليّا (عليه‌السلام) صوب القوم في فعلهم يوما ما من باب تقريب البعيد ، وترويج الزيف وستر الظاهر المكشوف وان شئت قلت انها من باب تجويز الممتنع وهو من فعل ابن ابي الحديد غير مستنكر ولا بعيد ، فما زال يدفع عنهم بالراح ، ويبطل لأجلهم الحجج الصحاح ، ويرد للحماية عليهم دلالة الأدلة الصراح ، وليس ذا من عمله بمجد للمتأمل ولا بنافع عند المتبصرة ، ولا بكاف في الذب عنهم لدى المنصف المتدبر ، فما ابين الصبح لذي عينين وهل يصلح العطار ما افسد الدهر.

ومما يدل على ان بعض الصحابة قد احدثوا في الدين وغيروا احكام الكتاب وخالفوا السنة وخرجوا من العدالة دلالة صريحة ما صح في روايات الخصوم من اخبار النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بدخول جماعة من اصحابه النار لأنهم احدثوا بعده ما اوجب لهم دخولها وهي كثيرة نذكر منها بعضا تحصل به الحجة.

فمنها ما رواه الحميدي في الجمع بين الصحيحين بالسند عن سهل بن سعد من المتفق عليه قال : سمعت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يقول : (انا فرطكم على الحوض من ورد شرب ومن شرب لم يظمأ ابدا وليردن على اقوام اعرفهم ويعرفونني ، ثم يحال بيني وبينهم) قال ابو حازم فسمع النعمان بن ابي العباس وانا احدثهم هذا الحديث فقال : هكذا سمعت سهلا يقول قلت : نعم : قال : اشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته يزيد (واقول انهم من امتي فيقال انك لا تدري ما احدثوا بعدك فاقول سحقا فسحقا لمن بدّل بعدي) (١).

__________________

(١) صحيح البخاري ٧ / ٢٠٥ كتاب الرقاق ، باب الحوض و ٨ / ٨٧ اوّل كتاب الفتن.

٤٩٦

وعنه من المتفق عليه بالسند عن ابن عباس قال : ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : (الا وانه سيجاء برجال من امتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فاقول يا رب اصحابي ، فيقال انك لا تدري ما احدثوا بعدك ، فاقول كما قال العبد الصالح ، (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) (١) قال فيقال لي : انهم لم يزالوا مرتدين على اعقابهم منذ فارقتهم) (٢).

وعنه من المتفق عليه بالسند عن انس بن مالك قال : ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : (ليردن على الحوض رجال ممن صاحبني حتى اذا رأيتهم ورفعوا الى رءوسهم اختلجوا فلأقولن أي رب اصحابي اصحابي فليقال انك لا تدري ما احدثوا بعدك) (٣).

وعنه في افراد مسلم بالسند عن ابن عمر قال ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : (اذا فتحت عليكم خزائن فارس والروم أي قوم انتم) قال عبد الرحمن : نكون كما امرنا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (تتنافسون وتتحاسدون ثم تدابرون ثم تتباغضون وتنطلقون الى مساكن المهاجرين فتحملون بعضهم على رقاب بعض) (٤).

وفي صحيح البخاري (لا تقوم الساعة حتى تأخذ امتي ما اخذ القرون

__________________

(١) المائدة : من الآية ١٢١.

(٢) صحيح البخاري ٤ / ١١٠ كتاب بدأ الخلق.

(٣) صحيح البخاري ١ / ٢٠٧ كتاب الرقاق باب الحوض.

(٤) هذا الحديث روي في صحاح السنن وانظر مسند الامام احمد ج ٢ / ٣٢٥ و ٣٢٧ و ٣٣٦ و ٣٣٧ و ٤٥٠ و ٥١١ و ٥٢٧ وج ٣ / ٨٤ ، ٩٤٨٩.

٤٩٧

قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع) وفي غيره : (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا) الخ (١).

وفي صحيح الترمذي عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (لتركبن سنن من كان قبلكم) (١).

وفي جامع العلوم لقدوة الحفاظ ابي عبد الله محمد بن معمر عن ابي بن كعب قال : والله ما زالت هذه الأمة مكبوبة على وجهها منذ قبض رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم). وهذه الأحاديث وامثالها صريحة في ان القوم بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) رجعوا عن الدين على اعقابهم القهقري وما نرى شيئا فعلوه بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في الدين اعظم من اخذ الخلافة من اهلها ومستحقيها ولو لم يكن هناك نص على واحد بعينه وقد خالفوه واغتصبوا من ذي الحق حقه لما استوجبوا كل ذلك ، وفي هذه الأخبار تكذيب الأشاعرة في قولهم بنجاة كل صحابي وان فعل ما فعل من المعاصي ، ودلت أيضا على صحة تظلم امير المؤمنين (عليه‌السلام) من القوم السابقين في محله وموضعه ، فما ادعيناه عليهم قد وضح بيانه وسطع برهانه والحمد لله على انعامه بالهداية.

