منار الهدى في النصّ على إمامة الأئمّة الإثني عشر

الشيخ علي البحراني

منار الهدى في النصّ على إمامة الأئمّة الإثني عشر

المؤلف:

الشيخ علي البحراني


المحقق: السيد عبدالزهراء الخطيب
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار المنتظر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٢٠

بأربعة دراهم ليلا ونهارا وسرا وعلانية (١) وجاد بقوته وقوت عياله ثلاث ليال (٢) فانزل الله في كل من ذلك قرآنا يتلى بمدحه ، ويكشف عن اخلاص عمله ، ويعرب عن صدق نيته ، مثل قوله تعالى : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) (٣) فما بال غيره لم ينزل في تجهيزه النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) آية تتلى ولا كلمة تقرى ، أفترون ان الله عزوجل اضاع عمله وهو لا يضيع عمل عامل أم لم يقبله منه فترك ذكره واهمله ، أم لم يكن شيء مما ادعيتم يحتاج الى ان يبينه الله تعالى فيما أنزله؟! هذا كله مضافا الى ما صح من فقر ابي بكر حتى احتاج في ايام خلافته الى ان يجعل له المسلمون قسمة من سهامهم من بيت المال لكل يوم شيء يسير كما صح في سير القوم وتواريخهم فمن هذه حاله من اين له المال حتى يجهز به النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم).

وأما المواساة بنفسه فمتى كان ذلك أفي الشعب حين اجمعت قريش على حصر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فأبو بكر ليس من المحصورين ، أم في ايذاء قريش للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فأبو بكر ليس من المحامين بل القائم بحماية النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) والمواسي له بنفسه والذاب عنه في ذلك كله من لا يهاب الرجال ولا تروعه الأبطال ابو طالب وبنوه ورهطه وابو بكر في معزل عن ذلك كله فما نعلم الموضع الذي اختص فيه بمواساة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) دون غيره الا ان يدعو حديث الغار وفيه ما فيه ـ كما تقدم ـ واين هو في ذلك ممن بات يفدي النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بنفسه ويتوقع الموت في الذب عنه صابرا محتسبا ،

وأما المجاهدة ساعة الخوف فما علمنا لأبي بكر قتالا ولا سمعنا انه في

__________________

(١) اسباب النزول للواحدي ص ٥٨ والكشاف ١ / ٣٩٨ وتفسير الرازي ٧ / ٨٣.

(٢) شرح نهج البلاغة ١ / ٢١ وانظر اسباب النزول للواحدي ص ٢٩٦.

(٣) الدهر ٩ و ١٠.

٣٢١

موقف بارز قرنا ولا سفك دما فضلا عن ان يكون اختص بجهاد مع النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) دون غيره ، بل المعلوم ضرورة خلاف ذلك فانه في بدر كان بالعريش ولم ير القتال بوجهه فضلا عن ان يكون قاتل وكان رسول الله لا يكلفه حربا ولا قتالا فانه لما خرج ابنه عبد الرحمن يوم احد من عسكر المشركين يدعو المسلمين للمبارزة وينادي هل من مبارز انا عبد الرحمن بن عتيق فغضب ابوه من قوله وقام مصلتا سيفه يريد مبارزته فنظر إليه النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وقال : (يا أبا بكر شم سيفك وامتعنا بنفسك) (١) ثم لم يلبث بعد ذلك حتى فر مع الفارين ، وفاز بالمواساة والجهاد غيره وهو علي الذي لم يزل فائزا بذلك حتى نزل جبرئيل على النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فقال : يا محمد قد عجبت الملائكة من صبر هذا الفتى انها لهي المواساة فقال : (يا جبرئيل انه مني وانا منه) فقال جبرئيل (ع) : وانا منكما (٢) ، ولا شك ان حديثهم الذي افتعلوه ليناقضوا به هذا الحديث الصحيح وما جرى مجراه ، ثم في يوم الأحزاب عجز هو وغيره عن مبارزة عمرو وفاز بالحظ الجزيل من مبارزة الشرك كله وقتله غيره.

وفي خيبر رجع منهزما براية النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ومن الغد فعل مثل ذلك صاحبه وادرك الفضيلة السابق الى الفضائل ابن عم المصطفى.

وفي حنين ولى مدبرا مع المدبرين فاين جهاده مع النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ساعة الخوف؟ وفي اي موضع حصل وفي اي موقف صدر؟ فليدلنا القوشجي وحزبه عليه حتى نعرفه وهل بلغ من الجهاد مع النبي

__________________

(١) نقض العثمانية للاسكافي كما في شرح نهج البلاغة ١٣ / ٢٩٤.

(٢) شرح نهج البلاغة ١٣ / ٢٦١ عن نقض العثمانية وشرح نهج البلاغة ١٤ / ٢٥١ ، وتاريخ الطبري ٣ / ١٥ حوادث سنة ٣.

٣٢٢

(صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ما بلغه ادنى المسلمين من الصحابة حتى يفضل بجهاده على جملتهم ، واذا تأملت الأمر عرفت ان مضمون الخبر كذب كله وليس من قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لأنه لا يقول إلّا حقّا ولا يمدح احدا الا بما فيه من الخير وبما عمل من الأعمال الصالحة وانما وضعه القوم ليناقضوا به اقوال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في علي (عليه‌السلام) المشهورة بين الناس مثل قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (هو اوّل من آمن بي وصدقني) وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيه (اولهم سلما) وليعارضوا به ما شاع لأمير المؤمنين (عليه‌السلام) من انفاقه في سبيل الله ما يملكه ولا يجد سواه وما تواتر وعلم من مواساته النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بنفسه وبذله مهجته دونه في ساعات الخوف ، ومجالدته الأقران عنه في اوقات الروع ، وذبه عنه بحسامه عند التحام القتال ومنازلته الأبطال ليغطوا على التحقيق بالشبهات وانى لهم بذاك.

