منار الهدى في النصّ على إمامة الأئمّة الإثني عشر

الشيخ علي البحراني

منار الهدى في النصّ على إمامة الأئمّة الإثني عشر

المؤلف:

الشيخ علي البحراني


المحقق: السيد عبدالزهراء الخطيب
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار المنتظر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٢٠

واقامة الحدود بمقتضى مرادهم ، وجباية الأموال وايثار من ميله إليهم يقوى امره ويشدده بها ، والقلوب على ما انطوت عليه من اراده الدنيا ، وطلب العاجلة ، وعدم الالتفات الى العقبى وثواب الآجلة ، فانتشر صيت الاسلام وكثر الداخلون فيه ، ورغبوا في التدين به ، وضرب بجرانه وشدت قواعد اركانه ، ولو لا ذلك كله لأعفوا رسومه وطمسوا معالمه ، وكان ذلك لانجاز ما وعد الله رسوله ان يظهر دينه ويفلج حجته وتصديق ما قاله النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كما رواه الخصم وغيره (ان الله يؤيد هذا الدين باقوام لا خلاق لهم في الآخرة) أو قال : (عند الله يوم القيامة) وفي رواية (بالرجل الفاجر) (١) ومع ذلك فقد غيروا من احكام الشريعة ما قدروا على تغييره وفعلوا ما اوجبه اختلاف الأمة الى آخر الدهر وهو ازاحتهم وصى الرسول عن مقعده وبالله المستعان.

فان قال قائل : فلم لم يضرب النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اعناقهم لما ردوا عليه حكمه وقوله لأن رد قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كفر ، واذا لم يكن ذلك صادر الزم اما انهم لم يخالفوه أو أن مخالفته بالرأي جائزة اذ لا مانع له في سلطانه من قتل من خالفه.

قلنا : هذه الشبهة هي التي جرأت القوم على خلاف النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في حياته ، وجسرتهم على رد نصوصه ، حتى انه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) امر في حجة الوداع من لم يسق هديا بالاحلال وان يجعلها عمرة يتمتع بها الى الحج وحث على ذلك غاية الحث وقال : (لو استقبلت من امري ما استبدرت ما سقت هديا) فعصاه كثير منهم ولم يحلوا وقالوا

__________________

(١) يعني بالخصم ابن أبي الحديد وقد روى هذه الرواية في شرح نهج البلاغة ٢ / ٣٠٩ هكذا :

(ان الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر) وهي مروية في صحيح البخاري ٥ / ٧٥.

٤٦١

نخرج الى الحج تقطر مذاكيرنا من المنى كما في صحيح مسلم (١) وهذا عصيان واستهزاء ولم يكونوا ساقوا هديا وسافر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في شهر رمضان فافطر ولم يفطر جماعة ممن معه من الصحابة فقال : (اولئك العصاة) يكررها ثلاثا رواه مسلم في صحيحه أيضا (١) وكثير من ذلك وكما جرأت اولئك على خلاف النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اوهمت اولياءهم ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) سوغهم ذلك حيث لم يعاقبهم على ردهم قوله وحكمه بما يقتضي ردعهم ، وهذه شبهة ضعيفة جوابها في كتاب الله تعالى وهو قوله : (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ) (٢) الآية فان الله سبحانه وتعالى امره بالكف عنهم والعفو والصفح عن زلاتهم لئلا يتفرقوا عنه ويخذلوه فلا يبقى معه الا القليل : كما امره الله تعالى بالكف عن المنافقين ودعائهم الى حرب المشركين وإعطائهم من الغنائم يؤلفهم بها ويستميلهم بذلك الى قتال العدو لتظهر كلمة الاسلام وتنتشر دعوته في الآفاق مع علمه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بنفاق المنافقين ، وشك المؤلفة قلوبهم فأجرى اولئك مجرى هؤلاء على انهم لم يظهروا جحود ربوبية الله ووحدانيته ، ولا انكار نبوة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وانما كانت مخالفتهم في امور اخر من الأحكام وكان يردعهم على مخالفتهم اياه باخشن الكلام كما قال لهم يوم الحديبية اذ قال عمر فلم نعطي الدنية في ديننا؟ : (ألستم اصحابي يوم احد اذ تصعدون

__________________

(١) صحيح مسلم ٤ / ٣٨ كتاب الحج باب وجوب الاحرام وصحيح البخاري ٨ / ١٦٢ كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب نهي النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على التحريم الا ما تعرف اباحته.

(٢) صحيح مسلم ٣ / ١٤٢ كتاب الصوم وفيه (اولئك العصاة) مرتين لا ثلاثا كما في المتن.

