منار الهدى في النصّ على إمامة الأئمّة الإثني عشر

الشيخ علي البحراني

منار الهدى في النصّ على إمامة الأئمّة الإثني عشر

المؤلف:

الشيخ علي البحراني


المحقق: السيد عبدالزهراء الخطيب
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار المنتظر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٢٠

النص للقوم وذاكرهم لما ساموه البيعة لأبي بكر وخاصمهم به اشد خصام ، فلم يقبلوا منه فعدل الى القرابة التي احتجوا بها على الأنصار فتعللوا عليه كما رويتم فلم يجد شيئا يكفهم به عن ظلمه وينتزع به من ايديهم حقه الا السيف ، فصمم العزم على مناجزتهم فلم يجد ناصرا طلب اربعين رجلا ذوي عزم فلم يوافقه ولم يجبه إلا أربعة أو خمسة فكف وسكت ، وهذا المشنع ذكر ذلك مرارا في كتابه وصححه واعترف به هنا كما ترى ، فليس احد من الامامية يقول : ان عليا (عليه‌السلام) لم يذكر النص عليه ، بل يقطعون بانه ذكره ويجزمون بان القوم ردوه ولم ينقادوا له ، ورواياتهم بذلك ناطقة ومصنفاتهم بذلك مصرحة.

الثاني قوله : انه خاف القتل ، فان الامامية ان قالوا خاف القتل فانهم يريدون انه (عليه‌السلام) خاف القتل من استمراره على ترك بيعتهم فضرع لها واجاب دفعا للقتل عن نفسه اذ لا معين له وهو قد صرح بهذا المعنى في كثير من خطبه كالشقشقية وغيرها وقد ذكرنا شطرا من كلامه في هذا المعنى فيما تقدم وسيأتي منه الكثير إن شاء الله لا انه خاف القتل من ذكر النص فانه لا قائل به من الامامية ، فان كان صادقا فليدلنا على هذا القائل ، نعم ان قال احد منهم انه خاف من ذكر النص مجاراة للخصم فانه يريد انه خاف منهم انكاره ورده وذلك صحيح وقد اوضحناه وبيناه فزال تشنيعه على اصحابنا بقوله هلا خاف من كذا وهلا خاف من كذا هذا كله مع ما يعود عليه في هذا التشنيع من بطلان مذهبه وفساد عقيدته وذلك من وجهين.

الأول : انه ملأ كتابه من الدعوى برضا علي (عليه‌السلام) بخلافة ابي بكر وروى في ذلك احاديث كثيرة عن اسلافه ، وان عليا (عليه‌السلام) لم يدع أحدا الى نقض بيعة ابي بكر ولا استصرخ الناس لحربه ولا نازعه واصحابه ، وقد قدمنا بعضا من كلامه في هذا في فصل احاديث لفظ الامام

٤٢١

ثم هو الآن يقول : انه استصرخ الناس لحرب ابي بكر وكاشف ونازع وعتل ودفع وبثّ الرسل والدعاة يدعون الناس الى نقض بيعة الشيخ ومحاربته ، فانظر الى هذا التناقض العظيم في اقواله والتعارض الشديد في كلامه.

الثاني : انه شحن الكتاب أيضا من قوله ان عليا (عليه‌السلام) لو كاشف القوم ونازعهم وسخط إمارتهم ولم يرضها فضلا عن ان يكون شهر السيف عليهم لحكمنا بضلالهم وهلاكهم كما حكمنا بهذا كله على من خالفه ايام خلافته لأنه على الحق دائما ونقل ذلك أيضا عن مشايخه البغداديين ثم هو هنا وغير هنا يذكر انه (عليه‌السلام) خالفهم ونازعهم واستصرخ الناس عليهم ، ودعا الناس الى قتالهم ، وجمع الجموع في داره لذلك واستغاث منهم بالأموات والأحياء فلازم ذلك عليه ان يحكم عليهم بالضلال ومخالفة الحق وهو لا يحكم عليهم ، بل يصرح في مواضع من كتابه بانهم من الدين والايمان وصحة اليقين بمكان مكين وغير ذلك من الأوصاف الجميلة التي تزيد على الوصف ، وكان اللازم من هذا عليه تكذيبه في معتقده ، أو افتراؤه في اخباره ، أو حكمه بضلال ائمته فما كان اغناه عن كشف هذه القبائح ، وبيان الفضائح ، ونشر هذه المعايب وهذا يصرح لك عن هذا الرجل بانه نهج منهج الخلط والتخبيط ، يقول الشيء وضده ويأتي بالأمر ونقيضه ويعتقد مذهبا ومنافيه كل ذلك عنده صحيح وفي خياله رجيح لا يقف على حد محدود ولا يقتصر على مذهب معلوم اعاذنا الله والمؤمنين من المضلات ومن الانغماس في الجهالات.

واحتج القوشجي على فقد النص مطلقا على امير المؤمنين وخصوصا قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (سلموا على عليّ بإمرة المؤمنين) وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لعلي : (انت الخليفة بعدي) وقوله (صلى الله

٤٢٢

عليه وآله وسلم) مشيرا إليه (هذا خليفتي فيكم فاسمعوا له واطيعوا) وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) حين جمع بني عبد المطلب (أيكم يبايعني ويوازرني يكون اخي ووصيي وخليفتي من بعدي) (١) فبايعه علي (عليه‌السلام) وهي التي استدل بها سلطان الحكماء والمتكلمين نصير الملة والحق والدين بان هذه النصوص لم تثبت من يوثق به من المحدثين مع شدة محبتهم لأمير المؤمنين (عليه‌السلام) ونقلهم الأحاديث الكثيرة في مناقبه وكمالاته في امر الدنيا والدين ، ولم ينقل عنه في خطبه ورسائله ومفاخراته ومخاصماته وعندنا تأخره عن البيعة اشارة الى تلك النصوص وجعل عمر الخلافة شورى بين ستة ودخل على في الشوري ، وقال عباس لعلي : امدد يدك ابايعك حتى يقول الناس هذا عم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بايع ابن عمه فلا يختلف فيك اثنان ، وقال ابو بكر وددت اني سألت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عن هذا الأمر فيمن هو وكنا لا ننازعه ، وحاج علي (عليه‌السلام) معاوية ببيعة الناس لا بنص من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (٢) انتهى. كلامه.