الوجه الثالث : مما يدل على وجود النص على امير المؤمنين ما يخطر من فلتات عمر فتارة يعترف بأن عليا مظلوم ، وتارة بانه منصوص عليه لكن خولف النص لمصلحة ، وتارة بأنه اولى بالأمر الى غير ذلك.

فمنها ما رواه ابن ابي الحديد عن الزبير بن بكار الزبيري في كتاب الموفقيات عن عبد الله بن عباس قال اني لأماشي عمر بن الخطاب في سكة من سكك المدينة اذ قال لي : يا بن عباس ما أرى (٢) صاحبك الا مظلوما ،

__________________

(١) الترمذي كتاب الفتن ب ١٨.

(٢) في شرح النهج «ما اظن».

٤٩٨

فقلت في نفسي : والله لا يسبقني بها فقلت : يا امير المؤمنين فاردد إليه ظلامته ، فانتزع يده من يدي ومضى (١) يهمهم ساعة ثم وقف ، فلحقته فقال : يا بن عباس ما اظنهم منعهم [من صاحبك] (٢) الا انه استصغره قومه ، فقلت في نفسي هذه شر من الأولى ، فقلت : والله ما استصغره الله ورسوله إذ ان يأخذ براءة من صاحبك (٣) ، فاعرض عني واسرع فرجعت عنه (٤)

قلت : فما ادري ما يصنع ابن ابي الحديد بهذا الاعتراف ، ثم انظر الى عذر عمر الذي اخذه من ابي عبيدة بانه استصغره قومه ، وهل في صغر السن من نقص اذا كان العقل كاملا وقد قال الله تعالى في يحيى : (وآتيناه الحكم صبيا) (٥) وقال حكاية عن عيسى (عليه‌السلام) وهو في المهد (انى عبد الله اتاني الكتاب وجعلني نبيا) (٦) فلم يكن الصغر فيهما مانعا من الكمال ، ولذا ولياه على تبليغ براءة وائتمناه عليها وعزل ابي بكر من تبليغها ولم يكن كبر السن نافعا ، ولا صغره مانعا ولله در ابن عباس ما اوضح حجته ، واقوى برهانه!! ومنها ما رواه عن عبد الله بن عمر قال : كنت عند أبي وعنده نفر من الناس فجرى ذكر الشعر فقال : من اشعر العرب فقالوا فلان وفلان فطلع ابن عباس فقال عمر قد جاء الخبير ، من أشعر العرب يا عبد الله؟ قال : زهير بن أبي سلمى ، قال : فانشدني ما تستجيده له ، فقال : يا امير

__________________

(١) وفيه «وقريهمهم».

(٢) ما بين المعوقين ساقط من المتن.

(٣) في الشرح «من ابي بكر».

(٤) شرح نهج البلاغة ٦ / ٥٤ وليس في الشرح «فاعرض عني واسرع فرجعت عنه» ولا شك انها ساقطة من المطبوعة.

(٥) مريم : ١٢.

(٦) مريم : ٢٩.

٤٩٩

المؤمنين انه مدح قوما من غطفان يقال لهم بنو سنان فقال :

لو كان يقعد فوق الشمس من كرم

قوم بأولهم او مجدهم قعدوا

قوم ابوهم سنان حين تنسبهم

طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا

انس اذا أمنوا جن اذا فزعوا

مرزءون بها ليل اذا جهدوا

محسدون على ما كان من نعم

لا ينزع الله عنهم ماله حسدوا

فقال عمر : قاتله الله لقد احسن ، ولا ارى هذا المدح يصلح الا لهذا البيت من هاشم لقرابتهم من رسول الله ، فقال : ابن عباس وفقك الله يا امير المؤمنين فلم تزل موفقا ، قال : يا بن عباس أتدري ما منع الناس منكم؟ قال : لا يا امير المؤمنين ، قال : لكني ادري ، قال : ما هو؟ قال : كرهت قريش ان تجتمع لكم النبوة والخلافة فتجحفوا الناس جحفا ، فنظرت قريش لأنفسها فاختارت ووفقت فاصابت فقال ابن عباس : أيميط امير المؤمنين عني غضبه فيسمع قال : قل ما تشاء ، قال : اما قول امير المؤمنين بان قريشا كرهت فان الله قال لقوم : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) (١) واما قولك : انا كنا نخجف فلو خجفنا بالخلافة خجفنا (٢) بالقرابة ولكنا قوم اخلاقنا مشتقة من خلق رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الذي قال الله تعالى فيه : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (٢) وقال له : (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٣). واما قولك : ان قريشا اختارت فان الله تعالى يقول : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) (٤) وقد علمت يا امير المؤمنين ان الله اختار من خلقه لذلك من

__________________

(١) محمد : ٩.

(٢) الخجف : الكبر.

(٣) القلم : ٤.

(٤) الشعراء : ٢١٥.

القصص : ٦٨.

٥٠٠