ومنها : والخطاب لأبي الدرداء حين مشى امام ابي بكر : (أتمشي امام من هو خير منك والله ما طلعت شمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على احد افضل من ابي بكر) (١) والجواب عنه انه معارض لكثير من الأخبار الصحيحة الواردة في فضل علي (عليه‌السلام) مثل قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (الصديقون ثلاثة حبيب النجار ، ومؤمن آل فرعون ، وعلي بن أبي طالب (عليه‌السلام) وهو افضلهم) (٢) وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيه : (سيد المسلمين ويعسوب المؤمنين واعظمهم عند الله مزية) (٣) ومساواته للأنبياء وغيرها مما مر ذكره وما يأتي فهو مما افتعل

__________________

(١) نور الأبصار ص ٥٤.

(٢) نقله ابن ابي الحديد في شرح نهج البلاغة ٩ / ١٧٢ عن فضائل احمد.

(٣) شرح نهج البلاغة ٩ / ١٧٢ وطبقات ابن سعد ٣ ق ١ ص ١٣١ وتاريخ الطبري ٣ / ٢٠٣ والمحب في الرياض ١ / ١٦٧ و ١٧٧.

٣٢٣

للمناقضة فيكون فاسدا ولو صح هذا ومثله لما قال ابو بكر «وليتكم ولست بخيركم» (١) والقول بانه اراد كسر نفسه باطل لأن الأفضلية حكم من الأحكام لا يجوز اخفاؤه ، ونعمة من نعم الله يجب اظهارها ولا يجوز الأخبار بضد الحكم وكتمان نعمة الله ، ولهذا قال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (انا سيد المرسلين ولا فخر) ، وقال علي (عليه‌السلام) على المنبر : (انا الصديق الأكبر وانا الفاروق الأعظم ، آمنت قبل ايمان ابي بكر) (٢) وأيضا ان المقام مقام اظهار الحجة لأنه اذ ذاك في مخاصمة الأنصار ومخاصمة علي (عليه‌السلام) في امر الخلافة وطلبه منه ومن اصحابه البيعة له فلا موضع لكسر النفس وهضمها في ذلك الوقت وهو يطلب طاعة الأشراف لها واتباع اولى الفضل اياها ، هذا لو سلمنا عدم قبح اخفاء الحق لهضم النفس مطلقا فكيف ودون تسليمه الأقوال البليغة ومن جملته بل زبدته ما اشرنا إليه في اوّل هذا الكلام ، بل ان الشيخ لم يعلم بهذا الحديث الجديد ولا سمعته اذناه ولا احد من الصحابة في وقته ، ولا علم انه افضل الصحابة عند انفسهم ولذا لم يجيبوه ولا واحد منهم بانك خيرنا ، بل مبلغ علمه انه عند نفسه وعند الناس من جملة الصحابة فاخبر عن نفسه بما هو عليه ، وانما حدث له التفضيل العام فيما بعد من اعداء اهل بيت النبوة كما اوضحناه في اوّل الأجوبة على هذه الأخبار ثم اين عمر عن هذا الحديث حين ذهب في السقيفة يحتج لأبي بكر بصحبته النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في الغار

__________________

(١) قال ذلك بعد ان بويع بالخلافة (انظر شرح نهج البلاغة ١ / ١٦٩.

(٢) اخرج الطبراني ـ كما في كنز العمال ٦ / ١٥٦ وفيض القدير ٤ / ٣٥٨ ـ عن سلمان وابي ذر : اخذ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بيد علي فقال : (هذا اوّل من آمن بي) الى ان قال : (وهذا الصديق الأكبر ، وهذا الفاروق الأعظم) وكان علي (عليه‌السلام) ـ كما في خصائص النسائي ص ٤٦ وغيره ـ كثيرا ما يقول : (انا الصديق الأكبر).

٣٢٤

وتقديم قدميه في الصلاة مما لا يستدل به على افضليته ، فلم ترك مثل هذا الحديث الصريح في الأفضلية وعدل عنه إلى ما لا حجة فيه.

ومنها قال عمرو بن العاص : قلت لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : اي الناس احب أليك؟ قال : عائشة قلت من الرجال : قال : ابوها قلت : ثم من قال : عمر (١) والجواب عن هذا اللغو مستغنى عنه في الحقيقة لأن كذبه بين ، وراويه ابن الشانئ الأبتر الملعون على لسان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لكنا نجرى على العادة في امثاله فنقول بيان بطلانه من وجهين.

الأول : ان هذا الكلام قطعه من كلام الفه ابن العاص يوم صفين يحرض به اهل الشام على قتال امير المؤمنين ، وسيد الموحدين ، وخليفة رسول رب العالمين كما ذكره جامعوا اخبار الوقعة ، وقبله ما مضمونه أمرني ، رسول الله على ابي بكر وعمر فظننت ان ذلك لفضل لي عليهما فلما رجعت قلت لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الكلام المذكور بتمامه ، وهذا علي فعل بعائشة كذا وكذا لكلام ذكره يعيب عليا (صلوات الله عليه وسلامه) به ، ولا شك لأحد ان هذا القول اختلقه ابن العاص وافترعه ليحض اهل الشام على قتال امير المؤمنين ليجدوا في ذلك ويبذلوا جهدهم كما اختلق (ان آل ابي طالب ليسوا لي بأولياء انما وليي الله وصالح المؤمنين) (٢)

__________________

(١) رواه الترمذي ٢ / ١٣٠ ، والحاكم في المستدرك ٣ / ١٥٤ و ١٥٧ والنسائي في الخصائص ص ٢٩ والمحب في الرياض ٢ / ١٦٢ باختلاف يسير في المعنى واتفاق في اللفظ يشير الى قول رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم).