والجواب اما قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (سلموا على علي بامرة المؤمنين) و (انت الخليفة بعدي) فمتواتر عند الشيعة فضلا عن كونه مرويا وليس التواتر عند الشيعة على كثرتهم يقصر في الخبر عن كونه خبرا صحيحا لا سيما اذا لم يكن له مناقض يعتد به وكان له معاضد من الأدلة

__________________

(١) تاريخ الطبري ٣ / ١١٧٢ ليدن وفيه «وخليفتي فيكم» وشرح نهج البلاغة ١٣ / ٢٤٤. وأمر النبي (ص) بالتسليم على علي بالإمرة رواه ابن عساكر بترجمة علي (عليه‌السلام).

(٢) أي كلام القوشجي في خدش الروايات التي استدل بها الطوسي في التجريد على إمامة علي (عليه‌السلام) وانظر كشف المراد للعلامة الحلي عند شرحه للمسألة الرابعة في وجوب النص على الامام.

٤٢٣

الصحيحة ، وقد ذكرنا في النصوص ما يصرح به عن محدثيهم.

وأما قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (هذا خليفتي فيكم) الخ. وقوله : (يا بني عبد المطلب ايكم يبايعني ويوازرني) الخ فكلاهما في حديث الوزارة حين جمع النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بني عبد المطلب بعد نزول قوله تعالى : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) وقد رواه الثقات من محدثي العامة واستدل به متكلموهم كابن اسحاق وابن جرير الطبري وابي جعفر الاسكافي وغيرهم فلا معنى لقول المعترض : ان هذه النصوص لم تثبت عمن يوثق به من المحدثين ، وأمّا خطب امير المؤمنين (عليه‌السلام) وكلماته فهي مشتملة على ذكر النص عليه كثيرا مثل قوله : (واني لأولى لناس بالناس واني وارث رسول الله واني وصي رسول الله وان رسول الله عهد الي) ومعناه باليقين استخلفني وكلامه لمن سأله بم ورثت ابن عمك دون عمك وغير ذلك مما مضى ويأتي ، ومخاصماته بالنصوص مشهورة فانه كان دائما يدعي النص عليه من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كما مر في حديث ابن عباس مع عمر بن الخطاب ومخاصمته اهل الشورى بالنصوص امر معلوم قد اعترف به هذا المعترض وغيره ، وبالجملة فدعوى علي (عليه‌السلام) النص عليه من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) واضحة كالشمس الضاحية لا يجهله الا جاهل محض ، ولا ينكره الا معاند صرف ، فلا معنى لقول المعترض أنه لم ينقل في كلامه اشارة الى تلك النصوص لأنه قد اشتهر بها التصريح في كلامه دون الاشارة.

واما دخوله في الشورى فلوجهين.

الأول : انه خاف القتل في امتناعه من الدخول في الشورى بعد ما عينه عمر لأن امتناعه صريح في الخروج عن طاعته ورد إمامته فلا يأمن ان يأمر بقتله فيقتل وعمر مطاع في اصحابه ، واكثرهم مبغضون لعلي (عليه

٤٢٤

السلام) ، وكيف يحاذر من قتل علي (عليه‌السلام) لو خالف امره وقد اوصى بقتل من يخالف عبد الرحمن بن عوف من اهل الشورى ، وبقتل ستتهم ان مضت ثلاثة ايام ولم يتفقوا على واحد منهم وعلي فيهم ، فاطيع في ذلك كله ، واخذ الستة بذلك من أبي طلحة الأنصاري وصي عمر على انفاذ هذه الوصية ، ولو لم يفعلوا كما قال لقتلوا جميعا كما صح في روايات القصة عند الخاصة والعامة (١) ، وهذا امر ظاهر لا ينبغي التشكيك فيه ، واقل الأمور انه (عليه‌السلام) يظن الضرر لو امتنع من انفاذ قول عمر ودفع الضرر المظنون واجب عقلا وشرعا.

الثاني : انه من الجائز ان امير المؤمنين دخل في الشورى ليتمكن من المطالبة بحقه والأدلاء بحجته على ذلك واذا لم يدخل فيها لم يتمكن من ذلك ، ولذا انه خاصم القوم وحاجهم بالنصوص عليه لا بغيرها ، وقال هناك (ان لنا حقا ان نعطه نأخذه وان نمنعه نركب اعجاز الإبل وان طال السرى) (٢) وعرض عليه ابن عوف المبايعة على سيرة الشيخين فأبى الا على كتاب الله وسنة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وكان ذلك اما لاحتماله قبول القوم قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) واما لالقاء الحجة لئلا يقول قائل من القوم لا ادري او نسيت فلم يذكرني احد ، وقد ارسل الله موسى الى فرعون وهو يعلم انه لا يؤمن فليس من المقطوع به ان يكون دخول امير المؤمنين (عليه‌السلام) في الشورى لرضاه بها وجواز الامامة عنده بالاختيار ، بل ولا من المظنون مع قيام الاحتمالين القويين ،

__________________

(١) انظر تفصيل ذلك في شرح نهج البلاغة ١ / ١٥٨ فما بعدها عن الجاحظ والطبري والعسكري وغيرهم.

