منار الهدى في النصّ على إمامة الأئمّة الإثني عشر

الشيخ علي البحراني

منار الهدى في النصّ على إمامة الأئمّة الإثني عشر

المؤلف:

الشيخ علي البحراني


المحقق: السيد عبدالزهراء الخطيب
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار المنتظر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٢٠

بزعمهم بعد ما سمعت فيه من الصحة ، ولا ريب ان المحدثين زعموا هذه الفضيلة لحكيم بن حزام ليناقضوا ما ورد لأمير المؤمنين (عليه‌السلام) كما هي عادتهم والحق لا يزيد الا علوا وظهورا ، والصدق لا يزال يتوقد ضياء ونورا ، واذا ثبت ان عليّا (عليه‌السلام) أفضل الصحابة كما دلت عليه الأدلة ووافقنا عليه اكثر المعتزلة وجب ان يكون هو المقدم والامام بعد الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، ولا يجوز ان يقدم عليه غيره لأنا قد بينا امتناع تقديم المفضول على الأفضل لقبحه عقلا والمنع منه شرعا واقمنا عليه الأدلة الواضحة في موضعه وقد تقدم وبذلك يثبت المطلوب ، وزعم الأشاعرة ان الأفضل بمعنى الأكثر ثوابا بعد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ابو بكر ثم من بعده من الخلفاء مرتبا قال القرماني في تاريخ الدول اجمع أهل السّنة على أن الأفضل بعد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ابو بكر ثم عثمان ثم علي (عليه‌السلام) ثم باقي العشرة الى آخر ما قال ، واهل السنة عندهم اسم لمن كانوا على مثل ما عليه ابو الحسن الأشعري من نفي الحسن والقبح العقليين ، ونفى الاستطاعة عن المكلف ، وغير ذلك من شبهاته الواهية ، وهذا القول فاسد على تقديران للثلاثة فضلا وما احتج به القوشجي على ذلك بعد اعترافه بما ذكرناه من مناقب امير المؤمنين على افضلية ابي بكر وعمر عليه كله باطل مردود ، ومزور ومختلق فمن احتجاجه على ذلك الاتفاق الجاري مجرى الاجماع على افضلية ابي بكر ثم عمر زعم ، واقول ما أدري ما عنى بالاتفاق ان كان اتفاق جماعة من اصحابه الأشاعرة كما

__________________

ـ يتمكنوا من اخفاء هذه المنقبة ، واطفاء هذا النور فلا تزال تلك الرخامة الحمراء التي اشار إليها المؤلف وقد وفق الله سبحانه وتعالى كاتب هذه الحروف لدخول الكعبة المعظمة في سنة ١٣٨٧ ه‍ فرأيت بلاط الكعبة المشرفة يميل الى البياض عدا صخرة واحدة حمراء بين الباب والركن اليماني من داخل الكعبة وهي علامة لموضع ولادته (عليه‌السلام).

٣٠١

هو مفاد قول ابي العباس المتقدم فمسلم ولا حجة فيه ، وغايته كونه قولا لجماعة من الأمة يطلب عليهم في ثبوته وصحته الدليل فلا يكون هو نفسه دليلا كما ادعى الرجل ، وان عنى اتفاق الصحابة فالمنقول عن افاضلهم تفضيل علي (عليه‌السلام) على جميع الناس بعد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) مثل العباس بن عبد المطلب وجملة بنيه ، وبني هاشم كافة وبني المطلب كافة ، وسلمان وابي ذر والمقداد وعمار وحذيفة بن اليمان وابي بن كعب وجابر بن عبد الله وخالد بن سعيد بن العاص الأموي وخزيمة بن ثابت ذي الشهادتين وزيد بن اسلم وبريدة بن الحصيب وابي الهيثم بن التيهان والبراء بن عازب وقيس بن سعد بن عبادة وأبي سعيد الخدري وابي أيوب الأنصاري وحجر بن عدي الكندي وزيد بن ارقم وسهل بن حنيف واخيه عثمان بن حنيف وعبادة بن الصامت وابي الطفيل عامر بن واثلة الكناني وعمرو بن الحمق الخزاعي في كثير من امثالهم ، ذكر ذلك جماعة من اهل العلم باقوال الناس كأبي عمر يوسف بن عبد البر المحدث في كتاب الاستيعاب وابي جعفر محمد بن عبد الله الإسكافي وعبد الحميد بن ابي الحديد وغيرهم (١) ، وكل منهم نقل ذلك عن جماعة من المذكورين ، وكان الزبير اوّل الأمر قائلا (٢) به ومبالغا فيه حتى صرفه عنه ابنه عبد الله الى عداوة امير المؤمنين (عليه‌السلام) والخروج عليه ، وهؤلاء المذكورين هم خيار الصحابة ومن اجمعت الأمة على وثاقتهم وصدقهم ، واعتبار اقوالهم ، وكلام جماعة منهم الصريح في التفضيل قد تقدم ، ولم يبق من الصحابة ممن صرح بتفضيل غيره الا من علم فسقه وثبت ضلاله بمحاربته عليا (عليه‌السلام) وبغضه ، وقد صح ان حربه حرب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم)

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٢٠ / ٢٢١.

(٢) أيضا ٢٠ / ٢٢٢.