(٢) نقله الاسكافي كما في شرح نهج البلاغة ٤ / ٦٤ وذكر أنه من وضع عمرو بن العاص ، ولا ادري لما ذا يتنكر رسول الله لآل ابي طالب الذين آزروه ونصروه من بدء الدعوة والعجب ان هذا الحديث مروي في صحيحي مسلم والبخاري ، فقد رواه البخاري في ج ٧ ص ٧٣ كتاب الأدب وكأنهم احسوا ان هذا الحديث يكذب متنه سنده

٣٢٥

وغير ذلك مما قوي به قلوب اهل الشام ، وشحذ به عزائمهم على الضلال ، وكان على الكذب مقتدرا وبتصنيع الكلام وتزوير البهتان بصيرا ، وأي جهل اعظم من جهل من يجعل رواية ابن العاص المعروف بالفسق والكذب دليلا يعارض به الكتاب وصحاح الأخبار مع ان مقام ايرادها مصرح باختلاقها ، ومجموع الفاظها واضح في اصطناعها لكن القوم يأخذون ما يسمعون في الشيخين ويتلقونه بالقبول ولا ينظرون في سنده ولا في متنه ، ولا في مقام ايراده ، بعكس ما يرد عليهم من احاديث فضل امير المؤمنين (عليه‌السلام) فانهم يبذلون الجهد في تهجينها سندا مع وثاقة رواتها ، ومتنا مع صراحتها واستقامة معانيها كما فعلوا في خبر الغدير وغيره ولو بالتأويلات التي لا معنى لها في العقول ، وهذا نتيجة ما في قلوبهم من العصبية.

الثاني انه معارض لما صح نقله من الأحاديث المشهورة في محبة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لعليّ وفاطمة والحسن والحسين ومن ذلك ما رواه الترمذي عن عائشة قالت : كانت فاطمة احب النساء الى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وزوجها علي احب الرجال (٢) إليه وقال

__________________

فحرفوه عند النسخ او عند الطبع الى (آل ابي) فحذفوا كلمة (طالب) وبعضهم ترك مكانها بياضا ، وبعضهم مكان طالب (فلان) وكذلك فعلوا في رواية مسلم لها ج ١ / ١٣٦ فقيه : (ان آل ابي يعني فلانا) وتتمه هذا الحديث كما في البخاري (ولكن لهم رحم أبلها ببلالها) يعني اصلها بصلتها وآخر الحديث يشهد ان المراد آل ابي طالب ويضم الى ذلك تصريح الاسكافي بقوله : «اخرجه البخارى ومسلم في صحيحها مسندا متصلا بعمرو بن العاص وارسال ابن ابي الحديد لنقل الاسكافي عن الصحيحين ارسال المسلمات.

(٢) شرح نهج البلاغة ١ / ٢٦٤.

٣٢٦

الإسكافي ولما سئلت عائشة من كان احب الناس الى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قالت : اما من الرجال فعلي واما من النساء ففاطمة. وروى ابو داود والطبراني والحاكم والترمذي وحسنه عن اسامة بن زيدان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : (احب اهلي الي فاطمة) (١) وقول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (لأبعثن إليكم رجلا عديل نفسي) وغير ذلك مما اشتمل عليه هذا الكتاب فيكون باطلا كاخوانه.

ومنها (لو كان بعدي نبي لكان عمر) (٢) والجواب عنه من وجهين.

الأول : ان من شروط النبي العصمة عن الشرك عندنا وعندهم وعمر كان مشركا يعبد الأصنام دهرا ومن كان كذلك لا يكون نبيا البتة بنص الكتاب فيجب أن لو كان بعد نبينا نبي ان يكون غير عمر لعدم جواز النبوة له لسبق الكفر منه فمتن الخبر كذب محض.

الثاني : معارضته لقول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لعلي (عليه‌السلام) (انت مني بمنزلة هارون من موسى الا انه لا نبي بعدي) (٣) وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) له أيضا (انك ترى ما ارى وتسمع ما اسمع الا انك لست بنبي (٤) فهو مما افتعل للمناقضة فيكون باطلا.

ومنها في ابي بكر وعمر : (هذان السمع والبصر) (٥) والجواب ان هذا

__________________

(١) ذكرنا مصادر هذا الحديث فيما تقدم.

(٢) أخرجه ابن عساكر في تاريخه ٣ / ٢٨٧

(٣) حديث المنزلة تقدم اخراجه.

(٤) نهج البلاغة من الخطبة ٩١ وهي المعروفة بالقاصعة.

(٥) تعرض شيخنا الأميني في الغديرة ٥ / ٣٢٥ لهذا في سلسلة الموضوعات ونقله بهذه الصورة (ان أبا بكر وعمر من الاسلام بمنزلة السمع والبصر) وقال : «عده

٣٢٧

القول لو صح لم تثبت به افضلية فقد صح عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) انه قال : (عمار جلدة بين عيني والمقداد قدمنا قدا) ولم يفضلهما احد بهذا على علي (عليه‌السلام) فكيف وانما جيء به لمناقضة قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (علي مني بمنزلة رأسي من بدني) (١) رواه الديلمي عن ابن عباس وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (كنت انا وعلي نورا واحدا) (٢) وما شابه هذا من الأقوال الصحيحة فيكون فاسدا ولو حملناه على قوله تعالى : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) (٣) كما ورد عندنا في تأويله لصح وانقلب عليهما لا لهما لكن ذلك مما نختص بروايته فلا نحتج به على الخصوم.