(٢) هذا الكلام رواه عنه الشريف الرضي في نهج البلاغة في باب الكلمات القصار برقم ٢١ ونقله الطبري في التاريخ ٥ / ٢٧٩١ ليدن حوادث سنة ٢٣ كما رواه الهروي في الجمع بين الغريبين وانظر شرح نهج البلاغة ١ / ١٩٥.

٤٢٥

واذا لم يكن رضاه بالشورى معلوما من دخوله فيها سقط الاحتجاج بها على مراد القوشجي ، وهنا وجه ثالث ذكره اصحابنا عن امير المؤمنين (عليه‌السلام) انه انما دخل في الشورى للرد على عمر وصاحبه في روايتهما عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (ولم يكن الله ليجمع لنا اهل البيت بين النبوة والخلافة) وهو وجه ظاهر الصحة ، واما قول العباس امدد يدك ابايعك ففيه ثلاثة وجوه.

الأول : انها رواية يختص الخصم بنقلها فلا حجة فيها مع انهم رووا ما يعارضها وهو الخبر المتقدم المشتمل على شهادة العباس لعلي (عليه‌السلام) بالنص عليه من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وابلاغ ابن عباس عمر ذلك عنه واقرار عمر ببعض ذلك ، بل بكله والترجيح لهذا الخبر لأنه أوضح دلالة ولاعتضاده بالأخبار الصريحة في النص على علي (عليه‌السلام).

الثاني : ان الرواية لا تدل على نفي النص بحال لأن قوله : امدد يدك ابايعك الخ ليس فيه ما يدل على عدم النص لا بالمطابقة ولا بالتضمن وهما ظاهران ، ولا بالالتزام اذ لا ملازمة في العقل بين البيعة لئلا يختلف الناس وبين عدم النص الا بالجزم بعدم مخالفة القوم لنص النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لو كان موجودا ، والمقطوع به من حالهم خلاف ذلك ، نعم هناك ظاهر ضعيف وهو لا يعارض القاطع.

الثالث : انه من الجائز ان يكون العباس دعا عليا (عليه‌السلام) الى المبايعة لا لفقد النص عليه ، بل دعاه الى ذلك خوفا من اختلاف الناس عليه لعمله منهم ذلك كما اشار إليه بقوله : حتى يقول الناس هذا عم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بايع ابن عمه فلا يختلفون فيك (١) فدعاه الى

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١ / ١٦٠.

٤٢٦

المبايعة لدفع اختلاف الناس عليه لا لأحداث إمامته بالبيعة ، بل ظاهر الحال ان إمامة علي (عليه‌السلام) كانت معلومة عند العباس واراد بالبيعة توكيدها ودفع الاختلاف فيها ، او لأنه خاف ان يسبق سابق بالبيعة لعلمه ان القوم لا يقفون مع قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في علي ونصه عليه لما ظهر له من الامارات الواضحة وقرائن الأحوال فاراد السبق بمبايعة علي (عليه‌السلام) ليستقر امره فلا تفيد بيعة غيره بعد ذلك في النقض عليه ويزول الاختلاف ، واذا جاز ذلك بطل الاستدلال بالخبر ان صح اذ لا حجة فيه حتى يحصل العلم بان دعاء العباس عليا (عليه‌السلام) للبيعة لفقد النص عليه لا لفائدة اخرى ، وليس ذلك بحاصل ولا ظاهر ان لم يكن الظاهر من ذلك خلافة ، لأن تقديم العباس عليا على نفسه في خلافة النبي (ص) مع كونه اسن منه يظهر منه انه كان لسماع العباس من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ان عليا هو خليفته والأحق بمقامه ، فكان الخبر لنا لا علينا.

واما قول ابي بكر وددت اني سألت النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الخ فانه قال ذلك تقريرا لانكار النص على علي (عليه‌السلام) وتصنعا منه وتشبيها على من لم يعلم بانه ما ظلم واحدا بعينه في تقدمه ، ولا في استخلافه عمر من بعده ليكون قوله هذا معارضا لدعوى علي (عليه‌السلام) النص عليه ويستتم له ما اراد من حرمان اهل البيت حقهم من خلافة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في ظاهر الأمر عند عامة الناس في جميع الأزمنة لما يعلم من ان اهل البيت ان تمكنوا من الخلافة وقتا من الأوقات واستقرت قدمهم فيها ظهر من ظلمه لهم ما كان مستورا عند العامة ، وزال الوثوق به عندهم ، وفسد ما دبره ولو لا ما القاه من الشبه هو وموازروه بالقول والفعل لما خفي على عوام الناس النص على علي (عليه‌السلام) ، ولا انكره احد لوضوحه فضلا عن ان يكون خفيا على المجيب وامثاله من المحققين حتى جادلوا فيه اتم الجدال ، وبلغوا في انكاره الى الجمع بين الأمور المتناقضة

٤٢٧

والمذاهب المتخالفة ، فلذلك قال الرجل ما قال ليشبه على الجهال فنال ما طلب ولو انه صرح بما علمه من النص على علي (عليه‌السلام) لطعن فيه العامة لتقدمه على من نص عليه النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وقدحوا في استخلافه صاحبه وهو لم يترأس ليكون مطعونا عليه عند العوام ، وانما فعل ذلك ليكون عندهم موثقا مطاعا في الحياة والممات ليتم مقصده المذكور وتصريحه بالنص يزيل ذلك كله عند سائر الناس وهو خلاف مطلبه ، فليس في قوله حجة على فقدان النص لأن له في اخفائه غرضا قويا ، ثم ان استدلال القوشجي بكلام ابي بكر على انتفاء النصّ مطلقا على واحد معين يعود عليه بالنقض في دعواه اجماع اصحابه على استخلاف النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أبا بكر ويرد حديث عائشة الذي هو الدليل عندهم على ذلك : (وهو ادعى اباك واخاك) المتقدم ذكره ، ويبطل روايته في ابي بكر وهو قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيه : (وخليفتي في امتي) وهذا دأبه (١) ـ متناقض الأقوال مختل الكلام.