٤٦٢

ولا تلوون على احد ، ألستم اصحابي يوم كذا؟) يقرعهم بذلك ويبكتهم (١) واظهاره الغضب حين اراد ان يكتب الكتاب في رزية يوم الخميس فقال من قال : انه ليهجر وقوله : (قوموا عني فانه لا ينبغي عند نبي تنازع) (٢) وقوله لسعد بن ابي وقاص : (ثكلتك امك انما تنصرون بضعفائكم) وهكذا كان يردعهم بالكلام الغليظ ويعفو عما زاد عليه ، والسر في ذلك الا يتوهم الناس انه ملك جبار لا نبي حليم متواضع ، ولو كان نبيا لما قتل قوما دعاهم الى دينه فاجابوه وانتصر بهم على عدوه بمجرد زلة أو خطيئة او مخالفة له في حكم ، وهذا ليس من خلق الأنبياء بل من خلق الأنبياء التأني وغفران الزلة وتوضيح الحكم عند المخالفة ، وليس من خلقهم قتل اصحابهم في مثل ذلك ، فان موسى قال له قومه : (أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا) وهذا الكلام فيه تشاؤم من موسى (عليه‌السلام) وتضجر فأجابهم بما قصه الله تعالى : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ) (٣) الآية وقالوا له : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) (٤) حين مروا بعد خروجهم من البحر بقوم يعبدون شجرة ، فاجابهم (إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) وهذه من اعظم الجرائم لانهم ارادوا منه ان يصيرهم مشركين وقالوا له : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) (٥) بعد امتناعهم عن دخول الأرض المقدسة ، وقولهم : (لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها) (٥) وغير ذلك ومع هذه المخالفات العظيمة من بني اسرائيل لموسى (عليه‌السلام) مما قصه الله في القرآن لم

__________________

(١) انفه عمر (رضي الله عنه) من الصلح رواها عامة المحدثين وارباب السير نذكر منهم البخاري في صحيحه ٢ / ٨١ ومسلم ٥ / ١٧٥ كتاب الجهاد والسير النص والاجتهاد ص ١٧٠

(٢) تقدم تخريجه.

(٣) الأعراف : ١٢٩.

(٤) الأعراب : ١٣٨.

(٥) المائدة : ٢٤.

٤٦٣

يقتل موسى منهم احدا ولا دعا عليه بالهلاك ، وحال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في الرأفة والحلم أعظم من موسى ، ألا تراه في احد حين اصابه الجراح والمشقة جعل يقول : (اللهم اهد قومي فانهم لا يعلمون) (١) وجعل الدعاء لهم محل الدعاء عليهم ، فكيف يقتل قوما مقرين بدينه بصدور مخالفة منهم في قول او فعل ، وانما يكون القتل والتأديب بارتكاب ما يوجب الحدود ، فكان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يعمل معهم كعمل الأنبياء مع اصحابهم وذلك من اوضح الأدلة على نبوته ، فكان يعفو ويصفح عن قتل من خالفه ، وان كان يجوز قتله لدفع توهم الناس انه ليس بنبي ، ولو كان كذلك لسار في اصحابه سيرة الأنبياء في اصحابهم فتركه اياهم وصفحه عنهم من جملة ما يثبت نبوته عند الناس ، وقد عفى عن اهل مكة وكانوا مستحقين للقتل وقال : (اذهبوا فانتم الطلقاء) (٢) وكم عفى عن مستحق للقتل لكنه مع ذلك كله يردعهم باللسان واظهار الغضب على الجراءة والمخالفة ، فلو كان خلافهم له جائزا لم يردعهم لكنه جمع بين الأمرين فزالت الشبهة بعون الله ، وكيف يجوز رد أمر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) والله تعالى يقول : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) ويقول : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) ويقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) (٣) وغيرها من الآيات الواضحات في عدم جواز مخالفة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) والقرآن مملوء بها.

__________________

(١) رواه اكثر علماء السّير.

(٢) سيرة ابن هشام ٤ / ٤٠.

(٣) الحجرات : ٢.

٤٦٤

واما الدعوى الثانية : اعني ان هناك نصا من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على علي (عليه‌السلام) وقد خالفه القوم فلنا عليها وجوه من الأدلة.

الأول : دلالة الأخبار الصحاح عند الخصم على المدعي.

فمنها : قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لعلي (عليه‌السلام) (ان الأمة ستغدر بك من بعدي) فقد رواه ابن ابي الحديد عن اكثر المحدثين ورواه غيره أيضا (١) ، وهذا الحديث نص صريح في ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عهد إليهم في علي (عليه‌السلام) عهدا وانهم نقضوا عهده فيه ، لأنه لا يخفى على من له ادنى معرفة باساليب كلام العرب فضلا عن فاضل مدقق ان لفظ الغدر لا يستعمل الا في نقض عهد متقدم ، وقد صرح بذلك الشهاب الفيومي في المصباح المنير وغيره من اهل اللغة ، فلا يقال : غدر فلان الا اذا نقض عهدا معهودا ، وابطل عقدا معقودا يلزمه الوفاء به ، كما أن الوفاء الذي هو ضد الغدر معناه البقاء على مقتضى العهد المتقدم ، والاستمرار على موجب العقد السابق ، فاذن ثبت من هذا القول ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عهد الى اصحابه عهدا فنقضوه بعد وفاته ، ولا عهد نقض في ذلك غير العهد بالخلافة ، اذ لم يأخذ الصحابة من على غيرها ، ولم يناقضوه في سواها فصح انه منصوص عليه وان القوم خالفوا النص بتعمد فكانوا غادرين وهو عين مدعانا ، ولا يجوز ان يحمل ذلك على ما وقع في ايام خلافة علي (عليه‌السلام) خاصة لوجوه ثلاثة.

الأول : ان الغدر منسوب الى الأمة ، والأمة في ذلك الوقت على الحقيقة

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٤ / ١٠٧ و ٦ / ٤٥ وقد رواه الحاكم في المستدرك ٣ / ١٤٠ و ١٤٢ والخطيب في تاريخ بغداد ١١ / ٢١٦ والمتقي في كنز العمال ٦ / ٧٣ وقال : «اخرجه ابن ابي شيبة والحارث والبزاز والحاكم والعقيلي والبيهقي».