ومنها قول ابن عمر : كنا نقول ورسول الله حاضر حي افضل امة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بعده ابو بكر ثم عمر ثم عثمان ، اقول لا اشك ان هذا القول كان مفتعلا على ابن عمر كما كان مفتعلا على النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وذلك ان ابن عمر من جملة من روى حديث مؤاخاة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عليا (عليه‌السلام) حين اخا بين اصحابه وقال سمعت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يقول لعلي (عليه‌السلام) (انت اخي في الدنيا والآخرة) (٤) وهل يرتاب احد في أن النبي (صلى الله

__________________

المقدسي في تذكرته من موضوعات الوليد بن الفضل الوضاع كما نقل في ص ٢٧٠ من الجزء المذكور عن ميزان الاعتدال ٣ / ٢٧٣ وتذكرة الموضوعات للمقدسي ص ٢٧ : ان الوليد بن الفضل العنزي يروي الموضوعات لا يجوز الاحتجاج به بحال.

(١) نور الأبصار ص ٧٢ اخرجه الديلمي عن ابن عباس وابن حجر في الصواعق ص ٧٥ والخطيب في تاريخ بغداد ٦ / ١٢ عن البراء بن عازب.

(٢) الرياض النضرة ٢ / ١٦٤.

(٣) الاسراء : ٣٤.

(٤) مستدرك الحاكم ٣ / ١٤.

٣٢٨

عليه وآله وسلم) اراد من هذه مؤاخاة اثبات المماثلة بين كل رجلين اخا بينهما في الصفات العلمية والمشابهة بينهما في الفضل ، وان تخصيصه عليا (عليه‌السلام) باخوته قصدا لإبانته بالشرف من بين الصحابة ، واظهارا لتفضيله عليهم ، اللهم الا ان يكون خليا من ادنى فهم واقل تمييز ، ثم انه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اكد المعنى الظاهر بما اردفه من الأقوال الصريحة في تفضيل علي (عليه‌السلام) مثل (ادعوا لي سيد العرب عليا) و (انت مني بمنزلة هارون من موسى) (١) وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : لعلي لما نزلت هذه الآية (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) (٢) : (هو انت وشيعتك تأتي يوم القيمة انت وهم راضيين مرضيين ، ويأتي اعدائك غضابا مقمحين) (٣) رواه الطبراني عن ابن عباس ، ورواه خطيب خوارزم ، ورواه بعضهم عن علي (عليه‌السلام) وغير ذلك من الأقوال المنتشرة بين الصحابة التي بسببها ذهب الى تفضيله من ذهب من خيارهم ، افتراه بعد ذلك ينقض قوله وفعله فيقول لأصحابه قولوا افضل امتي بعدي ابو بكر ثم عمر ثم عثمان ويقررهم على هذا القول ، أفيعقل عاقل هذا من فعل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ثم كيف يكون القول بتفضيل ابي بكر وعمر وعثمان في زمن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وحضوره مشهورا بين الصحابة معروفا عندهم ويذهب من ذكرناهم من الصحابة وكثير ممن لم نذكرهم الى تفضيل علي (عليه‌السلام) على جميع الناس؟ أفتراهم تعمدوا مخالفة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم)؟ فان قال قائل بجواز ذلك

__________________

(١) ما بين القوسين فقرتان من حديثين رواهما الحاكم في المستدرك الأول ٣ / ١٢٤ والثاني ٢ / ٣٨٧ كما رواهما كثير من المحدثين.

(٢) البينة ٧.

(٣) انظر الصواعق ص ٩٦ ونور الأبصار ص ٧٠ وص ١٠١ وقد رواه مختصرا ابن جرير في تفسيره ٣٠ / ١٧٠ والسيوطي في الدر المنثور عند تفسيره لهذه الآية ج ٦ / ٣٧٩.

٣٢٩

عليهم ، قلنا له : ان ذلك يخالف قولك فانك تذهب الى ان الصحابة لا يجوز نسبتهم الى مخالفة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، واذا سلمنا لك الجواز بناء على مذهبنا عارضناك بان الجواز لا يستلزم الوقوع فدلنا على امر خالف اولئك القوم فيه النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عمدا بقطع ويقين حتى نلحق ذاك بهذا ، كما نثبت نحن لك مثل ذلك على ائمتك واعوانهم لكنك لا تجد سبيلا الى مثل ذاك من اصحابنا فبطلت حجتك ، وان قلت : لا يجوز عليهم تعمد مخالفة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بطل حديثك وذلك هو المراد وأيضا فقد روى صاحب كتاب الخصائص فيه عن عمر بن الخطاب قال : سمعت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يقول في علي (عليه‌السلام) ثلاث خصال وددت لو ان لي واحدة منهن وذكرهن وسنذكر الخبر بتمامه بعد ان شاء الله ومعلوم ان المقصود من كلام عمران الثلاث الخصال اللاتي سمعهن من رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في علي (عليه‌السلام) يوجبن التفضيل له على كل احد فود أن تكون له واحدة منهن ليتفضل بها على سائر الصحابة وينال بها الشرف العظيم بين الناس ، واذا كان عمر يعلم انه افضل اصحاب النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بعد أبي بكر وانه افضل من علي (عليه‌السلام) فاي حاجة له الى خصلة من الخصال التي قالها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في علي (عليه‌السلام) لينال بها تفضيلا؟ وأي فائدة في تحسره على حصول خصلة واحدة من تلك الخصال لعلمه انه لا يدرك الجميع يقينا هل ذلك الا طلب تحصيل الحاصل ولا معنى له عند العقلاء ، أو تقول ان عمر لم يعلم بحديث ابنه فتكون قد طعنت في عمر بعدم العلم بالمشهورات وذلك امر يعود عليك بالنقص والنقض ، أو تطعن في حديثك وتخرجه من الصدق الى الكذب لمخالفته الأدلة الصادقة ـ فاختر ما شئت تخصم ، وقد وضح من ذلك كله ان الحديث باطل بلا ريب وانه موضوع ليقابلوا به الأقوال التي ذكرناها

٣٣٠

عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وغيرها من الوارد في تفضيل علي (عليه‌السلام) صريحا.