واما محاجة علي (عليه‌السلام) معاوية ببيعة الناس له لا بنص فهي ان سلمت مثل محاجته للصدر الأول بالقرابة ، وذلك ان النصوص الواردة من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على علي (عليه‌السلام) وان كانت صريحة واضحة ومعاوية يعلمها ولا يجهلها ويعرفها باطنا ولا ينكرها لكن وهن دلالتها وشبه صراحتها على تابعي معاوية من اهل الشام واكثر تابعي علي (عليه‌السلام) ، اذ جل من معه يرون ان إمامته بالبيعة لا بالنص عليه ويثبتون تقدم الثلاثة عليه في الخلافة فكان الفريقان يذهبان الى ان الامامة بالاختيار لا بالنص وان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم ينص على واحد بعينه ، ولو احتج امير المؤمنين (عليه‌السلام) بالنص على معاوية لم يسلمه له في الظاهر وان كان يعلم صحته كما لم يسلم له الأولون إذا ذكره ، ولم

__________________

(١) أي القوشجي.

٤٢٨

يلتفت إليه اهل الشورى اذ أورده ، ولا رآهم الناس من العامة خالفوا النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اذ ردوا نصه لتلك الشبهة المرتكزة في نفوسهم وكان يتجه لمعاوية عند اهل الشام واكثر اهل العراق ان يجيبه بان يقول : اذا كنت انت المنصوص عليك بهذه النصوص فلم تقدم عليك فلان وفلان ولم قرن عمر بك في الشورى فلانا وفلانا الى آخره ولم قدم عليك اهل الشورى فلانا وهؤلاء خيار الصحابة؟ أفتقول إنهم ظلموك وانتهبوا حقك ، فان صرح بما لا يحتمل التأويل بانهم ظلموه وغصبوه حقه وخالفوا نص رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عليه ، وقوله فيه وتقدموا عليه عدوانا كانت هذه هي الطامة الكبرى التي ود معاوية لو تكلم امير المؤمنين (عليه‌السلام) بكلمة تدل عليها ليجعلها من اعظم الموجبات لمخالفته وقتاله ، فما رضاه بقتل عثمان الذي اقتضى لزوم خلافه ووجوب حربه عند اهل الشام الا دونها بمراتب ، فيزدادون بها ضلالا وعتوا عليه ويتفاقم خطبهم ويزيد فسادهم ، وهو (عليه‌السلام) يريد اصلاحهم ، ثم ليست هذه مقصورة على فساد اهل الشام خاصة بل يتمشى الأمر بها الى فساد اكثر جند امير المؤمنين (عليه‌السلام) عليه ، لأن عامتهم يرون في الإمامة ما يرى اهل الشام ويصححون خلافة الثلاثة ، ويوثقونهم ومن معهم من الموازرين لهم فيما فعلوه ، ويناقضون عليا (عليه‌السلام) في مخالفته فتاوى الشيخين كما هو معلوم فكيف يتبعونه اذا صرح بانهما من الظالمين الغاصبين؟ وقد علم كافة اولى الألباب ان الحجة اذا لم يسلمها الخصم ولا تابعوه لم يكن في الاحتجاج بها عليه فائدة وان كانت صحيحة ، وانه يجب العدول عنها الى حجة لا يقدر الخصم على دفعها ولا يجد سبيلا لى منعها اذا كانت موجودة ، هذا كله اذا لم يجر الاحتجاج بها على المحتج ضررا فكيف اذا كان ذلك يجر الدواهي الدهم عليه ويكون موجبا لفساد اصحابه ، وزيادة ضلال اصحاب الخصم وغوايتهم؟ ومع هذا لا يؤمن على معاوية ان يقيم شهودا عند اهل الشام

٤٢٩

مثل ابن العاص وابي هريرة وحبيب بن مسلمة الفهري والضحاك بن قيس واضرابهم يكذبون عليا (عليه‌السلام) في دعواه النص ، وان المنصوص عليه فلان وفلان الى آخر من يريد معاوية والكذب عند هؤلاء على الله ورسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اهون من شرب الماء البارد على الظمآن ، وخصوصا فيما يعيبون به على امير المؤمنين (عليه‌السلام) واهل الشام يصدقونهم في جميع ما قالوا لظنهم فيهم الخير فتبطل الحجة عند اهل الشام مع حصول الضرر ، فلهذا كله عدل امير المؤمنين (عليه‌السلام) عن ذكر النص الى الاحتجاج ببيعة المهاجرين والأنصار له اذ كانت هي النافعة في المقام والمعتبرة عند العوام ، وان معاوية لا يستطيع انكارها ولا يسعه الطعن فيها ولا يتيسر له انكار ثبوت الامامة ، لأنه هو وجميع من معه والجم الغفير من اصحاب امير المؤمنين (عليه‌السلام) يجعلونها هي الطريق للامامة ويثبتون بها إمامة المتقدمين ، وبها يتعلق معاوية دعواه الطلب بدم عثمان كما زعم وذلك لتقوم بها عليه الحجة ظاهرا ولا يمكنه المدافعة والممانعة ولا يقبل قوله في علي (عليه‌السلام) انه يبرأ من الشيخين ويفسقهما ، كما اكثر من ذلك في كتبه الى علي (عليه‌السلام) وهذه عند اهل الذكى من اعظم الأدلة على بلوغ امير المؤمنين (عليه‌السلام) في الحكم ومعرفة سياسة الأمور الغاية القصوى ، ولو جرى على من تقدمه من رعيته ما جرى عليه اذن ما استقر في الامارة شهرا ولذا لم يتمكن معاوية ابتداء من التخلف عن بيعته (عليه‌السلام) عند اهل الشام الا بطلب قتلة عثمان منه ، وانه اذا دفعهم إليه كان اسرع الناس الى طاعته فتعلق أولا بامر مقبول عند اهل الشام غير ثبوت إمامة علي (عليه‌السلام) ونفيها لعلمه ان اهل الشام لا يقبلون منه ابتداء ابطال بيعة الصحابة لمن بايعوه وببطلان ما دعاهم إليه من الطلب بدم عثمان لو صرح اوّل الأمر بذلك وتيقنه ان عليا (عليه‌السلام) لا يجيبه الى ما طلبه على الوجه الذي اراد ، لأنه غير جائز شرعا من وجوه لا يحسن هنا بيانها فتتم