٣٠٢

وبغضه بغضه ، كمعاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص وعبد الله بن الزبير وابي هريرة والوليد بن عقبة بن ابي معيط في اضرابهم ، أو من اختلفت الأمة في وثاقته وقبول روايته فضلا عن اعتبار قوله ، ومن لم يكن من الفريقين من باقي الصحابة المسكوت عن حالهم لم يعرف لهم قول في المسألة فأين اجماع الصحابة على ما يقول؟ بل أين الشهرة في ذلك بل الحق ان المشهور بين الصحابة عكس ما قال ، والتقدم في الخلافة لا يوجب التفضيل عنده وعند اصحابه على فرض ان التقدم وقع برضى جميع الصحابة ، وقد بينا استحالته مرارا فلا اتفاق من الصحابة على ما قال القوشجي ولا اشتهار له فيما بينهم ، وان عنى اتفاق التابعين فحالهم في ذلك كحال الصحابة فالكثير منهم يفضل عليا على جميع الناس ، منهم ، أويس القرني ، وزيد بن صوحان ، وصعصعة بن صوحان ، وجندب الخير ، وعبيدة السلماني ، ومالك بن الحارث الأشتر ، وكميل بن زياد ، وسعيد بن قيس الهمداني وخلق كثير لا يحصون (١) ، وقد قدمنا تصريح الحسن البصري به ، وتصريح عمر بن عبد العزيز به أيضا والتابعين من بني هاشم كذلك ، على ان اكثر الناس من اهل العلم والورع لم يمنعهم من اظهار القول بتفضيل علي (عليه‌السلام) على جميع الصحابة الا الخوف من معاوية واتباعه ومن تولى بعده من بني امية واتباعهم ، فانهم كانوا يقتلون من ذكر عليا (عليه‌السلام) بخير أو روى عنه حديثا فما ظنك بحال من يفضله؟ وقد مر في كلام الحسن البصري ما يدل عليه ويأتي له زيادة استدلال ، وان عنى فرق الاسلام فالشيعة قاطبة يفضلون عليا (عليه‌السلام) على جميع الناس واكثر المعتزلة يوافقونهم على ذلك فالبغداديون كافة قائلون به كأبي سهل بشر بن المعتمر ، وأبي موسى بن صبيح وأبي عبد الله جعفر بن مبشر ، وأبي جعفر الاسكافي ، وأبي الحسين الخياط ، وأبي القاسم البلخي وتلامذته ، ومن البصريين أبو علي الجبائي في

__________________

(١) أيضا ٢٠ / ٢٢٦.

٣٠٣

آخر عمره ، وكان قبل من المتوقفين بين علي وابي بكر خاصّة ، نقل ذلك عنه أبو القاسم البلخي.

ومنهم أبو عبد الله الحسين بن علي البصري ، وقاضي القضاة ابو الحسن عبد الجبار بن احمد ، وقطع على ذلك بخبر المنزلة.

ومنهم ابو محمد الحسن بن متّويه ، وسيأتي التصريح به عن ابي الهذيل العلاف ، ومال قوم منهم الى التوقف في تفضيل علي (عليه‌السلام) على ابي بكر مع القطع على تفضيله على عمر كواصل بن عطا وابي هاشم وابي الحسين البصري.

ومنهم من قال بتفضيل الثلاثة كعمرو بن عبيد ، وابراهيم بن سيار النظام ، وعمرو بن بحر الجاحظ ، وثمامة بن اشرس وهشام الفوطي ، وابي يعقوب الشحام ، وكل اهل قول يحذو حذوهم قوم منهم ، وكتب المعتزلة في علم الكلام ناطقة بما قلناه ومن نقلهم نقلنا ومن المحدثين من نسب إليه قوم من العامة في كتبهم وتواريخهم القول بتفضيل علي صريحا كالكياالهراسي وامثاله وفي كلام قوم من اعيانهم ما يصرح بالتفضيل قال احمد بن حنبل : ما جاء لأحد من الفضائل ما جاء لعلي (عليه‌السلام) ، وقال : ان عليا لم تزنه الخلافة ولكنه زانها نقل هذا الكلام ابن ابي الحديد عن ابن الجوزي في المنتظم عن احمد بن حنبل وقال بعده ما حاصله : ان هذا الكلام يعطي ان جميع من ولى الخلافة غير علي (عليه‌السلام ذوو نقص ازدان بالخلافة وتم نقصه بها وان الخلافة قبل ولاية علي (عليه‌السلام) كانت ناقصة فاتمها بولايته اياها (١).

أقول وهذا الكلام غاية التفضيل ، ونهاية التعظيم والتبجيل ، ولعمري

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١ / ٧ و ٥٢.

٣٠٤

ان الأمر كما قال وقال اسماعيل القاضي والنسائي وابو علي النيسابوري : لم يرد في حق احد من الصحابة بالأسانيد الحسان اكثر مما جاء في علي ، فهذه شهادة مشايخهم فأين الاتفاق الذي ادعاه القوشجي علي تفضيل ابي بكر وعمر على علي (عليه‌السلام)؟ واين الشهرة بين الأمة؟ وهل زاد الأمر على كون المسألة من المسائل الخلافية بين الناس؟ والواجب فيها اتباع الدليل الصحيح كغيرها من مسائل الخلاف ، ومن هنا تبين بطلان ما ينسبه قوم من الأشعرية المتعصبين من الابتداع الى من ذهب من المحدثين والعلماء من متقدمي اصحابهم الى تفضيل علي (عليه‌السلام) فيقولون : كان فلان عالما فاضلا وكذا وكذا لصفات من الخير ثم يقولون الا انه مال الى تفضيل علي (عليه‌السلام) او قال به فيخرجونه من السنة الى البدعة بزعمهم لأنه قال بتفضيل علي (عليه‌السلام) ، وذلك عندهم بدعة كما وجدناه في تصانيف قوم منهم وتواريخهم ، وكل هذا لتركهم النظر في الأقوال والأدلة وتقليدهم من تقدم من مشايخهم واساتيذهم على جهالة لا يعلمون وراء ما سمعوه منهم مذهبا ولا يفهمون غير توجيههم في الأدلة توجيها وذلك لا يغني من الحق شيئا.

