منار الهدى في النصّ على إمامة الأئمّة الإثني عشر

الشيخ علي البحراني

منار الهدى في النصّ على إمامة الأئمّة الإثني عشر

المؤلف:

الشيخ علي البحراني


المحقق: السيد عبدالزهراء الخطيب
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار المنتظر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٢٠

الله عليه وآله) بالرأي وهل ترى يعتقد في نفسه انه اوثق في دين الله من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وهو صاحب الدعوة ومقيم الملة وشارع الشريعة والمؤتمن على الوحي؟ فان كان يعتقد ذلك فما قولك فيه ، وان كان يظن أنّ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اخطأ في الحكم حين صالح قريشا فما ذا تجيب عنه؟ والنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لا ينطق في الاحكام عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ، ولا يتقول على الله تعالى ولا أدري كيف يوجه هذا؟ وكيف يجاب عنه ، ويعتذر منه. وان كان يعلم ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) هو المصيب وانه هو المخطئ فهو الرد على الله وعلى رسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وفي أدنى هذه المراتب ثبوت ما ندعيه من مخالفته النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (١).

ومنه : مخالفته النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيما ذكره الخصوم عن ابي هريرة في قصة النعلين (٢).

ومنه : مخالفته النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في وضع الدواوين والتفضيل في القسمة والعطاء

__________________

(١) قد فصل القول في هذه القضية السيد شرف الدين (رحمه‌الله) في النص والاجتهاد ص ١٧٧ ـ ١٩٣ فحري بمن يريد الاطلاع الرجوع إليه.

(٢) قصة النعلين رواها ابو هريرة ومجملها : ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قام من بين اصحابه فاستبطئوه وكان اوّل من خرج في طلبه ابو هريرة فوجده في حائط لبني النجار فسأله : ما شأنك؟ فقال : ابطأت عنا فخشينا ان تقطع دوننا وانا اوّل من فزع والناس ورائي ، فقال : (يا أبا هريرة خذ نعلي هاتين فكل من لقيته وراء هذا الحائط يشهد ان لا إله الا الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة) فكان اوّل من لقيه عمر (رضي الله عنه) فاخبره بذلك فضرب عمر بصدره حتى أوقعه على استه فرجع الى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) باكيا ، قيل : وانما فعل عمر ذلك كي لا يتكل الناس عليها ويتركوا العمل وان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال :

(دعهم يعملون) والقصة مفصلة في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٢ / ٥٦.

٤٤١

ومنه : مخالفته النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في حكم البلاد المفتوحة عنوة وتفصيل ذلك مذكور في كتب المطاعن وكل ذلك برأيه.

ومنه : مخالفته النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في تحريم المتعتين (١) واسقاطه من الآذان حي على خير العمل قال القوشجي صعد يعني عمر المنبر وقال ايها الناس ثلاث كن على عهد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) انا انهى عنهن واحرمهن واعاقب عليهن وهي متعة النساء ومتعة الحج وحي على خير العمل ثم قال واجيب بان ذلك مما لا يوجب قدحا فيه فان مخالفة المجتهد لغيره في المسائل الاجتهادية ليس ببدع (٢).

أقول : هذا الكلام من اقبح القبائح وافضح المفاضح واوهن المغالطات واسمجها وهو مناقض لما رد به النصوص على امير المؤمنين (عليه‌السلام) وهي التي ذكرناها في مناقضته حيث قال : «لو كان في مثل هذا الأمر الخطير المتعلق بامر الدين والدنيا مثل هذه النصوص الجلية لتواتر نقله بين الصحابة ولم يتوقفوا في العمل بموجبه ولم يترددوا حين اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة لتعيين الامام وانه كيف يزعم ذو مسكة ان الصحابة مع بذلهم مهجهم وذخائرهم وقتلهم اقاربهم وعشائرهم في نصرة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) خالفوه قبل ان يدفنوه مع وجود هذه النصوص القطعية الظاهرة الدالة على المراد» (٣) فانه جعل علة الرد لتلك النصوص وانكار ورودها عدم

__________________

(١) قال ابن ابي الحديد بعد ان نقل تحريم المتعتين : «وهذا الكلام وان كان ظاهرة منكرا فله عندنا ـ أي المعتزلة ـ مخرج وتأويل ، وقد ذكره اصحابنا الفقهاء في كتبهم.

(٢) تجد البيان حول هذه المسألة في شرح نهج البلاغة ١٢ / ٢٥٢ والشافي للمرتضى ص ٢٥٦ فما بعدها والنص والاجتهاد لشرف الدين ص ٢٠٠.

(٣) نقل ذلك عن القوشجي السيد شرف الدين في النص والاجتهاد ص ٢٠٠ وشيخنا الأميني في الغدير ٦ / ٢٣٦ وللسيد الأمين في اوائل الجزء الأول من اعيان الشيعة تحقيق مهم في مسألة (حي على خير العمل) في الأذان.