ومنها عن محمد بن الحنفية قلت لأبي : اي الناس افضل بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم)؟ قال : أبو بكر قلت : ثم من قال : عمر ، وخشيت أن اقول ثم من فيقول : عثمان قلت ثم انت قال ما أنا الا رجل من المسلمين (١).

ومنها عن علي (عليه‌السلام) : خير الناس بعد النبيين ابو بكر وعمر ثم الله اعلم.

ومنها عن علي (عليه‌السلام) لما قيل له : أما توصى فقال (عليه‌السلام) : ما أوصى رسول الله (عليه‌السلام) حتى اوصى ولكن ان اراد الله بالناس خيرا جمعهم على خيرهم كما جمعهم بعد نبيهم على خيرهم (٢) ـ والجواب ان هذا الأحاديث الثلاثة المفترأة تبطل بما بطل به ما قبلها ، وبما صح عن علي (عليه‌السلام) في رواية الخصوم كالجوهري وغيره حين قال عثمان له : ان أبا بكر وعمر خير منك ، فقال علي (عليه‌السلام) : (كذبت انا خير منك ومنهما) (٣) وما كان يقوله على رءوس الأشهاد وصهوات المنابر (انا الصديق الأكبر وانا الفاروق الأعظم آمنت قبل ايمان ابي بكر) (٤) الخبر الذي مر ولا ريب ان مراده من هذا الكلام تفضيل نفسه على ابي بكر لا يشك في ذلك ذو فهم ، وبما صح عنه (عليه‌السلام) من نسبة المذكورين الى ظلمه واغتصاب حقه كما اوضحناه اتم إيضاح فيما مضى ويأتي فكيف

__________________

(١) انظر نقاش المرتضى حول هذا الحديث في الشافي الجزء الثالث بتحقيقنا.

(٢) مستدرك الحاكم ٣ / ٦٩ والصواعق ص ٢٧ والبداية والنهاية ٥ / ٢٥١.

(٣) شرح نهج البلاغة ٢٠ / ٢٥.

(٤) من رواته بهذا اللفظ المحب في الرياض ٢ / ١٥٧ وقال أخرجه ابن قتيبة في المعارف.

٣٣١

ينسبهما الى ذلك ثم يقول هما خير الناس فيكون خير الناس عنده الظالم الغاصب هذا من المحال ثم كيف يصرح على المنابر بانه الصديق الأكبر ، وأنه أولى الناس بالناس ، وانه وارث رسول الله ووصيه ، وخازن علمه كما مر عليك بيان جميعه ثم يقول : ما انا الا رجل من المسلمين الذي يعطي بواسطة المقام انه لا فضل له على احد من الناس فأين اذن دعوى الوصية والوراثة للرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ودعوى الأولوية بالناس ثم كيف يقول : انا وصي رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (١) ثمّ يقول : ان رسول الله لم يوص؟ وهذا تناقض عظيم في الأقوال لا يصدر مثله من عاقل فكيف يصدر من باب مدينة العلم والحكمة ومستودع اسرار النبوة ، وكيف يدعون على محمد بن الحنفية ما سمعت والمروي عنه خلاف ذلك؟ ومن جملته ما رواه جامعوا اخبار صفين من محدثيهم ما مضمونه ان عبيد الله بن عمر بن الخطاب خرج يوما يطلب المبارزة فاراد محمد بن الحنفية مبارزته فمنعه ابوه من ذلك ، ومضى هو بنفسه الى عبيد الله فلما رأى عبيد الله عليا (عليه‌السلام) قد اتاه رجع عن المبارزة الى صفه ، فرجع امير المؤمنين فقال محمد له يا امير المؤمنين اني لأرغب بك عن مبارزة ابيه الى آخر الخبر (٢) ، وهذا صريح في تفضيل محمد اباه على عمر فكيف يسمع محمد من أبيه ان عمر خير الناس ثم يقول اني لأرغب بك عن مبارزته ، ومن ذا يرغب بنفسه أو بأبيه عن مبارزة خير الناس؟ وانما يرغب اشراف الناس عن مبارزة غير الكفوء وخير الناس فوق الكفاءة فمن المعلوم ان احاديثهم الثلاثة اختلقوها ليضاهئوا ما ذكرناه من اقوال امير المؤمنين (عليه‌السلام) من بيان

__________________

(١) اخرج المحب في الرياض ٢ / ١٧٨ عن مناقب احمد ان سلمان سأل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : من وصيك؟ فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في جملة كلام له (فان وصيي ووارثي يقضي ديني وينجز موعدي علي بن ابي طالب).

(٢) شرح نهج البلاغة ٥ / ١٧٩.

٣٣٢

تفضيل نفسه وظلم حقه وغير ذلك فتكون باطلة ، ومع هذا كله يلزم عليهم في الحديث الآخر محذوران لو صح.