٤٦٥

هم الصحابة ومن سواهم تبع لهم ، فالغدر لا محالة صادر عنهم وواقع منهم اذ لا مخالفة من غيرهم من جميع الناس الا بسببهم ودعائهم ، او دعاء احد منهم الى المخالفة كما هو معلوم عند اولى العقل والفطنة ، فوجب ان يكونوا هم المعينين بالغدر ورؤساء الجمل وصفين من جملتهم ، اللهم الا ان يتمحل متمحل فيقول ان الصدر الأول من الصحابة ليسوا من الأمة فحينئذ يقال له فهم اذن غير مسلمين لأن امة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من اقر بالشهادتين واذا لم يكونوا من الأمة كانوا من الكفار.

الثاني : ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : (بعدي) فجعل ما بعده من الزمان الذي اوله وقت وفاته ظرفا لغدرهم فيعم جميع الأوقات ، والتخصيص بوقت يتوقف على المخصص ولا مخصص في المقام الا رأى الخصم وليس الرأي بمقبول.

الثالث : انا انما نتكلم على معنى الحديث وهو مفيد لثبوت العهد من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في علي (عليه‌السلام) إليهم لثبوت الغدر منهم ، وحيث ثبت الغدر ثبت لتوقفه عليه وذلك هو النص بالامامة ومن ادعى غيره فعليه البيان فتثبت الامامة له في جميع الأوقات فمن زحزحه عنها او حال بينه وبينهما فهو غادر وقد وضح الأمر الا ان يكذب ابن ابي الحديد واصحابه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيكفروا ، وليس ذلك بكثير عليهم في محبة ائمتهم.

ومنها ما رواه ابن أبي الحديد عن يونس بن حبيب (١) عن انس بن مالك قال : كنا مع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وعلي بن أبي طالب (عليه‌السلام) معنا فمرّ بحديقة فقال علي يا رسول الله ألا ترى ما

__________________

(١) في شرح النهج «خباب».

٤٦٦

احسن هذه الحديقة؟ فقال : (ان حديقتك في الجنة احسن منها) حتى مررنا بسبع حدائق يقول على ما قاله ويجيبه رسول الله بما اجابه ، ثم ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وقف فوقفنا فوضع رأسه على رأس علي فبكى فقال علي (عليه‌السلام) : ما يبكيك يا رسول الله؟ قال : (ضغائن في صدور قوم لا يبدونها لك حين يفقدوني) فقال : يا رسول الله أفلا اضع سيفي على عاتقي فابيد خضراءهم؟ قال : (بل تصبر) قال : فان صبرت؟ قال : (تلاقي جهدا) قال : أفي سلامة من ديني؟ قال : (نعم) قال اذن لا أبالي (١) وهذا الحديث نص في ان القوم كانت في صدور بعضهم ضغائن على علي (عليه‌السلام) اخفوها في حياة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وانهم يبدونها له بعد فقدهم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وليس ما ابدوه بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الا منعه من الخلافة وجحدهم النص عليه واخراجهم اياه ملببا ليدخل في بيعتهم ، فبين رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ان ذلك من فعلهم وقع لحقد وضغن في قلوبهم على علي (عليه‌السلام) ، فحينئذ ان كانوا علموا انه الأحق بمقام النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من جهة نصه عليه فهو ما نقول من انهم لم يتقدموا على علي (عليه‌السلام) لجهل منهم باستحقاقه التقدم ، ولا لعدم اطلاع على النص عليه من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وانما فعلوا ذلك حسدا له وبغضا وهو المطلوب وان كانوا لم يعلموا بشيء من ذلك ولا وقع شيء منه وانهم علموا ان الأمر بين المهاجرين شرع فلا يجوز نسبة الضغن إليهم ورميهم بكتمان الحقد ، وملاقاة امير المؤمنين الجهد في صبره على فعلهم ، لكن ذلك كله ثابت لهم باخبار الصادق الأمين فوجب ان يكونوا جاحدين النص ولا يجوز ان يحمل الخبر على ما كان من اصحاب

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٤ / ١٠٧.

٤٦٧

الجمل وصفين والنهروان لأن عليا (عليه‌السلام) اذ ذاك لم يوص بالصبر ولم يصبر ، بل امر بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين بصريح النصوص ، ومنها ما سبق ذكره فوضع السيف في نحورهم ، وترك للسيدان لحومهم وجرعهم كئوس المنية بحدود المشرفية ، وانما امر بالصبر وصبر في تغلب الثلاثة على الأمر فهم المعينون بالضغن بلا مرية.

ومنها ما رواه عن ابي جعفر الإسكافي ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) دخل على فاطمة فوجد عليا نائما فذهبت تنبهه فقال : (دعيه فرب سهر له بعدي طويل ورب جفوة لأهل بيتي من اجله شديدة) فبكت فقال : (لا تبكي فانكما معي وفي موقف الكرامة عندي) (١) والتقرير قريب مما مر ولقد صح ما اخبر به النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من حصول الجفوة لأهل البيت في تأمر الثلاثة فانهم لم يدعوا طليقا كيزيد بن أبي سفيان ومعاوية وابن ابي سرح ، ولا متهما ولا ظنينا كالوليد بن عقبة وسعيد بن العاص ومروان بن الحكم واشباه هؤلاء واضرابهم ، ولا متهتكا في دينه معروفا بالهزل في الاسلام كأبي هريرة والمغيرة بن شعبة وامثالهما الا ولوه ولاية ونال من جهتهم إمارة جيش او بلد وجباية ، ولم يولوا احدا من بني هاشم شيئا من ذلك بل ما زالوا يبعدونهم ، ويقصونهم ليكونوا محقورين ويهون أمرهم على الناس ، ويكونوا في زاوية الخمول فيصيروا منسيين غير مذكورين ، ومخفيين غير مشهورين ، كل ذلك ليخفى فضل علي (عليه‌السلام) لأن اهل البيت لو ظهروا لأظهروا فضله ، ونشروا مناقبه ، فمالت الناس إليه ، ورغب اهل الدين فيه ، فانعكس على القوم ما ارادوا واختل عليهم ما دبروا فلذا جفوهم واقصوهم فكان ذلك من اجله ، وهذا يرشدك الى بطلان ما اعتذر به ابن ابي الحديد وغيره تبعا لاسلافهم فقالوا : ان عليا

__________________

(١) نفس المصدر ٤ / ١٠٧.