٤٤٢

تجويزه على الصحابة مخالفة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) او استبعاده ذلك منهم وهنا اثبت لعمر مخالفة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وجعل العلة في جوازها الاجتهاد مع ان رأس القوم الذين خالفوا تلك النصوص هو عمر الذي اخبر عن نفسه انه خالف النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وحرم ما حلله بقطع وجزم واطاعه من اطاعه من الصحابة فكيف يجوز القوشجي لعمر ومتابعيه مخالفة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في تحريم المتعتين وحي على خير العمل وإعطاء ازواج النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) والأقراض ومنع فاطمة واهل البيت خمسهم والتفضيل في القسمة بالاجتهاد ولا يستبعد ذلك منهم ولا ينكره ويستنكف ويستنكر من مخالفتهم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في نصه على علي (عليه‌السلام) ويمنع من جوازها عليهم بالاجتهاد وما الأمران الا سواء في ان كلا منهما رد لنص النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وابطال لحكمه بل حصوله منهم في هذا اقرب لتعلق الأغراض الدنيوية والشهوات النفسية كحب الرئاسة وبغض علي (عليه‌السلام) وإرادة ان تتسع الخلافة في قريش وغيرها به كما اوضحنا ذلك في مواضع دون الأول اذ لا يتعلق به شيء من هذه الأغراض الا في الخمس ولم يكن تواتر هذه الأحكام عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) مانعا لعمر وتابعيه عن المخالفة فيها حتى يكون تواتر النصوص على علي (عليه‌السلام) مانعا لهم من مخالفتها ولم يتوقفوا في موافقة عمر في خلاف النبي في تلك الأشياء حتى يتوقفوا في موافقته يوم السقيفة في مخالفة النص الجلي على علي (عليه‌السلام) من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فما ادري في اي شيء من القولين يصدق القوشجي أفي تجويزه للصحابة الاجتهاد في ابطال حكم الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في الأحكام الشرعية أم في استبعاده منهم مخالفة نصه في الامامة مع انها عندهم ليست من الأمور الدينية والمخالفة عندهم فيها سهلة وما ادري على اي

٤٤٣

القولين يعتمد والى ايهما يرجع او انه مخلط لا يقف على حد ولا يرجع الى قول معين يقول في كل موضع ما يدفع به خصمه وان خالف مذهبه وعاند قوله الآخر وهذا هو المحقق من سيرته والمعروف من طريقته وهو غاية الوهن وضعف الرأي ونهاية الاعوجاج في الطريقة بل العدل والانصاف ان يحكم باحد الأمرين.

اما ان الصحابة يخالفون النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) مطلقا بآرائهم فلا يجوز له حينئذ الاستبعاد عليهم رد نصه على امير المؤمنين بالامامة واما ان يمنع من صدور المخالفة منهم للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) مطلقا فيكذب الروايات المشهورة والأخبار المتواترة بمخالفتهم حكم الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كما انكر نصوص الامامة والوصيّة ، (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) (١) وإلا فهو تحكم لا يشبهه إلّا النسىء الذي كان الكفار من أهل الجاهلية (يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) (٢) او متحد به في الطريق وحسبك به نقصا وخروجا عن سواء السبيل وأيضا اذا كان القوشجي قد جوز لعمر ومن يرى رأيه مخالفة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في الأحكام بالاجتهاد فما الداعي الى تحمله ما تحمل في انكار مخالفتهم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في نص الامامة ويكفيه ان يقول النص موجود ولكن الصحابة خالفوه بالاجتهاد ومخالفة المجتهد لغيره ليس ببدع كما قال هنا ، وما يرد عليه في هذا يرد عليه في ذاك من دون فرق؟ فانا معاشر الامامية نقلوا ان القوم خالفوا نص النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في الامامة كما خالفوه في غيرها كل ذلك

__________________

(١) البقرة : ٥٨.

(٢) التوبة : ٣٧.

٤٤٤

باجتهادهم ، لكن الاجتهاد في مقابلة النص في جميع الأمور غير مقبول ، لكن الأشعري المذكور يقبله منهم في كل الأمور فلتكن الامامة من جملتها فلا حاجة له الى الاعتذار عنهم بانكار النص الواضح وتكلف الدليل عليه وهو يكفيه ان ينسبه الى الاجتهاد كغيره.

ثم اعلم ان صريح كلام القوشجي انه وحزبه جعلوا النبي كواحد من المجتهدين فجوزوا لعمر مخالفته بالاجتهاد فاسقطوا بذلك وجوب اتباع النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ولزوم طاعته ، فكأنهم نسوا آيات الكتاب الناصة على المنع من مخالفته كقوله تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (١) وقوله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٢) وقوله تعالى : (ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) (٣) والآيات الدالة نصا على ان حكمه هو حكم الله ، وانه معصوم عن الحكم بالنظر والاجتهاد مثل قوله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (٤) وقوله تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) (٥) وقوله تعالى : (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) من ربي (٦) وغير ذلك من الآيات الدالة على كفر مخالفه وسلوكه طريق الضلال وانه لا

__________________

(١) الحشر : ٧.

(٢) النور : ٦٣.

(٣) الأحزاب : ٣٦.

(٤) النجم : ٣.

(٥) الحاقة : ٤٥ و ٤٦.

(٦) الأعراف : ١٠٣.