٤٣٠

له الحيلة المقصودة له في باطن امره بهذه الشبهة ، فلما تمكن ارتفع عن ذلك الى القدح في بيعة علي بأنه قتل عثمان ظلما بزعمه أو راض بقتله ، ولا تصح الخلافة لقاتل خليفة مظلوم لا لأن بيعة الصحابة لا توجب الامامة وكانت هذه أيضا شبهة مقبولة عند اتباعه ثم كان كلما تمكن من امر ارتفع إليه حتى تم له جميع ما حاول وطلب من امر الدنيا فكان تعلله اذ لم يتمكن من القدح في اوّل الأمر في إمامة امير المؤمنين (عليه‌السلام) ببيعة المهاجرين والأنصار له بما تعلل به شبيها بتعلل الأولين بحداثة السن اذا اعيتهم الحيلة في دفع حجته ، فليس ترك امير المؤمنين (عليه‌السلام) مخاصمة معاوية بالنص لكونه مفقودا بل لكونه غير نافع بل مقتضيا للضرر يقينا ، وترك ما يوجب الضرر واجب قطعا ولأن مراد امير المؤمنين (عليه‌السلام) مطالبة معاوية واصحابه بالبيعة وذلك متوقف على ثبوت الامامة على ما يرون ولا يكون الا بالبيعة فخاصمهم ليكون قد اتاهم بما يعرفون ولا ينكرون ليستحقوا على العصيان من المطيعين القتال ومن الله المقت والنكال ، وهذا في الحقيقة لا يجهله محصل ولا يرتاب فيه محقق وبأقل مما بيناه يتضح وجهه ، فبطل ايراد القوشجي كله وانزاح تعلله بعون الله ومنه ، وقد نتج من كلامنا من اوله الى هنا دعويان.

الأول : ان القوم كانوا يخالفون نصوص النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ويردونها بالرأي.

الثانية : ان النص موجود على امير المؤمنين (عليه‌السلام) من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فكتمه القوم واعرضوا عنه ونبذوه وراء ظهورهم.

اما الأولى : فدليلنا عليها مع ما بيناه واوضحناه حتى من شهادة اوليائهم عليهم ما شاع من صدور مخالفة بعض الصحابة للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله

٤٣١

وسلم) في حياته وما تواتر من مخالفتهم اياه بعد وفاته ، منها ما صدرت من شخص معين ، ومنها ما صدرت من اشخاص معينين ، ومنها ما هو منسوب الى جملة من القوم من غير تعيين ، ونبدأ من القسم الأول بذكر ابي بكر وعمر فانهما رأس هذا الأمر وسنامه ، وجميع البحث في الامامة يدور عليهما فنقول ان مخالفتهما للنص (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) جاءت منهما تارة على الاجماع واخرى على الانفراد فممّا اجتمعنا فيه مخالفتهما للرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في التخلف عن جيش اسامة مع حث النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على تنفيذه مرارا.

قال ابن أبي الحديد : قال ابو بكر (١) وحدثنا احمد بن سيار عن سعيد بن الكثير الأنصاري عن عبد الله بن عبد الله بن عبد الرحمن : ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في مرض موته امر اسامة بن زيد على جيش فيه جلة المهاجرين والأنصار منهم ابو بكر وعمر وابو عبيدة بن الجراح وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير ، وامره ان يعبر على مؤتة حيث قتل ابوه زيد ، وان يغزو وادي فلسطين ، فتثاقل اسامة وتثاقل الجيش بتثاقله ، وجعل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يثقل ويخف ويؤكد القول في تنفيذ ذلك البعث حتى قال له اسامة : بابي انت وامي أتأذن لي ان امكث اياما حتى يشفيك الله فقال : (اخرج وسر على بركة الله) فقال : يا رسول الله اني ان خرجت وانت على هذه الحالة خرجت وفي قلبي قرحة منك فقال : (سر على النصر والعافية) فقال : يا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اني اكره ان اسئل عنك الركبان ، فقال : (انفذ لما امرتك به) ثم اغمى على رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وقام اسامة فجهز للخروج ، فلما افاق رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) سأل عن اسامة والبعث فاخبر

__________________

(١) يعني الجوهري.