واحتج القوشجي ثانيا بقوله تعالى : (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى) (١) مدعيا ان الآية نزلت في ابي بكر عند الجمهور ، والأتقى هو الأفضل لقوله تعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) (٢) وهذا الاحتجاج واه لأن الآية مع احتمال كون الأتقى والأشقى بها بمعنى التقى والشقى كقوله تعالى : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) (٣)

__________________

(١) الليل ١٧.

(٢) الحجرات ١٣.

(٣) الأنعام ١٢٤.

٣٠٥

اي عليم وقوله تعالى : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) (١) يعني هين وقول طرفة :

تمنت رجال ان اموت وان امت

فتلك سبيل لست فيها بأوحد

كما قاله بعض المفسرين ، ويشهد لذلك الاعتبار فانّ صاحب النخلة المعني بالأشقى من المسلمين ومن الصحابة المحكوم عليهم عند القوشجي واصحابه بالجنة فلا يجوز ان يجعل اشقى من ابي جهل وابي لهب وامثالهما من المشركين ، فلا دليل فيها على التفضيل مضافا الى انها نازلة عند اكثر المفسرين في ابي الدحداح ، وهو المروي عن ابن عباس رواه الواحدي وسببه قصة النخلة المشهورة (٢) ، وقال غيره نزلت في مصعب بن عمير وذكر ذلك ابو جعفر الإسكافي ، ولم يقل انها نزلت في ابي بكر الا عروة بن الزبير (٣) لأنه اشترى ست رقاب فاعتقها بلال وعامر بن فهيرة وأربعة اخر ، وحال ابن الزبير في الكذب معلوم ، وميله الى جده معروف ، وليس هذا منه باعجب من روايته عن خالته عائشة عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : ان عليا والعباس بن عبد المطلب من اهل النار (٤) ، وكان سبابا لعلي (عليه‌السلام) وكثير البغض له ، ومن افسق ممن يسب رجلا من سبه فقد سب رسول الله

__________________

(١) الروم ٢٧.

(٢) اسباب النزول ص ٢٩٩.

(٣) شرح نهج البلاغة ١٣ / ٢٢٢ عن نقض العثمانية.

(٤) رواه الإسكافي في نقض العثمانية ـ كما في شرح نهج البلاغة ١٣ / ٦٣ ـ عن الزهري عن عروة بن الزبير هكذا : حدثتني عائشة قالت : كنت عند رسول الله إذ اقبل العباس وعلي فقال : (يا عائشة انهما يموتان على غير ملتي ـ أو قال ـ : ديني) والحديث الثاني ان عروة زعم ان عائشة حدثته قالت : كنت عند النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اذا اقبل العباس وعلي فقال : (يا عائشة ان سرك ان تنظري الى رجلين من اهل النار فانظري الى هذين قد طلعا) نظرت فاذا العباس وعلي بن ابي طالب.

٣٠٦

(صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كما دلت عليه الأخبار الصحاح عند القوم ، ومنها ما رواه الإسكافي عن عثمان بن ابي شيبة ، عن عبد الله بن موسى ، عن قطر بن خليفة ، عن ابي عبد الله الجدلي قال : دخلت على أمّ سلمة رحمها الله فقالت : لي أيسب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيكم وانتم احياء؟ قلت : وأني يكون هذا؟ قالت : أليس يسب علي (عليه‌السلام) ومن يحبه (١) وما رواه الحافظ ابو عبد الله محمد بن يوسف البلخي الشافعي في كفاية الطالب عن ابن عباس ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال لعلي (من سبك فقد سبني ومن سبني فقد سب الله ، ومن سب الله فقد كبه الله على منخريه في النار) (٢) وما قدمنا من الأخبار عن احمد بن حنبل وغيره من قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في علي (عليه‌السلام) : (لا يحبه الا مؤمن ولا يبغضه الا منافق) (٣) وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (عدوك عدوي وعدوي عدو الله) (٤) فمن كان هذه حاله كيف تقبل روايته فيمن يميل إليه بدون معارض فكيف اذا عارضها رواية الثقات؟ على ان شراء ابي بكر بلالا وعامرا الذي هو سبب نزول الآية كما زعم فاسد لأن محمد بن اسحاق والواقدي ذكر ان رسول الله هو الذي اعتقهما ، (٥) وبالجملة فالاحتجاج بالآية ساقط ، ودعوى قول الجمهور انها نازلة في أبي بكر كما ترى زور وبهتان كدعواه الاتفاق المتقدم واحتج أيضا بروايات مفتعلة :

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١٣ / ٢٢٢.

(٢) كفاية الطالب الكنجي.

(٣) رواه المحب في الرياض ٢ / ٢١٤ وقال : «اخرجه احمد في المناقب».

(٤) نفس المصدر ٢ / ١٦٦ وتاريخ بغداد للخطيب ٤ / ٤٥.

(٥) شرح نهج البلاغة ١٣ / ٢٧٣ عن نقض العثمانية للاسكافي.

٣٠٧

فمنها : (اقتدوا بالذين من بعدي أبا بكر وعمر) (١) دخل في الخطاب عليّ فيكون مأمورا بالاقتداء بهما.

اقول قد ذكر بعض اهل العلم والخبرة بالحديث ان هذه الرواية جميع من رواها رواها الذين بصيغة الجمع ، وأبا بكر وعمر بنصب أبا ، والجواب عنها وعن غيرها على جهة العموم من ثلاثة وجوه.