٤٤٥

حلال إلا ما حلله ولا حرام الا ما نهى عنه وابطله (١) وليس بعده نبي ولا ينسخ بعده حكم وما ورد من الأخبار في ذلك مثل قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (ايها الناس لا نبي بعدي ولا سنة بعد سنتي) والمراد انه لا نسخ لما ثبت حكمه في سنته بعد وفاته ، وخالفوا اجماع المسلمين قاطبة على ذلك حتى جعلوا صاحب الشريعة ومهبط الوحي ونبي الرحمة كعمر وان اجتهاده كقول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الذي هو عين حكم الله ومع ذلك لم يتفطنوا الى ان هذا القول يوجب هدم الشريعة ، وابطال الأحكام النبوية ، لأنه اذا جاز مخالفة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بالاجتهاد في تحريم حلال وتحليل حرام جاز لكل مجتهد مخالفة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في اثبات فريضة لم يفرضها ، واسقاط فريضة فرضها ، وجاز زيادة ركعة في صلاة ونقص ركعة من اخرى ، وغير ذلك من الأحكام ، اذ لا فرق بين عمر وغيره من المجتهدين في ذلك ولا بين المذكورات وغيرها من الأحكام ، ويتمشى ذلك الى قلع اساس الشريعة المحمدية فاين اذن وجوب الأتباع ولزوم القبول من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) والاستماع وتحريم التشريع في الدين والابتداع؟ على ان ذلك لو صح لا نجر الى جواز الاجتهاد في ترك العبادات اذ لا فرق بين كل ذلك فيبلغ الأمر الى الكفر فلا لوم بعد ذلك على الكفار الذين اداهم اجتهادهم الى تكذيب النبي المختار فقد جوز القوشجي واصحابه لعمر مخالفة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) باجتهاده ، واذا جاز ذلك لعمر فلا مانع من جوازه لغيره اذ لا فصل بين الأمرين ولا فارق بين الوجهين ، ومن اعجب العجائب انهم جوزوا الاجتهاد لعمر في مخالفة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ولم يجوزوا لأحد الاجتهاد في مخالفة عمر فتراهم ينكرون على من احل المتعة انكارا بليغا يعدل

__________________

(١) يشير الى الحديث : (ما احللت الا ما حل الله ولا حرم الا ما حرم الله) انظر طبقات ابن سعد ٤ / ٧٢ ط القاهرة.

٤٤٦

الانكار على من احل الزنا أو يربى عليه حتى قال بعض فقهائهم (١) لأبي جعفر محمد بن علي الباقر منكرا عليه تحليله المتعة اني اعيدك بالله يا أبا جعفر ان تحلل شيئا حرمه عمر ، فاجابه الامام بما اسكته وفي هذا دلالة بينة على ان القوم جعلوا لعمر رتبة زائدة على رتبة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ومنزلة تفوق منزلته لتجويزهم مخالفته بالاجتهاد ومنعهم به من مخالفة وذلك من اعظم الفساد واشد الإلحاد ، ومن اعظم الخطوب في الدين المقتضية لمحو شريعة سيد المرسلين ، وكان الواجب على القوشجي واهل مذهبه اذ جوزوا لعمر الاجتهاد في مخالفة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ان يجوزوا ذلك لغيره ، ويجوزوا للغير مخالفته لأن مخالفة المجتهد لغيره ليست ببدع كما هو علة تجويزهم ، واما ان يمنعوا من مخالفة النبي مطلقا فيحكموا بفسق من خالفه من الصحابة وغيرهم ، ثم الواجب عليهم أيضا اذا اثبتوا لعمر خلاف النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وجوزوه له ألا يمتعظوا من قولنا ان عمر قد خالفه في نص الامامة على علي (عليه‌السلام) لتساوي تلك الأمور ، ثم انظر الى قول القوشجي : ولم يترددوا حين اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة لتعيين الامام ، فانك تجده صريحا في ان أبا بكر ليس بمنصوص عليه من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، فاين دعواه الاجماع على أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قد استخلفه؟ واين رواية البخاري ومسلم (ويأبى الله والمؤمنون الا أبا بكر) (٢) وروايته قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم)

__________________

(١) هو عبد الله بن عمير الليثي ، قال له (عليه‌السلام) : «فانت على قول صاحبك وانا على قول رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فهلم ألا عنك ان الحق ما قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ..» انظر الوسائل ٧ / ٤٢٢ كتاب النكاح ابواب المتعة ، باب اباحتها ، الحديث ٤.

(٢) في صحيح البخاري ٨ / ١٢٦ كتاب الأحكام باب الاستخلاف : (لقد هممت ان ارسل الى ابي بكر وابنه فاعهد ان يقول القائلون او يتمنى المتمنون ، ثم قلت : يأبى

٤٤٧

في أبي بكر (وخليفتي في امتي) أليس قد كذب الكل بقوله المذكور ، وما زال هكذا بعض كلامه يكذب بعضا وقد بينا ذلك من اقواله مرارا لبيان تعصبه وعناده ، واعتذر ابن ابي الحديد عن عمر في ذلك وفي قوله ان النبي : يهجر بانه اخرج هذه الكلمات على مقتضى جبلته الخشنة وموجب طبعه الجاسي ، وما هو عليه من الجفاء والغلظة (١) وهذا الاعتذار عنه اثبات لقصوره عن المرتبة التي احلوه فيها لأنّه اذا كان مجبولا على الجفوة والخشونة ومطبوعا على عدم الروية والفطنة كما يقول ـ ابن ابي الحديد ـ لم يجز ان يكون خليفة للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يبلغ عنه الى الأمة الاوامر والنواهي ويسوس الرعية ويؤدبهم وهو في تلك الحال محتاج الى سائس ومؤدب ، ومفهم ومقوم ، وقد قال ابن ابي الحديد في موضع من كتابه ان الخلافة نبوة مختصرة (٢) والأمر كما

__________________

الله ويدفع المؤمنون).

(١) شرح نهج البلاغة ١ / ١٨٣ و ٢ / ٢٧.