الأول : مخالفة ابي بكر للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) حيث ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم يوص الى احد وابو بكر اوصى الى عمر ومتابعة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) واجبة وابو بكر قد خالف الواجب ويكون الحديث مناقضا أيضا لما مر في احاديثهم من دعواهم قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لأبي بكر : (وخليفتي على أمّتي) فان هذا القول وصية بالخلافة ونص صريح ومناقضا لقول القوشجي أيضا ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اوصى اجماعا اما عند الشيعة فلعلي (عليه‌السلام) واما عند الأشاعرة فلأبي بكر ، ومناقضا أيضا لما رواه البخاري من قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (ويأبى الله الا أبا بكر) ، وهذا القول وصية ظاهرة فما أدري بهؤلاء القوم على أي اخبارهم يعوّلون ، والى اي ادلتهم يستندون؟ ما تراهم الا يستدلون في كل باب بما يناقض دليلهم في باب آخر ويعانده ، هذا القوشجي يستدل بهذا الحديث المصرح بأن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم يوص على افضلية ابي بكر وهو قبل يورد الحديث المصرح بأن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اوصى الى ابي بكر بالخلافة ، ثم هو يرد على الامامية في مسألة انكارهم على ابي بكر مخالفة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في الوصية بما ذكرناه من ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اوصى اجماعا ويحتج على ذلك بخبر البخاري ومع ذلك كله يروون عن ابي بكر انه قال في حديث طويل : وددت اني سألت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عن صاحب هذا الأمر من هو حتى لا ننازعه (١) هذا ودعواه الاجماع على استخلاف النبي (صلى الله عليه

__________________

(١) تكرر مرارا.

٣٣٣

وآله وسلم) منافية لدعواه الإجماع في مسألة نصب الامام علي ان إمامة ابي بكر برأي الصحابة لا بالنص ولاستدلاله هناك بقول ابي بكر في خطبته لا بد لهذا الأمر ممن يقوم به فانظروا وهاتوا آراءكم ، واذا كان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قد استخلف رجلا بعينه فما حاجة خليفته في نظر الصحابة في ذلك وآرائهم ، فانظر الى هذا التناقض العظيم ، وما ذاك الا لخروج القوم عن الصراط المستقيم ، وعدو لهم عن الحق القويم ، فاي حجة لهم في اخبار متعارضة متناقضة يكذب بعضها بعضا ويدفع بعضها الآخر؟ وكفى بذلك فيها بطلانا ، فكيف تقاوم الادلة الصحاح المتوافقة المتطابقة على افضلية امير المؤمنين بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على الخلق اجمعين هذا لا يعقل ولا يحمل.

الثاني : انه يلزم ان معاوية الباغي بنص رسول الله الملعون على لسانه بقوله لعمار : (تقتلك الفئة الباغية تدعوهم الى الجنة ويدعونك الى النار) (١) وقوله؟ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في أبي سفيان وابنيه احدهما معاوية : (لعن الله الراكب القائد والسائق) (٢) وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) :

__________________

(١) هذا الحديث مشهور بل متواتر ويظهر ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قاله في اكثر من موطن لاختلاف الوجوه والأسباب واتفاق المعنى وبحسبك ان ترجع الى صحيح البخاري ، كتاب الصلاة باب التعاون في بناء المسجد / وكتاب الجهاد والسير باب مسح الغبار عن الناس ، وصحيح مسلم كتاب الفتن ج ٨ ص ١٨٥ فما بعدها من عدة طرق ، واسد الغابة ٢ / ٢١٧ وحلية الأولياء ٤ / ١٧١ وغيرها ومن المؤسف حقا ان الطبعة المشكولة بتصحيح الشيخ محمد ذهني المطبوعة سنة ١٣١٥ حذف منها جملة (الفئة الباغية) مع انها مثبتة في الطبعات الأخرى مثل طبعة المطبعة الخيرية بالقاهرة سنة ١٣٢٠ ه‍ ـ وهكذا تضيع الحقائق ويحرف الكلم من بعد مواضعه.

(٢) نقل ذلك ابن ابي الحديد في شرح نهج البلاغة ٦ / ٢٨٩ عن كتاب المفاخرات للزبير بن بكار.

٣٣٤

(اذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه فان لم تفعلوا لن تفلحوا) (١) وغير ذلك من الأقوال الشديدة فيه مما صح نقله عند مشايخ القوشجي وكان امير المؤمنين (عليه‌السلام) يقنت بلعنه ولعن جماعة من أصحابه في الصلاة يكون خير الأمة لأن الله جمع الناس عليه فدانت له الناس بالقهر والغلبة ، فيكون افضل من سعد بن ابي وقاص وهو احد العشرة المبشرة بالجنة والذي اختاره عمر بن الخطاب للخلافة وجعله من اصحاب الشوري ، وافضل من الحسن الحسين اللّذين هما سيدا شباب اهل الجنة ، وافضل من باقي المهاجرين والأنصار الذين كانوا في ذلك الزمان ، وهذا من أبطل ما يكون بغير ريبة ، أو ان الله لم يرد بالناس خيرا حين جمعهم على معاوية بل اراد بهم شرا ، وهذا لا يرضى به القوشجي واصحابه لاستلزامه بطلان اجماعاتهم التي يحتجون بها على اقوالهم المتناقضة ، ومذاهبهم المتنافية ، والحاصل ان من نظر فيما حررناه ، وتبصر فيما رسمناه لا يكاد يتوقف في بطلان احاديثهم هذه وما شاكلها ، ولا يرتاب في اختلاقها وافتعالها ان كان ذا روية وانصاف ، واذا بطل ما استند إليه القوشجي من الأخبار وانهدم ما اعتمد عليه من الآثار فلا حاجة الى التعرض لما ذكره من الامارات الدالة بزعمه على تفضيل الثلاثة على معدن الفضل امير المؤمنين من كثرة الفتوح والغنائم وغير ذلك مما سنوضح طرقه ونذكر اسبابه ، واغرب ما في كلامه جعله جمع عثمان الناس على مصحف واحد يعني قراءة زيد بن ثابت واسقاطه جميع القراءات المروية عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بطرق ثقات الصحابة كعبد الله بن مسعود وابي بن كعب وشبههما وحرقه المصاحف من الامارات الدالة على فضله وافضليته وهذا مما يقضي بالعجب العجاب

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٤ / ٣٢ وصفين لنصر بن مزاحم ص ٢٤٣ ونقل ابن ابي الحديد تعليقا لطيفا للحسن البصري قال : «فو الله ما فعلوا ولا أفلحوا».