الأول انها مما اختص بروايتها الخصوم وليسوا عندنا من اهل الصدق فلا يلزمنا قبول رواياتهم ولا تقوم لهم بها علينا حجة مع انهم متهمون في ذلك.

الثاني انه قد طعن في مثل هذه الروايات قوم منهم كالفخر الرازي وحكم بانها من الموضوعات اذ لم يجر لشيء منها ذكر بين الصحابة والتابعين في مقام الحجة والمناظرة ، وطعن فيها سيدنا المرتضى ذو المجدين علم الهدى كذلك (٢) وغيره ، وهو كما قال ، فإن هذه الروايات انما وضعت وافتعلت في ايام تغلب بني امية ، روى ذلك ابو الحسن علي بن محمد بن ابي سيف المدائني في كتاب الأحداث وابن عرفة نفطويه وهما من اكابر المحدثين قال المدائني في كلام طويل : وكتب معاوية الى عماله في جميع الآفاق لا يجيزوا لأحد من شيعة علي واهل بيته شهادة ، وكتب إليهم ان انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه واهل ولايته والذين يروون فضائله ومناقبه فادنوا مجالسهم ،

__________________

(١) في أسنى المطالب ص ٤٨ : (ابي بكر وعمر) وقال : «أعله ابو حاتم ، وقال البزاز كابن حزم : لا يصح ، وفي رواية للترمذي وحسنها (واقتدوا بهدى عمار وتمسكوا بعهد ابن مسعود) وقال : الهيثمي سندها واه».

(٢) انظر الشافي ج ٣ ص ١٢٣ بتحقيقنا.

٣٠٨

وقربوهم واكرموهم واكتبوا لي بما يرويه كل رجل منهم واسمه واسم ابيه وعشيرته ، ففعلوا ذلك حتى اكثروا في فضائل عثمان ومناقبه لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصّلات والكساء والحباء والقطائع ، ويفيضه في العرب منهم والموالي ، فكثر ذلك في كل مصر ، الى ان قال : ثم كتب الى عماله ان الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر وفي كل وجه وناحية فاذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس الى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأولين ، ولا تتركوا خبرا يرويه احد من المسلمين في ابي تراب الا وآتوني بمناقض له في الصحابة فإن هذا احب الي واقر لعيني وادحض لحجة ابي تراب وشيعته واشد عليهم من مناقب عثمان وفضله ، فقرئت كتبه على الناس فرويت اخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها ، وجد الناس في رواية ما يجري هذا المجرى حتى اشادوا بذكر ذلك على المنابر ، والقى الى معلمي الكتاب فعلموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع حتى رووه وتعلموه كما يتعلمون القرآن وحتى علموه بناتهم ونسائهم وخدمهم وحشمهم ، فلبثوا بذلك ما شاء الله ثم كتب بعد ذلك الى عماله نسخة واحدة الى جميع البلدان ، انظروا من قامت عليه البينة انه يحب عليا واهل بيته فامحوه من الديوان واسقطوا عطاءه ورزقه ، وشفع ذلك بنسخة اخرى ، من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكلوا به واهدموا داره ، فلم يكن البلاء اشد ولا اكثر منه بالعراق ، ولا سيما بالكوفة ، حتى ان الرجل من شيعة علي (عليه‌السلام) ليأتيه من يثق به فيدخل بيته فيلقي إليه سره ويخاف من خادمه ومملوكه ولا يحدثه حتى يأخذ عليه الايمان الغليظة ليكتمن عليه ، فظهر حديث كثير موضوع وبهتان منتشر ، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة ، وكان اعظم الناس في ذلك بلية القراء المراءون والمستضعفون الذين يظهرون الخشوع والنسك فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم ، ويقربوا مجالسهم ، ويصيبوا به الأموال والضياع والمنازل ، حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث الى ايدي

٣٠٩

الديانين الذين لا يستحلون الكذب والبهتان فقبلوها ورووها ، وهم يظنون انها حق ، ولو علموا انها باطلة لما رووها ولا تدينوا بها ، فلم يزل الأمر كذلك حتى مات الحسن بن علي (عليه‌السلام) فازداد البلاء والفتنة (١) الى آخر ما قال من بيان ما فعله معاوية من قتل محبي امير المؤمنين (عليه‌السلام) ، وما فعله من بعده في عشيرته من اظهار الفساد بقتل المؤمنين الصادقين ، واكرام الكذابين الوضاعين مما يطول نقله ومثله ، قاله نفطويه ، وبهذا المضمون قال ابو جعفر الاسكافي ،

ويصدق ذلك (٢) ما روى في نهج البلاغة عن امير المؤمنين من تقسيم المحدثين عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الى أربعة احدهم ، منافق يكذب على رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لا يتحرّج ولا يتأثم من الكذب عليه (٣) وما سيأتي بعد عن ابي جعفر محمد بن علي الباقر (عليه‌السلام) من ذكره مضمون ما قاله المدائني ونفطويه بالصريح ، فهذه الأخبار التي احتج بها القوشجي وغيره على أفضليته الرجلين على امير المؤمنين هي تلك الأخبار المزورة المختلقة طاعة لمعاوية وطلبا للدنيا وايثارا للعاجلة ما زالت تتداول عند قضاة السوء ، والفقهاء المنافقين ، والقراء المرائين حتى تلقفها حشوية العامة كالبخاري ومسلم وابن مردويه واضرابهم وزبروها في كتب مع امثالها الا ما قل من الأحاديث وسموا تلك الكتب الصحاح ، واقوى دليل على اختلاقها ان جلها ينتهي اسناده الى من تظاهر بعداوة اهل البيت كأبي هريرة وعمرو بن العاص وعروة بن الزبير واشباههم ، وان كل حديث منها

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١١ / ٤٤ عن كتاب الأحداث للمدائني.