(٢) المصدر السابق ١٨ / ٦٤ قال هذه الجملة في كلمة لطيفة جدا قالها عند شرحه لكلام امير المؤمنين (عليه‌السلام) واصفا معاوية (بالمستثقل النائم تكذبه احلامه) ننقلها بكاملها إتماما للفائدة ، قال : «فان معاوية لو رأى في المنام في حياة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) انه خليفة يخاطب بإمرة المؤمنين ، ويحارب عليا على الخلافة ، ويقوم في المسلمين مقام رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لما طلب لذلك المنام تأويلا ولا تعبيرا ، ولعده من وساوس الخيال ، واضغاث الأحلام ، وكيف وأنى له ان يخطر ذلك بباله وهو أبعد الخلق منه! وهذا كما يخطر للنفاط ان يكون ملكا ، ولا تنظرن الى نسبه في المناقب بل انظر الى (ان الامامة نبوّة مختصرة) وان الطليق المعدود في المؤلفة قلوبهم ، المكذب بقلبه وإن آمن بلسانه ، الناقص المنزلة عند المسلمين ، القاعد في اخريات الصف اذا دخل الى مجلس فيه اهل السوابق من المهاجرين ، كيف يخطر ببال احد انها تصير فيه ويملكها ، ويسمه الناس وسمها ويكون للمؤمنين اميرا ، ويكون هو الحاكم في رقاب اولئك العظماء من اهل الدين والفضل!! وهذا من اعجب العجب ان يجاهد النبي قوما بسيفه ولسانه ثلاثا وعشرين سنة ، ويبعدهم عنه ، وينزل القرآن بذمهم ولعنهم ، والبراءة منهم ، فلما

٤٤٨

قال أفيجوز في العقل والشرع أن يكون في موضع النبوة المختصرة ومن وصفه هذا القائل بتلك الأوصاف القبيحة المنفرة ، لعمرك ان هذا التلاعب في الدين موجب للخسران المبين ، ثم اذا حكم عبد الحميد بان منعه للنبي وقوله ذلك القول فيه كان بموجب ما فيه من الجفاء والجسوة فليحكم عليه بانه خالف النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في نصه على امير المؤمنين (عليه‌السلام) لذلك ولا يستبعد عليه انكار النص ورده لأن هذا ان لم يكن اسهل من الأول فهما متساويان ، فاذا ثبت صدور احدهما لا يستنكر منه الآخر فما باله يغضب من قول الامامية أنهم سمعوا النص على علي (عليه‌السلام) من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فخالفوه وانكروه وهو ينسب عمر الى اعظم من ذلك فحشا واشد قبحا ، ثم انا قد ذكرنا من كلامه سابقا ما اثبت مخالفة عمر للنصوص بالرأي فما باله يجيز المخالفة هناك ويتكلف الاعتذار هنا! نعوذ بالله من مناواة الحق ومتابعة الهوى وليس الغرض هنا ذكر جميع الأحداث لأن ذلك كله يحتاج ذكره وبيانه الى كتاب مفرد ، وانما الغرض هنا ذكر جملة من ذلك لاثبات ما ندعيه عليهم من ردهم نصوص النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ولدفع استبعاد من استبعد عليهم مخالفة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في علي (عليه‌السلام) ورد نصه عليه ولنوضح ان خلافهم للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في هذا اسوة لباقي مخالفاتهم اياه في غيره ، فلذا نقتصر على ما ذكرناه لحصول الغرض به.

__________________

تمهدت له الدولة وصارت شريعة محكمة مات فشيد دينه الصالحون من اصحابه ، واوسعوا رقعة ملته ، وعظم قدرها في النفوس فتسلمها منهم اولئك الأعداء الذين جاهدهم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فملكوها وقتلوا الصلحاء والأبرار واقارب نبيهم الذين يظهرون طاعته وآلت تلك الحركة الأولى ، وذلك الاجتهاد السابق الى ان كان ثمرته لهم! فليته كان يبعث ليرى معاوية الطليق وابنه ، ومروان وبنيه خلفاء يحكمون على المسلمين».

٤٤٩

وأما ما صدر من غيرهما من مخالفات النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فنحن نشير الى جملة منه.

فمنهم عثمان فانه رد عمه الحكم بن ابي العاص الى المدينة وقد حرم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عليه سكناها بعد ما طرده عنها وحمى الحمى لنفسه ولبني ابيه وولي مروان امر الخلافة يفعل ما يشاء وهو فاسق ظالم واحرق المصاحف بالنار ونفى أبا ذر الى الربذة واثر اهل بيته باموال الفيء ومنع خيار الصحابة منها الى غير ذلك من مخالفاته وفعلاته مما يزيد على فعل الرجلين مراتب وتفصيله في كتب المطاعن كنهج الحق لجمال الدين الحلي والشافي للمرتضى علم الهدى وغيرهما من الكتب (١) ولا عذر للقوم عنه في اكثرها الا بالاجتهاد وهو اثبات لدعوانا لا نقض علينا.

ومنهم عائشة انكرت الوصية من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الى امير المؤمنين (عليه‌السلام) مع انها قد حضرت ذلك (٢) كما قال خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين في شعره المتقدم.

وصي رسول الله من دون اهله

وانت على ما كان من ذاك شاهده

ثم لم يكفها ذلك دون ان خرجت عليه تقاتله وتجمع الجموع

__________________

(١) اجمل ابن ابي الحديد تلك المطاعن في الجزء الثاني من شرح نهج البلاغة من ص ١١ ـ ٦٩ وذكر هناك اعتذار القاضي عبد الجبار بن احمد الهمداني عنها في كتابه المغني في الامامة ورد الشريف المرتضى عليه في كتابه الشافي في الامامة.