٤٦٨

(عليه‌السلام) لو ولى الخلافة لانتقضت عليه العرب واختل امر الملة ، فان العرب لم يكونوا ليجترءوا على خلافه اذا كان المهاجرون والأنصار في طاعته مع ما تمكن في قلوب الناس من هيبته واشتهر فيما بين العرب من شجاعته وبراعته وكيف تنقاد العرب لمن تقدم عليه وهم دونه في الحسب والنسب بسبب طاعة الصحابة لهم ولا تنقاد لعلي (عليه‌السلام) لذلك مع جلالة قدره وعظيم منزلته ، وشدة موقعه من قلوب الناس ، وعلو شأنه بشرف النسب وكرم الحسب ، وكونه من لب بيت السيادة ومخ بيضة الرئاسة من آباؤه اولياء حرم الله ، والذين هم اصحاب وقادة حجاج بيت الله ، واهل السقاية والكرم ، واطعام الطعام ، واهل الرحلتين واهل الحكومة بين العرب قال الوليد الطائي في صفين.

شدّوا فداء لكم أمي وابي

فانما الأمر غدا لمن غلب

هذا ابن عم المصطفى والمنتجب

تنمية للعلياء سادات العرب (١)

وكم مثل هذا قيل فيهم من الولي والعدو وفي الاسلام والجاهلية ، هذا مع السبق الى الدين والقرابة القريبة من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، والشجاعة الفائقة ، والجهاد العظيم ، والعلم الغزير ، والجود والسماحة ، والزهد والقناعة ، وبالله اقسم قسما بارا انه لو ولى الأمر بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ولم يخالفوا عليه وسلموا له الأمر ، والقوا إليه ازمة الرئاسة لانساقت العرب الى اجابته طوعا ، ومشوا في طاعته ولو حبوا لكانت إمارته عندهم نعمة مشكورة فضلا عن ان تكون إمرة مبرورة ، ولكثر الشعر في مدحه واسفر ليل سرورهم بولايته عن صبحه ، ولم يتخلف احد من العرب عن طاعته ، ولم يختلف اثنان منهم في إمامته ، وقد ظهر من فرح المسلمين

__________________

(١) المصدر السابق ١٦ / ١٢٩ ، وبعدهما :

ليس بموصوم اذا نص النسب

اوّل من صام وصلى واقترب

٤٦٩

ببيعته يوم بويع بعد قتل عثمان ما تواتر في الكتب نقله ، وقيلت الأشعار الكثيرة في السرور ببيعته ، بل هو بعد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وقد لقى ما لقى والمدائح تقال فيه والألسن تلهج به ، والأيدي تشير إليه ويؤنب الجماعة على عدولهم عنه ففي قول النعما بن عجلان الأنصاري.

وليس ابو بكر لها خير قائم

وان عليا كان اخلق بالأمر (١)

وفي قول ابي سفيان بن حرب

بني هاشم لا يطمع الناس فيكم

ولا سيما تيم بن مرة او عدي

وما الأمر الا فيكم وإليكم

وليس لها الا ابو حسن علي

أبا حسن فاشدد بها كف حازم

فانك بالأمر الذي تبتغي ملي (٢)

وقول آخر (٣) :

ما كنت احسب ان الأمر منصرف

عن هاشم ثم منها عن ابي حسن

أليس اوّل من صلى لقبلتكم

واعلم الناس بالآيات والسنن

واقرب الناس عهدا بالنبي ومن

جبريل عون له في الغسل والكفن

من فيه ما في جميع الناس كلهم

وليس في الناس ما فيه من الحسن

ما ذا الذي صدكم عنه فنعرفه

ها ان بيعتكم غبن من الغبن (٣)

__________________

(١) هذا البيت من قصيدة روى منها الزبير بن بكار في الموفقيات ثمانية عشر بيتا كما في شرح نهج البلاغة ٦ / ٣١.

(٢) شرح نهج البلاغة ٦ / ١٧ عن الموفقيات للزبير بن بكار.