(٢) قوله : «ويصدق ذلك» أي ويصدق ما قاله الاسكافي لأن الاسكافي سابق للشريف الرضي.

(٣) نهج البلاغة الخطبة ٢٠٨.

٣١٠

مناقض لحديث او احاديث من المروي في فضل علي (عليه‌السلام) وولده وذلك لموافقة غرض معاوية الذي مر في كلام المدائني ، فما كان هذه حالة من الأحاديث كيف يكون حجة ودليلا؟ هيهات هيهات ذلك عن التحقيق وناء عن طريق اهل النظر الدقيق.

الثالث ان هذه الأخبار على قلتها وشذوذها قد عارضتها الأدلة الواردة في تفضيل علي (عليه‌السلام) من الكتاب والسنة الكثيرة التي اجمع الخاصة والعامة على نقلها وصحتها ، ومن جملتها ما تلوناه عليك مما تضمن مماثلة علي (عليه‌السلام) لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، ومماثلته للأنبياء ، وما دل على انه امام المتقين وانه سيد المسلمين ، وولي كل مؤمن بعد رسول الله ، ومولى من كان رسول الله مولاه ، وانه كلمة الله التي الزمها المتقين ، وان بيده مفاتيح خزائن الله ، وانه حامل لواء الحمد يوم القيمة ، وانه خير الخلق والخليقة ، وغير ذلك مما عددناه نوعا نوعا ، وصنفا صنفا ، وما سنتلوه عليك في هذا المقام وفيما بعد ان شاء الله تعالى وعارضتها أيضا ادلة العقل والاعتبار ، ولا شك انه عند التعارض يجب الأخذ بالمتفق عليه والمعاضد بالدلالة الخارجية وترك المختلف فيه والمعاند للدلالة الخارجية ، فما ظنك بالمطعون في سنده ومتنه مع مخالفته لكتاب الله عزوجل وقد صح عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) انه (اذا اتاكم الخبر عني فاعرضوه على كتاب الله. ما وافق كتاب الله فاعملوا به وما خالف فاضربوا به عرض الحائط) بعد اخباره (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في اوّل الكلام بكثرة الكذابة عليه فاذا جاء في الكتاب العزيز ان عليا (عليه‌السلام) نفس رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كما في آية المباهلة ، وجاء انه ولي الأمة مثل ولاية الله اياهم ورسوله كما في آية الولاية ، ولا شك ان نفس الرسول خير الأنفس ، وان

٣١١

ولي المؤمنين خيرهم ، ثم اتى عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ان أبا بكر خير من علي (عليه‌السلام) فقد حصلت المخالفة الصريحة والمعارضة الظاهرة بين هذا الخبر وبين كتاب الله فوجب بمقتضى امر الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) رد ذلك الخبر ، وضرب الحائط به ، واخبار بهذه المثابة يجب ردها واسقاطها ، ويلزم تكذيبها وابطالها ، ولا يجوز التدين بها ولا التعويل عليها.

واما الجواب الخاص عن الخبر المذكور فبأنه معارض لحديث التمسك بالثقلين كتاب الله والعترة ، وحديث الاقتداء بالأئمة من اهل البيت ، وحديث : (اهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجى ومن تخلف عنها غرق) ، وما جرى هذا المجرى مما رسمناه فيكون مفتعلا لمناقضتها كما مر بيانه فهو باطل ، ولو صح لوجب تأويله الى ما يوافق تلك الأدلة الصحيحة بجعل التقدير اقتدوا بالذين من بعدي من الأئمة يا أبا بكر وعمر ، فأبو بكر وعمر مأموران بالاقتداء وليس تقدير الفعل الناصب لأبا بكر باولى من تقدير حرف الندا بل هذا اولى للتوفيق بين الدليلين وقد جاء حذف حرف النداء من المنادى المعلوم كثيرا نحو قوله تعالى : (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا) (١) وقول الشاعر.

أبا حكم هل انت عم مجالد

وسيد اهل الأبطح المتناحر

وقول الآخر :

حمامة بطن الواديين ترنمي

سقاك من الغر الغوادي مطيرها

وقول الآخر (٢) :

__________________

(١) يوسف : ٢٩.

(٢) هو جرير من قصيدة له يهجو الفرزدق ، والنيب : الناقة المسنة ، والضوطري : الرجل الضخم اللئيم الذي لا غناء به ، والضوطري أيضا : المرأة الحمقاء ، ومعنى البيت انكم تعدون غاية مجدكم اي عزكم وفخركم عقر الناقة المسنة فهلا تعدون من

٣١٢

تعدون عقر النيب افضل مجدكم

بنى الضوطرى لو لا الكمي المقنعا

وهذا امر معروف لا يحتاج الى الاكثار من شواهده فيكون الخبر حجة لنا لا علينا.

ومنها في أبي بكر وعمر هما (سيدا كهول اهل الجنة ما خلا النبيين والمرسلين) (١) والجواب عنه بالخصوص انه معارض بقول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في الحسن والحسين : هما (سيدا شباب اهل الجنة) (٢) وبقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (سادات اهل الدنيا هم سادات اهل الآخرة انا وعلي والحسن والحسين وحمزة وجعفر) (٣) وقوله لعلي (عليه‌السلام) : (انت سيد في الدنيا والآخرة) (٤) وقوله (عليه‌السلام) فيه :

__________________

مجدكم قتل الكمي اي الشجاع المكمى في سلاحه اي المستتر فيه ، والمقنع الذي على رأسه البيضة والمغفر ، وشاهد المؤلف في البيت تقدير حرف النداء في المنادى وهو «بني» بحرف نداء محذوف وانه منصوب بالياء لأنه جمع مذكر سالم.