(٢) جاء في صحيح البخاري ٥ / ١٤٣ في باب مرض النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من كتاب المغازي كما جاء ذلك في صحيح مسلم أيضا ٢ / ١٤ في الباب الوصية واللفظ لمسلم «ذكروا عند عائشة (رضي الله عنها) ان عليا كان وصيا فقالت : متى اوصي إليه كنت مسندته الى صدري ـ أو قالت ـ : حجري فدعا بالطشت فقد انخنث في حجري وما شعرت انه مات فمتى اوصى إليه ـ وفي البخاري ـ : فكيف اوصي لعلي؟

٤٥٠

الى حربه وتدعو إلى نكث بيعته مع سماعها قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (ستقاتلينه يوما وانت ظالمة له وتنبحك في طريقك كلاب الحوأب) ومع روايتها ما روت فيه انه احب الرجال الى رسول الله ، وما ذكرتها أمّ سلمة (رضي الله عنها) مما اعترفت به من اقوال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيه وافعاله ، وقد مر هذا كله وسماعها قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لأزواجه : (ايتكن صاحبة الجمل الأزب تنبحها كلاب الحوأب يقتل حولها قتلى كثير كلهم في النار وتنجو بعد ما كادت) (١) رواه ابن ابي الحديد عن المحدثين وقد صححوه واثبتوه وقد قدمنا في هذا المقام من القول ما يبل الغليل.

ومنهم الزبير يصلت سيفه لقتال ابي بكر يوم بويع له ويقول لا احد احق بالخلافة من علي (٢) (عليه‌السلام) ثم هو بعد ذلك يدعو الى نكث بيعته ويؤلب الناس على حربه وما ابعد ما بين الأمرين وقد سمع قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في علي (عليه‌السلام) : (ستقاتله يوما وانت له ظالم) (٣) كل ذلك لأغراض الدنيا واتباع الهوى.

ومنهم سعد بن ابي وقاص فانه رد حكم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اذ قسم غنائم بدر فساوى بين الناس فقال : أتعطي فارس القوم الذي يحميهم كما تعطي الضعيف فقال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وهو غضبان : (ثكلتك امك انما تنصرون بضعفائكم) ثم هو يوم الشورى يطعن على علي (عليه‌السلام) بالحرص على الخلافة مع روايته فيه عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (انت مني بمنزلة هارون من موسى الا انه لا

__________________

(١) مستدرك الحاكم ٣ / ١٥٧.

(٢) شرح نهج البلاغة ٩ / ١٩١ عن الاستيعاب.

(٣) انظر شرح نهج البلاغة ١ / ١٣٣ و ٦ / ٤٨ ومستدرك الحاكم ٣ / ٣٦٦.

٤٥١

نبي بعدي) ولذا تعجب منه ابن ابي الحديد (١) ولعمري انه تعجب من غير عجب فان ديدن القوم مخالفة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيما يشتهون لكن تعجبه بمقتضى ما يدعيه فيهم من الديانة.

ومنهم طلحة وخبره مشهور ورده على رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) مذكور لما نزلت آية الحجاب ولقد قال له عمر بن الخطاب بعد ما ادخله في الشورى : ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) مات وهو ساخط عليك للكلمة التي قلتها لما نزلت آية الحجاب (٢)

اقول وهذا القول من عمر قد صدر بعد قوله : ان رسول الله مات وهو راض عن الستة جميعا ، وهذا مثل قوله يوم السقيفة ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : (الأئمة من قريش) ثم هو لما طعن تحسر على سالم مولى ابي حذيفة لينصبه إماما وليس هو بقرشي فما ندري في أي رواية نصدق عمر من رواياته وفي اي قول من اقواله يصيب او انه يقول في كل وقت ما يقتضيه ويروى في كل حال ما يناسبه وهذا معلوم من سيرته.

ومنهم : سعد بن عبادة فانه قد سمع حديث الولاية لعلي (عليه‌السلام) من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فخالفه وكتمه

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٤ / ..

(٢) قال ابو عثمان الجاحظ في رسالته السفيانية : «الكلمة المذكورة ان طلحة لما نزلت آية الحجاب قال بمحضر ممن نقل الى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ما الذي يعنيه من حجابهن اليوم وسيموت غدا فننكحهن»

ثم قال الجاحظ : «لو قال لعمر قائل انت قلت : ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) مات وهو راض عن الستة فكيف تقول الآن لطلحة : انه (عليه‌السلام) مات ساخطا عليك للكلمة التي قلتها لكان قد رماه بمشاقصه ولكن من الذي يجسر على عمر ان يقول له ما دون هذا فكيف هذا؟» وانظر شرح نهج البلاغة ١ / ١٨٦.