(٣) هو بعض ولد ابي لهب كما في شرح نهج البلاغة ٦ / ٢١ وقيل هو الفضل بن العباس بن عتبة بن ابي لهب كما في الاستيعاب ٣ / ٦٧ ، ويرويها ابو جعفر الاسكافي عن ابن اسحاق لأبي سفيان بن حرب ـ كما في شرح نهج البلاغة ١٣ / ٢٣٢ ، واذا صح القول الأخير فالمظنون قويا ان «حرب» تصحيف «حرث» فيكون المراد أبا

٤٧٠

الى غير ذلك مما لا يسع المقام نقله وهو مذكور في كتاب خصمنا وغيره ، فاني تنتقض العرب على هذا لو لا ما جرى عليه ، وقد صرح هو (عليه‌السلام) بهذا المعنى وبنينه فيما ـ رواه ابن ابي الحديد عن عوانة عن يزيد بن جرير عن الشعبي عن شقيق بن سلمة ان عليا (عليه‌السلام) لما انصرف الى رحله بعد مبايعة عبد الرحمن لعثمان قال لنبي ابيه : (يا بني عبد المطلب ان قومكم عادوكم بعد وفاة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كعداوتهم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في حياته ، وان يطع قومكم لا تؤمروا ابدا ، وو الله لا ينيب هؤلاء الى الحق الا بالسيف) وعبد الله بن عمر داخل عليهم قد سمع الكلام كله فدخل وقال : يا أبا الحسن أتريد ان تضرب بعضهم ببعض فقال : (اسكت ويحك لو لا ابوك وما ركب مني قديما وحديثا ما نازعني ابن عفان ولا ابن عوف) (١) ، الخبر وهو مصرح بما قلناه ان جراءة المتأخرين عليه انما كانت بسبب الرجلين السابقين وما فعلاه من اخراجه عن مقامه وسترهما فضائله ومزاياه ، ولو لا جرأتهما عليه وتقدمهما قبله لم يخالفه احد من الناس ، ولا جسر على مقامه واحد من المسلمين ، ولا رام التقدم عليه في الأمر ابن حرة أبدا وقد تقدم قبل هذا من كلام معاوية في كتابه جوابا لمحمد بن ابي بكر (رحمه‌الله) ما يصرح بهذا المعنى ، وبعد فهل رأيت احدا من العرب خالفه حين بويع من تلقاء نفسه بدون تسويل احد من الصحابة واملائهم لهم ، وتزيينهم لهم فرقته ومخالفته حتى يخالفه من تلقاء نفسه لو ولى الأمر عفوا بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، هؤلاء اهل البصرة قد انقادوا الى طاعته ورضوا ببيعته ، واطاعوا عماله ، ونفذت فيهم احكامه واوامره ونواهيه ، ولم يسخط احد إمارته ، ولا

__________________

سفيان بن الحارث بن عبد المطلب.

(١) شرح نهج البلاغة ٩ / ٥٤.

٤٧١

رد واحد منهم بيعته الى ان جاءتهم عائشة وطلحة والزبير فتنوهم عن دينهم وادخلوهم في الضلالة وزينوا لهم الفرقة وشق العصا بالشبة والخدع فلولا مجيء عائشة والزبير وطلحة وتحميلهم اياهم على نكث البيعة وخلع الطاعة لكانوا ماضين عليها ، ومستمرين على العمل بموجبها ومتحققين بها غير مستنكفين عنها ولا مرتابين فيها ، واولئك اهل الشام لو لم يزين لهم معاوية الشقاق ويعينه على ذلك عمرو بن العاص علم النفاق فيدعوهم الى الخلاف ويحملاهم على عدم الوفاق ويغمساهم في غمرات الغواية ، ويسدا عليهم طريق الهداية بما ألقيا في قلوبهم من التشبيهات والتسويلات وملئا به اسماعهم من الأباطيل والأضاليل ، وقرعا به آذانهم من الأقاويل الملفقة والأكاذيب ما نازعه منهم منازع ولا صرفهم عن المسارعة إليه صارف ، ولا منعهم عن بيعته والقيام بواجب طاعته مانع ، بل لو خيروا ابتداء قبل الشبه عليهم لما اختاروا غيره ولا عدلوا به سواه ، ولو لا صفين لما كانت النهروان ولا ما بعدها من الحروب ، فالاختلاف على امير المؤمنين انما جاء من قبل اولئك ولولاهم لأدت الناس جميعا إليه الطاعة ، واستقاموا له غاية الاستقامة ، وبذلوا له الجهد في النصيحة ، ثم لا تمضي برهة من الزمان حتى يتبين للناس في امر الامامة الرغوة من الصريح ، ويتضح لهم الظالم والمظلوم ، ولكن اولئك افسدوا الأمر عليه ومنعوا العرب الثواب الجزيل في الاجتماع عليه ، والطاعة لأمره ، وادخلوهم في العقاب الأليم الطويل بالتفرق عنه ومعصيته ، وسبب ذلك كله الأولون كما سمعت وبذلك يصرح قوله في الخبر : (وان يطع قومكم لا تؤمروا ابدا) وذلك لصرف أولئك الأصحاب وجوه من اطاعهم من الناس عن مودة اهل البيت وولايتهم ، وذلك لشدة بغضهم لأمير المؤمنين ، فما زال اهل البيت في جفوة من القوم لأجله كما هو صريح قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فاعتذارهم عن تقدمهم عليه بانتقاض العرب عليه لو ولى الأمر بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عذر باطل

٤٧٢

وقول زائف لا يخفى وهنه وفساده ، وبطلانه وكساده على اهل الفضل والنهي ، ولنقتصر في هذا المطلب هنا على هذا القدر من الكلام فان فيه الكفاية لذوي الإنصاف والغنية لمن حاد عن مزلة الاسراف.