٤٣٢

انهم يتجهزون فجعل يقول : (أنفذوا بعث اسامة لعن الله من تخلف عنه) ويكرر ذلك الخبر ، (١) ومع هذا الحث الأكيد قد تخلف من تخلف عن البعث المذكور ردّا لنص الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بالرأي فان احدهما تخلف لطلب الخلافة والثاني لمعاونته ولم ينكر عليهما منكر لأن المتمكن من الانكار عليهما في تلك الحال يرى رأيهما ، والمؤمنون وهم اقل قليل مغلوب عليهم ، فاذا كان هذان الرجلان قد تخلفا عن جيش اسامة مخالفة للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ولم تمض من المدة ما يحتمل فيه شبهة كنسخ وغيره ، وكل ذلك لغرض الأمرة وطلب الرئاسة فكيف يستنكر منهما ويستبعد مخالفة نص الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على علي وانكاره ذلك الغرض المذكور؟ مع ان مخالفة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في الامامة ورد نصه فيها على مذهب الجماعة اهون من رد نصه في الجهاد لأنهم جعلوا الخلافة من الأمور الدنيوية ولم يجعلوها من الفروض الدينية ، والأحكام الشرعية ، الا ترى قول عمر لأبي بكر في السقيفة وامرك رسول الله بالصلاة رضيك رسول الله لديننا أفلا نرضاك لدنيانا (٢) ، فجعل الصلاة من الدين والامامة من امر الدنيا ، ولازم ذلك جعل نص الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيها كرأي واحد منهم! فكما يجوز مخالفة ذلك الواحد يجوز مخالفة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) والرجوع الى ما يؤدي إليه الرأي ، واذا كانوا قد خالفوا النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وردوا نصه في الأمور الدينية فأحرى بهم ان يخالفوا النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيما زعموا انه من الأمور الدنيوية لا من الأوامر الشرعية ، فتبين هنا ان قول بعضهم : ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم يوص ولو اوصى ما تأمر ابو بكر

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٦ / ٥٢ كما روى هذا الحديث الشهرستاني في الملل والنحل ١ / ٢١.

(٢) المصدر السابق ٢ / ٢٥ عن المغني لقاضي القضاة.

٤٣٣

على وصيه باطل ، لأن أبا بكر قد تآمر في هذه الواقعة على من امره رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عليه والحال في الأمرين واحدة ، ومتى رأينا أبا بكر وصاحبه وقفا مع النص فيما يخالف غرضهما حتى نستبعد منهما مخالفة النص في الامامة مع ظهور مخالفته لمطلوبهما ومنعه اياهما من التوصل الى محبوبهما ما هذا الا تمحل المحال.

ومن ذلك مخالفتهما امره (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بقتل ذي الخويصرة التميمي (١) قال ابن ابي الحديد : وفي الصحاح المتفق عليها ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بينا هو يقسم قسما جاء رجل من بني تميم يدعى ذي الخويصرة ، فقال : اعدل يا محمد فقال : (قد عدلت) فقال ثانية : اعدل يا محمد فانك لم تعدل فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (ويلك ومن يعدل اذا لم اعدل)؟ قال : وفي بعض الصحاح ان رسول الله قال لأبي بكر وقد غاب الرجل عن عينه : قم الى هذا فاقتله فقام ثم عاد فقال : وجدته يصلي ، فقال لعمر مثل ذلك فعاد وقال : وجدته يصلي فقال لعلي (عليه‌السلام) مثل ذلك فعاد وقال : لم اجده ، فقال رسول الله : (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (لو قتل هذا لكان اوّل فتنة وآخرها) (٢) الحديث فانظر الى ترك الشيخين قتل الرجل لأنه يصلي فانك تجده صريحا في ردهما امر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بالرأي وتخصيصهما عمومه بالاستحسان؟ هذا والنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) حي نافذ الحكم شديد السلطان ، فاذا تحقق ردا مرة بالرأي في حال حياته وعلو كلمته ولم

__________________

(١) ذو الخويصرة : حرقوص بن زهير رأس الخوارج وهو ذو الثدية قتل يوم النهروان سنة ٤٠.

(٢) شرح نهج البلاغة ٦ / ٠ وقد اخرج هذا الحديث الامام احمد في مسنده ٣ / ١٥.

الصورة اطول كما ان حديثه هذا من الأحاديث المتفق عليها كما يقول ابن ابي الحديد.

٤٣٤

يحذرا من عقوبته فكيف يستنكر منهما مخالفته نصه في إمامة علي (عليه‌السلام) بعد وفاته وعلمهما انه قد فارق الدنيا وأنه لا يأمر بعد ذلك ولا ينهى ، أفيرتاب عاقل عالم قد علم بمخالفتهما الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيما ذكرناه في جواز ان يخالفا نصه في الامامة مع ارتكاب خطر العقوبة في الأول والأمن منها في الثاني؟ وهل يصفهما ذو عقل صحيح وذوق رجيح بعدم امكان المخالفة ـ كما فعل ابن ابي الحديد ـ فوا عجبا من قوم هم من ذوي التحقيق يروون شيئا ويحققونه ثم يزعمون عدم امكان واستحالة وقوعه (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١) ولعمري لقد اصابتهم الفتنة من غير شك ولا شبهة وبالله المستعان.

وفي حديث : أمّ سلمة المتقدم مع عائشة قالت : واذكرك أيضا كنت انا وانت مع رسول الله في سفر له وكان علي (عليه‌السلام) يتعاهد نعلي رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيخصفها ، ويتعاهد أثوابه فيغسلها ، فنقبت له نعل فاخذها يومئذ يخصفها وقعد في ظل سمرة ، وجاء ابوك ومعه عمر فاستأذنا عليه ، فقمنا الى الحجاب ، فدخلا عليه فحادثاه فيما اراد ، ثم قالا : يا رسول الله انا لا ندري قدر ما تصحبنا فلو اعلمتنا من تستخلف علينا ليكون لنا بعدك مفزعا ، فقال لهما : (اما اني قد ارى مكانه ولو فعلت لتفرقتم عنه كما تفرقت بنوا اسرائيل عن هارون بن عمران) فسكتا ثم خرجا ، فلما خرجنا الى رسول الله (عليه‌السلام) قلت له وكنت اجرأ عليه منا : من كنت يا رسول الله مستخلفا عليهم؟ فقال : (خاصف النعل) فنزلنا فلم نر احدا الا عليا ، فقلت : يا رسول الله ما ارى الا عليا فقال : (هو ذاك) فقالت عائشة : نعم اذكر ذلك ، فقالت : فأي خروج تخرجين

__________________

(١) النور : ٦٣.