٤٥٢

لطلب الرئاسة فلما فاته ما رجاه ذكره وصرح به فقال له ابنه قيس ما قال وقد مضى ذكر خبره

ومنهم انس بن مالك فان امير المؤمنين (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) حين استنشد الناس في الرحبة ايهم سمع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يقول يوم غدير خم من كنت مولاه فعلي مولاه فليشهد فشهد من شهد ولم يشهد انس فقال له امير المؤمنين (عليه‌السلام) انك قد حضرتها يا انس فقم واشهد فتعلل بالنسيان لكبر سنه ونكل عن الشهادة وليس بناس فقال له امير المؤمنين ان كنت كاذبا فرماك الله بها بيضاء لا تواريها العمامة فاصابه الوضح فسئل عن سببه بعد فقال ذاك دعوة العبد الصالح علي بن أبي طالب ، ثم ذكر للسائل الحديث واعتذاره عن ترك الشهادة بالنسيان ، وانه غير ناس وسئل مرة عن علي (عليه‌السلام) فقال : اني ليت الا اكتم شيئا سمعته من رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيه بعد يوم الرحبة ، ذاك رأس المتقين ، سمعته من نبيكم (١) أفليس هذا صريحا في انه قبل أن اصابه الوضح بدعاء علي (عليه‌السلام) كان يكتم ما سمعه من رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيه ، وان نص الغدير من جملة المكتوم ، وهل اوقع الناس في الفتنة وصيرهم في الحيرة الا كتمان قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في علي (عليه‌السلام) قبل يوم الرحبة واخفاء نصه عليه قبل ذلك حتى كان ذكره ، بعد ذلك غير مجد في رفع الحيرة عن العامة ، والتصريح به غير مزيل للفتنة لما الفه الناس من الشبهة.

ومنهم ابو هريرة : كان يروى قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كان يروى قول النبي في علي (عليه‌السلام) : (اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله)

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٤ / ٧٤ و ١٩ / ٢١٧ وذكر ذلك ابن قتيبة في المعارف ص ٥٨٠.

٤٥٣

وهو مع ذلك مجمع على حربه وقتاله مع معاوية ، ولم يكفه ذلك دون ان روى الأحاديث المفتعلة في ذمه وتوصل الى لعنه (١) ودع عنك مثل خالد بن الوليد ومعاوية بن ابي سفيان وعمرو بن العاص وامثالهم من الجبابرة وتابعيهم من المبغضين لعلي (عليه‌السلام) كأبي موسى الأشعري والمغيرة بن شعبة وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن الزبير في اضرابهم وأشباههم.

واما ما نسب من مخالفة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الى جماعة من الصحابة معينين أو غير معينين.

فمنه مخالفة قوم للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في الخروج الى احد وقد اختار (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ان يقيم بالمدينة ثم مخالفة الرماة الذين اقامهم على الثنية وامرهم الا يبرحوا عن مكانهم ، واخبرهم انا لا نزال بخير ما دمتم في موضعكم ، فردوا نصه بالرأي وانصرفوا من مركزهم وبه جرى على المسلمين ما جرى ، وجرح النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) جروحا كثيرة ، وعانى مشقة شديدة (٢).

ومنه انكار جملة من الأنصار على النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فعله في قسمة غنائم هوازن حتى بلغه ذلك منهم فامر سعد بن عبادة ان يجمعهم له في موضع فقام فيهم خطيبا وانبهم على ذلك ولا مهم وابان لهم حسن ما فعله (٣).

ومنه مخالفة قوم للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) حين قال في مرضه (هلم اكتب لكم كتابا لا تضلون بعدي) فلم يقربوا إليه الدواة والبياض

__________________

(١) نقله ابن ابي الحديد في شرح النهج ٤ / ٦٨ و ٦٩.

(٢) انظر سيرة ابن هشام ٤ / ٦٤.

(٣) سيرة ابن هشام ٤ / ١٠٥.

٤٥٤

ليكتب لهم ذلك الكتاب وقالوا مع العصيان القول ما قاله عمر حيث نسب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الى الهجر.

ومنه ما قال قوم ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) غل لما افتقدوا قطيفة من غنيمة بدر فانزل الله تعالى : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) (١) الآية.

ومنه قول قوم منهم ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اذن يعيبونه بذلك يعني يصدق كل من اخبره بشيء فانزل الله تعالى : (قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) (٢) الآية.

ومنهم الذين قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد اسلامهم وهموا بما لم ينالوا ارادوا قتل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في العقبة عند منصرفة من تبوك ودحرجوا الدباب لناقته لتنفر به وكان معه عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهما احدهما يسوق الناقة والآخر يقودها وكانوا اثني عشر رجلا ثمانية من قريش وأربعة من العرب (٣).

ومنهم اللامزون النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) «في الصدقات فان اعطوا منها رضوا وان لم يعطوا منها اذاهم يسخطون) (٤) الى غير ذلك من مخالفاتهم لله ولرسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) مما صرح به القرآن الكريم ، وجاءت به الأخبار ، واحتوت عليه كتب السير والمغازي والتواريخ والتفاسير ، وفرارهم عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) واسلامهم اياه الى الأعداء مشهور في كثير من المشاهد قد بين في القرآن منها ما بين ،

__________________

(١) آل عمران : ١٦١ وانظر تفسير الرازي ٩ / ٧٠.

(٢) التوبة : ٦١ وانظر تفسير الرازي ١٦ / ١١٥.

(٣) التوبة ٧٤ وانظر تفسير الرازي ١٦ / ١٣٦ ومجمع البيان ٥ / ١٦.

(٤) التوبة : ٥٨.

٤٥٥

واوضح منها ما اوضح ، ولو لا ان شرحه يطول لشرحناه وذكرنا جميع ذلك من خلافهم.