ومنها ما رواه عن كثير من المحدثين عن علي (عليه‌السلام) ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال له : (ان الله قد كتب عليك جهاد المفتونين كما كتب على جهاد المشركين) قال : فقلت : يا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ما هذه الفتنة التي كتب علي فيها الجهاد؟ قال : (قوم يشهدون أن لا إله الا الله واني رسول الله وهم مخالفون السنة) فقلت : يا رسول الله فعلام اقاتلهم وهم يشهدون كما اشهد؟ قال : (على الأحداث في الدين ومخالفة الأمر) فقلت : يا رسول الله انك كنت وعدتني الشهادة فاسأل الله ان يعجلها لي بين يديك قال : (فمن يقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين اما اني وعدتك الشهادة وستستشهد تضرب على هذا فتخضب هذه فكيف صبرك اذن)؟ قلت : يا رسول الله أليس ذا بموطن شكر قال : (اجل اصبت فاعد للخصومة فانك مخاصم) فقلت : يا رسول الله لو بينت لي قليلا ، فقال : (ان امتي ستفتن من بعدي فتتأول القرآن ، وتعمل بالرأي وتستحل الخمر بالنبيذ ، والسحت بالهدية ، والربا بالبيع ، وتحرف الكتاب عن مواضعه ، وتغلب كلمة الضلال ، فكن جليس بيتك حتى تقلدها فاذا قلدتها جاشت عليك الصدور ، وقلبت لك الأمور تقاتل حينئذ على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله ، فليست حالهم الثانية بدون حالهم الأولى) فقلت : يا رسول الله فبأي المنازل انزل هؤلاء المفتونين من بعدك أبمنزلة فتنة أم بمنزلة ردة؟ فقال : (بمنزلة فتنة يعمهون فيها حتى يدركهم العدل) فقلت : يا رسول الله أيدركهم العدل منا أم غيرنا قال : (بل منا بنا فتح الله وبنا يختم وبنا ألف بين القلوب بعد الشرك ، وبنا يؤلف بين القلوب بعد الفتنة)

٤٧٣

فقلت : (الحمد لله على ما وهب لنا من فضله) (١) وهذا الحديث صريح في ان القوم افتتنوا بعد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وضلوا وعملوا بالرأي وحرفوا الكتاب ، وفعلوا جميع ما ذكره النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من استحلال المحرمات بالشبهات وهذا كله قبل تقلد علي الخلافة ، وانه مأمور بالجلوس في بيته وترك نزاعهم حتى يتقلد الأمر فحينئذ يقاتل ولا فتنة ولا ضلال بعد موت النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الى تخلف امير المؤمنين (عليه‌السلام) الا بتأخيره عن الخلافة وتقدم غيره عليه ، فاذا لم يكن عليه نص خالفوه ، فمن اين جاءهم الضلال ووقعوا في الفتنة وعملوا بالرأي وفعلوا ما ذكر في الخبر ، فهو اصرح من الشمس الضاحية في رابعة النهار فيما قاله الامامية من ضلالتهم وذا مصداق قوله تعالى : (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (٢) ـ ومن اعجب العجب قول ابن ابي الحديد ودعواه بعد نقل هذا الخبر صراحته في مذهب المعتزلة ظنا منه ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) إنما عنى اهل الجمل وصفين (٣) وذلك من جملة غفلاته أو تغافله ، ولو فكر لوجد الخبر واضحا في ابطال مذهبه وفساد معتقده والله الهادي.

ومنها : ما رواه عن سدير الصير عن ابي جعفر محمد بن علي قال اشتكى على شكاة فعاده ابو بكر وعمر وخرجا من عنده فأتيا النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فسألهما من اين جئتما قالا : عدنا عليا قال : (كيف رأيتماه) قالا : رأيناه لما به فقال : (كلا ، انه لن يموت حتى يوسع غدرا

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٩ / ٢٠٦.

(٢) العنكبوت ٢.

(٣) شرح نهج البلاغة ٩ / ٢٠٨. قال : وفي قوله : «بمنزلة فتنة تصديق لمذهبنا ـ ويعني المعتزلة ـ في اهل البغي».

٤٧٤

وبغيا وليكونن في هذه الأمة عبرة يعتبر به الناس من بعده) (١) وهذا الخبر صريح في حصول الغدر بامير المؤمنين (عليه‌السلام) من الأمة ، وقد علمت ان الغدر لا يكون الا بنقض عهد سابق ويثبت المطلوب بمثل ما تقرر في الحديث الأول ، ثم انه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ذكر الغدر والبغي فيكون الغدر اشارة الى ما فعله به القوم بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من تقدمهم عليه في الخلافة والبغي اشارة الى ما فعله تابعوهم من خلافه وحربه بعد بيعة الناس له.

ومنها : ما رواه عن جابر الجعفي عن محمد بن علي قال : قال علي (عليه‌السلام) : (ما رأيت منذ بعث الله محمدا (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) رخاء لقد اخافتني قريش صغيرا وانصبتني كبيرا حتى قبض الله رسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فكانت الطامة الكبرى ، والله المستعان على ما يصفون) (٢) فلو قال قائل لابن ابي الحديد : اخبرنا عن هذه الطامة بعد موت النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) التي جعلها علي (عليه‌السلام) اكبر من اخافة المشركين اياه وحربهم اياه في حياة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ما هي ، أهي ترك الأولى كما ذكرت وليس كما ذكرت ، فترك الأولى لا يساوي بحرب النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وحرب ناصره لأن ذا كفر ، وترك الأولى غير حرام ، فكيف يساوي الجائز بالكفر؟ فما ظنك اذا زيد عليه وقيل انه اكبر من الكفر ، هذا ما لا يجوز اعتقاده ، أم هي انكار القوم النص على علي (عليه‌السلام) من الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وجحده ومخالفته كما نقول ، وهو كما نقول ، فيثبت النص وضلال القوم بخلافه فما نره يجيب عن هذا السؤال فالعجب كل العجب منه اذ

__________________

(١) المصدر السابق ٤ / ١٠٦.