(١) روي مرفوعا بطريقين الأول عن انس بن مالك والثاني عن علي (عليه‌السلام) وفي طرق الحديثين جماعة من الوضاعين امثال نوح بن ابي مريم وعبد الرحمن بن مالك بن مغول وبشار بن موسى الشيباني الخفاف وبحسبك ان ترجع الى ميزان الاعتدال ١ / ٣١٠ و ٢ / ٥٨٤ و ٤ / ٢٧٩. لتعرف ذلك

(٢) الترمذي ٢ / ٣٠٦ ومسند أحمد ج ٣ ص ٣ و ٦٢ و ٨٢ وج ٥ / ٣٩١ وحلية الأولياء ٤ / ١٣٩ و ١٩٠ وج ٥ / ٧١ وغيرها وفي بعضها : (وأبوهما خير منهما).

(٣) شرح نهج البلاغة ٧ / ٦٤ ورواه ابن ماجه في السنن ص ٣٠٩ باب خروج المهدي والحاكم في المستدرك ٣ / ٢١١ وقال : «هذا الحديث صحيح على شرط مسلم» وابن حجر في الصواعق ص ٩٦ وقال : «اخرجه الديلمي».

(٤) وتتمة الحديث : (حبيبك حبيبي ، وحبيبي حبيب الله ، وعدوك عدوي ، وعدوي عدو الله) رواه الحاكم في المستدرك ٣ / ١٢٧ وقال : «صحيح على شرط الشيخين» كما رواه غيره.

٣١٣

(هو سيد المؤمنين وسيد المسلمين) (١) فيكون مختلقا لمناقضة هذه الأخبار وشبهها فهو باطل هذا في سنده وفي متنه بمخالفته للكتاب في قوله تعالى : (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً عُرُباً أَتْراباً) (٢) وقد صح عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (ان الجنة لا يدخلها شيخ ولا عجوز ولا كهل وان اهلها جرد مرد على صفة الشباب) (٣).

ومنها (خير امتي ابو بكر ثم عمرو) والجواب عنه انه معارض لقول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في علي (عليه‌السلام) والخوارج : (يقتلهم خير الخلق والخليقة) (٤) وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (خير الناس حمزة وجعفر وعلي) (٥) وما شابه ذلك مما شاع وذاع بين الفريقين فهو مصنوع للمناقضة فيكون باطلا.

ومنها : (ما ينبغي لقوم فيهم ابو بكران يتقدم عليه غيره) وكيف يكون كذلك وقد عارضه ما تواتر من فعل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فانه امر على ابي بكر أبا عبيدة بن الجراح مرة ومرة عمرو بن العاص واخرى خالد بن الوليد ومرة اسامة بن زيد ، وأمر عليه عليا مرارا وما نرى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) امتنع من تقديم غير أبي بكر من الصحابة عليه فكيف يعقل ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يقول قولا معناه النهي عن تقدم احد من الصحابة على ابي بكر ثم يقدم عليه جماعة منهم مرة بعد اخرى

__________________

(١) طبقات ابن سعد ٣ ق ١ / ١٣١ ورياض المحب ١ / ١٦ و ١٦٨.

(٢) الواقعة / ٣٦.

(٣) شرح نهج البلاغة ٦ / ٣٣٠.

(٤) شرح نهج البلاغة ٢ / ٢٦٧ وفي رواية ابن كثير في البداية والنهاية «هم شرار أمّتي يقتلهم خيار امتي».

(٥) شرح نهج البلاغة ١٥ / ٧٢ عن مقاتل الطالبيّين.

٣١٤

فينقض قوله بفعله وهو الذي لا ينطق عن الهوى؟ اللهم الا في مقام النسخ واذا كان هذا القول منسوخا فلا حجة فيه وآخر عمر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وابو بكر تحت راية اسامة ، والحاصل ان الخبر اذا كان مناقضا لما علم من فعل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كان باطلا بالضرورة ، والحديث المذكور هذا شأنه مع معارضته لقول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) للأنصار : (هذا علي فاحبوه بحبي واكرموه بكرامتي) (١) ، وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (اوصيكم بحب ذي قرباها (٢) اخي وابن عمي علي بن أبي طالب) وحديث المنزلة وغير ذلك من الأحاديث الصريحة في لزوم تقديم علي (عليه‌السلام) فهو مصنوع لمعارضتها ، على ان المروي في بعض تواريخ القوم ان هذا القول من كلام عمر نفسه ولم ينسبه الى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وذلك في كلام طويل خطب به يذكر فيه حديث السقيفة اورده الطبري في تاريخه (٣) ، وكذلك هو الحاصل من كلام عمر يوم السقيفة حيث قال : كيف اتقدم قدمين قدمها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) للصلاة ، فاخذه القوشجي وامثاله وصيروه حديثا ينسبونه الى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) جهلا أو تعمدا ليقوّوا به شبهتهم ، وأنّى والأمر اظهر من ان يخفى! ومع هذا كله انه لو صح لم يقتض التفضيل لأن مذهب

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٩ / ١٧٠ عن حلية الاولياء.