٣٣٥

حيث يكون ذلك سببا لأفضليته مع انه من جملة ما نقم عليه وسبب عليه وسببت قتله ، مع ما يلزم أيضا من مخالفة القوشجي مذهبه لأن ما ذكره ان كان يقتضي تفضيل عثمان على علي (عليه‌السلام) كما هو زعمه ومرامه فيجب ان يقتضي تفضيله أيضا على أبي بكر وعمر لأنهما لم يفوزا بهذه المنقبة اذ لم ينقل ناقل عنهما انهما احرقا المصاحف ولا اسقطا القراءات المروية عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) برواية الثقات والقوشجي لا يسلم ذلك ولا يذعن به فامارته باطلة من الرأس ولا حول ولا قوة الا بالله وليت شعري أين هم لو سلموا من الطعن وبرئت ساحتهم من الظلم ، واين غيرهم من اخ الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وخليفته ووزيره ومعينه وسيد المؤمنين به وساقي عطاشى امته من حوضه يوم الورود على الله ، واين يقع فضل الفضلاء من فضله وهو منبع الفضائل ومعدن المفاخر والوسائل ، وهل سبقه الى الفضل الا السابق لكل خير رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وأتى بعده مصليا ليكون ذلك المنذر ويكون هو الهادي كما صح في روايات غير لشيعة فقد اخرج الطبراني وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال ما انزل الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إلّا وعلي اميرها وشريفها ، ولقد عاتب الله اصحاب محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في غير مكان وما ذكر عليا (عليه‌السلام) الا بخير (١) واخرج ابن عساكر عنه قال ما نزل في احد من كتاب الله تعالى ما نزل في علي (٢) ، واخرج عنه أيضا قال : نزل في علي (عليه‌السلام) ثلاثمائة آية (٣) واخرج الطبراني عنه قال : كانت لعلي (عليه‌السلام) ثمانية عشر منقبة ما كانت لأحد من هذه الأمة (٤) واخرج ابن عساكر عن ابن

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٣ / ٤٦.

(٢) رواه الشبلنجي في نور الأبصار ص ٧٨ و ٨١ عن ابن عساكر.

(٣) كذلك ص ٨١.

(٤) نقلها في اسعاف الراغبين ص ١٦١ عن الطبراني.

٣٣٦

مسعود قال افرض اهل المدينة واقضاها علي (عليه‌السلام) (١) وروى الطبراني عن ابن عباس قال لما انزل قوله تعالى : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) (٢) قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (انا المنذر وعلي الهادي وبك يا علي يهتدي المهتدون) (٣) ، وروى ابو اسحاق الثعلبي في تفسيره عن ابي ذر (رضي الله عنه) في حديث قال فيه : قال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (اللهم اني محمد نبيك وصفيك ، اللهم فاشرح لي صدري ، ويسر لي امري واجعل لي وزيرا من اهلي عليا اشدد به ظهري) قال أبو ذر : فما استتم دعاؤه حتى نزل عليه جبرئيل من عند الله عزوجل وقال اقرأ : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) (٤) الآية وروى ابو المؤيد في مناقبه عن ابي بردة قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ونحن جلوس ذات يوم : (والذي نفسي بيده لا يزال قدم عن قدم يوم القيمة حتى يسأل الله تعالى الرجل عن اربع عن عمره فيم افناه ، وعن جسده فيم ابلاه ، وعن ماله مما كسبه وفيم انفقه ، وعن حبنا اهل البيت) فقال له عمر : ما آية حبكم فوضع يده على رأس علي (عليه‌السلام) وهو جالس الى جانبه وقال : (آية حبي حب هذا من بعدي) (٥).

وروى الواحدي في اسباب النزول عن الحسن والثعلبي والقرطبي قالوا : ان عليا (عليه‌السلام) وطلحة بن شيبة والعباس افتخروا فقال طلحة : انا صاحب البيت مفتاحه بيدي ولو شئت كنت فيه ، فقال العباس : وانا صاحب السقاية والقائم عليها ، فقال علي (عليه‌السلام) : (لا أدري لقد صليت

__________________

(١) نور الأبصار ص ٨٠.

(٢) الرعد : ٧.

(٣) نور الأبصار ص ٧٨.

(٤) المائدة : ٥٥ واخرجه في نور الأبصار ص ٧٧ عن الثعلبي.

(٥) مجمع الزوائد ١٠ / ٣٤٦ وقال : «اخرجه الطبراني في الأوسط».

٣٣٧

ستة اشهر قبل الناس وانا صاحب الجهاد) فانزل الله تعالى : (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ) الى قوله : (الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) (١).