(٢) نفس المصدر ٤ / ١٠٨.

٤٧٥

يقول : لا نص على علي (عليه‌السلام) بالامامة ، مع نقله مثل هذه الروايات وتصحيحه اياها ، وجميعها يحمله على إرادة اهل الجمل وصفين وهي تأبى هذا المحمل آباء ظاهرا وترده ردا بينا كما لا يخفى على ذي دربة باساليب الكلام ، نعم بعضها يتضمن مع الأولين اهل الجمل وصفين.

ومنه ما رواه عن جعفر بن سليمان الضبيعي عن ابي هارون العبدي عن ابي سعيد الخدري قال : ذكر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لعلي (عليه‌السلام) ما يلقى بعده من العنت فأطال ، فقال له علي : انشدك الله والرحم يا رسول الله لما دعوت الله ان يقبضني إليه قبلك قال : (كيف اسأله في اجل مؤجل) قال : يا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فعلام اقاتل من امرتني بقتاله؟ قال : (على الحدث في الدين) (١) وصدر الخبر وهو قوله : ما يلقى بعده من العنت ، صريح او ظاهر ظهورا بينا في إرادة ما جرى عليه من القوم بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من ازاحته عن مقامه واخراجهم الأمر عنه الى غيره ، ويؤكده قوله (عليه‌السلام) : لما دعوت الله ان يقبضني إليه قبلك ، فانه يعطي ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وعده بملاقاة العنت بعد موته بلا فصل ، فسأل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ان يدعو الله يقبضه إليه في حياته لئلا يصيبه ذلك العنت ، فاخبره النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) انه لا سبيل الى ما طلب واذا لم يستحق ذلك المقام بنص الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فلا عنت عليه في التأخير عنه ، ولا يعارض ذلك اخر الخبر وهو قوله : فعلام اقاتل الخ لظهوره في إرادة من خالفه بعد البيعة له لأن الأولين لم يؤمر بقتالهم ولو أمر فعل ، فلا يكون العنت المذكور اصابه في ايامهم ، لأنا نقول هو (عليه‌السلام) مأمور بقتال الجميع الأولين والآخرين اذا وجد اعوانا لأن الجميع

__________________

(١) أيضا.

٤٧٦

قد حصل منهم الحدث في الدين ، والأصل في الحدث الأولون والآخرون تابعوهم عليه والعنت اصاب امير المؤمنين (عليه‌السلام) في الزمانين ، ولذا طلب الأعوان على حربهم من اوّل الأمر فلم يجد فكف عن الحرب لفقد شرط تنجز الأمر لا لأنه غير مأمور بحربهم ، اذ لو كان كذلك لما طلب الأعوان على ذلك وقاتل الآخرين لوجود الأعوان له على قتالهم فكانت دلالة الخبر ظاهرة أي الظهور فيما ذكرناه فثبت مرامنا وصح قولنا ان هناك نصا معروفا عند اكثر الصحابة من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على علي (عليه‌السلام) ، وانهم كتموه وخالفوه على عمد والأخبار التي تشير الى هذا المعنى كثيرة في كتاب الخصم لكنا نذكر الصريح فيه والقريب من الصريح ، وسيأتي ذكر شيء من هذا الباب عند ذكر النص على العترة ان شاء الله تعالى.

الوجه الثاني مما يدل على وجود النص وان القوم خالفوه ما تواتر من تظلمات امير المؤمنين (عليه‌السلام) وشكاياته من القوم بالتصريح ، ورميه اياهم بغصب حقه ونهب تراثه ، وما ضارع هذا المعنى مما لا يجوز حمله على انه غير منصوص عليه مثل ترك الأولى وشبهه كما قال ابن ابي الحديد واصحابه وهي كثيرة جدا ، نذكر منها قطعة صالحة نكتفي بها في المطلب.

فمنها قوله (عليه‌السلام) في الخطبة الموسومة بالشقشقية : «اما والله لقد تقمصها ابن ابي قحافة وانه ليعلم ان محلى منها محل القطب من الرحى ينحدر عني السيل ولا يرقى الى الطير» الى ان قال : ـ «فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجى ارى تراثي نهبا» الخطبة ودلالتها على المدعى من وجهين.

الأول : قول علي (عليه‌السلام) أنه يعلم ان الخلافة حق له وانه حين تقمصها عالم بانها حق علي (عليه‌السلام) وليس له فيها حق فيقال حينئذ من اين علم ان خلافة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) حق لعلي (عليه

٤٧٧

السلام) ان كان علم ذلك من الكتاب والسنة فهو النص الذي ندعيه وان كان من غيرهما فلا طريق لمعرفة ذلك سواهما ، والعقل لا يستقل بمعرفة هذا بتمامه ، ولو فرض علمه به من جهة الدلالة العقلية كان ذلك نصا لأنها كالدلالة الشرعية ، ونص العقل كنص الشرع ، والعلم من اينما حصل وجب العمل به والتعويل عليه ، ولا يختص وجوب الاعتماد عليه بحصوله من طريق خاصة دون اخرى كما حقق في الأصول ، ولا يدفع هذا السؤال حمل الكلام على علمه بذلك من جهة الأفضلية لبقائه قائما كما هو ، فيقال ان كان علم ان عليا (عليه‌السلام) افضل منه وان الامامة حق للأفضل من الكتاب والسنة فذلك هو النص وثبت مطلوبنا ، وان كان ذلك من غيرهما فالغير ليس بطريق الى علم هذا على ان مقتضى الكلام نفى استحقاقه للخلافة بالمرة.