٤٣٥

بعد هذا (١) وهو صريح في اخبار النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لهما بانهما يخالفان نصه ، ولا يطيعان من يستخلفه ، وسكوتهما من دون ان يعتذرا للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) او يعطياه من العهود بالطاعة فيمن يستخلفه عليهم ما يحصل الوثوق ظاهرا بمثله شاهد صدق على ان ما نسبه النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) إليهما والى امثالهما من التفرق عن خليفته كان ذلك الوقت مضمرا في قلوبهما ، وكانا قد عرفا اشارة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الى ما اضمراه من مخالفة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ان استخلف عليا ، وقد فهما الى من يشير النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بالاستخلاف فسكتا على ما اضمرا ، فأي شاهد عدل من هذا يراد منا على هذه الدعوى؟

ومما اختص به ابو بكر في مخالفة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وكان عمر له تابعا اخذه فدك من فاطمة (عليه‌السلام) لروايته التي خالفها بتركه ما ترك رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عند علي (عليه‌السلام) كالسيف والدرع والبغلة والعمامة وشبه ذلك وترك حجرات النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عند ازواجه (عليه‌السلام) وتوضيح ذلك ان فدك كانت من الأنفال كما صح عند خصومنا رواه ابن ابي الحديد عن الطبري وغيره (٢) وليست فيئا للمسلمين وان فاطمة (عليه‌السلام) اتت تطلبها بالميراث من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بادئ بدء فمنعها ابو بكر وروى انه قد سمع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يقول : (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة) (٣) وانه بعد ذلك ترك

__________________

(١) من محاورة جرت بين عائشة وأمّ سلمة وقد تقدم بعضها.

(٢) شرح نهج البلاغة ١٦ / ٢١٠ فما بعدها وقد اشبع القول في هذه المسألة تفصيلا من جميع وجوهها.

(٣) صحيح البخاري ٥ / ٨٤ كتاب المغازي باب غروة خيبر ، وصحيح مسلم ٥ / ١٥٣

٤٣٦

المذكورات عند علي (عليه‌السلام) ولم يتصدق به وترك الحجرات عند الأزواج ، فكيف تترك تلك وتؤخذ هذه؟ والاعتذار بانه لعله تصدق باثمانها لا يدفع الايراد ولا يجدي نفعا لوجهين.

الأول : انه منع فاطمة الميراث بما زعمه من الرواية على رءوس الأشهاد وكانت فاطمة وعلي (عليه‌السلام) وشيعتهما ينسبونه في ذلك الى الظلم وافتعال الرواية وكل هذا مصحح عند الخصم فكان تركه المتروكات موجبا لصدق اتهامه بالرواية والظلم والتصدق باطنا بالأثمان لا يرفع عنه التهمة ولا يوجب براءة ساحته لأن منعه فاطمة الميراث لروايته امر متعالم معروف فالواجب عليه ان يقابله بما يزيل عنه التهمة ويبرئ ساحته من الطعن عليه بافتراء الرواية بامر مثله معلوم معروف بان يحضر جماعة من الصحابة ويحضر ذوي عدل يقومون تلك الأشياء بقيمة عادلة فيحضر من ماله قدر ذلك فيتصدق به علانية في ذلك المشهد لأن المعلوم لا يرفعه الا معلوم مثله وما نراه فعل شيئا من ذلك ولا نقله عنه من أوليائه ناقل ولو فعله لصنفت فيه الكتب وكثرت فيه الأسانيد وكل هذا لم يكن وهو دليل على انه لم يكن في السر شيء منه وهم لا يدعون له العصمة حتى يقطع على باطنه كما يقطع على ظاهره الثاني انا لو جوزنا تصدقه سرا فمن اين نقول انه تصدق باثمان تلك المتروكات فان كان من ماله فهو باطل لأنه اذ ولى الخلافة واشتغل بها عن التجارة لم يجد نفقة له ولعياله حتى جعل له المسلمون قسمة من بيت المال كل يوم ثلاثة دراهم كما صح عند الخصوم ونقله ابن ابي الحديد عن ابي جعفر الإسكافي (١) فاين له مال يتصدق منه باثمان المتروكات وان كان من بيت المال فذلك غير جائز لأن بيت المال حق للمسلمين فليس له ان يؤدي

__________________

باب قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (لا نورث ... الخ).

(١) شرح نهج البلاغة و ١٧ / ٢٢٤.

٤٣٧

عن ذمته من مالهم شيئا بغير اذنهم ولم ينقل انه استأذنهم في ذلك فاذنوا له ففعل ثم على تقدير جواز ذلك كله لا ترتفع المخالفة لأن الصدقة في حديثه متعلقة باعيان تلك الأشياء لأنه قال ما تركناه صدقة فالواجب دفع اعيان تلك المتروكات في الصدقة ولا يجزى دفع اثمانها وما هو الا كرجل نذر الصدقة بدينار معين فلا يجزيه التصدق بغيره بلا خلاف وقد ترك تلك الأشياء على حالها بيد من هي تحت يده فثبتت مخالفته لما رواه ثم هنا وجه آخر من المخالفة لا يدفع وذلك ان لفظ حديثه (ما تركناه صدقة) ومن البين ان الصدقة للفقراء والمساكين لا لعامة المسلمين ولا في وجوه الجهاد كالكراع والسلاح لم ينقل احد من مواليه انه كان يقسم غلة فدك في الفقراء والمساكين بل صح عندهم انه يجعله في بيت المال ويصرفه في امر الجهاد كما زعم ففعله مخالف لروايته من هذه الجملة قد بان ان الرواية انما افتعلت افتعالا في ذلك الوقت ليدفع بها قول فاطمة (عليها‌السلام) ويسكتها عن مطالبتها الميراث لئلا تدعى بعد ذلك ميراث الخلافة لابن عمها علي (عليه‌السلام) من رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فقطع بهذا الخبر المادة التي حذر منها وكان ذا مكنة على امثال هذا فلما اندفعت فاطمة عن مطالبة الميراث ترك ما يلزمه من مضمون روايته

وقد نقل ابن ابي الحديد ان عثمان كذب هذه الرواية اذ جاءته عائشة في ايام خلافته تطلب ميراث النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وطعن عليها ولا ادري كيف طلبها ميراث النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) والرواية انه لا يورث أفيكون للزوجة ميراث ولا ميراث للبنت.