وروى في الأسعاف عن ابن السماك ان أبا بكر قال : سمعت النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يقول : (لا يجوز على الصراط إلّا من كتب له علي الجواز) (٢) فهذا من جملة ما ورد فيه صلوات الله عليه في حديثهم من المحامد العظام فانى يجازيه من لم يفز بشيء من تلك الأوصاف ، وكيف يوازنه من لم ينل واحدة من هذه الخصال ، وكيف يدرك شأوه من لم يحرز فعلا واحدا مما له من محمود الفعال ، فوضح من جميع ما بيناه ان عليا (عليه‌السلام) هو الأفضل للأدلة السالمة من القدح ، والأحاديث البعيدة عن الطعن ، ووضوح بطلان ما عارضها مما تعلق به الخصم ، فهو الامام بعد الرسول اذ لا يقدم على الأفضل المفضول ، وهذه الأدلة المذكورة في الفصول كلها نصوص صريحة في إمامة امير المؤمنين (عليه‌السلام) واضحة في استخلافه وبها يبطل ما انكره ابن ابي الحديد من النص على إمامته حيث قال بعد ذكر جملة من اخبار السقيفة واخراج امير المؤمنين من بيته على اصعب وجه : واعلم ان الآثار والأخبار في هذا الباب كثيرة جدا ومن تأملها وأنصف علم انه لم يكن هناك نص صريح مقطوع به لا تختلجه الشكوك ، ولا تتطرق إليه الاحتمالات كما تزعم الامامية ، فانهم يقولون ان الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) نص على امير المؤمنين نصا صريحا جليا ليس بنص يوم

__________________

(١) التوبة ١٩ و ٢٠ وانظر اسباب النزول ١٨٢.

(٢) اسعاف الراغبين ص ١٦١ والرياض النضرة ٢ / ٧٧ و ٢٢٤.

٣٣٨

الغدير ، ولا خبر المنزلة ولا ما شابههما من الأخبار الواردة من طرق العامة وغيرها ، بل نص عليه بالخلافة وبإمرة المؤمنين وامر المسلمين ان يسلموا عليه بذلك فسلموا عليه بها ، وصرح لهم في كثير من المقامات بانه خليفة عليهم من بعده ، وامرهم بالسمع والطاعة ولا ريب ان المنصف اذا سمع ما جرى لهم بعد وفاة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يعلم قطعا انه لم يكن هذا النص ، ولكن قد يسبق الى النفوس والعقول انه قد كان هناك تعريض وتلويح وكناية وقول غير صريح ، وحكم غير مبتوت ، ولعله يصده عن التصريح بذلك امر يعلمه ومصلحة يراعيها ، ووقوف مع اذن الله تعالى في ذلك (١) انتهى.

اقول : ان العارف المنصف اذا نظر هذا الكلام ووقف على ما ذكره قائله من النصوص المتقدمة يعلم قطعا ان قائل هذا القول قد سلك مسلك العناد ، وخاض بحر العصبية واللداد ، وأي نص لم يصرح به الرسول مما يدل على استخلافه عليا حتى يقال : يصده عن ذاك أمر يعلمه ومصلحة يراعيها ، وأي لفظ مما ذكره هذا المورد واقر بانه موجب للنص على الامامة واكثر منه لم يرد عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في حق علي (عليه‌السلام) قال فيه : (امام المتقين) (٢) وقال فيه : (سيد المسلمين) (٣) وقال فيه : (هو ولي كل مؤمن من بعدي) (٤) وقال فيه : (خليفتي) (٥) في حديث الموازرة ، وقال : (اسمعوا

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٢ / ٥٩.

(٢) مستدرك الحاكم ٣ / ١٣٧.

(٣) المصدر السابق.

(٤) مسند احمد ٤ / ٤٣٧.

(٥) تاريخ الطبري ٣ / ١١٧٢ ط ليدن.

٣٣٩

له واطيعوا) (١) وقال فيه : (وصيي ووزيري واحق بمقامي بعدي واختاره الله بعدي) (٢) وغير ذلك مما سمعت مفصلا فاي نص يريد ابن ابي الحديد اجلى واوضح من هذه النصوص ، واي لفظ يطلبه للدلالة على الامامة اصرح من تلك الألفاظ ، وهل يرتاب عاقل او يختلجه شك في ان قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (علي (عليه‌السلام) امام أوليائي ، وامام المتقين ، وإمامكم من بعدي) يريد به الامامة المعروفة ذلك الوقت وما بعده ، وهل يوجد لفظ أجلى في الامامة من هذا اللفظ ، أليس بقبيح من عاقل أن يقول : ما أراد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بلفظ امام الامام ولا عنى الامامة ، أو ليس يقال : لو اراد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أن ينص على علي (عليه‌السلام) بالامامة ما ذا كان يقول أيحتاج في ذلك الى اكثر من قوله : (علي الامام بعدي) أو (إمامكم بعدي) فانه لا يجد سبيلا عن ان يقول بلى يكفيه هذا اللفظ ولا يحتاج في ذلك الى اكثر منه ، وقد قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ذلك مرارا فيما روى الرجل ودع عنك ما رواه غيره زيادة عليه ، فهو النص الصريح ، ولو تحمل ابن ابي الحديد وقال : لا يكفي في ذلك الا ما نسبنا الى الامامية ادعاءه في كلامنا قلنا له انك قد رويت ذلك كله فيما رويت عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بلفظه أو بمرادفه ، ولم يبق الا امره بالتسليم على علي (عليه‌السلام) بالإمرة ، فانه وان كان صحيحا لكنك لم تروه (٣) وليس هذا مما يتوقف النص الصريح عليه حتى تحتج على عدم النص بعدمه فانك تسلم ان أبا بكر نص على عمر نصا صريحا باستخلافه بمجرد قوله : اني عهدت الى عمر بن الخطاب ولم تحتج انت ولا غيرك في نصبه عليه الى إمرة المسلمين ان يسلموا عليه بالخلافة ، فليس

__________________

(١) نفس المصدر في نفس الصفحة.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) رواه ابن عساكر بترجمة علي (عليه‌السلام).

٣٤٠