ومنهم من طعن على النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في تأميره زيد بن حارثة ثم طعنهم عليه بعد ذلك في تأميره اسامة بن زيد حتى قام خطيبا ولامهم وردعهم ، ودع عنك البانين (مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ) (١) والفرحين بمقعدهم خلاف رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (٢) والقائلين لا تنفروا في الحر) (٣) ومن قال : اعدل يا محمد فانك لم تعدل ، ومن قال يخاطب النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) رادا عليه فعله.

أتجعل نهبي ونهب العبيد

بين عيينة والأقرع

فما كان بدر ولا حابس

يفوقان مرداس في مجمع

ولست بدون امرئ منهما

ومن تخفض اليوم لا يرفع

وهو العباس بن مرداس السلمي (٤) وغير ذلك مما يطول تعداده فما ظنك بشرحه وكله مشروح في كتب الخصوم وقد ذكرنا من قبل رد الصحابة على النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) انتجاءه عليا يوم الطائف دونهم وقولهم السيئ فيه اذ ترك باب علي (عليه‌السلام) شارعا الى المسجد حين سد ابوابهم حتى اخبرهم انما فعله عن الله لا عن نفسه وبالجملة ان تهمتهم للنبي

__________________

(١) التوبة : ١٠٧.

(٢) التوبة : ٨١.

(٣) التوبة : ٨١.

(٤) وذلك لما اعطى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أبا سفيان بن حرب وصفوان بن امية وعينيه بن حصن والأقرع بن حابس كل انسان منهم مائة من الابل ، واعطى عباس بن مرداس دون ذلك فقال الأبيات المذكورة فاتم له رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) مائة ، انظر صحيح مسلم ٣ / ١٠٨ كتاب الزكاة باب اعطاء المؤلفة قلوبهم.

٤٥٦

(صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ومخالفتهم اياه كثيرة لا تحصى وكل ذلك بآرائهم وما ادتهم إليه انظارهم فكيف يستبعد من هؤلاء انكار النص على امير المؤمنين وهذه حالهم وهي كاشفة عن بذلهم الجهد وتحملهم المشاق في اخفاء فضائل امير المؤمنين وستر مناقبه وطلب التدليس فيها وتلبيسها على الناس بإلقاء الشبه عليها وقصدهم الى توهينها وتهجينها خصوصا الصدر الأول وقد اعترف بذلك ابن ابي الحديد في صريح كلامه فانه لما نقل حديث ذو الكلاع الحميري حين سأل أبا نوح الحميري في صفين عن عمار بن ياسر أهو مع اصحاب علي (عليه‌السلام) وقال له : ان عمرو بن العاص حدثنا انه سمع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : (يلتقي اهل الشام واهل العراق وفي احدى الكتيبتين الحق وامام الهدى ومعه عمار بن ياسر) فقال له ابو نوح : نعم انه لفينا ، قال قلت : وا عجباه من قوم يعتريهم الشك في امرهم لمكان عمار ولا يعتريهم الشك لمكان علي (عليه‌السلام) ويستدلون على ان الحق مع اهل العراق لكون عمار بين اظهرهم ولا يعبئون بمكان علي (عليه‌السلام) ويحذرون من قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (تقتلك الفئة الباغية) ويرتاعون لذلك ولا يرتاعون لقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (اللهم وآل من والاه وعاد من عاداه) ولا لقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (لا يحبك الا مؤمن ولا يبغضك الا منافق) وهذا يدلك على ان عليا (عليه‌السلام) اجتهدت قريش كلها من مبدأ الأمر في إخمال ذكره وستر فضائله وتغطية خصائصه حتى محى فضله ومرتبته من صدور الناس الا قليلا انتهى كلامه (١) وهو صريح في ان ائمته وتابعيهم من قريش كلها اجتهدوا في ستر فضائل امير المؤمنين (عليه‌السلام) واخفاء مناقبه ، ولعمري ان النص بالامامة عليه من جملة ذلك. ، وان الذي دعاهم الى ستر مناقبه وخصائصه هو

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٨ / ١٧.

٤٥٧

بنفسه الداعي لهم الى ستر النص عليه وتغطيته لما ذكره في كلامه وهو انمحاء فضل علي (عليه‌السلام) ومرتبته من صدور الناس حتى لا يقول قائل ـ ظلموه اذ تقدموا عليه او قدموا غيره ، وهذا فضله وهذه مناقبه ، وهذا النص من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عليه ، فما بال ابن ابي الحديد يثبت على القوم ستر ما لأمير المؤمنين (عليه‌السلام) من المناقب وبذل الجهد في تغطية ما له من الخصائص ويأبى عن نسبة انكار النص عليه بالامامة إليهم وإخفائه مع ان العلة في كتمان النص اقوى ، والداعي الى ستره اشدّ ، والمقتضى للتغطية عليه في امرهم اتم فنسبته اخفاء النص إليهم على ابن ابي الحديد من ذاك الزم لكنه يقتدي في العناد بأئمته وفي ستر الحق بسادته كما هو الجاري في طبيعته ولما بيناه من فعل القوم بفضائل امير المؤمنين (عليه‌السلام) لو لا شيوعها وانتشارها ، وكثرتها واشتهارها ، وعناية الله بصاحبها لانطمست أعلامها ، وعفت آثارها ، وذهبت نضارتها ، وخبت نارها لكنها بحمد الله لم تزدد على الاخفاء الا ظهورا ، وعلى الستر الا بروزا ، وعلى التهجين الا علوا ، وعلى التغطية الا بهجة وسفورا ، وعلى الأخماد الا توقدا ونورا ، فجاء الأمر على خلاف ما حاولوا ، واقتضت الحال عكس ما راموا ، فلما أعجزهم اعفاء رسوم تلك الفضائل ، واعياهم اطفاء انوار تلك المناقب ، قصدوا الى عيب المخصوص بها ونقصه ، ونسبته الى ما يشينه بما زوروه وافتعلوه من تلقاء انفسهم ، فمرة رموه بالدعابة ، ومرة بالتيه ، وتارة بالزهو ، واخرى بالتكبر ، وغير ذلك من انواع النقص مما صرحت العبر ببراءة ساحته منه ، ولم يزده في قلوب اهل الايمان الا جلالة قدر ، ورفعة شأن ، وكل ما ذكرناه عن القوم واضعافه مروي في كتاب خصمنا وكتب اصحابه ومشبهيه مما لو لا طول المقام بذكره والخروج عن المرام بسطره لرسمناه وشرحناه ، ومن اراده مبينا فليطلبه من الكتاب المشار إليه (١) وهذا الذي قالوه