(٢) كنز العمال ٧ / ١٤٠ وفيه : (ذي أقربها) وفي الرياض النضرة ٢ / ٢١٤ : (ذي قرنيها) وللوجه الأخير وجه وهو ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال لعليّ (عليه‌السلام) ـ كما في مستدرك الحاكم ٣ / ١٢٣ ـ : (وانك لذو قرنيها) تشبيها له (عليه‌السلام) بذي القرنين ولكن ابن أبي الحديد في ج ٩ / ١٧ رواه عن حلية الأولياء (ذي قرباها).

(٣) تاريخ الطبري ٤ / ١٨٢٢ ط ليدن حوادث سنة ١١.

٣١٥

القوم جواز تقديم المفضول ، ولو اقتضى لكان دليلهم مخالفا لمذهبهم فيكون عليهم لا لهم.

ومنها (لو كنت متخذا خليلا دون ربي لاتّخذت أبا بكر خليلا لكن هو شريكي في ديني وصاحبي الذي اوجبت له صحبتي في الغار وخليفتي في امتي) (١) وهذا قريب من الأول.

والجواب عنه انه لو صح امتناع اتخاذ النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أبا بكر خليلا لم يمتنع اتخاذه اياه اخا وما نراه اتخذه اخا يوم المؤاخاة بل جعله اخا لعمر واتخذ هو (صلى الله عليه وآله وسلم) عليا أخا فلو صلح ابو بكر لخلة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لصلح لأخوته لكنه لم يصلح والا لآخاه او آخى بينه وبين علي (عليه‌السلام) ، هذا على تقدير كون الخلة أعلى شأنا واقرب مماثلة بين الاثنين من الاخوة كما هو مرام المستدل والأمر بعكس ما رام ، فان الأخوة ادخل في المشابهة واقرب الى المماثلة من الخلة ، ولذا جاز أن يكون لله خليل ولم يجز ان يكون لله اخ لأن الأخ هو العدل المماثل وليس لله مثيل ، والخليل هو المخلص في المودة والاخلاص في محبة الله مطلوب فاذا امتنع ان يكون ابو بكر مخلصا في محبة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فلا فضيلة له البتة واذا كان علي (عليه‌السلام) هو الصالح لمماثلة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كان هو الأفضل لا محالة ثم اي مانع من اتخاذ النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أبا بكر خليلا من جهة الشرع والخليل على ما سمعت من معناه ، فالكلام جزما لو صح لكان قدحا فيه ولم يكن مدحا لتضمنه لعدم صلاحيته لمودة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) والأمر في ذلك واضح وقوله : (شريكي في ديني) فاسد لانه لو صح أنه

__________________

(١) يرى ابن ابي الحديد في شرح نهج البلاغة ١١ / ٤٩ ان هذا الحديث وضعه البكرية في مقابلة حديث الإخاء.

٣١٦

شريك النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في دينه بالمعنى الخاص يعني في قوة الايمان واليقين كما كان لعلي (عليه‌السلام) لكان له اخا وكان أعلى مرتبة من الخليل ، ولزم تناقض الكلام ويكون معناه إنه لا يصلح لي ان اتخذه خليلا لكنه ارفع من ذلك منزلة واجل منه قدرا ، فالمراد من الاستدراك اثبات منزلة لأبي بكر ادنى من الخلة والكلام يعطي اثبات منزلة له ارفع منها وكلام النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) مصون عن التناقض وان كان المراد من شركة ابي بكر للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في دينه المعنى العام يعني الاقرار بالعقائد واداء الفرائض فالمسلمون كلهم على هذا المنوال فلا افضلية له على احد عنهم في ذلك فلا معنى لمدحه وتفضيله على غيره بما يشاركه ذلك الغير فيه.

واما حديث الغار فنحن في غناء عن ذكره اذ لا دلالة فيه على الفضل بوجه من الوجوه بل دلالته على العكس واضحة من قوله : (لا تَحْزَنْ) وقوله : (فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ) ولم يقل عليهما والذي انزلت عليه السكينة هو المؤيد بالجنود وهو النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بلا ريب ولما ذا لم يشركه الله في السكينة مع النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كما أشرك المؤمنين في حنين معه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيها فقال : (ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (١) وكانوا تسعة من بني هاشم يقدمهم علي بن أبي طالب (عليه‌السلام) وعاشرهم ايمن بن أمّ ايمن باجماع المفسرين واهل المغازي واهل التواريخ والسيرة (٢) ومن وجوه اخر لا حاجة الى ذكرها

__________________

(١) التوبة : ٢٦.

(٢) الأصح انهم سبعة وهم علي والعباس والفضل بن العباس وابو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب (اسد الغابة ١ / ١٦١) وعتبة ومعتب ابني ابي لهب (اسد الغابة

٣١٧

وتطويل المقال بها.

وأما قوله : (وخليفتي في امتي) فباطل بالاجماع لأن الأمة اجمعت على ان خلافة ابي بكر ليست من جهة النص ، ولو صح هذا القول عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لكان نصا صريحا ولكان احتجاج أبي بكر وعمر به على الأنصار اولى من احتجاجهم بما ذكروه من القرابة والصلاة لأنه نص قاطع للعذر ، ولكان احتجاجهما به على علي (عليه‌السلام) واصحابه إذ امتنعوا من بيعة ابي بكر اولى لهما من تهددهم بحرق البيت عليهم لصراحته في الحجة ، لكنه في ذلك الزمان غير موجود وانما صنع بعد ذلك الوقت لمعارضة مؤاخاة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لعلي (عليه‌السلام) ولحديث (من منكم يبايعني فيكون اخي ووزيري ووارثي وخليفتي على امتي). فبايعه علي (عليه‌السلام) وغيرهما من الأحاديث من اشباههما فهو باطل.