الثاني : قوله (عليه‌السلام) «ارى تراثي نهبا» فاثبت ان الخلافة ميراثه من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وانه نهب ، وانه صبر على ذلك على مضض عظيم والم شديد ، وهذا كالأول فانه يقال من اين علم علي (عليه‌السلام) ان خلافة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) تراث له لا حق فيها لغيره ، ان كان ذلك من قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) او من الكتاب العزيز فهذا هو النص المدعى وان كان من غيرهما فليس ذلك الغير بطرق الى معرفة ذلك وهو عندنا وعندكم لا يقول الا عن الله ورسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ولا يتقول عليهما بالرأي وشبهه ، فثبت انه علم ذلك من النص عليه وهو واضح ، فبطل ما ذكره ابن ابي الحديد من حمله على خلاف الأولى وفسد جميع ما قرره في ذلك ، وقوله : انه ليس بابعد من تأويل الامامية قوله تعالى : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) (١) بالعدول عن الأولى (٢)

__________________

(١) طه. ١٧١

(٢) شرح نهج البلاغة ١ / ١٥٧.

٤٧٨

اذ لا شباهة لهذا بما ذكرناه ولوجود العصمة في آدم دون ابي بكر وقد مضى بيانه ، ومن هذا يظهر أن قول ابي بكر : وددت اني سألت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيمن هذا الأمر فكنا لا ننازعه اهله تمويه.

ومنها قوله : (عليه‌السلام) فيها بعد ان ذكر عمر وادلاء أبي بكر بالخلافة إليه : (فصبرت على طول المدة وشدة المحنة) ومن المعلوم انه لا محنة عليه اذا لم يكن مظلوما في اخذ الخلافة منه ، ولا يكون مظلوما اذا لم يكن منصوصا عليه فخولف النص ، وليس في ترك الأولى ما يبلغ الى المحنة ولا لشيء مما ذكره هناك.

وومنها قوله : لعبد الرحمن بن عوف لما بايع عثمان وعدل عنه : «ليس هذا بأول يوم تظاهرتم فيه علينا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون» (١) والتظاهر معناه المعاونة على الظلم ولا يكون ذلك بترك الأولى وانما يكون بمخالفة النص.

ومنها قوله : في خطبة عند توجهه لحرب اهل البصرة : (فو الله ما زلت مدفوعا عن حقي مستأثرا عليّ منذ قبض الله نبيه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) حتى يوم الناس هذا» (٢) فهي صريحة في دفع القوم اياه عن حقه من بعد ان قبض النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بغير فصل ومنها قوله : (عليه‌السلام) في خطبة له : «زرعوا الفجور وسقوه الغرور وحصدوا الثبور» الى ان قال ـ : «الآن اذ رجع الحق الى اهله ونقل الى منتقله» (٣) فانظروا الى قوله زرعوا الى آخره ، فانه صريح في نسبتهم الى الضلالة ولا يختص

__________________

(١) أيضا ١ / ١٩٤.

(٢) نهج البلاغة من الخطبة ٦.

(٣) نهج البلاغة من الخطبة ٢.

٤٧٩

بمعاوية وغيره من اهل الخلاف عليه ايام خلافته كما زعم ابن ابي الحديد لعدم المخصص اذ ليس معه الا الرجم بالغيب من مكان بعيد وقوله (عليه‌السلام) (الآن) الخ مصرح بان الحق كان عند غير اهله ومنها قوله (عليه‌السلام) في خطبة : «الا ان الشيطان قد ذمر حزبه واستجلب خيله ليعود الجور الى اوطانه ويرجع الباطل الى نصابه» (١) وهو صريح في ان إمرة السابقين عليه جور وباطل ومنها قوله (عليه‌السلام) : في خطبة رواها ابن ابي الحديد عن ابي الحسن المدائنيّ عن عبد الله بن جنادة : (اما بعد فانه لما قبض الله نبيه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قلنا نحن اهله وورثته وعترته واولياؤه دون الناس لا ينازعنا سلطانه احد ولا يطمع في حقنا طامع اذ انبرى لنا قومنا فغصبونا سلطان نبينا فصارت الأمرة لغيرنا وصرنا سوقة يطمع فيها الضعيف ويتعزز علينا الذليل فبكت الأعين منا لذلك وخشنت الصدور وجزعت النفوس» (٢) الخطبة وهي مصرحة بان عليا (عليه‌السلام) وارث النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) دون الناس ووليه وان سلطان النبي قد غصبه القوم منه ، وان اعين عترة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم تزل لذلك باكية وصدورهم ما زالت خشنة ونفوسهم جازعة ، أفيكون هذا كله لترك الأولى كما يدعيه الخصم أو يكون تارك الأولى غاصبا كلّا ما هو الا لفعل محرم وارتكاب محظور وما ذاك الا لمخالفة نص معلوم.

ومنها قوله (عليه‌السلام) : في خطبة مثلها رواها المعتزلي عن الكلبي : (ان الله لما قبض نبيه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) استأثرت علينا قريش بالأمر ودفعتنا عن حق نحن احق به من الناس كافة) (٣).

__________________

(١) نهج البلاغة من الخطبة ٢٢.

(٢) شرح نهج البلاغة ١ / ٣٠٧.

(٣) ستأتي هذه الخطبة بكاملها آخر الكتاب.

٤٨٠