ومن ذلك اسقاطه سهم ذوي القربى من الخمس والأنفال وجعلهم كعامة المسلمين فيه وقد خص الله ورسوله ذوي القربى منهما بسهم لا يشركهم

٤٣٨

فيه غيرهم بنص الكتاب العزيز (١).

ومن ذلك درؤه الحد عن خالد بن الوليد اذ قتل مالك بن نويرة وزنى بامرأته وعذره لعمر لما طلب أن يقوده بمالك لأنه مسلم ما هو بأول من تأول واخطأ فاكفف يدك ، وارفع لسانك عنه (٢) الى غير ذلك من الاجتهادات في مقابلة النص ، والعمل بالرأي دون الرواية.

واما ما يختص به عمر فمنه مخالفته لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) حين قال (ائتوني بدواة وصحيفة اكتب لكم كتابا لا تضلون بعدي) ولم يكفه المخالفة للأمر دون أن قال انه ليهجر استفهموه حسبنا كتاب الله

__________________

(١) قال تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى ...) الآية ٤١ من سورة الأنفال وقد اجمعت الأمة على ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كان يختص بسهم من الخمس ويخص ذي قرباه بسهم آخر منه مدة حياته صلوا الله عليه وآله وسلم فلما ولي ابو بكر (رضي الله عنه) اسقط سهم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بموته ، ومنع ذوي القربى من الخمس وجعلهم كغيرهم من يتامى المسلمين ومساكينهم وابناء السبيل منهم (انظر النص والاجتهاد).

(٢) قصة زحف خالد بن الوليد الى البطاح ليلقى مالك بن نويرة وقومه من بني يربوع وقتله مالك بن نويرة وجماعة من قومه مع قولهم : انا مسلمون ، ورفعهم الأذان ، واقامتهم الصلاة بمشهد من المسلمين الذين مع خالد ثم قتلهم بعد استيلائهم على اسلحتهم ومبيت خالد مع زوجة مالك في ليلة مقتله ، وانكار ابي قتادة لهذه الفعلة ومفارقته لخالد بعد ان اقسم ان لا يكون ابدا في لواء عليه خالد وغضب عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) لذلك وحنقه عليه حتى عزله يوم تولى الأمر حقيقة ثابتة ليس بوسع احد ان ينكرها ويتستر عليها وبحسبك ان ترجع الى كتاب الغدير ٧ / ١٥٨ ـ ١٦٩ فقد ألم بهذه القضية من كل اطرافها وهب ان مالكا قتل مرتدا ، وزوجته سبية ، وخالد لا يرى ان تعتد بابعد الأجلين. أو ليس رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يقول : (الا لا توطأ الحبالى حتى يلدن ، ولا غير الحبالى حتى يستبرئن) كما نادى مناديه يوم حنين والى الله ترجع الأمور.

٤٣٩

مراغمة لقول الله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) ثم افترق الحاضرون فمن قائل القول ما قاله رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ومن قائل القول ما قاله عمر ذكر هذه الرواية ابن ابي الحديد مرارا وهي في صحاح كتبهم كالبخاري وغيره على اختلاف في الألفاظ وقد مضى هذا الكلام محقق بيّنا فيه بيانا وافيا وقررنا فيه تقريرا شافيا واذا صدرت من عمر مخالفة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ظاهرا مع قوته ونفاذ امره كيف يبعد منه مخالفته في نصه على امير المؤمنين وهو انما قال ما قال لأنه فهم ان مقصد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من الكتاب تجديد النص على علي (عليه‌السلام) واشهاد الحاضرين فلما رأى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الاختلاف من الحاضرين حتى انهم جعلوه ندا له في القول فجعلوهما كالمجتهدين المختلفين يذهب الى قول كل منهما فريق عرف انهم لا يجيبونه اذا نص ولا يعتنون بكتابه اذا كتب ، فقال : (قوموا فاخرجوا عني فانه لا ينبغي عند نبي تنازع) كما هو تمام الخبر وهذا اعجب الأمور واغربها حيث يجعلون قوله : ندّا لقول رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ويترددون في ايهما اصح وايهما الأحق بان يتبع حتى يترجح عند قوم منهم ان الصحة في جانب قول عمر وان قول رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ليس بصحيح وكيف لا يجترئ بعد ذلك على انكار النص على علي (عليه‌السلام) وابطاله لو اورده ومن تراه ينكر عليه اليوم وهم بالأمس صيروه لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ندا وقوله لقوله ضدا بل رجحوا قوله على قول الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الا طائفة من المؤمنين وقليل ما هم فيا له من عجب عجيب ، لا ينقضي التعجب منه ابدا وهذا يرشدك الى صدق ما ندعيه الامامية من التواطؤ على إنكار النص ، ودفع صاحبه.

ومنه رد عمر قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يوم الحديبية حين صالح قريشا فقال على م نعطي الدنية في ديننا وهذا رد على الله وعلى رسوله (صلى

٤٤٠