ومنها (واين مثل ابي بكر كذبني الناس وهو صدقني ، وآمن بي وزوجني ابنته ، وجهزني بماله وواساني بنفسه وجاهد معي ساعة الخوف) (١) وهذا الحديث طريف ينبغي الجواب عنه مقولة مقولة ومنقلة بعد منقلة ، فنقول اما

__________________

٣ / ٣٦٦) وكلهم من بني هاشم وثامنهم مولاهم ايمن بن عبيد والدليل على ذلك قول العباس بن عبد المطلب فيما رواه ابن اسحاق (اسد الغابة ١ / ١٦١) :

نصرنا رسول الله في الحرب سبعة

وقد فر من قد فر عنه واقشعوا

وثامننا لاقي الحمام بنفسه

لما ناله في الله لا يتوجع

(١) نور الأبصار ص ٥٤ عن ابن عباس بصورة اخصر واخرجه ابن حبان من طريق اسحاق بن بشر بن مقاتل الكاهلي المتوفى سنة ٢٢٨ ، وقال عنه السيوطي في اللآلي المصنوعة ١ / ١٥٣ : «كذاب وضاع بالاتفاق» وذكره السيوطي في مواطن اخرى من كتابه ومثله في تاريخ بغداد ٦ / ٣٢٩ والذهبي في ميزان الاعتدال ١ / ٨٧.

٣١٨

تصديقه للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فقد بينا انه أسلم بعد جماعة من الناس فلم يكن صدقة في حال تكذيب جميع الناس له لتكون القضية كلية ، واذا لم يكن كذلك سقط التمدح بسبق التصديق فلم يبق للكلام موقع في المدح لسقوط الكلية التي بنى المدح على صدقها ، وان كانت مهملة وحملت على الأكثرية اي كذبني اكثر الناس فجميع من صدق النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في مكة ، بل وفي المدينة في أول الهجرة صدقه وكذبه اكثر الناس فلا اختصاص له بذلك فلا مدح فيه يوجب فضلا على سائر الصحابة.

واما تزويج النبي (عليه‌السلام) ابنته فما ادري لأيّهما الفضل على الآخر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) حين قبلها أم لأبي بكر حين زوجه اياها؟ وبعد فأي رجل من الناس يخطب إليه النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ابنته فلا يزوجه اياها حتى يكون تزويج ابي بكر ابنته اياه منة عليه يستحق بها ثناء من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وثوابا كثيرا من الله كما هو مدعى المستدل فلو خطب (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الى الأكاسرة والقياصرة والتبابعة لعدو خطبته بناتهم من اجل النعم الواصلة إليهم فكيف بغيرهم.

وأما تجهيزه النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بماله فمتى كان ذلك أفي مكة أم في المدينة فان كان في مكة فكل عالم يعلم ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كان اذ ذاك غنيا بمال خديجة (رضي الله عنها) وكان ينفق منه على من شاء في اوّل النبوة ولم يجهز جيشا ولا قاتل عدوا مدة بقائه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في مكة حتى يحتاج في ذلك الى معونة احد ، ثم انا نعلم ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) احوج ما يكون للتجهيز حين اراد الهجرة من الغار الى المدينة ، وقد روى جميع المحدثين ان أبا بكر باع النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بعيرين وأخذ منه ثمنهما في تلك الحال فاين التجهيز

٣١٩

بالمال بعد قبض ثمن البعيرين؟ واين موضع هذا التجهيز ومحله؟ ثم من اين له المال الذي يجهّز به رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وقد صح عندكم انه احتاج الى سفرة في وقت سفره معه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الى المدينة فلم يجدها وثمنها درهم فقطعت ابنته اسماء نطاقها نصفين فاعطته نصفا ليكون له سفرة فسميت لذلك ذات النطاقين (١) ، وان قلتم في المدينة فقد احلتم فان أبا بكر كان فقيرا وكان هو وغيره من المهاجرين عيالا على الأنصار ، والقرآن ناطق بذلك ، والنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اذ ذاك قد اغناه الله بالغنائم والأنفال ، فاخبرونا عن تجهيزه النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) متى كان وفي اي سفر وأي غزوة؟! دلونا عليه حتى نعلم موضعه ونعرف محله ، هذا وقد علم كافة اهل الأثر أنه ترك مناجاة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيمن تركها لما نزلت آية المناجاة عن ان يتصدق لأجلها ولو بشيء يسير فكيف يجهز رسول الله بماله من ترك مناجاته عجزا من الصدقة ولو كان قادرا لكان ذلك ذنبا احتاج هو وغيره فيه الى عفو الله عنهم ، أفيفعل الندب ويرتكب الذنب ما لكم كيف تحكمون؟

وأيضا انه قد صح ان عليا (عليه‌السلام) تصدق بخاتمه (٢) ، وتصدق

__________________

(١) ذات النطاقين اسماء بنت ابي بكر تزوجها الزبير بن العوام فأولدها بنيه الثلاثة عبد الله وعروة والمنذر وعاشت الى أن قتل ولدها عبد الله سنة ٧٣ وماتت بعده بأيام قليلة ولها من العمر مائة عام.

(٢) تصدق علي (عليه‌السلام) بخاتمه وهو في الصلاة ونزول (انما وليكم الله ورسوله .. الآية) نقله كثير من المفسرين والمحدثين نذكر منهم الطبري في تفسيره ٦ / ١٨٦ والرازي في تفسيره ١٢ / ٢٦ والواحدي في اسباب النزول ص ١٣٣ والسبط في التذكرة ص ١٥ وابن حجر في الصواعق ٢٥ والشبلنجي في نور الأبصار ص ٧٧.

٣٢٠