__________________

(١) يعني شرح النهج.

٤٥٨

اذا تأمله الفطن الأريب وجده خارجا من مكنون بغض عظيم ، وبارزا من مخزون حقد جسيم ، وعلم انه ناش من لهب نار حسد قديم ، ومتولد من أصل وجد مقيم فكان الأمر كما قال ابو تمام حبيب بن اوس الطائي.

واذا اراد الله نشر فضيلة

يوما اتاح لها لسان حسود (١)

وقد صح من هذه الجملة ان القوم ما كانوا يتقيدون بنصوص النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيما يخالف اغراضهم ، ولا يعتنون بها فيما يضاد مطالبهم ، ولا يقدمون من قدمه ويؤخرون من آخره ولا يفضلون من فضله ، ويسودون من سوده ، بل يقدمون من احبوا تقديمه ويفضلون من شاءوا تفضيله ، ويؤخرون من احبوا تأخيره ويذمون من مدحه الله ورسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، كل ذلك برأي منهم ، وميل من نفوسهم ، لا بدليل شرعي ، ولا بحكم إلهي والسبب في ذلك انهم كانوا يؤثرون اتباع اهوائهم على أوامر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ونواهيه ، ويقدمون طاعة شهواتهم على طاعته وترك معاصيه ، ويجعلون قضاء اوطارهم اولى من استماع دعوته واجابة مناديه ، خصوصا في عترته وذوي قرابته ومواليه ، فاندفع الايراد ، وثبت المراد ، وهذا كله يرشد المتأمل الى الحكم بصحة ما قيل : إن في القوم من لم يدخلوا في دين النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) دخول ايمان ويقين ، ولم يتبعوه لطلب مرضاة الله ، وانما كان ذلك لأغراض دنيوية ، ومقاصد نفسية ، ولذا تراهم لا يلتفتون من اقواله الى ما لا يوافق آراءهم ، ولا يطابق مشتهاهم ، بل يجعلون أمره كأمر واحد منهم فيرتكبون خلافه بغير تجرح ولا تأثم ، وقد افصح بذلك القرآن الكريم والفرقان العظيم حيث يقول تعالى : (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً

__________________

(١) ديوانه ١ / ٤٢.

٤٥٩

قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً) (١) الآية وقوله تعالى : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢) فقد روى صحيحا انها نزلت في رجل من الصحابة لأمر جرى بينه وبين عمار بن ياسر في بناء مسجد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وهي قصة معروفة (٣) الى غير واحدة من الآيات الواضحات في هذا المعنى ، وهذا ينادي بانهم لو لا ما رأوا في الاسلام من العزة والسلطان وانقياد الناس لهم واتساق الأمور لرفضوه ، واتبعوا دين آبائهم وطريقة اسلافهم ، لكنهم رأوا في اظهار هذه الدعوة والتمسك بهذه الملة عظيم الملك والمنعة وشديد القوة والغلبة ، ومسارعة الناس لهم بالطاعة ، وانفاذ الأوامر والنواهي ، وانضم الى ذلك انفتاح ممالك القياصرة والأكاسرة والفراعنة والأتراك وغيرهم عليهم وتملكهم تلك الممالك العظام ، فنالوا بذلك من الرفعة والرئاسة ما لم ينله ملك قاهر ، ولم يدركه سلطان ظاهر ، وعلموا ان في رفضهم هذا الدين ورجوعهم الى دين آبائهم الماضين زوال هذه الرئاسة الجليلة ، وفوات هذه المنزلة النبيلة ، وصيرورتهم اذلاء اذنابا تابعين غير متبوعين ، كما كانوا عليه في زمان الجاهلية ، فلذا داموا على اظهار الدعوة وتمسكوا ظاهرا بعرى الملة ، وواظبوا على الاتيان من وظائف الاسلام بما يزيد الناس فيهم وثوقا ولا يخالف لهم مما ارادوه غرضا كالصلاة والصيام والحج وترك المستلذات من المأكل والمشارب والملابس كما قيل :

لئن صبرت عن لذة العيش انفس

فما صبرت عن لذة النهي والأمر

وحثوا منها على ما يشدد لهم الأبهة ويقرر لهم قاعدة الامارة كالجهاد

__________________

(١) النور ٦٣.

(٢) الحجرات : ١٧.

(٣) انظر سفينة البحار ٢ / ٢٧٥ مادة (ع م ر).

٤٦٠